الديمقراطية ..بين الحرمة والجواز .. - الصفحة 2 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الأخبار و الشؤون السياسية > النقاش و التفاعل السياسي

النقاش و التفاعل السياسي يعتني بطرح قضايا و مقالات و تحليلات سياسية

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

الديمقراطية ..بين الحرمة والجواز ..

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015-10-02, 17:33   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
بوسماحة 31
عضو متألق
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رَكان مشاهدة المشاركة
السلام عليكم ...
وعليكم السلام ....

الشريعة الاسلامية ولله الحمد ....
قررت كيفية تنصيب أو تولية الرئيس (الحاكم)
هي محل إجماع نقله الماوردي وغيره....
كالعهد من سلطان معتبر لمعتبر تتوفر فيه شروط الإمامة،
أو باختيار أهل الحل والعقد، فهذان طريقان شرعيان لتنصيب الإمام الحاكم،
وأما إمامة الحاكم المتغلب بالقهر فتنعقد عند جماهير أهل السنة...واستقر الأمر عليه.عندهم...

ففي اختيار أهل الحل والعقد والمقصود بهم العلماء وأصحاب الخبرة والشوكة من أمراء الجيوش (الجنرالات) وغيرهم ...
ففي الشريعة.... في شأن تولية الحاكم.... قول أهل الحل والعقد لا يتساوى مع الدهماء والجهال والفساق......
و الديمقراطية تقضي بالتسوية بين المسلم والكافر والتقي والفاسق والسفيه والعاقل والعالم والجاهل والخاصة والدهماء والرجل والمرأة ....
.............
لذلك الديمقراطية .....اصطدمت مع الشريعة في تطبيقها الأول ......ألية الاختيار......
وطبعا تنازل الاسلاميين ..... خاصة الاخوان..... أصحاب الاسلام هو الحل والشريعة .......؟؟؟؟ في هذه الالية
كما تنازلوا ....في ألية الحرية والمساواة ......عندهم مقدمة على الشريعة........
وسيتنازلون على أمور أخرى ......
حتى يصير... اسلاميين............علمانيين........لافرق (تركيا نمودجا)








 


رد مع اقتباس
قديم 2015-10-02, 17:50   رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
رَكان
مشرف عـامّ
 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام المشرف المميّز لسنة 2011 وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بوسماحة 31 مشاهدة المشاركة

و الديمقراطية تقضي بالتسوية بين المسلم والكافر والتقي والفاسق والسفيه والعاقل والعالم والجاهل والخاصة والدهماء والرجل والمرأة ....
.............
لذلك الديمقراطية .....اصطدمت مع الشريعة في تطبيقها الأول ......ألية الاختيار......
وطبعا تنازل الاسلاميين ..... خاصة الاخوان..... أصحاب الاسلام هو الحل والشريعة .......؟؟؟؟ في هذه الالية
كما تنازلوا ....في ألية الحرية والمساواة ......عندهم مقدمة على الشريعة........
وسيتنازلون على أمور أخرى ......
حتى يصير... اسلاميين............علمانيين........لافرق (تركيا نمودجا)
أبا سماحة ..أنا انصحك بشيء ..لديك مشكلة ما ..هل أنت مصاب بفوبيا الإخوان ؟؟؟
لحظت أنه كلما تم طرح فكرة الا وأقحمت الإخوان ...موضوعنا لاعلاقة له بفاعلي السياسة على الأرض ..ثم ابتعدت من ناحية أخرى نحن هنا لسنا بحاجة لتبيان أن أسس ديمقراطية الغرب .تنافي شرعنا الإسلامي ..إنما نثير أمر كيفية ضبط الديمقراطية بضوابط لاتخالف شريعتنا ..يارجل بارك الله فيك ...










رد مع اقتباس
قديم 2015-10-02, 20:22   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
ريـاض
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بوسماحة 31 مشاهدة المشاركة
و الديمقراطية تقضي بالتسوية بين المسلم والكافر والتقي والفاسق والسفيه والعاقل والعالم والجاهل والخاصة والدهماء والرجل والمرأة ....
.............
ليتها توقّفت عند هذا الحدّ ,, بل إنّ أخطر ما في الديمقراطية هو أنّها تجيز للغوغاء الذين يشكّلون الأغلبية في مجتمعاتنا الإسلامية بأن يُحلوا الحرام ويحرموا الحلال بل تجيز لهم حتّى الردّة والعياذ بالله ,, وكما هو حاصل اليوم في مجتمعاتنا للأسف ,, فالدساتير الوضعية التي جاءت بها الديمقراطية أحلّت الخمر وحرّمت التعدّد -على سبيل المثال لا الحصر-,, فالديمقراطية إذن تُحلّ ما حرّم الله وتحرّم ما أحلّه الله كما هو حاصل في الواقع الذي نعيشه ,, وهذا هو أقوى ردّ على من يلمّحون بأن الديمقراطية هي مجرّد وسيلة لاختيار الحاكم ,,,
خلاصة القول :
الديمقراطية ما وُجدت إلاّ لضرب الإسلام في أصله ,, وأزعم أنّ الديمقراطية ليس فيها أي جانب إيجابي على الإطلاق









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-02, 20:34   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
ريـاض
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

قال الشيخ محمّد بن عبد الله الإمام :
(( .. وعلى كلٍ : فـ (الديمقراطيه والانتخابات ) لا تلتقي مع الشورى التي شرعها الله ، لا في الأصل ، ولا في الفرع ، لا في الكل ولا في الجزء ، لا في المعنى ولا في المبنى ، والدليل على ذلك أمور :

أولاً : من شرع ( الديمقراطية ) ؟
الجواب: الكفار.
من شرع الشورى ؟
الجواب : الله .
وهل للمخلوق أن يشرع ؟
الجواب : لا .
وهل يُقبل تشريعه ؟
الجواب : لا .
المشرع للديمقراطية هو المخلوق ، والمشرع للشورى هو الله سبحانه وتعالى .
فإله الشورى وأهلها هو الله عز وجل , وإله ( الديمقراطية ) وأهلها هم الكفار والأهواء ؛ فهل لنا إله غير الله ؟!.
قال الله تعالى : ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) الأنعام 114، (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ) الانعام :14، ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) الانعام : 164 . فهي المفاصلة التامة بين ( الديمقراطيه ) و ( الانتخابات ) وبين الشورى الإسلامية .


ثانياً : الشورى الكبرى وهي : ما يتعلق بسياسة الامة ، يقوم بها اهل الحل والعقد من علماء وصالحين ومخلصين ، و ( الديمقراطيه ) يقوم بها اهل كفر وإجرام وجهل من رجال ونساء ، وإذا أدخلوا مسلمين أو علماء معهم ؛ فهي لعبة فقط على المسلمين .
وهل يجوز أن يسوّى بين المسلم المؤمن الصالح الطيب ، الذي اصطفاه الله واختاره ، وبين المجرم الذي أبعده الله وأخزاه ؟!! ، قال تعالى : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) القلم : 35 ـ 36 ، وقال سبحانه ( أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ) الجاثية : 21 وقال سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص : 28 .

ثالثاً : اهل الشورى لا يحلون حراماً ، ولا يحرمون حلالاً ، ولا يحقون باطلاً ، ولا يبطلون حقاً ، بخلاف أصحاب (الديمقراطية) فإنهم يحلون الحرام ويحرمون الحلال ، ويبطلون الحق وينصرون الباطل .
فإهل الشورى يتشاورون فيما أشكل عليهم من أمور الحق وتنفيذه ، فهم متّبعون ومقتدون ، ولا يأتون باحكام تخالف حِكَم الله ، وأولئك مبتدعون فارضون للباطل مشرّعون من دون الله ، قال الله سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ) الشورى : 21 ، وقال جلّ ذكره : ( وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) الانبياء : 29 ، وقال سبحانه : ( مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) الكهف : 26 .

رابعاً : الشورى ليست إلا في أمور نادرة ، فما حكم الله به ورسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وظهر ذلك الحكم فلا شورى فيه ، أما (الديمقراطية) فإنها مضادة لأحكام الله ، قال تعالى : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) المائدة : 50 ، وقال سبحانه : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) المائدة : 44 ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المائدة : 45 ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) المائدة : 47 .

خامساً : الشورى ليست فرضاً ولا واجبةً في كل وقت ، بل هي تختلف باختلاف الظروف والأحوال ، فتكون في وقت واجبة ، وتكون في وقت آخر غير واجبة ، و لهذا كان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل الشورى للتحرك لبعض المعارك و الغزوات ، ولا يفعلها في وقت آخر ، فهي تختلف باختلاف الاحوال .
أما (الديمقراطية) فهي فرض على أهلها ، ولا يسمح لأي انسان أن يخرج عنها ابداً من الحكام والرؤساء ، ولا بد ان ينفذوها ويطبقوها على شعوبهم .
ومن فرض على الناس ما لم يفرضه الله ، فقد استعبد الناس ، قال الله : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) الكهف : 102 .

سادساً : (الديمقراطية) ترفض الشريعة الإسلامية ، وتتهمها بالعجز وعدم الصلاح ، والشورى أثبتت قوّة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان .

سابعاً : الشورى جاءت حين جاء الإسلام ، وأما (الديمقراطية) فما جاءت الى بلد المسلمين إلا في هذين القرنين ــ الثالث عشر والرابع عشر الهجريين ــ فهل معنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان ديمقراطياً وكذا كان الصحابه وجميع المسلمين ؟!.

ثامناً : (الديمقراطية) معناها : ( حكم الشعب نفسه بنفسه ) .
أما الشورى : فهي من التشاور ، فليس فيها إنشاء حكم لم يكن له اصل في الشرع ، وإنما فيها التعاون على فهم الحق ، وردّ الجزئيات للكليّات ، والمستجدات للأمور العتيقة .
))









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-02, 21:08   رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
قاهر العبودية
عضو محترف
 
الصورة الرمزية قاهر العبودية
 

 

 
إحصائية العضو










B11

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رَكان مشاهدة المشاركة
أبا سماحة ..أنا انصحك بشيء ..لديك مشكلة ما ..هل أنت مصاب بفوبيا الإخوان ؟؟؟
لحظت أنه كلما تم طرح فكرة الا وأقحمت الإخوان ...موضوعنا لاعلاقة له بفاعلي السياسة على الأرض ..ثم ابتعدت من ناحية أخرى نحن هنا لسنا بحاجة لتبيان أن أسس ديمقراطية الغرب .تنافي شرعنا الإسلامي ..إنما نثير أمر كيفية ضبط الديمقراطية بضوابط لاتخالف شريعتنا ..يارجل بارك الله فيك ...


السلام عليكم

هذا معروف وكررناه مرارا وتكرارا
فوبيا الإخوان يقابلها حب وعشق الطغاة خاصة فرعونهم الخسيسي
تتبع في المنتدى مدى الدفاع عن هذا الخسيس والذود عنه ولو بالباطل..

اللهم أحشرهم معه









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-02, 21:31   رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
بوسماحة 31
عضو متألق
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رَكان مشاهدة المشاركة
أبا سماحة ..أنا انصحك بشيء ..لديك مشكلة ما ..هل أنت مصاب بفوبيا الإخوان ؟؟؟
لحظت أنه كلما تم طرح فكرة الا وأقحمت الإخوان ...

عندما تأتينا ......بحوار
مع أحد دعاة التنظير ....لجماعة الاخوان ...د.عوض القرني....
وتطرح لنا فكرة أغلب من دندن عليها الاخوان.....أو الاسلاميين بصفة عامة....
وحاولوا..... أسلمة الديمقراطية أو ....قل اخونة الديمقراطية......
باستعمال التقية.......باستعمال الخداع.......
الاسلاميين ...وخاصة الاخوان......يستغلون الديمقراطية ....أو الشورقراطية .....للوصول للكرسي .....لا ايمان لهم بها ......
كما قال امامهم سيد قطب
((ان الإسلام هو الإسلام. والاشتراكية هي الاشتراكية. والديمقراطية هي الديمقراطية..)
فلا تتهمنا ...........بالاخوان









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-02, 22:37   رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
رَكان
مشرف عـامّ
 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام المشرف المميّز لسنة 2011 وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بوسماحة 31 مشاهدة المشاركة
عندما تأتينا ......بحوار
مع أحد دعاة التنظير ....لجماعة الاخوان ...د.عوض القرني....
وتطرح لنا فكرة أغلب من دندن عليها الاخوان.....أو الاسلاميين بصفة عامة....

لكن الموضوع لم يتناول طيفا من الأطياف السياسية لاالإخوان ولاغيرهم ..فكان لك تناول المقول بغض النظر عن انتماء القائل ..هذا يفسد المقاش يا أبا سماحة تعرف كيف ؟؟؟
لما تتناول الإخوان بالثلب ..سيدخل من ينتصر لهم بالرد عليك بتبيان محاسنهم ..ولا يتوقف عن ذلك بل يذهب الى النيل من فصيلك ..أو خلفيتك ..وهكذا نقع في المطب ..فيتحول النقاش وتداول الرأي وتلاقح الأفكار الى ساحة صراع بين التكتلات .....
ولو أخذنا الأمور على هذا النحو فلن يسلم فصيل أو تكتل أو انتماء النقد والتجريح ..وهذه مصيبتنا ..وما يحدث على الصفحات من مناكفات بعيدا عن روح المحاورة الحقة وحسن الإستماع مع تجنب اقحام الخلفيات ..كل ذلك ما هو الا انعكاس لما يجري على الأرض من فتنة وتخريب وقتل ...

لست هنا وصيا عليك لأقول لك هذا الكلام كان من باب النصيحة ..ولك ان تتقبل ولك ألا تفعل ....









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-03, 19:39   رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
adziri
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

بعد اذن الاستاذ عمر
حبيت نعلي مستوى النقاش كما بدائناه كما كان في بداية الموضوع
ونطرق هنا نظرة فيلسوف العصر مالك بن النبي رضي الله عنه

------------------------------------------
نظام* ‬الحكم* ‬والديمقراطية* ‬في* ‬تصور* ‬مالك* ‬بن* ‬نبي

محاضرة عنوانها: "الديمقراطية في الإسلام"




الدكتور عمار* ‬طالبي*

*ألقى مالك بن نبي محاضرة عنوانها: "الديمقراطية في الإسلام"،بنادي الطلبة المغاربة بالقاهرة سنة 1691م (1)، وكنت من بين هؤلاءالطلبة الذين حضروا تلك المحاضرة، وما تزال أفكارهاالرئيسية في ذهني .
يرى مالك بن نبي أن أمم الغرب بحكم اتصالنا بها في عهد الاستعمار واليوم قد فرضت علينا بعض عاداتها، ومفاهيمها، ومصطلحاتها، وأسلوب حياتها حتى أصبحنا نضم إلى الإسلام كل ما نعتقد أنّه ذو قيمة حضارية، دون تمحيص ولا تحقيق لدرجتها من الصحة، واتفاقها مع جوهر شخصيتنا* ‬وفلسفة* ‬حضارتنا،* ‬ولا* ‬ننظر* ‬فيما* ‬يربط* ‬ذلك* ‬بالإسلام* ‬أو* ‬ينزه* ‬عنه،* ‬وأصبحت* ‬هذه* ‬المفاهيم* ‬المتصلة* ‬بحياة* ‬العالم* ‬الغربي،* ‬وبتجربته* ‬التاريخية* ‬مقبولة* ‬لدبنا،* ‬نقيس* ‬بها* ‬واقعنا* ‬الاجتماعي*.‬
والديمقراطية* ‬من* ‬بين* ‬هذه* ‬المفاهيم* ‬التي* ‬نقبلها* ‬ونضيفها* ‬إلى* ‬الإسلام،* ‬وربما* ‬لا* ‬نتساءل*:‬* ‬هل* ‬توجد* ‬ديمقراطية* ‬في* ‬الإسلام،* ‬وإنما* ‬نأخذ* ‬الموضوع* ‬مباشرة* ‬مسلّمين* ‬به* ‬تسليما*.‬
ويرى مالك بن نبي أن الربط بين هذين المصطلحين هو المشكل الأساسي، وبعد استعراضه لتاريخ المصطلح بيّن أن الصلة بين الديمقراطية والإسلام مفقودة بالنسبة للزمان والمكان، وربما أدّى هذا البعد بينهما إلى القول بأنه لا ديمقراطية في الإسلام.
فالديمقراطية في أبسط معانيها تعني سلطة الشعب، سلطة الإنسان، فأي صلة، وأي وجه مقارنة بين مفهوم الإسلام باعتباره إيمانا بالله ورسوله واليوم الآخر، وأداء الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ومفهوم سياسي يقرر سلطة الإنسان في نظام اجتماعي معيّن، بين مفهوم ميتافيزيقي يفيد إجمالا خضوع الإنسان إلى سلطان إلهي في نظام ما أو آخر، وشعارات نادت بها مثلا الثورة الفرنسية في مقاومتها للكنيسة: "لا نريد ربّا، ولا سيّدا"، ومعنى هذا أن هناك تناقضا واضحا، فلا مجال إذن للمقارنة بينهما.
وإذا صرفنا النظر عن الظروف التاريخية التي أدت إلى نشأة هذا المفهوم في الغرب من النهضة والإصلاح الديني والثورة الفرنسية، واتجهنا مباشرة إلى تحديد الديمقراطية في عموماتها دون ربطها بأي مفهوم آخر، فإننا نبحث الديمقراطية من ثلاثة أوجه:
1* ‬*- ‬الديمقراطية* ‬باعتبارها* ‬شعورا* ‬نحو* ‬الأنا*.‬
2* ‬*- ‬الديمقراطية* ‬باعتبارها* ‬شعورا* ‬نحو* ‬الآخر*.‬
3* ‬*- ‬مجموعة* ‬الشروط* ‬الاجتماعية* ‬السياسية* ‬اللازمة* ‬لتكوين* ‬هذا* ‬الشعور* ‬في* ‬الفرد* ‬وتنميته*.‬
وهذه* ‬الاعتبارات* ‬الثلاثة* ‬تتضمن* ‬مقتضيات* ‬الديمقراطية* ‬الذاتية* ‬والموضوعية،* ‬ويقصد* ‬بذلك* ‬الاستعدادات* ‬النفسية* ‬التي* ‬يقوم* ‬عليها* ‬الشعور* ‬الديمقراطي،* ‬والأساس* ‬الذي* ‬يستند* ‬إليه* ‬النظام* ‬الديمقراطي* ‬في* ‬مجتمع* ‬معيّن*.‬
فالديمقراطية باعتبارها واقعا سياسيا لا تتحقق إن لم تتوفر شروطها في بناء الشخصية، وفي العادات والتقاليد القائمة في هذا الوطن أو ذاك، فهذه العموميات هي التي تتحدد فيها المشكلة، ومعنى هذا أن الشعور بالديمقراطية مقيّد بشروط لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط هي خلاصة ثقافية معينة، وتتويج لحركة الإنسانيات، وتقدير جديد لقيمة الإنسان، أي تقديره لنفسه وتقديره للآخرين، ولذا كانت الحركتان: حركة الإصلاح الديني، وحركة النهضة، هما أول تصريح بقيمة الإنسان الأوروبي في مجال الروح والعقل، ولكن عند تخليص الموضوع من قيود السياسة والتاريخ، ويعبّر عنه بلغة علمَيْ النفس والاجتماع، غير مطبوع بطابع خصائص المجتمع الغربي الذي لا ينفصل عنه وعن تاريخه ليطبق على أمم أخرى، عند ذاك يكون القانون العام بالنسبة إلى طبيعة الشعور الديمقراطي سواء في أوروبا أو غيرها هو نتيجة لاطراد اجتماعي معيّن، أي أنّه بالمصطلح النفسي عبارة عن الحد الوسط بين نقيضين: نفسيّة وشعور العبد المستعبد، ونفسيّة وشعور المستعبِد المستبد، فالإنسان الحر الجديد هو الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية، أي أنه الحد الإيجابي بين نافيتين: نافية العبودية، ونافية الاستعباد.
ومن الناحية الشكلية فإننا نجد شعارا يعبّر عن هذه القيمة الجديدة للإنسان، فبعد أن كان الإنسان مثلا في فرنسا تابعا لمولاه (Sujet) أطلقت عليه الثورة الفرنسية Citoyen (مواطن)، وبعد أن كان الفلاح الروسي يسمى "موجيك" في العهد القيصري أصبح يسمى "الرفيق" بعد ثورة أكتوبر 1917م. فهذه هي الحقيقة العامة التي تنطبق على كل وسط إنساني مهما تكن ظروفه التاريخية، وهذا هو المقياس العام الذي يقاس به أي تطور ديمقراطي كان واقعا في التاريخ، أو كان مشروعا يراد تحقيقه في مجتمع ما، فهذا التطوّر عبارة عن عملية تصفية، تخلّص الإنسان من* ‬رواسب* ‬العبودية،* ‬ومن* ‬نزعات* ‬الاستعباد،* ‬التي* ‬تكون* ‬النقيض* ‬السلبي* ‬للشعور* ‬الديمقراطي،* ‬وضرب* ‬لذلك* ‬أمثلة* ‬عديدة* ‬توضح* ‬هذا* ‬المعنى* (‬*2)*.‬
فعندما* ‬نتحدّث* ‬عن* ‬الديمقراطية* ‬في* ‬الإسلام،* ‬فإن* ‬حديثنا* ‬منوط* ‬بهذا* ‬القانون* ‬العام،* ‬وهذا* ‬المرجع* ‬أي* ‬العناصر* ‬الثلاثة* ‬التي* ‬تمثل* ‬الشروط* ‬العامة* ‬بوجود* ‬الشعور* ‬الديمقراطي* ‬في* ‬أي* ‬مجتمع*.‬
والإشكال الرئيس الذي ينبغي طرحه بهذا الاعتبار هو هل الإسلام يتضمّن هذه الشروط الذاتية والموضوعية؟ هل يتضمن هذا الشعور الديمقراطي نحو "الأنا" ونحو "الآخرين"؟ هل يمكن له أن ينشئ الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور؟ كما يجب أن نتساءل هل جعل الإسلام ما* ‬يحدّ* ‬من* ‬الدوافع* ‬السلبية* ‬والنزعات* ‬المنافية* ‬للشعور* ‬الديمقراطي،* ‬تلك* ‬النزعات* ‬السلبية* ‬التي* ‬ينطبع* ‬بها* ‬سلوك* ‬العبد* ‬وسلوك* ‬المستعبِد؟
إن* ‬كل* ‬مشروع* ‬يهدف* ‬إلى* ‬تأسيس* ‬ديمقراطية* ‬يكون* ‬في* ‬بدايته* ‬خاصة* ‬مشروع* ‬تثقيف* ‬في* ‬نطاق* ‬أمّة* ‬كلها* ‬بمنهج* ‬شامل* ‬يشمل* ‬الجوانب* ‬النفسية* ‬والأخلاقية* ‬والاجتماعية* ‬والسياسية*.‬
فالديمقراطية* ‬إذن* ‬ليست* ‬كما* ‬تفهم* ‬فهما* ‬سطحيا،* ‬ليست* ‬عملية* ‬سياسية،* ‬عملية* ‬تسليم* ‬السلطة* ‬إلى* ‬الشعب،* ‬ينص* ‬في* ‬دستوره* ‬على* ‬أن* ‬السيادة* ‬له*.‬
فمعنى الديمقراطية مرتبط بشعور وبعادات وتقاليد لا يكوّنها نص، ولا يلغيها جبار، فبريطانيا تتمتع بحياة ديمقراطية دون نصوص تحمي الحقوق والحريات، وإنما يحمي ذلك كله أوضاع الشعب النفسية، وعاداته، وتقاليده، وعرفه الاجتماعي، والدستور ما هو إلا نتيجة للمشروع الديمقراطي عندما يصبح واقعا سياسيا، ولا يكون أي معنى للنص إن لم تسبقه العادات والتقاليد، وثقافة شعب أوحت به، فتلك الاستعارات الدستورية التي تستعيرها بعض البلدان لا يكون لها أي معنى إن لم تصحبها الإجراءات المناسبة لغرس ما يستعار في نفسية الشعب الذي يستعير.
فالجواب عن السؤال: هل توجد ديمقراطية في الإسلام لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من القرآن والسنّة، بل يتعلق بجوهر الإسلام عامة، وعلى وجه الخصوص باعتباره مشروعا ديمقراطيا يقصد به تحقيق القيم والمثل الديمقراطية، بحيث ترتبط حركته التاريخية بالمبادئ التي أقرها الإسلام،* ‬على* ‬أنها* ‬بذور* ‬غرست* ‬في* ‬الوعي* ‬الإسلامي،* ‬وعلى* ‬أنها* ‬شعور* ‬عام،* ‬ودوافع* ‬تكوّن* ‬معادلة* ‬إسلامية* ‬في* ‬كل* ‬فرد* ‬من* ‬أفراد* ‬الأمّة*.‬
كما ينبغي أن ننظر إلى هذه الحركة في لحظة بدايتها، بداية تحقق شروط المشروع الديمقراطي، ومن البيّن أن مرحلة النشوء الديمقراطي ترتبط بصورة شكلية بشعار جديد أو تعبير جديد عن قيمة الإنسان، أي تقويمه تقويما جديدا يرمز له برمز معيّن، مما يؤدي إلى نموذج ديمقراطي يهدف* ‬مثلا* ‬في* ‬الغرب* ‬إلى* ‬منح* ‬الإنسان* ‬الحقوق* ‬السياسية* ‬التي* ‬يتمتع* ‬بها* "‬المواطن*".‬
أما الإسلام فإنه يأتي بنموذج يعطي للإنسان قيمة أسمى تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية، لأنها القيمة التي منحها الله للإنسان، وهي قيمة التكريم، تكريما يفوق الحقوق السياسية، أو الضمانات الاجتماعية، فهذا التكريم شرط أساسي لتغيير نفسية الفرد طبقا للشعور الديمقراطي نحو الأنا ونحو الآخر، وآية هذا التكريم كأنها نزلت لتتصدر دستورا ديمقراطيا يمتاز عن كل النماذج الديمقراطية الأخرى، دون أن تعبر عنه نصوص قانونية محدّدة، فنظرة النموذج الإسلامي إلى الإنسان تضفي على الإنسان شيئا من القداسة، ترفع قيمته فوق كل قيمة تمده بها النماذج المدنية، فالإنسان الذي يحمل بين جوانحه الشعور بتكريم الله له، يشعر في الوقت نفسه بهذا التكريم، سواء في تقديره لنفسه، أو تقديره للآخر، الأمر الذي يجعل النزعات المنافية لهذا الشعور الديمقراطي تتبدّد في نفسه.
كما* ‬أن* ‬الإسلام* ‬وضع* ‬في* ‬نفسية* ‬المسلم* ‬حاجزين،* ‬يمنعه* ‬أحدهما* ‬من* ‬الانزلاق* ‬إلى* ‬هاوية* ‬العبودية،* ‬والآخر* ‬يحميه* ‬من* ‬أن* ‬يقع* ‬في* ‬هاوية* ‬الاستعباد*.‬
فالأول* ‬في* ‬قوله* ‬تعالى*:‬* ‬*"‬تِلْكَ* ‬الدَّارُ* ‬الْآخِرَةُ* ‬نَجْعَلُهَا* ‬لِلَّذِينَ* ‬لَا* ‬يُرِيدُونَ* ‬عُلُوّاً* ‬فِي* ‬الْأَرْضِ* ‬وَلَا* ‬فَسَاداً* ‬وَالْعَاقِبَةُ* ‬لِلْمُتَّقِينَ*"* ‬*(‬القصص*83/‬*)‬*.‬
والثاني في قوله: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً" (النساء / 97 - 99).
ويشعر المسلم بتكريم خاص منحه الله له أيضا باعتباره مؤمنا "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" (المنافقون/ 8)، وهي عزة تمنعه من الكبرياء، لأنها عزة في سمو الأخلاق، وعلو النهمّة، لا عزة مجد تكسبه الأشياء المادية فحسب، ولهذا فالعزة تمنع من الذل والتكبر معا، فهي شعور إيجابي يمنعه من العبودية، كما يبعده عن الاستعباد، وبناء على هذا كله فإن "الديمقراطية" بمعناها العام مغروسة في ضمير المسلم بهذا التقويم الجديد الذي جدّد في نفسه قيمته وقيمة الآخر. فهي تعني أولا عالم الأشخاص قبل أن تمتد إلى عالم الأشياء*.‬
فالديمقراطية* ‬الإسلامية* ‬تُعْنَى* ‬أولا* "‬بتلقيح*" ‬الإنسان* ‬وتحصينه* ‬من* ‬النزعات* ‬السلبية* ‬المنافية* ‬للشعور* ‬الديمقراطي،* ‬وبتصفية* ‬نفسه* ‬منها*.‬
أما الديمقراطية العلمانية فإنها تمنح الإنسان أولا الحقوق والضمانات الاجتماعية، ولكنها تتركه عرضة لأن يكون ضحية مؤامرات لمنافع معينة، ولتكتلات مصالح خاصة كبرى، أو خاضعا لدكتاتورية طبقية، أنها ديمقراطية لم تخلص نفسه من دوافع العبودية والاستعباد.
وهكذا* ‬تظهر* ‬العلاقة* ‬العضوية* ‬بين* ‬الديمقراطية* ‬والإسلام* ‬بوضوح* ‬أكثر،* ‬وأصبحت* ‬لنا* ‬حينئذ* ‬شرعية* ‬الحديث* ‬عن* ‬الديمقراطية* ‬الإسلامية*.‬
فهذا* ‬هو* ‬الجانب* ‬الذاتي* ‬من* ‬الديمقراطية* ‬في* ‬الإسلام*. ‬
أما الجانب الموضوعي فقد وضع مالك بن نبي سؤالا عبّر عنه بقوله: كيف تتحقق هذه الديمقراطية التي ظهرت صورتها في عالم النفوس، والضمائر، والشعور، في عالم الواقع الموضوعي المحسوس، في الأعمال العامة والخاصة، في الأفراد والحكومات، وفي حياة التنظيم والمنظمات؟ وكيف تكفل* ‬هذه* ‬الديمقراطية* ‬حقوق* ‬الفرد* ‬والحريات* ‬السياسية* ‬والضمانات* ‬الاجتماعية؟
وربما تبادر إلى الذهن أن هذا الجانب الموضوعي ينبغي أن يستقي من واقع المسلمين لا من نصوص الإسلام. ولكن هذا أمر شكلي فإننا عندما نبحث الديمقراطية في أثينا مثلا، فإننا لا نبحث عنها في واقع الشعب اليوناني اليوم، كما لا يعني هذا أن اليونانيين المعاصرين فقدوا القيم الديمقراطية، ومن ثم فلا حرج في اعتبار الديمقراطية في الإسلام لا في الزمن الذي تحجرت فيه تقاليد الإسلام وفقدت إشعاعها، ولكن في عصر نشأتها وعهد نموّها في المجتمع الإسلامي، ويؤكد التاريخ أن هذه التقاليد الإسلامية نشأت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم، وفي* ‬عصر* ‬الخلفاء* ‬الراشدين*.‬
فالمشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام أخذ طريقه إلى التحقق في الواقع في الأربعين سنة الأولى تقريبا، ففي هذه الفترة أخذت تترسخ كل الأصول النفسية والاجتماعية، وصرحت خطبة الوداع بحقوق الإنسان، واتجهت النصوص النظرية إلى صميم الحقائق الاجتماعية في سلوك الناس وأعمالهم*.‬
ومن مبادئ الحكم الإسلامي أن يؤسس على طاعة المحكومين لأولي الأمر في حدود طاعة القانون، فأصبح هذا سلوكا يصدر من ضمير الحاكم، كما يظهر ذلك في خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه "من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقوّمني"، كما يصدر من ضمير المحكوم كما عبر عن ذلك الأعرابي الذي أجابه: "والله لو رأبنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا"، فتمكن هذا المبدأ في ضمير رجل الدولة، كما تمكن في نفس المواطن العادي؛ وظهرت المبادئ التي تحمي الحريات كحرية الضمير في الاعتقاد "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة / 256)، وحرية العمل "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ " (الملك/ 15)، وحرية التنقل "سِيرُواْ فِي الأَرْضِ" (الأنعام/ 11)، وحصانة المنزل "لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا " (النور/ 27)، كما وضع الحدود الضرورية لهذه الحريات كما في حديث السفينة الذي أخرجه البخاري، المساواة أمام القانون كما ورد في وصية عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري الذي كان بمثابة النائب العام في أيامنا هذه: "ساو بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع* ‬شريف* ‬في* ‬حيفك،* ‬وييأس* ‬ضعيف* ‬من* ‬عدلك*"‬،* ‬وما* ‬إلى* ‬ذلك* ‬من* ‬سمات* ‬النظام* ‬الذي* ‬يمنح* ‬الفرد* ‬الحماية* ‬من* ‬ظلم* ‬الحكم*.‬
ويتسلم رئيس الدولة سلطاته بمقتضى مبايعة الأمّة، التي يمثلها رجال ذوو خيرة وخلق وعقل على نمط هيئة مجلس الشيوخ، يرشحون الخليفة للمبايعة طبقا لمبدإ الشورى الذي قرره القرآن بوضوح تام، سواء كان الأمر متعلقا بالرسول صلى الله عليه وسلّم: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ*"* ‬*(‬آل* ‬عمران*/‬* ‬159*)‬،* ‬أو* ‬بالأمة*:‬* ‬*"‬وَأَمْرُهُمْ* ‬شُورَى* ‬بَيْنَهُمْ*"‬* ‬*(‬الشورى*/‬* 8‬3‬) ‬*)‬،* ‬و* ‬معنى* ‬هذا* ‬أن* ‬الحكم* ‬الإسلامي* ‬ديمقراطي* ‬في* ‬مصدره* ‬وفي* ‬تطبيقه*.‬
بالإضافة إلى الحرية الاقتصادية مع مراعاة توزيع الثروة حتى لا تصبح دولة بين الأغنياء، وأساس التشريع الاجتماعي يتمثل في الزكاة، والضمان الاجتماعي الذي شرعه عمر فقرر منحة تدفع للأمهات اللائي فطمن أولادهن، بل إنه عممها بعد ذلك على المرضعات أيضا حتى لا يستعجلن فطام أبنائهن، فأصبح لكل مولود منحة من يوم ولادته، وهذا كله يحركه الشعور بالقيمة الأساسية التي منحها الإسلام للإنسان، فأصبحت هذه القيمة في ضمير المسلم أساسا لكل البناء الإسلامي في الجوانب الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، فلا يقع المسلم في استعباد الظروف الاقتصادية، كما لا ينزلق إلى رجل مستبد يستعمل صولجان الذهب سبيلا للطغيان، وهذه المبادئ قد تحققت فعلا في واقع المسلمين على الأقل في فترة تحقق المشروع الديمقراطي، وفي حدودها الزمنية في التاريخ الإسلامي.
إلى أن جاء التحوّل في تاريخ الإسلام، والموانع التي عطلت المشروع الديمقراطي الإسلامي من أن يواصل سيره في التاريخ، وإن لم تحقق تماما إلا أنها ظلت في سلوك الأفراد، وفي أعمال بعض الحكام أيضا، وإذا ظهر الاستبداد في شخص الحاكم فإن العبودية لم تظهر في شخص المحكوم ما دام ضميره مستعصما بالقيم الإسلامية، واستمرت الرقابة التي يفرضها الضمير الإسلامي على أعمال الحكام في التاريخ، حتى بعد تعطّل هذا المشروع إلى أن انتهى من واقع الحضارة تقدير الإنسان التقدير الذي منحه الله إياه. انتهى في السياسة أي في أعمال الحاكم، وفي الأخلاق* ‬أي* ‬في* ‬سلوك* ‬الأفراد،* ‬فتنتهي* ‬الروح* ‬الديمقراطية* ‬لأنه* ‬فقد* ‬أساسها* ‬في* ‬ضمير* ‬الفرد،* ‬أي* ‬حينما* ‬فقد* ‬الفرد* ‬شعوره* ‬بقيمته* ‬وبقيمة* ‬الآخرين*.‬
ويلاحظ* ‬مالك* ‬بن* ‬نبي* ‬أن* ‬الحضارة* ‬تتهاوى* ‬وتنطفئ* ‬جذوتها* ‬عندما* ‬يختفي* ‬من* ‬الضمير* ‬الشعور* ‬بمعنى* ‬الإنسان*.‬
ولا تنجح المحاولات اليوم في المشروع الديمقراطي في العالم الإسلامي إلا بقدر ما تضع في ضمير المسلم قيمته وقيمة الآخرين، أي تقويم الإنسان تقويما جديدا حتى لا ينزلق إلى ذل العبودية، ولا إلى طغيان الاستعباد.

هوامش*:‬
1 - * ‬--نشرت* ‬هذه* ‬المحاضرة* ‬في* ‬كتابه*:‬* ‬تأملات* ‬في* ‬المجتمع* ‬العربي،* ‬مكتبة* ‬دار* ‬العروبة،* ‬القاهرة* ‬1960،* ‬ص* ‬74* ‬*-‬* ‬115*‬.
2‬- مالك* ‬بن* ‬نبي،* ‬تأملات* ‬في* ‬المجتمع* ‬العربي،* ‬ص*












رد مع اقتباس
قديم 2015-10-03, 19:46   رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
adziri
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

نص المحاضرة من موقع فيلسوف العصر رضي الله عنه

https://www.binnabi.net/infos/detail/...86%D8%A8%D9%8A









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-03, 19:48   رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
ahmed saja
محظور
 
إحصائية العضو










افتراضي

رَكان

كلامك من كنوز










رد مع اقتباس
قديم 2015-10-03, 19:48   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
adziri
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

مفهوم الديموقراطية في فكر مالك بن نبي

بقلم: فضيل بومالة






تنطلق الدعوة إلى حوار الحضارات من ضيق الشعوب ذرعا بالمصارعات و الحروب التي عاشتها وتعيشها.
كما أن التاريخ يخبرنا أن الأمم لا تبني نفسها بمعزل عن العالم. ولكن ذلك الحوار لبا يعني استيراد الأفكار و اللغات، فالفكرة في علاقاتها بالغة تخفي وراءها طبيعة اسلوب حياة يختلفان من أمة إلى أخرى لأن اللغة تعبير عن ثقافة ورؤية للعالم.

أزمة المنهج:
يعيش العالم الإسلامي منذ بدايات عصر النهضة إلى اليوم صراعا حضاريا مع العالم الغربي كقوة تمتلك وسائل التقنية ( التكنولوجيا). ولم يجد لذلك الصراع حلا وسطا يبتعد عن الانغلاق و التقوقع على الذات باسم الحفاظ على الهوية، أو الانقياد و التفسخ باسم التفتح و معايشة العصر.
و على ذلك تعد إشكالية التجديد من المشاغل الفكرية الكبرى في العالم الإسلامي و على رأسها الديموقراطية وعلاقاتها بالإسلام.
إن تعدَد الأصوات في ساحة الديموقراطيين، المؤيدة منها أو المعارضة على السواء، تعاني في أغلب ظني- أزمة منهج في التعامل مع كل ما هو وافد أو دخيل على المجتمع العربي الإسلامي، فإلى وقتنا الراهن، لم تنشأ في العالم العربي الإسلامي مدارس نقدية تعتمد المعرفية في الحث و لتحليل بصورة حازمة و دقيقة.
إن القطعتين التين نعيشها على مستوى " الذات" لغياب النقد الذاتي و القراءات الجادة لحصيلة التراكم المعرفي الذي نملكه، أو على مستوى " الأخر" لافتقادنا المنهجية و متابعة الفكرية لكل ما يصدر عن الغرب بمختلف مدارسه، هما ما دفعتا بنا إلى دراسة فكر الأستاذ مالك بن نبي - يرحمه الله- خصوصا، هو الذي عرف الحضارة الغربية من الداخل دون أن تتزعزع روحه الإسلامية مما جعله بحق بوتقة لفكر الحضارتين الإسلامية و الغربية في أرقى صورهما الإنسانية والإبداعية، لأنه بصيرته وذكائه و منهجه العلمي استطاع أن يكسر ذلك التقليد الذي يجعل من الماضوية تمسكا بالأصالة، ومن الذوبان في حضارة الغرب تحضرا و حداثة، واستطاع بذلك أيضا أن يكشف لنا عن سبيل ثالثة لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنها التعبير الحقيقي عن روح الآية الكريمة: " و كذلك جعلناكم أمة وسطا" البقرة 143.
إنا مالكا في دراسته للإسلام و الديموقراطية لم يتعمد منهج المقارنة بين النصوص، أي بين نص منبعه الوحي و نص آخر نسخه العقل البشري والتجارب الإنسانية ما صلح منها و ما طلح، ولكن اهتمامه انصرف إلى وظيفتهما الاجتماعية ( السوسيولوجية) و البنائية، ولذلك تجده يرجع كل مصطلح إلى بعده ( الزمكاني)، أي إلى مرجعيته الأصلية باحثا عن روحه التي برزت أو تطورت عبر التاريخ لا يسقط في الأحكام القيمية الاعتباطية.

مالك بن نبي و الديموقراطية
يعتمد الأستاذ ابن نبي في أعمله المتعلقة بالمقارنات مع الإسلام المنهج الرياضي القائم على الاستدلال بالخلف، أي تحليل الطرف الأخر أو الفكرة المقابلة و الغوص في معانيه ومحاولة اكتشاف مواطن الخلل أو العجز مما يسهل عليه إعطاء البديل " الإسلامي" كضرورة معرفية اثبتت نجاعتها.. وهذا ما فعله في كتابه :" الظاهرة القرآنية" في مسألتي الوحي و النبوة مثلا.
و الديموقراطية عند مالك بن نبي تتعدى إطارها اللغوي إلى بعدها النفسي و الاجتماعي، فهي لم تعد بمعنى " حكم الشعب لذاته" أو "سلطة الشعب" اعتمادا على ما أورده توسيديد: " إذا كانت شؤون الدولة تدار عندنا لصالح الجماهير و ليس لأقلية بعينها، فإن نظامنا قد اتخذ من الديموقراطية اسما له" 1 .
إنها بم تعد- بهذا المعنى الذي فرضته ورسخته الثورة الفرنسية بدساتيرها المختلفة وقواننينها الأساسية Statuts و نظامها الداخلي- ولو أن الثورة الفرنسية كانت تبتغي بذلك القضاء على النظام القديم.
إن فلسفة حكم الشعب لذاته من وجهة نظر التاريخ غير صحيحة لأننا لم نقرأ عن شعب سير شؤونه كما أورد الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه: " الديموقراطية في الإسلام". وإذا انت السلطة تعني جهة أخرى أن تخوَل الجماهير شؤونها إلى قائد، فالتاريخ أيضا يدلنا أن شعوبا كانت خاضعة لحكامها راضية عنهم بالرغم من اضطهادهم لها.
ولهذا" ينبغي عليا في الواقع أن تعيد الكرة في تحديد الديموقراطية دون ربطها مسبقا بأي مفهوم آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها أي إطار عموميتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس آخر" 2 .
وقد نظر الأستاذ مالك بن نبي - يرحمه الله- إلى الديموقراطية من ثلاثة وجوه:
1- الديموقراطية كشعور نحو " الأنا"
2- الديموقراطية كشعور نحو الأخرين.
3- الديموقراطية كمجموعة الشروط الاجتماعية و السياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.

الثقافة والسلوك
إن وعي الإنسان بذاته شرط في بناء الثقافة الديموقراطية، وقد سبق للأستاذ مالك بن نبي أن استخلص أن الثقافة بهذا المفهوم، سواء أكانت ثقافة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، نظرية في السلوك، وليست نظرية في المعرفة بالمدلول الأكاديمي ، لأنها تحرَر الإنسان من قيد " العبودية" و الاستضعاف فترفعه بذلك عن كل دنس يصيب إنسانية الإنسان. وقد ضرب الأستاذ مالك – رحمه الله- مجموعة من الأمثلة في ذلك نقلا عن المؤرخ الفرنسي جيزو الذي قدَم في كتابه: " تاريخ أوروبا في نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى الثورة الفرنسية" استقراء معرفيا و تاريخيا عن أصل و حقيقة الشعور بالسلوك الديموقراطي في الحضارة الغربية، فاستنتج أن حركتي الإصلاح و النهضة هما " أول تصريح بقيمة الإنسان الأوروبي في مجالي الروح و العقل"3. ومن خلال تتبع الحركة التاريخية لأروبا، يمكن لنا اعتبار أن تلك المخاضات طبعت في واقع اجتماعي تعبر عنه العادات و التقاليد أو الثقافة الشعبية لتلك الأمم، مما يؤهلنا للقول – كما أكد على ذلك أستاذنا مالك: إن هذا المعنى ( الوعي الديموقراطي) لا يفصل عن تاريخ أوربا ليطبق على أمم أخرى4. وهذا لا يعني أننا ننفي السنن الكونية المعبر عنها بالاطراد الاجتماعية التي من طبيعتها أن تفرز ذلك الشعور في أي بلد كان. فالأصل أن يكون ذلك الوعي منسجما و نابغا من تفاعل القيم المختلفة داخل المجتمع الواحد.
فالانتقال الذي عرفه الإنسان الفرنسي إبان الثورة الفرنسية من كونه تابعا و مملوكا Sujet إلى مواطن Citoyen بعد الإعلان عن حقوق الإنسان في دستور 1789، يعتبر في الحقيقة عن تطور الذهنية الأوروبية وتحرر شبكاتها النفسية و الاجتماعية من القيود القديمة.
إن الوعي بالذات الذي زرعته التقاليد و العقلية في نفسية الإنسان الأوربي الجديد سَهل عليه بناء منظومة ثقافية و اجتماعية عن طريق الوعي " بالأخر" و الحوار معه. نجد ( روبسبير) الفيلسوف و الكاتب الفرنسي، الذي كان من طبقة الأقنان يجلس إلى طاولة واحدة في الفكر العالمي مع الشاعر و الأديب (ميرابو) الذي كان من طبقة الأشراف، وعليه يمكننا القول: إن الديموقراطية كسلوك نفسي و اجتماعي هي الوليد الشرعي لتفاعل " الأنا" و " الأخر"، أو لنقل هي الأنا الجمعي بتعبير " فيخته" الذي يتشكل بفعل حركية التاريخ من أجل بناء منظومة ثقافية لأمة ما. و بهذا التفسير، تصبح الديموقراطية إثباتا لوجود الإنسان كإنسان، بعدما أهدرت كرامته ونفيت وظيفته الكونية فأصبح مجرد آلة تردد " النعم"، لا تعرف المساءلة أو ال " لا" وذلك حتى على مستوى الأدب، فهذا فيكتور هوجو في قصته المشهورة ( الرجل الذي يضحك) حيث يقول " أورسوس" ل " جوينيلين": " هناك سنة يتمسك بها الطغاة، فإنهم لا يعملون شيئا، وسنة يتمسك بها الصغار فإنهم لا يقولون شيئا، إن الفقير ليس له صديق إلا صديق واحد: الصمت، إنه لا يجوز له أن يتفوه إلا بكلمة واحد، نعم، فالاعتراف و الرضا هو كل حفه، نعم للقاضي ، نعم للطغاة". وقد علق الأستاذ ابن نبي على هذه القصة بالقول: " إن نعم هنا إيجابية في لفظها سلبية في معناها، لأنها تنفي " ذات" العبد الذي يخضع لإرادة يرفضها في " أناه" فالنعم تعطيل بذلك لقدرات ذلك الإنسان الإبداعية.

بين العبد و خالقه
وإذا كانت الشروط الثلاثة المذكورة سابقا هي التي تحقق مبدأ الديموقراطية، ف " هل الإسلام يتضمن و يتكفل بهذه الشروط الذاتية و الموضوعية، أي هل يكون نحو " الأنا" و نحو " الآخرين" الشعور الذي يطابق الروح الديموقراطية كما بيناَ، وهل يوجد الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور؟"5
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل، تجدر الإشارة إلى أن ابن نبي – يرحمه الله- قد عمل على مواجهة مراحل مختلفة من التاريخ الأوربي و الإسلامي من خلال فعالية النصوص، كالنص القرآني و نص الحديث الشريف مثلا على الواقع الاجتماعي الإسلامي أيام الخلافة الراشدة لأنه كما يقول: نحن الآن أبعد ما نكون عن المشروع الإسلامي الذي أرسى القرآن الكريم قواعده وحسَده رسول الله صلى الله عليه و سلم و الصحابة في أبسط معانيها و قيمته في حديث لرسول الله صلى اله عليه و سلم رواه الترمذي و الإمام أحمد البخاري عن أبي هريرة حيث قال: " كان انبي صلى الله عليه و سلم بارزا يوما للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟...الخ إلى أن قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله و لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان" 6 .
والواضح أن مالك بن نبي قد أراد أن يواجه بين أمرين يتناقضان في ظاهرهما سلطة الإنسان وخضوع الإنسان لسلطة الخالق سبحانه، ولذلك فقد نجد الإسلام و الديموقراطية متناقضين من جانبهما لعملي، لأن الأول تعبير عن واجبات و فروض و الثاني تعبير عن حقوق وضمانات. فكيف نوفق أو نوحد على الأقل أدنى رابط بينهما؟
ولكن الديموقراطية عند ابن نبي- يرحمه الله- كما سبق أن اشرنا تتجاوز إطارها المعجم، كما أن الإسلام يفهم من بعده الكوني و الاجتماعي كأداة تغيير فاعلة تشكل إجابة متجددة عن تساؤلات الإنسان الخاضع لقنون التغيير و التطور لا في منظوميته القيَمة و لكن في مقارباته الاجتماعية و الثقافية.
وعليه فمسألة الديموقراطية كمجموعة من الحقوق تحتاج إلى محرك ركيزته عالم الأفكار ووسيلته عالم الأشخاص ونتيجته عالم الأشياء المعبَر عنه بالضمانات المختلفة الذاتية منها الموضوعية. وإذا كان الإسلام مبنيا أساسا على " عالم الأفكار" مصدرها الوحي، فإنه يحتاج بالضرورة على منفَذ لتلك الآيات الكونية و الزمنية التي يتضمنها النص القرآني، ولذلك نجد القرآن الكريم يقرر شيئا أهم في اعتقاد من أية وثيقة ضمان تمنحها جهة رسمية من الجهات، ذلك التقرير هو خلافة الإنسان في الأرض من منظور أن الله رفع هذا المخلوق حيث قال: " ولقد كرمنا بني آدم" الإسراء 70. فالتكريم هنا دليل قاطع على الثورة التي أحدثها القرآن الكريم في جوهر " الإنسان"، وكيف كان ينظر إليه. إن التكريم الإلاهي لابن آدم يرفع هذا الأخير عن كل مدنس ويقربه من كل مقدس، ولذلك نستشف من تحليل الأستاذ مالك – يرحمه الله- أن القرآن الكريم أضفى على الإنسان تكريما رائعا، لأنه " سوَاه ونفخ فيه من روحه" السجدة 9، ولأنه جعل له الخلافة في الأرض فقال: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..." البقرة 30، وقال: " يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى..." ص 26.

الحرية في الإسلام
إن الإنسان بشعوره بذلك التكريم يدرك حقيقة وظيفته الكونية، فلا يكون فقط مستهلكا لمجموعة من الحقوق و الضمانات و إنا يصبح منتجا لها بهدف تحقيق رسالة كلفه الله بها، رسالة الخلافة.
إن المسلم بهذا التصور يملك مضادا حيويا لكل نزعة منافية لمبدأ الشعور بالخرين: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: فالمسلم أحق أمة بذاته، فهو يعي إنسانية أخيه الانسان سواء أكان مسلما أو يهوديا أو نصرانيا. لأن الشبكة السوسيو- نفسية التي ينسخها القرآن الكريم إنسانية قبل أن تكون إسلامية بالمعنى التخصيصي. مبنية على الحوار و المجادلة بالتي هي أحسن، قال تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" الآية النحل 125، وقال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" الحجرات 13.
إن عملنا هذا الذي نعقد فيه حوارا هادئا مع الأخر يبعدنا شيئا فشيئا عن سلطة النفي و الرفض التي أصبحت سائدة- وللأسف الشديد- فب عالمنا الإسلامي بين مختلف التيارات. وهو أي الحوار الذي يمكننا من إبراز حقيقية الحرية الإسلامية المبنية على الوحي عكس المشروع الديموقراطي الغربي الذي تأسس على مبدأ أن يبقى الإنسان حبيس فكرة صنعها هو ولو جددها أحيانا، ولذلك نجد أن الديموقراطية بشتى أنواعها، سواء أكانت غربية أو شرقية، وبالرغم مما حققته " للإنسان الجديد" من حقوق، لم تخلصه من سلطته على نفسه و من سلطة الأخرين عليه بطرق غير مباشرة. فلإنسان باسم الحرية يمكنه أن يصيب نفسه بالأذى و يمكن أن يخضع أيضا لسلطات قهر تلغيه كسلطة الدعاية و الإشهار، أما " القرآن الكريم فقد حرَره و لكنه رسم له منهجا يجعله لا يجيد من مساره الفطري. يقول الله سبحانه و تعالى في سورة القصص الآية 83: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين" فالآية قانون سماوي يمنع الإنسان صراحة من الاستعباد و التطاول و الاستكبار كما فعل فرعون حينما خاطب موسى: " قال فمن ربكما يا موسى" طه 49، أو حين خاطب السحرة الذين آمنوا بدعوة موسى " قال آمنتم له قبل أن آذن لكم" طه 71، الشعراء 49.وكذلك نجد القرآن يرفض الذل للمسلم الذي أعزه بقوله:" و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين" المنافقون 8، وقبوله العبودية و الاستضعاف حيث يقول: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا" النساء97 .

الشورى الإسلامية
و الأمر الذي يجب الإشارة إليه – ولو بعجالة – بعد ما أثبتنا أن هناك تلاحما عضويا بين الإسلام و الديموقراطية طبقا للتقنين الذي وضعه الأستاذ مالك بن نبي - رحمه الله- من وجهة نظر علم النفس و علم الاجتماع، فكيف نستطيع عمليا و موضوعيا أن نحقق ذلك المشروع الإسلامي القائم على الشورى؟ أي هل نستطيع الحفاظ على تلك الحريات و الضمانات التي تكلفها الديموقراطيات المختلفة في إطار التصور الإسلام؟ و هنا يمكن أن نسرد مجموعة من الأمثلة:
- إذا كانت الديموقراطية تحمي حرية الضمير فإن القرآن الكريم يقرَر " لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي" البقرة 256. وإذا كانت تضمن حرية العمل و التنقل فإن القرآن بين قبل ذلك " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه" الملك 15. وإذا كانت الديموقراطية تتخلص في غالب الأحيان في حرية الصحافة و التعبير، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم زرع في أصحابه روح المناقشة وإبداء الرأي، وما غزوة بدر إلا دليلا على ذلك. وهذ عمر، حينما اعتلى المنبر و أراج تحديد الصداق لييسر الزواج لكل الشباب، خالفته امرأة عجوز مستشهدة بقول الله، فلم يستطع إلا أن يقول " أصابت امرأة وأخطأ عمر" وقصَة أبي بكر الصديق الذي قال لأصحابه: لو رأيتم فيَ اعوجاحا قوموني، فقال له أحد الصحابة: " و الله لو رأينا فيك اعوجاجا لقوَمناك بسيوفنا ".
- أما ضمان أمن المنزل، فإن الله عز وجل أنزل فيه: " يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها" النور 27.
ونستطع مما سبق ذكره أن نقول: إن الإسلام في أفقه السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي رسم منهجا للإنسان المعاصر حتى يخرج من الدوامة التاريخية التي يعيشها لأنه لم يعد قادرا على إنتاج فكرة لا تتنافى و طبيعة ومساره نحو التقدم الاجتماعي أيضا.
إننا من خلال محاولات متواضعة كهذه ندعو الإخوان المثقلين بهم الفكرة ( المشروع الإسلامي) أن يواصلوا دس المنهج الذي بدأه أستاذنا المفكر مالك بن نبي الذي وقف حياته على مشكلات العالم الإسلامي المرتبطة أساسا بالمسلم الذي لم يعد " حضارة" في حد ذاته و لكن قناة مستهلكة لمنتجات حضارة.
" وإن هذه الأعمال و المحاولات لا تنجح إلا أن تضع في ضمير المسلم تقويما جديدا للإنسان، أي بقدر ما تضع في ضميره قيمته و قيمة الآخرين لا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد".7

الهــوامش:
1- Thucydide 0 histoire de la Guerre du Péloponnèse. Livre II chapitre 37
2- ابن نبي ، مالك : تأملات ، دار الفكر 1986 ص 64
3- ابن نبي ، مالك ، نفس المصدر ص 66.
4- نفس المصدر ص 66.
5- نفس المرجع ص 70
6- لم يكن الحج قد فرض بعد
7- ابن نبي ، مالك ، تأملات دار الفكر ص 90


https://www.binnabi.net/infos/detail/...6%D8%A8%D9%8A_










رد مع اقتباس
قديم 2015-10-03, 19:51   رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
adziri
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

الديمقراطية في فكر مالك بن نبي

الديمقراطية...إن المعنى العام لهذه الكلمة منذ طرحها "بركليس" القيصر الأثيني في خطابه لشعب أثينا منذ 5 قرون قبل الميلاد. كانت تعني – كما هو شائع ومعروف- حكم الشعب نفسه بنفسه, وبذلك يمكن القول بأن الديمقراطية الأثينية إذا كانت تعني "حكم الشعب", فإن كلمة "الشعب" تعني الوطنيين الأحرار...أما فيما يتعلق بالمعنى الشامل للديمقراطية كمفهوم سياسي يفيد مجمله "سلطة الإنسان", وهذا يراه المفكر "مالك بن نبي"( 1905 -1973 م ) مناقض لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله في هذا النظام أو غيره, كما هو مشار إليه في مؤلفه " تأملات ".
مما يدعونا إلى التساؤل: عن أي القيم في ثقافتنا العربية الإسلامية يمكن أن نقارب بينها وبين الديمقراطية بمفهومها المعاصر؟ والبحث عن مكانة الديمقراطية في تراثنا العربي الإسلامي في الماضي والحاضر, هذا وإن كانت لها مكانة ما؟
وهذا ما سنسترسل في الحديث عنه من خلال رؤى "مال بن نبي" النقدية للفكر السياسي الغربي الحديث من خلال مفاهيمه السياسية التي منها الديمقراطية مقصودنا في هذا المقال.
في البداية يعتبر هذا المصطلح – الديمقراطية- من المصطلحات اليتيمة في قاموس المصطلح العربي, فهو مصطلح يمكن القول إنه أحاكت خيوطه الأولى الفلسفة اليونانية الأفلاطونية و الأرسطية بعيدا عن تأثير المعتقد أوالدين, كما لا يخفى علينا أن الديمقراطية عند " أفلاطون" (429 – 347 ق م) لم تكن هدفا في ذاتها ....فالهدف عنده هو تحقيق العدالة في المجتمع, هذا الهدف الذي ظل في الأخير حبيس المثالية؛ وعرف عقم واقعي إن لم نقل نسبي أحيانا, إذ نجد هذا المفهوم قد استنبطه من الفلسفة الغربية إذ لا يقيد سلطة الأمة أو الشعب شريعة ولا دين, ولا تلتزم بأي فقانون أخلاقي, والأدل على هذا شعار الثورة الفرنسية في كفاحها ضد الكنيسة ( لا نريد ربا ولا سيدا ) كما هو مشار إليه في مؤلف " مالك بن نبي " " تأملات "
وفي المقابل نشير إلى فكرة الديمقراطية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي من خلال إشكالية الإمامة أو الخلافة, حيث نجد إن " أبو نصر الفارابي" ( 872 – 950 م ) ترجم لفظ الديمقراطية بهذا المعنى اليوناني الأصلي للكلمة بـ " الجماعية " و " نظام الحكم الديمقراطي" بـ " المدينة الجماعية " فأصبح "الحكم الجماعي " مقابل " لحكم الشعب نفسه بنفسه ", وهذا التصور كان غالب عن التفكير السياسي في الإسلام, بمعنى كان من أللا مفكر فيه؛ّ وإن كان قرار إنها لا تتحقق إلا في" الجمهورية الفاضلة ".
وهذا هو المفهوم الذي ظل سائدا إلى غاية بداية القرن العشرين, ومع " مالك بن نبي" تغير هذا المفهوم ترادفا مع ما حدده الفيلسوف "جيل دلوز" ( - 1995 م) وزميله " فليكس غتاري" في مؤلفه " ما هي الفلسفة؟ "؛ الذي أصبح يعني عامة إنشاء المفاهيم أو الإبداع, فأصبح المفهوم بطبيعة الحال معرفة لكنه معرفة ذاتيه, وهو ما عبر عنه "المفكر والفيلسوف المغربي " طه عبد الرحمن " بـ " العلاقة التخاصية " المربوطة بالأنفهام التداولي , " فمالك بن نبي " في تأثليته هذا المفهوم المنطلق فيه من الفكر السياسي الغربي الحديث ربطه بالمجال التداولي الإسلامي من ( معرفة ولغة ودين ...). فرأى أنه يعني في مجمله " سلطة الإنسان على الإنسان " المطلقة, وهذا مناقض تماما لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله في النظام أو غيره؛ فالديمقراطية بمفهومها الحديث عند الغرب مثلا : تعني الحرب من أجل سيادة شعب عن غيره, أو الاستيلاء على سوق, أو استعمار مكان ما, أو احتكار منابع للنفط, وفي سبيل ذلك تسفك دماء لا تنتهي وتزهق أرواح بشرية لا تعد ولا تحصى كلها من أجل هذا.
ولذا نجد " مالك بن نبي " في نظره للديمقراطية بهذا المفهوم قد حدد لها إيجابيه مطلوبة هي أن تكون نافية للعبودية والاستعباد, وأن لا تكون ترمز للحد الوسط بين طرفين كل منهما يمثل نقيض للآخر , كما لا ينبغي أن لا تحقق النقيض المعبر عن نفسه وشعوره كعبد أو مستعبد ", وبناء على هذا حدد أيضا شروطا ذاتية: تتمثل في الشعور الديمقراطي نحو الأنا والآخرين, و الشروط الموضوعية: تتمثل في الحقوق والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية , وهذا الشروط تعتبر أساس نقد الديمقراطية الغربية ( الرأسمالية ) أو الديمقراطية الشرقية ( الاشتراكية ) .
و"مالك بن نبي " في بديله السياسي الإسلامي لهذا المفهوم يرتكز على نقطة العلاقة بين الدين والأخلاق, إذ يرى أن العمل السياسي الناجح على المستوى الإقليمي, هو العمل المنظم الذي يمكن من خلاله تحقيق التجانس بين عمل الدولة وعمل الإنسانية.
وبهذا تكون الديمقراطية كمفهوم أقرب إلى الثقافة العربية الإسلامية, إضافة إلى كونها تقوم على غاية هي " العدل ", إذن كما هو مطلوب في جمهورية " أفلاطون ", وما هو مطلوب في الفلسفة السياسية المعاصرة هو في نهاية المطاف العدالة. ويمكن القول نفسه في الثقافة العربية الإسلامية, حيث يحتل مفهوم " العدل" مكانه سامية في سلم القيم, بل هو إحدى القيمتين الرئيسيتين في نظام القيم عند " المعتزلة " الذين أطلقوا على أنفسهم " أهل العدل والتوحيد ".









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-03, 19:53   رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
adziri
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي



علاقة الإسلام والديموقراطية في فكر مالك بن نبي

إن الموضوع الذي بين أيدينا يثير الكثير من الأسئلة المشروعة التي تؤرخ لواقعنا المثقل بالأسئلة المعلقة، هل تقبل المرجعية الإسلامية بالديموقراطية؟ هل يتجانس الطرح الديموقراطي مع الأسس الإسلامية؟·
لقد كان مالك بن نبي واحداً من المفكرين السبَّاقين لمحاولة الإجابة على هذا السؤال من خلال كتاباته المتعددة وبخاصة المحاضرة التي ألقاها في نادي الطلبة المغاربة في سوريا سنة 1960م(81)، هذه المحاضرة التي حاول فيها إبراز الموقف الإسلامي من الديموقراطية في وقت لم يكن الموقف منها متبلوراً بالقدر الكافي داخل الوسط الإسلامي·
ولقد حاول الأستاذ مالك من خلال هذه المحاضرة ومن خلال إشارات أخرى في جل كتبه، الغوص إلى أبعد الحدود في تحليل العلاقة بين الإسلام والديموقراطية·
لقد رأى مالك المشكلة ـ أساساً ـ في الربط بين مصطلحي <الإسلام> و<الديموقراطية>· وكخطوة منهجة أولى لتفكيك وتحليل هذه العلاقة، كان من اللازم تعريف كلا المصطلحين، فما الإسلام إذاً، وما الديموقراطية؟

في معنى الإسلام
يستقي مالك تحديده لمعنى الإسلام من حديث جبريل ـ عليه السلام ـ والذي جاء فيه بأن <الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً>(19)، ويتضح من خلال هذا النص أن الإسلام مجموعة من المعتقدات والأفكار والأحكام والتشريعات المترابطة والمرتبطة بالوحي في مجالات الكون والإنسان والحياة تتوخى هداية الإنسان· إنه توجه ـ وتوجيه ـ قيمي يرسم المسيرة الصحيحة لحياة الإنسان وخلافته في الأرض، إنه <فكر> منظم رؤية فلسفية تتميز بالتكامل والشمول والتوازن عبر <شريعة> تنشد ارتقاء الإنسان في الدنيا والآخرة· ولعل أحد أهم مجالات التشريع هو الحياة الاجتماعية التي تتصل اتصالاً وثيقاً بالسياسة والحكم· إذاً، الإسلام لابد وأن يهتم بالسياسة، والسياسة لا بد وأن تتحرك في نطاق الدين ويظهر ذلك ـ بيسر ـ لكل متأمل في محتوى وطبيعة القضايا الدينية والسياسية، فالمشترك بين الدين والسياسة يرتبط بالهدف والقضايا الاجتماعية المراد معالجتها، بل لن نكون مغامرين إذا قلنا بأن الدين يغطي باستمرار كل مجالات السياسة· ولعل المتأمل في حركة الأنبياء عموماً ـ والحركة النبوية المحمدية خصوصاً ـ يلاحظ أن الفكر السياسي التوحيدي ظل نبراساً للعمل السياسي في مجتمعات الدعوة والدولة معاً·
وتتلخص معامل هذا الفكر السياسي التوحيدي في:
أ ـ إقرار الحق للناس ودفع الظلم عنهم·
ب ـ الدعوة إلى الله وتنظيم علاقة الإنسان مع خالقه ومع العباد، يقول تعالى في الآية 52 من سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، ولا شك أن إقرار العدل والقسط في حاجة إلى قانون والذي بدوره لا وجود له إلا بوجود نظام حقوقي واضح والذي لا يمكن تنفيذه إلا في إطار نظام سياسي وأدوات تنفيذية واضحة، كما لا يتحقق الحكم والنظام السياسي إلا بفكر سياسي ذي مرجعية دينية ثقافية واضحة في أذهان الفاعلين السياسيين من جهة وفي ذهن الأمة المسلمة من جهة أخرى·
ويجدر أن ننبه إلى أن مفهوم <الأمة المسلمة> ـ عند تأمله ـ مفهوم إيجابي يمثل حال الوعي والمسؤولية والالتزام بالمضامين الإسلامية ويمثل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم نواتها، هذه النواة التي قاومت مشروع <الأمة الظالمة>، ورموزها المستبدين الذين ساروا بشعوبهم نحو الفساد والإفساد في الأرض· إن <مفهوم الأمة المسلمة> ـ بعبارة أخرى ـ هو ذلك المفهوم الذي تلخص في التطور الكمي والنوعي، والتطور المفاهيمي والمؤسساتي على مستوى <الناس> يوازيه تطور على مستوى المرجعية الدينية والثقافية التي تؤطر في اتجاه تنمية الالتزام والمسؤولية والانضباط لدى <الناس> ليصبحوا ممارسين للفعل التغييري السياسي عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبر نظام ثقافي يؤسس لنظام سياسي يمتلك مقومات بناء نظام اجتماعي تبرز من خلاله مختلف التصورات والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية التي تحقق خيرية هذه الأمة لقوله تعالى في سورة آل عمران في الآية 110: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، وتحقق فلاح المؤمنين (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) آل عمران:104·

في معنى الديموقراطية
وما الديموقراطية في أبسط معانيها؟ إنها تعني <سلطة الشعب> أو الجماهير·
إنها مجموعة ممارسات ووسائل لصناعة القرار السياسي عن طريق مشاركة الأغلبية من أفراد الأمة باعتبارها حجر الزاوية الأساس للنظام والفكر الديموقراطي، إنها تقوم على مبدأين كبيرين: حرية الإنسان والاعتراف بالآخر، إنها مدلول عملي مؤسساتي أكثر منه أكاديمي نظري فلسفي ميتافيزيقي، إنها نظام معرفي ـ يمكن أن يطبع بأي طابع ـ ينعكس على الواقع من خلال بنية مؤسساتية، إنها تيكنولوجيا وآليات وأدوات تعزز من قيمة الإنسان في الأرض وخلافته عليها، وتعزز مساحة الحرية والحركية للإنسان محور الديموقراطية·
إذاً ما وجه المقارنة بين مفهوم سياسي يفيد <سلطة الإنسان> في نظام اجتماعي معين وبين مفهوم ديني يفيد <خضوع الإنسان> إلى سلطة الله في النظام نفسه؟
كذلك <الديموقراطية> لا يعرف ـ بالضبط ـ متى أدرجت في اللغة العربية كمفردة مستوردة ولا حتى تاريخ حدوثها في لغتها الأصلية·
وبهذا يظهر أن الصلة مفقودة بينهما زماناً ومكاناً، وربما أمكن القول مجازفة، نظراً لهذا التباعد من حيث الجغرافية بأن ليس هناك <ديموقراطية في الإسلام>(20)·

بين الإسلام والديموقراطية
هل إقامة حكم الشعب <الديموقراطية> مشروطة بإلغاء الحاكمية الإلهية؟ وهل تقف الحاكمية الإلهية ضد حاكمية الأمة والشعب؟
لتحرير القول في ذلك لابد من مراعاة حقيقتين مهمتين:
1 ـ الحقيقة الدينية: حيث لا يختلف إنسان مسلم كيفما كان مذهبه على أن الحاكمية الأولى هي الحاكمية الإلهية وإلا سقط المعنى الأول والأساسي للدين الذي يختزن مجموعة من الحقائق الدينية (الحياة، الموت، البعث···)·
2 ـ الحقيقة الاجتماعية ـ السياسية: حيث من المسلَّم به أن الإسلام يستهدف تحويل نصوصه وتعاليمه إلى قيم وأخلاق وأحكام، وبالتالي إلى ثقافة تؤطر الإنسان المسلم بقوتها ونفاذها ونفوذها، وذلك لا يتحقق إلا بتفاعل الديني مع الاجتماعي مع الثقافي مع السياسي، حيث على السياسي ـ مثلاً ـ تسخير الديني المقدَّس في بناء الثقافة السياسية للمجتمع المسلم، ولذلك فقد <يختلف مجال الديمقوقراطية كما تختلف قضيتها، فإذا كان الإسلام يتعارض مع بعض المسائل الوضعية للديمقراطية، فهذا بسبب سمته الكلية كدين··· لكن لأنه لا يوجد إجماع على المعنى الدقيق للديموقراطية كنظام سياسي، فإننا لا نستطيع أن نجعل من تعريف واحد أساساً <لمقارنة الإسلام والديموقراطية> وأنه لا يوجد نوع من الحكم القائم على أساس أيديولوجي أو تركيب اجتماعي واقتصادي لا يمكنه أن يكون جديراً بصفة الديموقراطية بالمعنى الشائع عنها في زماننا دون أن يكون معتمداً على عدد من المبادئ أو متجلياً في المواقف والقيم الاجتماعية عند تابعيه أو ظاهراً في قوانينها، وأهم هذه المبادئ الاعتراف رسمياً بقيمة كل مخلوق إنساني بصرف النظر عن صفاته··· ومساواة كل المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن السمات العرقية أو القومية أو الطبقية···>(20/1)·
إن عدم التدقيق في ماهية الموضوعات قد يوقع في خطأ المقارنة بين موضعين من طبيعتين مختلفتين مثل المقارنة بين الإسلام والديموقراطية، أي بين ما طبيعته اعتقادية فكرية سلوكية <الإسلام> وبين ما طبيعته تدبيرية إجرائية <الديموقراطية> ـ كما سنرى ـ والحقيقة أن المقارنة يجب أن تطال مساحة ما يسمَّى <الفراغ التشريعي> أو مقاربة المشترك بين الحقلين وذلك، فالذي لا شك فيه أن كلاً من الإسلام والديموقراطية يحتويان على مضمون ثري يجب إظهاره لتيسير المقارنة·
إن أي مفكر إسلامي ـ مثل مالك بن نبي ـ عندما يتصدى لوضع نظرية جديدة عن <الديموقراطية الإسلامية> فإنه <يقوم خاصة بالمقارنة بين مفاهيم المساواة في الإسلام وبين الفكر الكلاسي الغربي، فإنه يستمد شجاعة وقوة قلب عندما يجد أن المساواة التي يقر بها الإسلام ـ على خلاف ما هو معروف عند اليونان ـ لا يحتويان على أي شرط مسبق>(20/2) سوى التقوى والعضوية في الأمة، لأن الإسلام يعترف بالإنسان رسمياً بصرف النظر عن عقائده وجنسه، وإن كان يعارض النزعات القومية فحجته في ذلك أنه يستنكر كل المعايير <الجاهلية> العرقية والقومية والإرثية التي تميز بين المخلوقات الإنسانية باستثناء التقوى التي تجعل إنساناً أعز وأكرم وأفضل من آخر (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)·
لحل الإشكال، يركز مالك على الأسس والبنية الداخلية للديموقراطية والمراتب التي تعتمدها في تطوير ذاتها دون ربطها بأي مفهوم مسبق كالإسلام أو المسيحية، ويذهب إلى أنه <ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديموقراطية ونحددها دون ربطها مسبقاً بأي مفهوم آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها أي في إطار عموميتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق· ففي مثل هذا الإطار··· يجب أن نعتبر الديموقراطية من ثلاثة وجوه:
1 ـ الديموقراطية كشعور نحو الـ<أنا>·
2 ـ الديموقراطية كشعور نحو الآخرين·
3 ـ الديموقراطية كمجموعة الشروط الاجتماعية السياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد·(21)
إن ابن نبي يتحدث عن الديموقراطية بوصفها شعور الإنسان ذاته، نحو بنية <الأنا>· وهذا الوعي بالذات شرط جوهري في بناء الثقافة الديموقراطية المتمحورة حول حقيقة الإنسان وماهيته، حول العقل والحرية والخلافة وصناعة التاريخ·
كما أن الوعي بالذات يسهل منظومة ثقافية واجتماعية تفضي تلقائياً إلى الوعي بالآخر <الشعور نحو الآخر> عبر منظومة قيمية أساسها الحوار والوعي المتبادل· ولذلك نلاحظ ـ مثلاً ـ أنه بالثقافة الديموقراطية والحس الديموقراطي والوعي الديموقراطي، والروح الديموقراطي رفع الإنسان الأوروبي من مستوى قن (Serf) إلى مستوى مواطن (Citoyen)، وهذا التساوي عزز من قدرة الثورة الفرنسية على ترسيخ شعاراتها: الأخوة، المساواة··· ولهذا ركز مالك على فلسفة الوعي بالآخر الذي إذا فقد فقدت الديموقراطية معناها البنائي، وبالتالي فقدت الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لبناء الديموقراطية الحية الحقة· إن <الشعور نحو الآخرين> كما حددها مالك بن نبي يؤسس قواعد المنهج الاتصالي في النظام الديموقراطي ويعزز فلسفة الاتصال في بعدها الثقافي والروحي والإداري والسياسي··· ولذلك نراه يدعو إلى إنشاء علم اجتماع ديموقراطي وبخاصة في الكيانات التي تتوافر على خصائص <مجتمع> لترسيخ الثقافة والتربية الديموقراطية·
لكن هل النص القرآني والحديثي يحتوي على المعادلات المشكلة لبناء المشروع الديموقراطي؟
إن هذه المعادلات قائمة في بنية النص قبل وجودها في الديموقراطية الغربية، والروح الديموقراطي يتشابه إلى أبعد الحدود مع الوظيفة القرآنية وروح المشروع القرآني الذي يتمحور حول الإنسان·
وهكذا نلاحظ أن النص القرآني ـ كذلك ـ كان فيه الإنسان محوراً مهماً لقوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) الإسراء:70، وهكذا التكريم يقتضي بداهة الإحساس بالذات والوعي بالآخر في الوقت نفسه·
إن موقع الإنسان في النص يتجلى من خلال:
ـ محورية الإنسان في القرآن·
ـ جعله خليفة في الأرض·
ـ التأكيد على بناء الخلافة في النفس والآخر قبل بنائها في الأرض·
ولتفعيل هذه المحورية ربط النص الحديثي ـ مثلاً <الأنا> بـ<الآخر> في قوله صلى الله عليه وسلم: <لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه>(22)، وقوله صلى الله عليه وسلم: <مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى>(23)، إنه الوعي والإحساس بالآخر في أجلى صوره، وإنه منهج اتصالي رفيع داخل النص يؤمِّن سلامة البناء وتفعيله·
إن الإسلام يحمل رؤية متكاملة تشكل وعي الإنسان الخليفة وتحدد حركته في الأرض، هذه الرؤية التوحيدية تحمل ثقافة اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية وروحية وتربوية·
إن هذه الوجوه الثلاثة <الشعور نحو الأنا والشعور نحو الآخر والشروط الاجتماعية والسياسية> تبرز ـ دون شك ـ ما تقتضيه الديموقراطية في الجانب الذاتي والموضوعي، أي كل <الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديموقراطي والعدة التي يستند إليها النظام الديموقراطي في المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الديموقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوافرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد>(24)، وهذه الشروط <خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين>، معنى ذلك أن هذه الحركة وهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان هما الشرطان الأساسيان لنشوء وتخلق <الشعور الديموقراطي> ليصب نظرية أو رؤية في بناء النظم والمؤسسات من أجل تغيير الواقع إلى الأحسن، نحو تحرير الإنسان من قيد العبودية والاستضعاف·
إن هذا الشعور ـ وعبر تراكمات ـ كفيل بأن يكون اللبنة والمنطلق في بناء صرح الحرية وحقوق الإنسان وبناء دولة الإنسان كما يقول السيد محمد حسين فضل الله، ومهما يكن الغموض الذي يكتنف هذا الشعور الديموقراطي، فإنه يبرز عندما نخلصه من قيود التاريخ والسياسة السائدة ونعبر عنه بلغة علم النفس وعلم الاجتماع كما يذهب إلى ذلك المرحوم ابن نبي·

مظاهر السلوك الاستبدادي: فروعون أنموذجاً
عندما يدعو ابن نبي إلى اعتماد علم النفس وعلم الاجتماع في تحليل الموضوع الذي بين أيدينا، فإنه يريد تحليل النوازع النفسية للنفس البشرية في علاقتها المؤثرة والمتأثرة بمحيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي· ذلك أنه عندما تكون النزعة الذاتية ـ مثلاً ـ أقوى من نزعة الإيمان لدى الإنسان، وعندما تتحرك نوازع الشيطان وعوامل الفجور الأخلاقي والثقافي والسياسي···· في النفس، تتحرك ـ موازاة مع ذلك أو نتيجة له ـ نزعة الاستبداد الفعلي أو الفكري لتطلق ممارسات استبدادية جبروتية تسعى لتحريف الحقائق والهيمنة عليها إلى حد قد ينصِّب الإنسان نفسه إلهاً معلناً كما قال تعالى عن فرعون: (فحشر فنادى· فقال أنا ربكم الأعلى) النازعات:23 ـ 24، و(قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) غافر:29، و(قال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) القصص:83، وقال لموسى عليه السلام: (لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين) الشعراء:29··· أو إلهاً غير معلن بادعائه امتلاك الحقيقة وناصية المعرفة، ذلك هو السلطان الجائر والحاكم الظالم والمفتي الكاذب··· الذي لا يقبل نقاشاً أو انتقاداً··· هذا هو حاكمنا الراهن ذو الثقافة الأحادية كما قال مالك بن نبي، وهذه هي دولنا المستبدة·
ويبلغ الاستبداد بالحاكم إلى درجة الاستهانة والاستخفاف بالمجتمع كما فعل فرعون (فاستخف قومه) الزخرف:54، حتى إن المجتمع فقد ثقته بثقافته وفكره وعقله ثم بنفسه، فأطاع الحاكم طاعة عمياء نفت شعوره الذاتي (فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين) الزخرف:54·
إن فرعون عندما استكبر بحكمه وميَّز بين نفسه وبين شعبه فكرياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، فقد ساقهم بذلك إلى الاستضعاف والاستعباد· يوقل تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المسرفين) القصص:4·
لكن إذا كان <الناس> هم سند الأنبياء والمرسلين ـ بعد الله عز وجل ـ في الدعوة والتغيير فلا غرو أن نجد القرآن الكريم يوجه موسى ليطرح قضية الإصلاح والتغيير على فرعون قائلاً: (اذهب إلى فرعون إنه طغى· فقل هل لك إلى أن تزكى· وأهديك إلى ربك فتخشى) النازعات: 17 ـ 19·
لكن فرعون الذي أسست الخرافة ونرجسية الذات مكاناً لهما في عقله وتصرفاته وسلوكه، أصبح عدو نفسه وشعبه، بل أصبح سجين أوهامه التي جعلت موسى عليه السلام يقود حركة تغييرية غاضبة عليه، ويأتي مبشراً قومه بحكومة الصاحين الصالحين المتقين: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) الأعراف:128، ويؤكد داود عليه السلام هذا التبشير بحكومة العدل والتوحيد (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء:105·
إن رسالة موسى ـ عليه السلام ـ قوبلت بمواجهة ضارية من طرف فرعون، وعلى جميع الأصعدة لطبيعته الاستبدادية، فالحاكم المستبد دائم الخوف، حيث لا يحتمل حملات التوعية والدعوة إلى الإصلاح الذي يستهدف نظامه وربما وجوده أيضاً، ولذلك يضطر إلى اللجوء إلى اتهام أقطاب المعارضة بكل التهم الممكنة وغير الممكنة، كإجراء وقائي ضد كل الأخطار التي تهدده· (قالوا أجئتنا لتلفتنا عمَّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين) يونس:78، بل يجعل الناس ينفرون من المعارضة الصالحة باتهامها: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى) طه:57، (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) طه:63، إن فرعون يصور للناس وضعهم البائس تصويراً جميلاً نعته بالطريقة المثلى·
حتى إذا فشل، بدأ يتوسل بادعاء التدين والتستر به وتنصيب نفسه حامي حمى الملة والدين في محاولة لعرقلة مسيرة التدين الحقيقي (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو يظهر في الأرض الفساد) غافر:26، وقد يتمادى المستبد في مخادعة الجماهير وتضليلهم وينصِّب نفسه مرشداً روحياً هادياً إلى الحق والصواب (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) غافر:29· وقد يعمل <الفرعون> على تقسيم مجتمعه بين مستكبرين يعينونه على المستضعفين لتثبيت سلطانه (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً) القصص:4، مدعياً امتلاك <المكان> الذي يعيش فيه المجتمع (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون) الزخرف:51· إن التاريخ مليء بمآسي الاستبداد والديكتاتورية التي حوَّلت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق مثل قصة أصحاب الأخدود والجبابرة الذين ما نقموا من قومهم إلا لأنهم لم يريدوا اتباع مسلكهم وآمنوا بالعزيز الحميد كما ورد في سورة البروج·
إنها طبيعة المستبد، جشع بالغ وطمع يتجاوز كل الحدود، وتفرعن واستعلاء وفساد وإفساد·· إنه تاريخ مشحون بالمآسي والدموع·
فالقرآن الكريم يصف فرعون بأنه كان مستكبراً متعالياً مسرفاً متجاوزاً الحد، فهو يرى نفسه فوق الآخرين وإرادته فوق إرادتهم إذ يقول تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم، وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) يونس:83، (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين· إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين· فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) المؤمنون: 45ـ47، إنه تصوير رائع لحالة سياسية مستبدة إذ الاستبداد <حالة طغيان تجعل الحاكم المستبد لا يقبل نصيحة أو انتقاداً فيصير سيء فعله حسناً في نظره كما يخبر بذلك القرآن عن فرعون إذ يقول: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب· أسباب السموات والأرض فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب) غافر: 36 ـ 37، <إن الحاكم المستبد في الرأي والحكم يعتقد أنه يجب على الجميع أن يروا رأيه ويتبعوا فكرته سواء أوافق الدليل أم لا وسواء أطابق المصلحة أم لا، بل يكفي في صحته ولزوم طاعته أنه رأي الملك ومشيئته>(24/1)·
إن القرآن الكريم في حديثه عن فرعون وهامان ونمرود وأصحاب الأخدود··· وكل جبابرة التاريخ، يدين الحكومة الاستكبارية التي تربط الناس والنظام والقانون بوجودها بديلاً عن جهاز سياسي قويم قوامه إرادة تقابل إرادة أنظمة الحكم الفاسدة المستبدة، إرادة التغيير الحضاري الشامل الذي ينطلق من أسس الثقافة التوحيدية التي تحترم حركة الإنسان وحركة المستضعفين (ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين· ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) القصص:5ـ6·
ولذك فالتشريع الإسلامي نظام حقوقي يستدعي سلطة سياسية تتعهد بتنفيذها، كما أن الدعوة تستهدف هداية الناس مما لا يمكن تحقيقه إلا في إطار سياسي، فالأنبياء عموماً والرسول صلى الله عليه وسلم خصوصاً ـ انطلقوا في مواجهة المجتمعات الجاهلية ورموز أنظمتها على أساس جهادي قوامه فكر توحيدي يخطط وينظم ويؤسس لعمل سياسي·

مالك بن نبي: نأخذ بالديموقراطية الغربية··· ولكن!!
وينتقل بنا مالك إلى أوروبا للحديث عن <الشعور الديموقراطي> الذي أرجعه إلى كونه نتيجة ومآلاً طبيعياً لحركة الإصلاح والنهضة التي عرفتها أوروبا خصوصاً، رغم أن الأمر· في مقارنته بالمرجعية الإسلامية· يحتاج إلى المزيد من الحذر، فقد يتصور المرء في بادئ الأمر <أن الغرب يمارس ديموقراطية حقيقية غير أن من يطالع الأوضاع وخلفياتها الخفية يرى صورة عن الديموقراطية لا روح فيها، وشكلاً من حرية الانتخاب لا وقع له، فالإنسان في تلك الديار ـ والتي خبرها مالك بن نبي عن قرب ـ مسير بفعل العوامل الدعائية التي تملكها شرذمة من أصحاب الثروة والنفوذ والمصالح، فالإنسان الغربي يمارس ديموقراطية كاذبة لأنه لا يختار إلا تحت التأثير الإعلامي من تريد تلك الشرذمة من أصحاب المصالح والنفوذ لا ما يريده هو في قرارة وجدانه أو يحكم به عقله وتقتضيه مصالحه>(24/2)·
إن مالك بن نبي ـ أحد كبار أقطاب <الاستغراب>· والذي قضى قسطاً كبيراً من عمره محتكاً بالمجتمع الغربي ومفكريه وفلاسفته علم أن الديموقراطية الغربية متخلفة في جانبها التطبيقي، وإن كان يرى الأخذ بإيجابياتها المنسجمة مع الإسلام· لقد علم أن الإنسان في الغرب ينتخب تحت تأثير الأجهزة الإعلامية والدعائية الفاعلة والمؤثرات ما ظهر منها وما بطن <الجلية والخفية>، ينتخب من تروج له دعايات أصحاب الشركات والمعامل الكبرى أو من تدعو له الراقصات والمغنيات والعاهرات الحاملات لصور المرشح على صدورهن العاريات، ناهيك عن شراء الأصوات والتحالفات المصالحية، لذلك إن انتخاب مرشح شرذمة معينة لا قيمة له في ميزان العدل والحق الإسلاميين إذا كان الشعب يُسَاقُ مثل القطيع إلى صناديق الاقتراع، كما يصور مالك بن نبي الانتخابات في الجزائر على عهد الاستعمار الفرنسي وأذنابه، ولذلك نجد مالكاً يركِّز على تحليل <البنية الداخلية للديموقراطية>، و<التربية الديموقراطية>، نحو الأنا والآخر والشروط الاجتماعية·
إن هذا المعنى لا يمكن سحبه على البلدان الأخرى، ولكن <الشعور الديموقراطي> ـ عامة ـ هو <نتيجة لاطراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي الحد الوسط بين طرفين كل واحد منهما يمثل نقيضاً بالنسبة للآخر>(25)· مثل المستعبِد والمستعبَد، والمستبِد والمستبَد به، والإنسان الذي تتمثل فيه قيم الديموقراطية هو ذلك الذي يمثل الحد الإيجابي بين <نافية العبودية ونافية الاستعباد>، هذا هو المقياس <الذي تقاس بهالأشياء بالنسبة إلى أي تطور ديموقراطي سواء كواقع اندثر في طيات التاريخ أو كمشروع نريد تحقيقه في واقع مجتمع>(26)·
إن تطوراً من هذا النوع هو في حقيقة الأمر عملية تصفية للإنسان حين يتخلص من رواسب العبودية ونزعات الاستعباد بصفتهما صورة مشوهة للشعور الديموقراطي· فالعبد الذي يقول: <نعم> في كل الظروف يكرس سلبية معناها رغم إيجابية لفظها>· إن <نعم> هنا تساوي نافية، تلغي قيمة الـ<أنا> والذات أي أنها تنفي القاعدة الأساسية التي تبني عليها الديموقراطية في نفس الفرد الشعور الديموقراطي>(27)، وأن المستبد المستعبد صورة أخرى لنفي للآخرين·
ويورد مالك ـ للتمثيل ـ ذلك الحوار القرآني الذي دار بين فرعون وموسى في سورة طه، ذلك الحوار الذي يعطي صورة كافية للاستبداد في شخص فرعون الذي لا يعبر عن نافية إزاء <الأنا> بل عن نافية إزاء الآخرين، يقول تعالى: (قال فمن ربكما يا موسى· قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى· قال فما بال القرون الأولى· قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى· الذي جعل لكم الأرض مهاداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى· كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى· منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى· ولقد أريناه آيايتنا فكذب وأبى· قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى· فلنأتينك بسحر مثله· فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى· قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى· فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى· قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى· فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى· قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى· فأجمعوا كيدكم ثم إئتوا صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى· قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى· قال بل ألقوا· فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) طه:49:66، إلى قوله تعالى: (قال آمنتم قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم من خلاف) طه:71، ففي الطغيان السياسي <وجدنا أن فرعون لا يريد أن يحكم الإنسان فقط، ولكنه يريد أن يحكم الأرواح والضمائر··· ولذلك عندما آمن السحرة فهو يقول لهم باستكبار واستنكار (آمنتم له قبل أن آذن لكم) فهو ينتظر أن يكون الإيمان والكفر بإذن منه هو···>(27/1)، <فقد أنكر عليهم أن يؤمنوا قبل أن يأذن لهم كأن عملية الإيمان تحتاج إلى الإذن الفرعوني كما يحتاج إليها أي عمل آخر يتعلق بقضايا الإدارة والحياة، ولكن تلك هي سيرة الطغاة وعقليتهم في كل زمان ومكان عندما يريدون أن يملكوا على الناس عقولهم وأفكارهم فلا يفكرون إلا بما يقدمونه لهم من أفكار ولا يؤمنون إلا بما يدعونهم إليه من عقيدة، فالتفكير ممنوع، والإيمان محرَّم من دون الإذن الرسمي من قبل السلطة الرسمية التي تملك العقول كما تملك الأجسام والأعمال <نافية الآخرين>(27/2)، ثم يحاول أن يخفف عن نفسه وقع الصدمة وحرج الموقف ـ يقول محمد حسين فضل الله في الصفحة نفسها ـ باعتبار أن ما حدث (إيمان السحرة بموسى) يشكل نقطة ضعف في سلطانه لأن المتمردين <السحرة> هم من أتباعه المقربين، فيحاول أن يصور لنفسه وللآخرين أن القضية، من البداية، لم تكن تمرداً عفوياً يصدر عن قناعة الدعوة الجديدة ورفض للسلطة القديمة بكل ما تملكه من أفكار، بل كانت مؤامرة سابقة مدبرة بين موسى وبين هؤلاء السحرة، باعتباره أستاذهم الكبير الذي علمهم السحر وأرادهم أن يقوموا بهذه التمثيلية لإظهاره في موقف المنتصر في مقابل فرعون الذي يقف موقف المهزوم، ولم يفلح تهديده··· بل وقفوا موقف اللامبالاة أمام كل صرخات التشنج التي يطلقها فرعون ليقولوا له بكل قوة: إننا لن نؤثرك على ما شاهدناه من البينات فافعل ما تريد··· إنه الموقف الرائع والأنموذج العظيم للإيمان الصامد أمام الكفر الطاغي في أروع صورة للصراع الدامي بين قوى الكفر والطغيان وبين قوى الحق والإيمان>، بين الحرية والعبودية الحقة والشعور الديمقراطي نحو الأنا والآخرين الذي يمثله موسى والسحرة من جهة وبين نفي الآخرين واستعبادهم والذي يمثله فرعون من جهة أخرى·
ونلاحظ ـ هنا ـ أن في العمل الرسالي التغييري ليست القضية قضية خاصة ليدخل الداعية المناضل <الموضوع في حساباته الشخصية أو مركزه العملي، بل إن القضية قضية الفكرة التي يؤمن بها، والدعوة التي حمل مسؤوليتها مما يجعل قضية النجاح أو الفشل قضية الأمة··· وربما كان موقف موسى في حواره مع ربه، وطلب إشراك هارون معه يمثل القمة في وعي المسؤولية بعمق وإخلاص، إنه الدرس القرآني العظيم لأولئك الذين يفكرون بالعمل الرسالي <التغييري> من زاوية الأنانيات الشخصية والاعتبارات الذاتية التي تمنع الإنسان من التعاون مع أي إنسان كان>·
إن موسى ـ رمز المستضعفين ـ من خلال هذا الحوار الشيق مع فرعون ـ رمز المستكبرين ـ يقود حركة المستضعفين الغاضبة تجاه تحرير مفهوم العبودية الحقة عبر حوار يعتمد البرهان والدليل والحجة والمنطق، يعتمد منهجاً علمياً واضح المعالم، هذا المنهج الذي واجهه فرعون بمنهج <نفي الآخرين>، وإرهابهم: (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنَّكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) طه:71·
إن موسى عليه السلام كان يريد أن يفهم فرعون وبني إسرائيل العبودية الحقة عبر حوار يعتمد البرهان والدليل والحجة والمنطق، أي يعتمد منهجاً علمياً واضح المعالم، هذا المنهج الذي لم يجد معه فرعون إلا منهج <نفي الآخرين> وإرهابهم (فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنَّكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) طه:71، <والغريب أن فرعون ألحظ فيه ما ألحظه في المستبدين، وهم أن فيهم كبرياء وعناداً وفسوقاً وجحوداً وقسوة قلب عجيبة··· وفيهم أيضاً إلى جانب هذا كله غباء يستدعي النظر لأنه وهو يطارد موسى ومن معه وجد البحر يخضع لعملية تحول غير عادية··· الأمواج تنحدر يمنة ويسرة، ويبدو الطريق يبساً··· فكان ينبغي أن يفهم أن هناك حاجة غير ما ألف، وغير ما ينتظر· وهؤلاء ـ بعصا موسى ـ عرفوا كيف يشقون طريقهم إلى البحر، فكيف يمضي وراءهم؟ إنه فهم أن البحر سيظل معجزة قائمة من أجله··· هذا هو الغباء وهو غباء مألوف لدى المتكبرين··· بل لاحظت أن نهايات هؤلاء الجبابرة تكون من غبائهم الشخصي، فهم حتى آخر لحظة تكون لهم تصرفات فيها صلف وعمى ينسج على بصائرهم فلا يستطيعون أن يروا إلا أهواءهم>(27/3)·
إن موسى ـ عليه السلام ـ كان يريد أن يفهم فرعون وبني إسرائيل أن العبودية الحقة لا تعني إلا الحرية المطلقة من كل مؤثر سوى الله عز وجل، إنها فك قيود الشهوات والولاءات الزائفة· وهذه الحرية تحضر برؤية سياسية عميقة تربط بين التوحيد والتغيير السياسي معاً، فموقف الإنسان من الله ومن الشيطان يؤثر على حقيقة الحرية والأسر، ولذلك فالتحرر من الدين انقياد لسلطة الطاغوت الذي يحتاج في تسلطه إلى ثغرة يتسلسل منها إلى داخل الإنسان ليأسره، وقد تكون هذه الثغرة مفهوماً ثقافياً أو رغبة دنيوية أو حاجة أو شهوة كما فعل فرعون·
لذلك فمجاهدة هذه المؤثرات السلبية ـ كما هو حال موسى مع السامري وعجله في سياق سورة طه نفسها ـ سيؤدي إلى مجاهدة الاستبداد والاستكبار انطلاقاً من مرجعية قوامها فكر سياسي توحيدي يقارع الظلم والاستعباد·
وأعتقد أن القرآن الكريم <إنما قص هذه القصة عن فرعون وبني إسرائيل، ومصير المستبدين سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين أو ماليين، إنما فعل هذا لكي نأخذ عبرة: بأنه ما يجوز ترك حاكم يتفرعن، يجب تقليم أظفار الذين ينزعون إلى الاستعلاء على الخلق وادعاء الألوهية، فإذا كانت السلطة أو الثروة من أسباب الشذوذ، فيجب أن تقيد السلطات بحيث لا تغري أحداً بهذا الاستبداد الأعمى، وأن تقيد الأملاك وأن تراقب فلا تكون سبباً في أن يتألف من أصحاب الأموال طبقات من المترفين الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون··· يقول الشيخ رشيد رضا في المنار: <إن موسى ذكر في القرآن 120 مرة، فما ذكر اسم بشر ولا ملك كما ذكر اسم موسى··· إن قصة موسى لم تذكر للتسلية، وإنما حتى لا يتحول الخلفاء إلى فراعنة، وحتى تعرف الشعوب أيضاً أن عبادة غير الله جريمة، وأن الرضى بالذل ستكون عقباه الهوان في الدنيا والهوان في الآخرة>(37/4)·
وقد نجد أحياناً ما يعبر عن النافيتين معاً (نافيتي الـ<أنا> والآخر) وذلك حينما يشير أحد القياصرة ـ مثلاً ـ إلى أحد جنوده فيلقي بنفسه في هاوية سحيقة كأنه آلة تحركت بضغط زر، <فهذا المشهد يتضمن بكل وضوح موقف العبد وموقف الرجل المستبد أي نافيتي الشعور الديموقراطي>(28)·
إن الحديث عن علاقة الديموقراطية بالإسلام منوط بما ذكرت من العناصر الثلاثة السالفة <الشعور نحو الأنا، نحو الآخرين، الشروط الاجتماعية والسياسية>، باعتبارها شروطاً عامة لوجود <الشعور بالديموقراطية> في أي بيئة، ويطرح مالك السؤال مجدداً: هل الإسلام يتضمن هذه الشروط الذاتية والموضوعية أي نحو الـ<أنا> ونحو <الآخرين>؟ هل يتضمن <الشعور الذي يطابق الروح الديموقراطي كما بينا، وهل يخلق الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور؟>(29)·
وقبل الإجابة، يؤكد مالك على التسليم بداهة أن الإسلام ـ بفضل تربيته المتميزة للنفوس ـ يخفف ـ إن لم نقل يقضي على ـ كمية وحدة الدوافع السلبية والنزعات المنافية للشعور الديموقراطي والتي تطبع علاقة المستعبد بالمستعبد، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً·
إن مالك بن نبي يقر بأن الديموقراطية تحمل مضموناً إنسانياً نبيلاً هو حق الآخر في التعبير عن نفسه، لكنها في الوقت نفسه تفتقد القدرة على الصياغة الشمولية: العقيدة والمشاريع والبرامج··· ولذلك فهي تمارس بداعي الحاجة إلى تلافي الشقاق وتنظيم الاختلاف الذي ينبت في الأنظمة الفكرية الحرة التي تكتفي بالضوابط العامة وتترك تفاصيل الأشياء <للناس>، وفي هذا السياق يندرج الإسلام كمنظومة تبرز فيها منطقة الفراغ التشريعي التي تستدعي التدبير والتطلع ـ بشكل جوهري ـ إلى الأهداف والمقاصد عبر إطلاق قواعد عامة ضابطة للحركة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هذه الحركة التي نجد صداها في البعد التربوي / العقدي الذي يمثل المرجعية الثقافية الأساس للأمة مثل: الرقابة الإلهية والمسؤولية الفردية والجماعية والحرية··· وحسبنا ما كتب في مقاصد الشريعة والفقه المقاصدي والاجتهاد المقاصدي من كتب ومصنفات تضاهي أرقى النظريات الغربية في المجال·
إن الكتاب والسنة يقدمان ضوابط عامة تعني بالمقاصد الأساسية كالعدل والتآخي ومحاربة الفساد··· ضوابط مرتبطة بالثوابت لا تدخل في المتغيرات وبخاصة في مجال التنظيم والتدبير، مجال عمل الديموقراطية، بمعنى أن مجال عمل الديموقراطية هو تلك المساحة التي اكتفى منها الشرع بوضع ضوابط عامة أو منطقة الفراغ التشريعي، ومفهوم الديموقراطية ـ من هذه الناحية ـ يتكيف مع حرص الإنسان على ضبط اجتماعه السياسي بأقل سلبيات ممكنة·
وفي إطار الجدليات المُشار إليها في مجمل كتاباته <الثقافة والسياسة، الأخلاق والسياسة، الأيديولوجيا والسياسة···>، نجد ابن نبي يجعل المشروع الثقافي ضرورياً في تأسيس أي مشروع هادف إلى الديموقراطية من داخل منهج يشمل الجوانب النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، من ذلك يتبين تجاوز مالك للمعالجة السطحية والفهم السطحي لمسألة الديموقراطية، هذه السطحية التي تنشأ عن تناول المعنى الدارج أي في حدود اشتقاق المفردة الأثينية، وبالتالي فالديموقراطية ليست مجرد عملية سياسية، عملية تسليم سلطات إلى الجماهير· إن الديموقراطية هي <تكوين شعور وانفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية يشكل مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية في ضمير شعب قبل أن ينص عليها أي دستور، والدستور ما هو غالباً إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديموقراطي عندما يصبح واقعاً سياسياً>(30)·
وهكذا يظهر أن الاستعارات السياسية والدستورية التي تأخذ بها دول العالم الثالث لا تجدي نفعاً في إقرار واقع ديموقراطي، لأنها وحدها غير كافية إلا إذا صحبتها إجراءات تتعامل مع نفسية الشعب وهويته وتراثه وإقناعه بهذه <التقنيات الغربية>·

الهوامش
18ـ مالك بن نبي: تأملات، ص: 59·
19ـ رواه مسلم: كتاب الإيمان / حديث رقم 9، ورواه أبوداود في كتاب السنة / حديث رقم 4075، وأحمد في مسند العشرة/ حديث رقم 346.
20ـ تأملات، ص: 62·
21/1 ـ حميد عنايت: الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ص 253/254، ترجمه عن الفارسية وراجعه عن الأصل الإنكليزي، د·إبراهيم الدسوقي شتا ـ مكتبة مدبولي ـ القاهرة، دون تاريخ·
20/2 ـ نفسه: ص 254·
21 ـ تأملات، ص 64·
22 ـ رواه البخاري في كتاب الإيمان/ حديث رقم 12، ومسلم في كتاب الإيمان / حديث 64، والترمذي في كتاب صفة القيامة / حديث رقم 2439·
23 ـ رواه مسلم في كتاب البر والصلة / حديث رقم 4685، والإمام أحمد في مسند الكوفيين / حديث رقم 17654·
24 ـ نفسه، ص: 65·
24/1 ـ معالم الحكومة الإسلامية: محاضرات الشيخ جعفر السبحاني، بقلم: جعفر الهادي، ص 29، دار الأضواء، بيروت، ط71 1984م·
24/2 ـ المرجع نفسه: ص: 70 ـ 71·
25 ـ المرجع نفسه: ص 67·
26 ـ المرجع نفسه، ص: 67·
27 ـ المرجع نفسه، ص 68·
27/1 ـ كيف تتعامل مع القرآن: مدارسة أجراها د·عمر عبيد حسنة مع المرحوم الشيخ محمد الغزالي، ص 174، ط1/1992، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع ـ المنصورة، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ سلسلة قضايا فكرية (5)·
27/2 ـ محمد حسين فضل الله: خطوات على طريق الإسلام، ص 448·
27/3 ـ كيف تتعامل مع القرآن، ص 178 ـ 179·
27/4 ـ المرجع نفسه، ص 180·
28 ـ تأملات، ص 70·
29 ـ المرجع نفسه، ص70·









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-03, 19:57   رقم المشاركة : 29
معلومات العضو
adziri
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

الديمقراطية عند مالك بن نبي
من الاستنساخ الآلي إلى تحقيق الشروط الموضوعية


مدخل:
إنَّ من أبرز ما لحق الحياة العربية والإسلامية منذ ما اصطلح على تسميته بعصر النهضة، هو فشل معظم التجارب التنموية، سواء كان ذلك في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي .. هذا إذا جوَّزنا الفصل بين هذه المجالات في الواقع.
ولعل من أهم أسباب ذلك الفشل، هو طريقة تعامل (العقل العربي والإسلامي) مع مشاريع التنمية، حيث اكتفى بمجرد النقل الآلي لما اكتشفه عند (الآخر)... ذلك (الآخر) الذي مثَّل بقوته وغلبته قمة الإدهاش والإبهار للعقل المسلم الذي كان يعيش مرحلة ما بعد سقوط حضارته، فما كان منه في غمرة الانبهار إلاَّ أن يُقبل على ما عند (الآخر) إقبال الفراش على مصدر النور، دون تفكير في خطـر الاحتراق!
فانصب جهد النخب، التي غشيت عيونَها أفكارُ فلاسفة التنوير، على نقل الأفكار والمذاهب والنظريات، ومحاولة إعادة استنباتها في تربة العالم الإسلامي، متناسين كلية الخصوصيات الفاصلة بين واقع (الحلول) وواقع (المشكلات)، فكانت النتيجة الفشل وإهدار الجهود والأوقات والأموال، ومزيدا من الانقسام بين من يرى النهضة في التحصن بالذات وبين من يراها في التماهي مع (الآخر).
والديمقراطية، كمصطلح غربي، كان لها نصيب من هذا الصراع، فمن رافض لها واصفا إياها بالكفر، إلى متحمس لها مؤملا فيها كل الأمل... والمتأمل في حديث الرافضين وكلام المتحمسين، يلمس غياب التحليل ويجد التسرع في إلقاء الأحكام، وهذه من أعضل مشكلاتنا، ذلك أننا ما زلنا نحتقر (التنظير) ونرفض (فعل التفلسف)، ونحب أن نكتفي من الظواهر والأفكار بالسطح والقشور، وكأننا بذلك نُرضي طفولتنا الفكرية التي تنفر من التجريد، بل ونتشبث بإدامتها، لأنها - في النهاية - تعفينا من إعمال العقل والربط بين المقدمات والنتائج ربطا منطقيا.
ونحن في هذا المقام سنقارب نصا لمالك بن نبي، رحمه الله، حلل من خلاله مفهوم الديمقراطية وعلاقتها بالإسلام، متوسلا في ذلك - كعادته - بالمنهجية العلمية والروح النقدية المتجاوزة للتعميمات والخطابات السجالية التي تُنسي الحماسةُ أصحابها البحث عن الشروط الموضوعية لتحقيق أهدافهم ومشاريعهم!!
والنص الذي سنقاربه، عبارة عن محاضرة بعنوان (الديمقراطية في الإسلام) ألقاها بن نبي بنادي الطلبة بدمشق سنة 1960م، وقد نشرت في كتابيه (القضايا الكبرى) و(تأملات).
وقبل أن نتطرق إلى المحاور التي دارت حولها أفكار بن نبي في هذه المحاضرة عن الديمقراطية في الإسلام، نشير إلى أن للتاريخ الذي ألقيت فيه المحاضرة دلالة لايمكن أن نتجاوزها دون التنبيه إليها، ذلك أن سنة 1960م لم تكن الجزائر قد استقلت بعد، ومع ذلك يطرح بن نبي في هذه المحاضرة أفكارا تكشف مواطن الخلل في تصورات التيارات التي ستقسم الساحة السياسية في جزائر الاستقلال، وبعد مضي أكثر من أربعة عقود على بناء (الدولة الوطنية)!!
هذه الملاحظة تجعلنا نطرح السؤال حول العلاقة الهشة بين النخب الحاكمة في (الدولة الوطنية) وبين مفكر مستنير مثل مالك بن نبي، وعن مآل الأوضاع لو أن القيادة السياسية أعطت نفسها فرصة للاستماع للطرف المخالف... فهل كنا سندفع ثمن (التحول الديمقراطي) دماء وأشلاء ومزيدا من التآكل في النسيج الاجتماعي؟
ولنعد الآن إلى النص الذي نرى مقاربته من خلال النقاط التالية:

1– إشكالية المصطلح والمضمون:
المحاضرة كانت تحت عنوان (الديمقراطية في الإسلام)، فأول ما نلاحظه أن بن نبي لم يتناول الموضوع كما اعتاد الناس تناوله، من خلال ثنائية (الديمقراطية/الشورى)... وللفكر العربي - قديما وحديثا - ولع باختراع الثنائيات ثم إدارة الصراع حولها بين قائل (بالاتصال) ومناد (بالانفصال) ومحاول (للتوفيق).
فمالك بن نبي هنا لم يدخل الموضوع من باب إثارة الإشكال حول المصطلح، وإنما من زاوية وضع المشكلة في السياق الحضاري، فنحن كأمة تعيش مرحلة ما بعد حضارتها، محكوم عليها أن تكون في موضع المغلوب الذي يفرض عليه الغالب قوانينه وعاداته ومقاييسه، يقول: «ورثنا نحن معشر الشعوب الإسلامية، كما ورثت معنا وفي الظروف نفسها الشعوب الإفريقية الآسيوية التي خضعت مثلنا للدول الاستعمارية واحتكت بثقافتها وحضارتها في إطار الاستعمار، ورثنا هذا الاتصال وبحكم القانون الذي يفرض على المغلوب عادات وتقاليد الغالب، ورثنا المقاييس المرتبطة بحياة العالم الغربي وبتجربته التاريخية، وتقبلنا بعضها لنقيس بها الواقع الاجتماعي لدينا، ونقارن على ضوئها ماضينا وحاضرنا، بما يسحر أبصارنا في حاضر هذه الأمم الغريبة» (ص133) ( ).
فاللقاء مع الغرب (الآخر/الغالب) ومن موقعنا كمغـلوبين، أنشأ لدينا - كما يرى بن نبي - مركب نقص، جعلنا نضم إلى إسلامنا (خصوصيتنا/أصالتنا/ذاتنا) كل ما نعتقده ذا قيمة في حضارة الغرب، ومن هنا يعطينا بن نبي تفسيرا لتلك الكتابات التي ظهرت في مرحلة الخمسينيات والستينيات وحتى مطلع السبعينيات، والتي تتحدث عن (اشتراكية الإسلام) و(الإسلام والعدالة الاجتماعية) و(الحرية بالمفهوم الليبرالي في الإسلام)... فالمسألة أقرب إلى رد الفعل العـاطفي منها إلى الاختيار العقلاني الذي يختبر ما لديه أو ما يفد عليه من (الآخر).
ولذلك فهو يرى أن عنوانا كـ (الديمقراطية في الإسلام) يدل على هذه الآلية التي تتحكم في العقل المسلم، الذي يقف في هذه المرحلة من تاريخه، منبهرا بقوة الغرب (المفهومية) بقدر ما هو منبهر بسطوته المادية... فتراه يبحث عن المفاهيم يضيفها إلى تراثه، بالكيفية ذاتها التي يبحث بها عن الوسائل المادية لتحقيق الرفاهية في الواقع.
وبهذا المنطق تغدو «الديمقراطية من تلك العناصر التي نتقبلها لنضيفها إلى التراث الإسلامي، مقتنعين بما يبرر هذه الإضافة ولو بصورة شكلية، حتى يصبح الموضوع لا يفتح بابه على نقطة استفهام (هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟) بل ندخل فيه مباشرة من باب المسلمات فنقول: (صفوا لنا الديمقراطية الموجودة في الإسلام)» (ص133-134).
فبن نبي لم يشغـله التضـاد أو التوافق بين الشـورى والديمقراطية، وإنما شغله التعامل مع الصيغة المركبة الناتجة عن إضافة مفهوم (غريب) إلى الإسلام، باعتبارها مسلمة، تنتفي لدى المتلقي غرابتها، فينتقل إلى مستوى البحث عن توصيفها بعد أن سلم بوجودها.
وما أكثر ما أدخلنا هذا الربط غير الواعي، بين الإسلام ومفاهيم وافدة، في متاهات لم نتمكن بعدها من الإمساك بالمفهوم الوافد والاستفادة منه، ولا بتطوير فهمنا ونظرتنا إلى الإسلام.
وقد كان بن نبي واضحا في تحليله لموضوع الديمقراطية في الإسلام، فلم يتعامل مع الصيغة المركبة باعتبارها مسلمة، على الرغم مما فيها من إغراء وبريق قد يحمل المدافع عن الإسلام على تبنيها، خصوصا إذا ما نظرنا إلى الظروف التي كان يتحدث فيها بن نبي والتي اتسمت أساسا بتشبث المصلحين في العالم الإسلامي بكل ما من شأنه أن يدفع عن الإسلام دينا وحضارة، شبهات التخلف والانغلاق والماضوية، التي كان يروج لها المستشرقون والمفتونون من أبناء المسلمين، ويدعمها - بغير قصد - تزمت بعض علماء الدين وتحجر أفكارهم وبعدهم عن واقع الناس.
فكان بإمكان بن نبي أن ينطلق من الأمر باعتباره مسلمة، فلا يبحث عن جواب لسؤال: (هل في الإسلام ديمقراطية؟)؛ لأنه بذلك يضع الإسلام في قفص الاتهام كما يضعه خصومه، وإنما وبدافع من الذود عنه سيبحث عن جواب لسؤال: (هل لكم أن تصفوا لنا الديمقراطية في الإسلام؟)... كان بإمكان بن نبي أن يفعل ذلك.. ولكنه آثر أن يكون (محايدا) وأن يبدأ في تحليل المسألة من حيث يجب البدء، أعني تحديد حقيقة الرابطة بين المفهومين (الإسلام - الديمقراطية)، وهذا لا يتأتى إلاَّ بتحديد كل مفهوم على حدة، قبل الحديث عنهما بشكل صيغة مركبة.
يقول: «إن مشـكلة الربط بين هذين المصطلحين هي في نظري المشكلة الأساسية في الموضوع، يجب أولا أن نميز بينهما وأن نعطي كليهما ما تستحق شخصيته من التعريف، حتى نتبين في ضوء هذا التعريف أي قرابة توجد بين المصطلحين... وعليه في خطوتنا الأولى أن نوضح وأن نعرف مصطلحاتنا: ما هو الإسلام؟ وما هي الديمقراطية؟» (ص134).
وكأني به بهذا قد انتهج طريق (ابن رشد) حينما بحث قضية الصلة بين الحكمة والشريعة، فحلل مضمون الحكمة وحدد مفهومها، ثم حاكم ذلك إلى ما دعت إليه الشريعة، فتوصل إلى (فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال).
فبدأ بن نبي تحليله للمصطلحين (الديمقراطية - الإسلام) ولكنه في البداية نبه على أمرين أساسين:
- الأول: أن الوقوف عند المعنى اللغوي للمصطلحين من شأنه أن يدفعنا إلى القول بانتفاء أية صلة زمانية أو مكانية بينهما، فالديمقراطية كمصطلح نشأت في بيئة محددة وزمان محدد لا صلة لهما بالبيئة والزمان اللذين نشأ فيهما مصطلح الإسلام، وعليه «ربما أمكن القول مجازفة، نظرا لهذا التباعد من حيث التاريخ والجغرافية، بأن ليس هناك (ديمقراطية في الإسلام)» (ص 135).
- الثاني: أن المصطلح عبر تاريخه يكتسب معاني ويتلبس بتصورات مختلفة، فلا يمكن أن نغفل هذا الأمر عند إرادة المقارنة أو التحليل، بل علينا أن نحدد المعنى الذي نريده، وهذا بالضبط ما حدث لكل من (الديمقراطية) و(الإسلام).
فما العمـل إذن أمام هذين الأمرين؟... يجيب بن نبي: بأنه علينا القيام بخطوتين:
1- تجاوز المعنى اللغوي للمصطلح محل الدراسة.
2- تحديد مفهومه قبل ربطه بأي مفهوم آخر (فالديمقراطية نحددها في ذاتها دون ربطها بالإسلام ولا أن نجعله مقياسا لها).
وبتطبيق هذين المحددين، يخلص بن نبي إلى أننا حينما نتعامل مع المصطلحين في أبسط صورهما المفهومية نجد أن:
-الديمقراطية: هي سلطة الشعب أو بتعبير تحليلي موجز (سلطة الإنسان).
- الإسـلام: هو الخضوع لله - تعالى - أو بتعبير تحليلي موجز (خضوع الإنسان).
«فهل يوجد وجه مقارنة بينهما بعد هذا التبسيط؟ أي وجه مقارنة بين مفهوم سياسي يفيد مجمله تقرير (سلطة الإنسان) في نظام اجتماعي معـين، وبين مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير (خضوع الإنسان) إلى سلطة الله في هذا النظام أو غيره.
هـكذا ينتهي الأمر فيمـا يبـدو إلى مناقضة أو ما يشبه المناقضة» (ص 136).
فهذا التبسيط للمفهومين والذي يرتكز أساسا على الجوانب اللغوية، يزيد من أثر المقارنة بينهما صعوبة... والصعوبة - كما يقرر بن نبي -«ليست نتيجة الواقع الذي يدل عليه كلا المصطلحين، بل إنها تنتج من كيفية تعبيرنا عن هذا الواقع» (ص136).
وهذه ملاحظـة في غـاية الأهمية، ذلك أننا حينما نأخذ مصطلحا أو مفهوما ونغفل عن ظروف نشأته الزمانية والمكانية، نكون في الحقيقة قد ابتعدنا عن جوهر ذلك المفهوم، وعرضنا أحد تجلياته في الواقع في لحظة زمانية وحدود مكانية معينة، بمعنى أننا لن نعبر عن المفهوم كما هو في شكله المجرد الذي قد يصلح لكل زمان ولكل بيئة، وإنما سنأخذ أحد نماذجه التطبيقية في زمان وبيئة محددين... وهذا ما حدث -مثلا- للأحزاب اليسارية حينما أخذت التجربة السوفياتية كنموذج أرادت استنساخه، فباءت بالفشل؛ لأنهـا لم تتعامل مع النظرية الاشـتراكية أو الماركسية، وإنما تعاملت مع إحدى تجلياتها وتطبيقاتها في واقع يختلف عن واقع الشعوب العربية، وهو ما يحدث أيضا لدعاة الحداثة في سعيهم في نقل الصورة الحداثية للمجتمع الغربي ومحاولة تطبيقها على المجتمع العربي، فلا غرابة بعد ذلك أن تبوء تلكم التجـارب والمحـاولات بالفشل، لأنها لم تتعامل مع المفاهيم وإنما تعاملت مع (تعبيرات) عن تلك المفاهيم.
فبن نبي وهو يتحدث عن الديمقراطية في بداية الستينيات، نبه إلى هذا الأمر، وهو أننا لا ينبغي أن نتعامل مع الديمقراطية انطلاقا من المفهوم اللغوي الذي تطرحه القواميس الغربية، لأن المفهوم في هذا المستوى مشبع بروح التجربة الغربية أو الفرنسية على وجه الخصوص... فنحن حينما نقول الديمقراطية هي حكم الشعب أو سلطة الشعب أو الإنسان فهذا التحديد اللغوي «مرتبط بتقاليد الثورة الفرنسية، حيث يعتبر هذا المصطلح من إنتاجها اللغوي في هذا العصر» ( ص137).
2– الديمقراطية... أسس وشروط:
لئن كان المستوى اللغوي في تحديد المفهوم لا يفي بالغرض، فإن بن نبي يضع أمامنا مستوى آخر يراه كفيلا بإثراء النقاش وجعل المقارنة بين (الديمقراطية) و(الإسلام) أمرا ممكنا.
هذا المستوى - كما أشرنا من قبل - يتمثل في تجاوز التحديد اللغوي وعدم جعل المصطلح الثاني مقياسا للأول، وإنما علينا أن نتعامل مع كل مصطلح بشكل مجرد، في إطاره العام دون تحديد مسبق، يقول: «ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديمقراطية، ونحددها دون ربطها مسبقا بأي موضوع آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها، أي في إطار عمومياتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق» (ص137).
فهذا الإجراء يعزز من موضوعية الباحث ويمكنه من الوصول إلى حقيقة (المفهوم)، دون أن يقف التحديد اللغوي المرتبط بزمان النشأة ومكانها، حائلا بينه وبين مبتغاه، ودون أن يجعله التحديد المسبق يقفز على الحقيقة إما بالرفض وإما بالتأويل وإما بالتلفيق، وهي آليات المنظومات الفكرية المغلقة التي لا تكاد تفتح في بنيانها نافذة لشعاع آخر يأتيها من الخارج، وأنى لها ذلك وهي على يقين من أن ما عداها ظلام في ظلام!!
وبناء على ذلك، فالديمقراطية لا يمكن اختصارها في عبارة (سلطة الشعب/الإنسان)، وإنما ينظر إلى جوهرها الذي يتحدد من خلال ثلاثة وجوه، هي:
1- الديمقراطية كشعور نحو (الأنا).
2- الديمقراطية كشعور نحو (الآخرين).
3- الديمقراطية كمجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.
«فهذه الوجوه الثلاثة تتضمن بالفعل مقتضيات الديمقراطية (الذاتية) و(الموضوعية)، أي كل الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديمقـراطي، والعـدة التي يستند عليها النظـام الديمقراطي في المجتمع... فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد» (ص137).
فبن نبي هنا يضع يده على موطن الخلل في المحاولات التي عرفها العالم العربي والإسلامي لبناء الديمقراطية، إذ هو خلل (معرفي) يكمن أساسا في التحديد الأولي لمفهوم الديمقراطية.
فنحن حينما تعاملنا معها من منطلق أنها (حكم الشعب)، لم نتجاوز هذا المستوى لطرح السؤال عن مفهوم (الحكم) ومفهوم (الشعب)، وعن كيفية هذا (الحكم) الذي يمارسه (الشعب)، وإنما استسلمنا لبريق الشعارات غافلين عن الأسس الحقيقية لتجسيدها على أرض الواقع، وكأنما رفعنا تلكم الشعارات لنلهو بها كما يلهو الأطفال وهو يقـلدون الكبار في لعبة الحياة، ثم ينصرفون عن لهوهم إلى لهو آخر!
فالديمقراطية -كما يرى بن نبي- تنطلق من الذات شعورا، كما تتفاعل مع الآخرين شعورا أيضا، ولا يُكتفى فيها بذلك حتى نلحق ذلك الشعور بضمانات اجتماعية وسياسية تعززه وتنميه في ذات الفرد.
ولكي تتحول الديمقراطية أيضا إلى واقع سياسي، يجب أن تتوفر شروط (ذاتية) وأخرى (موضوعية)، ولنا أن نسأل عن ذلك الشعور وعن تلكم الشروط، فنجد الجواب عند بن نبي كما يلي:
- الديمقراطية شعور قبل أن تكون ممارسة، بل لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطية -كواقع سياسي- إن لم تسبق بشعور ديمقراطي يتحرك في كيان الفرد ويمازج أفكاره «وهذا الشـعور بالديمقراطية مقيد بشروط معينة لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة ولا من مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما كانت تتصوره الفلسفة الرومانتيكية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين.
فالشعور الديمقراطي هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان» (ص137-138).
هذا النص يوصلنا إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: أن الشعور الديمقراطي يُكتسب عبر حركة في واقع الحياة، والحركة تقتضي بذل الجهد لإحداث التغيير، ومن ثمة لا يمكن أن نتصور وجود هذا الشعور في الفرد مصادفة، أو بمقتضى التغير غير الواعي للظروف، كأن يكون الإنسان في مرحلة تاريخية (كالاستعمار مثلا)، ثم يدخل مرحلة تاريخية أخرى (كالاستقلال).
فالمسألة ليست تغيراً آليا، وإنما هي نتيجة عمل دؤوب وواع، قد يمتد قرونا عديـدة، يبدأ فيها هـذا الشعور صغيرا ثم ينمو إلى أن يصل إلى مرحلة الاكتمال، فَيُخْرج للواقع إنسانا جديدا قادرا على بناء الديمقراطية كواقع سياسي.
وهذه الحقيقة يدلل عليها بن نبي من خلال استحضار النموذج الغربي، فهو يرى أن الديمقراطية الغربية لا تُفهم حقيقة إلا إذا عدنا إلى أصولها الأولى، ووقفنا مع الشعور الديمقراطي في بداياته البسيطة، قبل أن نقف مبهورين مع ما أنجزته هذه التجربة في الواقع السياسي والاجتماعي للإنسان الغربي... فالمرحلة الممتدة من نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى قيام الثورة الفرنسية، كلها كانت مرحلة تخلق ونشوء لذلك الشعور الديمقراطي لدى الإنسان الغربي.
فتصفح تاريخ تلك الرحلة - كما يقول بن نبي - «يبين كم كانت أصول الديمقراطية الغربية بعيدة وبسيطة، وكيف تكون الشعور الديمقراطي ببطء، قبل أن يتفجر بالتالي في التصريح بحقوق الإنسان والمواطن، ذلك التصريح الذي يعبر عن التقويم الجديد للإنسان وعن التتويج الأسطوري والسياسي للثورة الفرنسية» (ص138).
وهذا الشعور لم يأت ثمرة مصادفة غير واعية، وإنما «كان النتيجة والمآل الطبيعي لحركة الإصلاح والنهضة، فهذا هو معناه التاريخي الصحيح» (ص139).
فإذا تجـاوزنا التجـربة الغربية وما تحمله من خصوصيات، وجدنا مالك بن نبي يعطي لفكرته تلك، صيغة القانون، (وهو أن كل شعور ديمقراطي إنما نتج عن عمل اجتماعي واع، وحركة تنقل الإنسان من وضع إلى آخر، فتعيد تقييمه وتهيئته لإنتاج واقعه الجديد).
يقول: «القانون العام بالنسبة لطبيعة الشعور الديمقراطي، سواء في أوروبا أو في بلد آخر، هو أن هذا الشعور نتيجة لاطراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي، الحد الوسط بين طرفين كل منهما يمثل نقيضا بالنسبة للآخر، النقيض المعبر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعور المستعبد المستبد من ناحية أخرى» (ص139).
وسنعود لاحقا لبسـط هذه الفكرة المتعلقة بتقييم الإنسان وعلاقته بالبناء الديمقراطي.
الثانية: أن أساس الشعور الديمقراطي، الذي يأتي -كما بيّنا- عن طريق حركة واعية، يتمثل في تقييم مزدوج للذات وللآخر.
- تقييم للذات ينتفي معه الشعور بـ(العبودية).
- تقييم للآخر ينتفي معه الشعور بـ(الاستعباد).
فنحن نرى في النهاية أن جوهر الديمقراطية هو الإنسان في تفاعله مع ذاته ومع الآخر، وما القوانين والدساتير إلا ضمانات تدعم البناء الديمقراطي ولا تنشئه، وهذا ما سنوضحه أكثر في العنصر الموالي.
3- الإنسان... مركز البناء الديمقراطي:
نصل الآن مع مالك بن نبي إلى جوهر أطروحته، فهو يرى أن الديمقراطية تبقى مجرد شعارات تلوكها الألسنة ما لم نتوجه إلى الجوهر، وجوهر البناء الديمقراطي هو (الإنسان).
فالأسس الثلاثة للديمقراطية «الشعور نحو (الأنا) - الشعور نحو (الآخر)- الضمانات الاجتماعية والسياسية»، تدور كلها حول (الإنسان).
فالإنسان هو أساس البناء الديمقراطي وجوهره ومركزه، ولكن ليس أي إنسان، وإنما هو الإنسان الحر، الذي يعرفه بن نبي بأنه: «الإنسان الجديد الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها، هو الحد الإيجابي بين نافيتين تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات: نافية العبودية ونافية الاستعباد» (ص139).
فالديمقراطية لا يصلح لها إنسان يتجاذبه شعوران متناقضان:
- شعور نحو ذاته بالعبودية.
- شعور نحو الآخر بالاستعباد.
فشرط الديمقراطية (تحرير الإنسان) حاكما ومحكوما من هاتين (الرذيلتين)، اللتين هما في الوقت ذاته (نافيتين) لكل القيم والالتزامات المصاحبة للديمقراطية.
وها هنا يتضح لنا سر فشل التجارب الديمقراطية في الوطن العربي، على الرغم من الكم الهائل من الشعارات والدعاوى، بل والالتزامات الشكلية بآليات الديمقراطية، كالانتخابات والمؤسسات والدساتير... فالمسألة أساسا متعلقة بغياب أساس البناء الديمقراطي، الذي هو الإنسان، وليس أي إنسان، وإنما (الإنسان الحر).
فتطوير الإنسان، وتخليصه من قيود الاستعباد، وإعادة تقييمه، هو نقطة البدء في أي بناء ديمقراطي، مهما كان مضمونه وفلسفته بعد ذلك.
ومرة أخرى يعود بنا بن نبي إلى تجارب الديمقراطية الغربية، بنماذجها المختلفة، منبها إلى ما يطرأ على الإنسان في عمليات البناء الديمقراطي الجاد، من تطوير، قد نراه شكليا، لكنه يحيلنا إلى ذلك التطور العميق، المتمثل في الحركة التاريخية التي أعادت تقييم ذلك الإنسان.
يقول: «ولهذا التطور ناحية شكلية، لها دلالتها عندما يضفى على هذا الإنسان (الحر)، لقب يعبر عن قيمته الجديدة، فبعد أن كان يعتبر (sujet) أي التابع إلى الملك أو مولاه، تسميه الثورة الفرنسية (citoyen) المواطن، وتحاكم الملك لويس السادس عشر فتسميه (المواطن كأبيه) أثناء المحاكمة، وبعد أن كان الفلاح الروسي يسمى (موجيك) في العهد القيصري، أصبح (الرفيق) بعد ثورة 1917» (ص139).
ومرة أخرى أيضا، يعطي بن نبي لفكرته هذه صيغة القانون العام، «كل بناء ديمقراطي مشروط بإحداث تغيير في قيمة الإنسان»؛ لأن «هذا هو المقياس العام الذي تقاس به الأشياء بالنسبة لأي تطور ديمقراطي، سواء كواقع اندثر في طيات التاريخ، أو كمشروع نريد تحقيقه في واقع مجتمع» (ص140).
وليس الإنسان الحر، جوهر البناء الديمقراطي فحسب، وإنما يراه بن نبي أيضا، الأساس الذي نميز به أنموذجا ديمقراطيا عن غيره، فالديمقراطية، وإن اتحدت في جوهرها بناء على الأسس الثـلاثة المشار إليها أعلاه، إلا أن تمثلاتها الواقعيـة تختـلف باختـلاف الظروف المكانية والزمانية التي تتم فيها التجربة، يقول بن نبي: «إن مرحلة التخلق والنشوء ترتبط بصورة شكلية، بتعبير جـديد نطلـقه على الإنسان، أي بتقويمه تقويما جديدا ليصبح (المواطن) في الثورة الفرنسـية أو (الرفيق) في الثورة الروسية، وتظهر - طبقا لهذا التقويـم- الاختلافات الأولى بين النماذج الديمقراطية المعروفة في التاريخ، حتى في المصطلح السياسي حيث نصبح اليوم نتكلم عن (الديمقراطية الغربية) بأوروبا و(الديمقراطية الشعبية) في الشرق و(الديمقراطية الجديدة) في الصين ( ).
فبصورة تزيد أو تنقص وضوحا، نجد أنفسنا أمام نماذج ديمقراطية يختلف بعضها عن بعض، بمقدار تقويمها للإنسان بالقيمة التي تعطى له في صورة شكلية، تعبر بصورة رمزية عن بداية تدشين المشروع الديمقراطي في البلد، ووضعه في الطريق نحو القيم والمثل الديمقراطية» (ص145).
ومرة أخرى يضع أمامنا بن نبي أسبـاب الخلل لدى النخب الحاكمة أو التي تسعى للحكم، وفي بعض الأحيان النخب المثقفة، في الوطن العربي، حينما يُكثرون من الحديث عن الديمقراطية وضرورة بنائها، وهم لم يقدموا صورة جديدة للإنسان العربي، حيث لا يزال الحاكم يعامل شعبه (كرعايا) عليهم أن يحسنوا السمع والطاعة، ويُضفي على نفسه صورة (الأبوية) التي تفترض عدم الرشد والصغر والسفه في سلوك الأبناء وأفكارهم، مهما تقدم بهم العمر... بل بعض الحكام العرب يمني (رعاياه) بأنه سيعلن لحظة تدشين (البناء الديمقراطي) متى لمس فيهم نضجا ورشدا!!
وبعض (النخب) السـاعية للحكم، المتمثـلة في أحزاب المعـارضة، لا زالت ترى الشعب أيضا قاصرا، غـير عارف بمصـلحته، لا تنظر إليه إلا باعتباره صوتا انتخابيا، فهو واع إن صوت لصالحها، وهو دون المستوى إن اختار غيرها!!
- والتقويم الجديد الذي يجب أن يؤسس عليه البناء الديمقراطي، له وظيفة أخرى تتمثل في التغلب على المعوقات التي تقف في طريق الديمقراطية، والتي يكون أساسا معوقات نفسية.
فالفرد الذي لم يشعر بكيانه كإنسان حر، لا يمكنه أن يخرج من دائرة العبودية للآخر، أو إرادة استعباد الآخر، ولا أمل في بناء ديمقراطية مع وجود هذين النافيين لمقوماتها.
يقول بن نبي: «هذا التقويم الجديد للإنسان، يطبع من البداية فعالية المشروع وأثره في المجال النفسي، بالنسبة إلى الدوافع السلبية التي تقاوم المقومات الديمقراطية في نفس العبد ونفس المستعبد، فهو يكون إذن مقياسا تقاس به الأشياء في هذا السياق، وتميز به النماذج المعروفة في التاريخ، من النموذج الذي حققته أثينة منذ ثلاثة آلاف سنة، إلى النموذج الذي تحققه الصين اليوم» (ص145- 146).
فالتقويم يعيد للإنسان الإحساس بإنسانيته، ومن ثمة يدفعه إلى الدفاع عن حقه في الحياة كإنسان حر مكرم، وما لم نصل به إلى هذا الشعور، فالظفر بمجتمع ديمقراطي، أمل بعيد المنال.
وهذا الشعور - كما أسلفنا - يأتي نتيجة حركة واعية من شأنها أن تطور الإنسان، وتعطيه تصورا جديدا ينقله من طور العبد المستكين، إلى طور الإنسان الحر الممتلئ إحساسا بإنسانيته.
وليس هذا بالإنجاز السهل، خصوصا في مجتمعاتنا العربية، التي فقد فيها الإنسان قيمته كإنسان طوال الفترة الاستعمارية، وازدادت قيمته انحطاطا مع القمع الذي مارسته عليه الأنظمة العسكرية الملتحفة بالأيديولوجيات الشمولية خلال فترة (الدولة الوطنية).
فلا غرابة والحال هذه، أن يصبح التزوير مثلا، سلوكا تمارسه السلطة، وهي مطمئنة وواثقة من سلبية موقف الناخب وردة فعله، فهي على قناعة تامة بأن هذا الناخب يرى مسؤوليته تنتهي حينما يلقي بالورقة في الصندوق، ثم لا يبالي بعد ذلك بما يحدث، لأنه لا يرى لتلك الورقة دلالة أكثر من مجرد المشاركة الشكلية في مهرجان يتنافس فيه الآخرون على أمر لا يعنيه ولا يشغله، لأنه مشغول ومهموم بلقمة العيش والجري وراء الحد الأدنى من متطلبات الحياة!!
لا غرابة هنا في موقف السلطة ولا في موقف الناخب، وإنما الغرابة في موقف القوى الساعية إلى التغيير - على اختلاف توجهاتها - حينما تقف تشجب هذا السلوك غير الديمقراطي من السلطة وتلوم الناخب على سلوكه السلبي، دون أن تقدم له ما يجعله يخرج من سلبيته، فهي لا تكاد تظهر إلا في المواسم الانتخابية، ولا تكاد تنظر للفرد إلا باعتباره (صوتا) يجب أن يكون لصالحها، أما العمل على توعية هذا الفرد وتعزيز شعوره بالحرية والإنسانية، بحيث يصبح (للورقة) دلالة تتجاوز حدود المشاركة الشكلية في مهرجان يتنافس فيه الآخرون فذلك غائب، حيث لابد من الارتقاء إلى الدلالة على الحق المشروع والواجب العيني في تحديد مصير المجتمع وتوجهاته، ويدرك عندها هذا الناخب أن التوزيع العادل للثروة يمر عبر (الصندوق)، وأن جريه وراء لقمة العيش يتحدد - يسرا وعسرا - بالورقة التي يلقيها فيه.
4- الديمقراطية بين المضمون والآليات:
نقطة أخرى لا تقل أهمية على مكانة الإنسان، ينبه إليها بن نبي في تحليله، وهي علاقة الآليات بالمضمون في مسألة البناء الديمقراطي.
فهو بقدر ما نبه على ضرورة النظر إلى الديمقراطية من خلال تحليلها إلى الأسس الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها، نبه أيضا إلى أن التمسك بالآليات دون ترسيخ المفهوم أولاً في النفس، لا يعدو أن يكون استنساخا شكليا لنماذج لا نملك مقومات وجودها في واقعنا الاجتماعي.
وهذه الملاحظة، كثيرا ما يؤكد عليها بن نبي في كتاباته، حيث رأى أن المجتمعات العربية أخطأت الطريق إلى النهضة والحضارة، حينما حاولت محاكاة الغرب في حضارته بدافع التقدم، فانكبت على أشياء الحضارة تقتنيها، فكانت النتيجة أن (تكدست) هذه المنتجات الحضارية لديها، دون أن تخطو بها نحو التقدم الحقيقي خطوة.
والشـيء ذاته حدث في بعض - إن لم نقل أغلب- تجارب البناء الديمقـراطي في المجتمعـات المتخلفة عمـوما - ومنها المجتمع العربي - حيث انصرفت جهود نخبه إلى اقتناء آليات الديمقراطية دون وعي بالعلاقة العضوية بين ترسيخ المفهوم في كيان الفرد وبين الآلية التي تأتي بعد ذلك لتعزيزه وتحقيقه.
ويعطينا بن نبي مثالا على ذلك بمسألة (الدستور)، فالبعض يفهم الديمقراطية فهماً سطحيا، ويحولها إلى «مجرد عملية سياسية، عملية تسليم سلطات إلى الجماهير، إلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور» (ص 143).
فهذا النص الدستوري الذي يسلم السلطة إلى الشعب، ويعلن ديمقراطية الحكم، لا يساوي في واقع الأمر قيمة المداد الذي كتب به، لأنه لا يمثل حقيقة في واقع الناس... وقد نجد مجتمعا بلا دستور ينص على هذا المسألة، ولكن حياته تسير وفقا للقواعد الديمقراطية التي تشربها كل فرد فيه، فهو يعايشها سلوكا يوميا.
ويمثل ببن نبي لذلك بالمجتمع الإنجليزي فيقول: «فإنجلترا تتمتع بحياة ديمقراطية ممتازة، دون أن يكون في أساسها نص دستوري خاص يحمي الحقوق والحريات التي يتمتع بها فعلا الشعب الإنجليزي، وإنمـا تحميها تقاليد الشعب ذاته وعـاداته وأوضاعه النفسية وعرفه الاجتماعي، أي في نـهاية التحـليل يحميها ما يمكن أن نسميه الروح الإنجليزي بالذات» (ص143 – 144).
وللنموذج الإنجليزي دلالته المهمة، إذ يبين أن الديمقراطية ليست في أساسها «عملية تسليم سلطات تقع بين طرفين معينين، بين ملك وشعب مثلا، بل هي تكوين شعور وانفعالات مقاييس ذاتية واجتماعية، تشكل بمجموعها المقاييس والأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، في ضمير شعب قبل أن ينص عليها أي دستور» (ص 144).
وهذه المقاييس والأسس لا تنشـأ في مجتمع ما - كما يقرر بن نبي - إلا إذا نظرنا إلى الديمقراطية على أنها «مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى أنها منهج شامل، يشمل الجانب النفسي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي» (ص143).
أما (الدستور)، فهو - على أهميته- يأتي تالياً لهذه الخطوة الأولى (خطوة التثقيف الاجتماعي الشامل)، بل ما الدستور «غالبا إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديمقراطي عندما يصبح واقعا سياسيا، يدل عليه نص توحي به عادات وتقاليد، ويمليه شعور في ظروف معينة، ولا يكون أي معنى لهذا النص إن لم تسبقه التقاليد والعادات التي أوحت به، أو بعبارة أخرى المبررات التاريخية التي دلت على ضرورته» (ص144).
وإنه لمظهر يثير السخرية، بل والشفقة أحيانا، حينما نرى حرص المجتمعات المتخلفة على التمسك بالشكليات، وديمقراطيات الواجهة، فتكثر الحديث عن الديمقراطية، والدستور والحرية والمجتمع المـدني والانتخابات... ثم لا ترى مانعا من أن يخلف الحاكم نفسه، أو أن يديم سلطانه فيه وفي بنيه (عن طريق اختراع الجمهوريات لملكية، وهو اختراع عربي بحت)، وأن يكون الاحتكار هو القاعدة التي تحكم المجتمع وعلى أساسها (توزع) الثروة وحرية الرأي والممارسة السياسية!!
يقول بن نبي -موضحا جانبا من هذا البؤس -: «ومن هنا تبدو بكل وضوح تفاهة الاستعارات الدستورية التي تستعيرها اليوم بعض الدول الإفريقية والآسيوية الناشئة( )، التي تريد إنشاء الوضع الجديد في بلادها، بالقياس على المنوال الذي تستعيره من بعض البلاد ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، إن هذه الاستعارة تكون تارة لازمة، ولكنها لن تكون بكل تأكيد وحدها كافية، إن لم تصحبها الإجراءات المناسبة لبث ما يستعار في نفسية الشعب الذي يستعيره» (ص144).
فبن نبي بهذا يرشدنا إلى معرفة السر وراء التناقض في حياتنا العربية، حيث نجد حكامنا أكثر حكام الدنيا حديثا عن الديمقراطية وضرورة احترام الدستور ومؤسسات الدولة، وفي الوقت ذاته نجدهم أكثر حكام الدنيا انتهاكا لهذه الدساتير وقفزا فوق هذه المؤسسات.
بل يفسر لنا السلوك الغريب الذي ينتهجه حكامنا، حينما يأتي كل حاكم (بدستور)، يفصله على مقاسه، فإذا مات أوخلع، جاء خليفته، فيكون أول همّ له أن يأتي بدستور على مقاس العهد الجديد ... والشعب الذي ينص الدستور على أن السلطة له، يقف في كل هذا موقف المتفرج الذي لا يعنيه من الأمر شيء!!
5- الإسلام والديمقراطية:
بعد أن يصل بن نبي إلى هذه النقطة من التحديد لمفهوم الديمقراطية، يعود ثانية للإجابة عن الإشكال الذي بنى عليه محاضرته، وهو: (هل في الإسلام ديمقراطية؟)، وهذا السؤال يستبطن سؤالا عن حقيقة العلاقة بين المفهومين، هل هي علاقة تناف، بحيث وجـود أحدهما ينفي الآخر قطعا؟ أم هي علاقة تضمن، بحيث يكون أحدهما جزءا من الآخر؟ أم هما مفهومان مستقلان، لهما نقاط تقاطع واشتراك ونقاط تباين واختلاف؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة، تبدأ من ملاحظة العنوان الذي وضعه بن نبي لمحاضرته، وهو (الديمقراطية في الإسلام).
والعنوان، كما يقول (ليو .هـ . هوك) - وهو من مؤسسي علم العنوان الحديث - : «مجموعة من العلامات اللسانية التي يمكن أن تدرج على رأس نص لتحدده، وتدل على محتواه العام، وتغري الجمهور بقراءته»( )... فمن هنا يكون تأمل العنوان مسـاعدا على معرفـة تصور الكاتب للموضوع محل النقاش.
ومالك بن نبي هنا، بوضعه عنوان المحاضرة (الديمقراطية في الإسلام)، يكشف عن جانب من تصوره للمفهومين، فيمكن أن نلاحظ ما يلي:
- أنه لا ينفي وجود الديمقراطية في الإسلام، فهو لم يختم العنوان/النص، لا بعلامة تعجب(!)، ولا بعلامة استفهام (؟).
- أنه لا يضع الديمقراطية كمرادف للإسلام، ومن ثمة لا مجال للتنافي بينهما، أي لا يمكن أن تكون الديمقراطية بديلا عن الإسلام.
- أنه يفتح مجالا أمام القارئ للإبقاء على احتمال التضمن أو التقاطع، وذلك من خلال استعمال (في) بدلا من (الواو).
وهذه الملاحظات يعززها ما يأتي من تحليل:
- يبدأ بن نبي - كالعادة - بملاحظة منهجية دقيقة، تتعلق بتصورنا للإجابة عن السؤال المحوري في الموضوع: (هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟)، فبين أن الإجابة لا يمكن تلمسها في (نص فقهي) - كما يحاول البعض فعله، سواء أولئك الذين يريدون نفي وجود الديمقراطية في الإسلام، أم أولئك الذين يريدون إثبات وجودها فيه -، ولكن يجب أن تتلمس الإجابة في (جوهر الإسلام)، مثلما لم نقف في تحديد الديمقراطية عند المفاهيم التي تفيدنا بها القواميس الغربية المتشربة لروح العصر الذي وجدت فيه.
بعبـارة أخرى، فإن جـوهر الديمقراطية، وجوده أو عدم وجـوده، إنما يكون بالبحث عن ذلك في جـوهر الإسـلام؛ لأن النصوص الفقهية - وإن كانت مستنبطة من الكتاب والسنة أصلي الإسلام - فهي مشبعة بروح العصر الذي استنبطت فيه.
يقول بن نبي - مؤكدا هذه الملاحظة-: «إن الجواب على السؤال المعروض في هذا البحث (هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟)، لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من السنة والقرآن، بل يتعلق بجوهر الإسلام بصفة عامـة وعلى وجـه الخصـوص، ومن الوجهة التي تهمنا هنا، فإنه لا يسوغ لنا أن نعتبر الإسلام كدستور يعلن سيادة شعب معين، يصرح بحقوق وحريات هذا الشعب، بل ينبغي أن نعتبره في سياق حديثنا كمشروع ديمقراطي تفرزه الممارسة، ونرى من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يكون محيطه، وهو في الطريق نحو تحقيق القيم والمثل الديمقراطية» (ص144- 145).
وهذا التعريف قد يبدو غريبا عما اعتدنا أن نعرف الإسلام به، ولكنه تعريف إجرائي اقتضاه سياق النقاش والتحديد السابق لمفهوم الديمقراطية.
فكما لا يجب الوقوف عند المفهوم الذي يختزل الديمقراطية في مفهوم سياسي، يفيد مجمله تقرير (سلطة الإنسان)، ولكي يكون الحوار منتجا، يجب أن لا نختزل مفهوم الإسلام في مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير (خضوع الإنسان)... فهذان المفهومان المختزلان يكرسان جانب التنافي بين الديمقراطية والإسلام، فكان على بن نبي أن يصوغ تعريفا يتفق مع نظرته تلك.
فهل كان بصنيعه ذاك متجنيا على المفهوم الصحيح للإسلام، حيث أراد تطويعه للتوافق مع الديمقراطية؟ أم لهذا التعريف ما يبرره؟
في الحقيقة أننا حينما نتابع بن نبي في تحليله، نجد أنه يحاول التأكيد على أن مقياس الديمقراطية - بغض النظر عن تمثلاتها ونماذجها في الواقع - هو تحرير الإنسان من شعوري العبودية (نحو ذاته) والاستعباد (نحو الآخر)، ثم توفير الضمانات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تدعم هذا التحرر وتعززه في كيان الفرد.
وعليه فإذا قلنا: (هل في الإسلام ديمقراطية؟)، فالإجابة تكون بالبحث عن موقف الإسلام من الإنسان ومدى توفيره للضمانات المعززة للحرية الإنسانية، وهذا ما بينه بن نبي.
فهو ينبهنا في البداية إلى النظر إلى الإسلام (كمشروع ديمقراطي) تعززه الممارسة، أساسه الإنسان الساعي للتحقق بالمثل والقيم الديمقراطية، والتي هي الشعور نحو (الأنا) ونحو (الآخر)، بالحرية والتحرر، «بحيث ترتبط حركته التاريخية بالمبادئ العامة، التي أقرها الإسلام في صورة بذور غرست في الوعي الإسلامي، وفي صورة شعور عام ودوافع تكون المعادلة الإسلامية في كل فرد من المجتمـع» (ص145).
فالإسلام - كما يبين بن نبي هنا - يغرس في كيان الفرد مقومات الديمقراطية على شكل (بذور)، ويترك للإنسان بعد ذلك تنميتها، حتى تستوي على سوقها أشجارا مثمرة وارفة الظلال، وهذا ما يفسر لنا مقولة: إن الإسلام (مشروع ديمقراطي تعززه الممارسة)، أي أن الإسلام يضع الأصول ويترك للإنسان (الفرد/المجتمع) تطوير حياته وصياغتها وفقا لظروفه واحتياجاته، بما يجعله محققا للمصلحة وملتزما بالأصالة في الوقت ذاته.
إن هذه الفكرة تبين لنا خطأ أولئك الذين يريدون البحث عن الديمقراطية - نفيا أو إثباتا - في النصوص الفقهية، دون البحث عنها في جوهر الإسلام، كما توضح السبيل أمام الذين يريدون ديمقراطية لا تصطدم بعقائد الإسلام ولا تتناقض مع خصوصياتنا.
- الإنسان في التقييم الإسلامي:
إذا كان جوهر الإسلام ـ كما أكد بن نبي - يدعم الديمقراطية من خلال بذور التحرر التي يغرسها في الإنسان ويطلب منه تعزيزها واستكمال بنائها، وإذا كان كل نموذج ديمقراطي يختلف عن الآخر بحسب تقييمه للإنسان، فكيف يقيم الإسلام الإنسان، أو بعبارة أخرى ما الفرق بين الديمقراطية الإسلامية وباقي الديمقراطيات الشرقية والغربية؟
في سبيل الإجابة عن هذا السؤال، يعقد بن نبي نوعين من المقارنة، إحداهما بين النماذج الديمقراطية بشكل عام وبين النموذج الإسلامي... والثانية بين الديمقراطية اللائكية والديمقراطية الإسلامية، فيؤكد مايلي:
1- بين النموذج الغربي والنموذج الإسلامي:
يرى بن نبي، بشكل عام، أن الديمقراطية الغربية بشقيها لم تستطع أن تجمع بين الجانبين الاجتماعي والسياسي في تجربتها، فهي إن أعطت الإنسان حقوقه السياسية لم تضمن له بالقدر ذاته حقوقه الاجتماعية، وإن أعطته حقوقه الاجتماعية أهدرت حقوقه السياسية، يقول بن نبي: «ولكننا عندما نعتبر هذه النماذج - عدا النموذج الإسلامي - نجد أنها تستهدف في أساسها منح الإنسان بعض الحقوق السياسية التي يتمتع بها (المواطن) في البلاد الغربية، وإما الضمانات الاجتماعية التي يتمتع بها (الرفيق) في البلاد الشرقية» (ص146).
وكأن بن نبي هنا يشير إلى أن الديمقراطية الغربية نظرت إلى الإنسان نظرة مادية، اختزلته مرة في البعد السياسي واختزلته أخرى في البعد الاجتماعي، وهي نظرة ضيقة لا تفي بحاجات الإنسان وتطلعاته ومركزه بين الموجودات.
أما الإسلام، فهو يغرس في الإنسان قيمة أعلى وأرقى وأوفى بمكانته ورسالته في الوجود، إنها قيمة التكريم الإنساني الذي يناله الإنسان بوصف الإنسانية لا غير، يقول بن نبي: «أما الإسلام فإنه يمنح الإنسان قيمة تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية، لأنها القيمة التي يمنحها الله له في القرآن الكريم في قوله ولقد كرمنا بني آدم (الإسراء:70)، فهذا التكريم يكون أكثر من الحقوق أو الضمانات، الشرط الأساسي للتغيير اللازم في نفس الفرد، طبقا للشعور الديمقراطي سواء بالنسبة للأنا أم بالنسبة للآخرين، والآية التي تنص على هذا التكريم ، تبدو وكأنها نزلت لتصدير دستور ديمقراطي يمتاز عن كل النماذج الديمقراطية الأخرى، دون أن تعبر عنه نصوص قانونية محددة، فنظرة النموذج الإسـلامي للإنسـان، هي نظرة إلى التكريم الذي وضعه الله فيـه، أي نظرة إلى الجـانب اللاهوتي فيه، بينما النماذج الأخرى تمنحه النظرة إلى الجانب الناسوتي والجانب الاجتماعي، فالتقويم الإسلامي يضفي على الإنسان شيئا من القداسة، ترفع قيمته فوق كل قيمة تعطيها له النماذج المدنية» (ص146).
وبهذا نرى خطأ الدعوات التي تحاول أن تربط بين الديمقراطية واللائكية (العلمانية) في العالم الإسلامي، فهي -شعرت بذلك أم لم تشعر- تفقد الديمقراطية أهم مقوماتها وهي (قيمة الإنسان)، فالإسلام بتأكيده على البعد العقدي في الإنسان، يضفي عليه (قداسة) تعزز إنسانيته ومركزه بين الموجودات، وهذا يحيلنا أيضا إلى مسألة (حقوق الإنسان) التي يحرص العديد من المنادين بها على تجاهل البعد الديني في هذه الحقوق والإمعان في علمنتها، على اعتبار أنها نشأت في بيئة علمانية كان الدين فيها وسيلة لانتهاك تلكم الحقوق.
والفرق بين النموذج الغربي الذي وقف عند الجانب (الناسوتي)، وبين النموذج الإسلامي الذي تجاوز ذلك إلى الجانب (اللاهوتي)، ليس فرقا شكليا، وإنما له انعـكاساته على سلوك الفرد تجاه نفسـه وتجاه الآخرين، وما الديمقراطية إلا تصحيح للنظرة نحو (الأنا) ونحو (الآخر)، قبل أن تكون ضمانات سياسية واجتماعية تفرضها نصوص قانونية.
وعليه، فالفرق «ليس في المفردات ولكن في معناها في واقع الأشياء بالنسبة إلى شعور الإنسان نحو نفسه ونحو الآخرين... فالإنسان الذي يحمل بين جانبيه الشعور بتكريم الله له، يشعر بوزن هذا التكريم في تقديره لنفسه وفي تقديره للآخرين، لأن الدوافع والنـزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي تبددت في نفسه» (ص146-147).
ويعطينا مالك بن نبي، كيف أن الإسلام لم يكتف بهذا التوجيه العام الذي يقرر فيه كرامة الإنسان، أيا كان هذا الإنسان، وإنما وضع له حدين يحفظانه من السقوط في الصفتين المنافيتين للشعور الديمقراطي، أعني صفتي (العبودية) و(الاستعباد).
فالحاجز الذي يحفظ الإنسان من (الاستعباد)، نجد الإشارة إليه في قوله تعالى: )تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83)
والحاجز الذي يحفظه من(العبودية)، نجد الإشارة إليه في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (النساء:97-98) .
«ومجمل القول: إن المسلم محفوظ من النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، الموجودة أو المدسوسة في طينة البشر، بما وضع الله في نفسه من تكريم مقدس، وما جعل عن يمينه وشماله من معالم، ترشد طريقه حتى لا يقع في وحل العبودية ووحل الاستعباد... ومما يدعم شعوره العام الذي منحه كإنسان، فإنه يشعر بتكريم خـاص قد منحه كمؤمن في قوله عز وجل: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين (المنافقون:8)» (ص 147).
هذا عن الشعور الذي يغرسه الإسلام في كيان الفرد، وهو بمثابة (الشرط الذاتي) للديمقراطية، فماذا عن الشروط الموضوعية، تلك الخارجة عن ذات الفرد، والمتمثلة في الضمانات السياسية والاجتماعية؟ لأننا سبق وأن رأينا، بأن الديمقراطية ـ كما يحددها بن نبي - عبارة عن شعور نحو (الأنا)، ونحو (الآخر)، ينتفي به رذيلتا (العبودية) و(الاستعباد)، مضافا إليه - إلى ذلك الشعورـ الضمانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كي تتحول الديمقراطية من دائرة الشعور إلى واقع ملموس.
فهل يكفل الإسلام تلك الضمانات، كما كفل ذلك الشعور؟
قبل أن يجيب بن نبي عن هذا السؤال، يقدم للإجابة بملاحظة منهجية، يؤكد من خلالها أن هذه الضمانات (الشروط الموضوعية) لا ينبغي أن نبحث عنها في واقع المسلمين اليوم، وإنما علينا أن نستقيها من مرحلة النبوة، أي مرحلة (التخلق الديمقراطي).
وهو بهذا ينبه إلى المغالطة التي يستعملها بعض الغربيين وبعض العلمانيين عندنا، حينما يجعلون من الواقع العربي الإسلامي اليوم، بما فيه من بؤس وتخلف وغياب للحريات، أو بالنظر إلى بعض الخطابات الإسلامية المتخلفة عن آفاق النص الشرعي والتطبيق النبوي والراشدي له، دليلا على عدم وجود الديمقراطية في الإسلام كنصوص، والشيء ذاته قد يقال عن الإسلام والعلم والإسلام ومقومات الحضارة... فهم يجعلون من الواقع حكما على النصوص، غافلين أو متغافلين عن الجهد البشري الرابط بين (النص) و(الواقع).
فبن نبي، يرد عليهم مبينا خطأهم من خلال مثال آخر، إذ هم يتغنون عادة بالنموذج (الأثيني) على اعتبار أنه هو النموذج الديمقراطي الأول، ولكننا لو طبقنا ما طبقوه هم على الإسلام، وانطلقنا من واقع الشعب اليوناني اليوم، لكنا مضطرين إلى تجاهل ديمقراطية (أثينا).
يقول: «عندما ندرس ديمقراطية أثينا، على وجه المثال، فإننا لا نبحث عن مبرراتها في واقع الشعب اليوناني اليوم، دون أن يعني هذا أن الجيل اليوناني المعاصر قد فقد القيم التي تميزت بها الديمقراطية في عصر أفلاطون.
فلا حرج إذن في اعتبار الديمقراطية في الإسلام، لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية، وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم بصورة عامة، ولكن في زمن تخلقها ونموها في المجتمع.
فمما يتعارف عليه الناس ويؤكده التاريخ، فإن التقاليد الإسلامية نشأت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين» (ص149-150).
قد تبدو هذه الفكرة عادية، فهي لا تخرج عن مقولة (العصر الذهبي) الذي ينادي الإسلاميون بالعودة إليه، على اعتبار أنه يمثل عصر (الخيرية المطلق) في مقابل تناقص تلك الخيرية جيلا بعد جيل( ).
لكن عندما نربط هذه الفكرة بما سبق بيانه، سنجد أن الزاوية التي تناول بها بن نبي الموضوع، تختلف عما ينادي به الإسلاميون عادة.
فالإسلاميون ينظرون إلى المرحلة الراشدة باعتبارها أنموذجا مكتملا، وتجربة ناجزة، بينما بن نبي يراها مشروعا قابلا للتطوير، وتجربة مفتوحة، لكل جيل كي يضيف ويطور فيها، وفقا لزمانه ومكانه وظروفه، فهي المرحلة التي وضعت فيها (الأصول)، وهذا يوضح لنا معنى قوله: إن الإسلام (مشروع ديمقراطي تعززه الممارسة).
فمرحلة النبوة، ثم الخلافة الراشدة، شكلتا المدة التي وضعت فيها الأسس، والأساس غير البناء، وهي التي يسميها (مرحلة التخلق الديمقراطي)، وقد دامت أربعين سنة.
يقول: «فالمشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام، قد أخذ طريقه للتحقيق نحو الأربعين سنة تقريبا، ففي هذه المرحلة وضعت الأصول النفسية التي تقدم ذكرها، تكملها وتدعمها مقدمات جديدة لتكون الأساس المعنوي للديمقراطية الإسلامية» (ص150).
وبعد هذه الملاحظة، يعطي بن نبي الأسس التي أقرها الإسلام كضمانات لتحقيق الديمقراطية، بدءاً بتحرير الإنسان، مُركزا على مسألة الرقيق، وكيف تعـامل معها الإسـلام، فنقله من مجرد (شيء انتفاعي) كما كانت تنظر إليه ديمقراطية أثينا، إلى أن يعتبره إنسانا يجب أن يحرر ويعتق، فانضم بذلك «مصير الرقيق إلى مصير الإنسان الحر» و«أضيف الرقيق إلى عالم الآخرين، أي عالم الأشخاص بعد أن كان من عالم الأشياء، وذلك لأول مرة في التاريخ» (ص151).
ويعطينا بن نبي أيضا، أسس الضمانات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (ص152-156)، مركزا على مسألة (الحرية) باعتبارها السمة التي تعطي الإنسان كيانه ووجوده الحقيقي الذي يجعل منه أهلا لتحقيق الديمقراطية في الواقع كنشاط سياسي واجتماعي واقتصادي، ليخلص في النهاية إلى أنه «يصح القول بأن الحكم الإسلامي ديمقراطي في مصدره وعمله... والإسلام يتضمن كل السمات التي تطبع الديمقراطية السياسية، التي تمنح الفرد مسؤولية في تأسيس الحكم والضمانات اللازمة التي تحميه من جور هذا الحكم» (ص156-157).
وفي السياق ذاته، يقارن بين النموذج الإسلامي والنماذج الغربية، فبين أن النماذج الغربية (ليبرالية أو اشتراكية) ولأنها تعاملت مع الإنسان باعتباره كائنا سياسيا أو كائنا اجتمـاعيا، قـد ضحت - كما أشرنا من قبل - إما بالحقوق الاجتماعية لحساب الحقوق السياسية، أو بالجوانب السياسية لحساب الخدمات الاجتماعية... بل إنه، بقدر ما نال الإنسان الغربي على الخصوص حريته السياسية، بقدر ما فقد الضمانات الاجتماعية التي تكفل له الحياة الكريمة، ومن ثم تحافظ له على هذه الحرية، يقول بن نبي: «لكن التجربة التي تجري للديمقراطية السياسية في العالم منذ الثورة الفرنسية، تدل على ضعف حريات الفرد في الواقع، عندما لا تحميه في الوقت نفسه الضمانات الاجتماعية التي تكفل حريته المادية» (ص187).
قد يبدو في هذا الكلام مبالغة، خصوصا عند أولئك المفتونين بالنماذج الغربية، وبالأخص في المرحلة التي كان يتحدث فيها بن نبي (مرحلة الستينيات من القرن الماضي)، مرحلة الهوس الأيديولوجي والافتتان بالديمقراطيات الغربية عند حركات اليمين أو حركات اليسار في الوطن العربي، لكن مالك بن نبي، وانطلاقا من معايشته للتجربة الغربية، يضع أمامنا الصورة الحقيقية لتلك التجارب، ويكشف عن الجانب البشع منها، فيقول: «ولقد رأينا في البلاد المتطورة، كيف يصبح (المواطن الحر) عبدا مجهولا لمصالح كثيرة تتحد ضده، وكم تضيع عليه بهذا السبب المنافع المنتظرة التي يمنحها إياه، بصورة نظرية، تصـريح حقوق الإنسـان، ودستور لا يكون لهما أثر ظاهر في حياته.
كما رأينا كيف أن البلاد التي يحدث فيها الاختلاف بين القيم السياسية، والقيم الاجتماعية، تعاني صراع الطبقات الذي ينتهي ربما إلى تأسيس نوع من الديمقراطية، يعطي (المواطن) الضمانات الاجتماعية اللازمة، ولكن على حساب حرياته السياسية» (ص157).
هذا تنبيه يضعه بن نبي أمام النخب التي انبهرت بالنماذج الغربية، وغفلت عن التجربة التي يمكن للإسلام أن يمدها بها، هذا الإسلام الذي «تلافى هذا المعوق، لأنه أتى لمشكلات الحياة المادية المتصلة بالنظام الاقتصادي بالحلول المناسبة دون أن يمس الفرد في حرياته الذاتية... وعليه فالإسلام يبدو وكأنه جمع موفق بين مزايا الديمقراطية السياسية والاجتماعية» (ص157).
2- بين الديمقراطية الإسلامية والديمقراطية العلمانية:
بعد أن حدد بن نبي الفروق الجوهرية بين النموذج الإسلامي والنماذج الغربية، أشار أيضا إلى الفرق الجوهري بين النموذج الإسلامي والنموذج اللائكي للديمقراطية.
ولهذه الوقفة أيضا أهميتها البالغة، لأننا -كما أشرنا من قبل- نجد في الساحة الفكرية والسياسية من يصرون على الربط بين الديمقراطية والعلمانية، ويجعلون أي حديث عن الإسلام والديمقراطية من باب الجمع بين المتناقضات، لأنه -بحسب أطروحتهم-لا يمكن الجمع بين الديمقراطية التي تنتج حكما مدنيا أساسه الحكم باسم الإنسان، وبين الإسلام الذي لا يمكن أن ينتج إلا حكما ثيوقراطيا، أساسه الحكم باسم الله( ).
فبيَّن بن نبي أن هذا التناقض بين الإسلام والديمقراطية، والذي نشأ في أذهان هذه النخب الفكرية والسياسية، مرده الأساس إلى الجهل بحقيقة الإسلام، والاختزال لمفهوم الديمقراطية.
فالذي ينظر للمشروع «الديمقراطي على أنه مجرد تسليم سلطات إلى الشعب بمقتضى نصوص دستورية معينة» (ص149)، لا يمكنه أن يدرك العلاقة بين الإسلام والديمقراطية.
أما الذي ينظر إلى الديمقراطية من خلال وجوهها الثلاثة، التي سبقت الإشارة إليها «الشعور نحو (الأنا) - الشعور نحو (الآخر) - الضمانات التي تدعم هذا الشعور»، فلن يجد لهذا التناقض بين الديمقراطية والإسلام أثرا، ومن ثم لن يكون هنالك ما يبرر الربط الضروري بين العلمانية والديمقراطية كما يدعي العلمانيون، بل سيجد أن التجارب الديمقراطية ذات المنـزع العلماني، آلت بالإنسان إلى أن يفقد حريته، فكانت في جوهرها نافية للديمقراطية الحقيقية( ).
يقول بن نبي: «وإذا أردنا أن نعرف شيئا هو الديمقراطية الإسلامية، فإن هذا الشيء يعني أولا (تطعيم) الإنسان، وتحصينه ضد النـزعات المنافية للشعور الديمقراطي، وتصفية هذه النـزعات في نفسه.
أما الديمقراطية العلمانية أو اللائكية، فإنها تمنح الإنسان أولاً الحقوق والضمانات الاجتماعية، ولكنها تتركه عرضة لأمرين: فهو إما أن يكون ضحية مؤامرات لمنافع معينة، أو لتكتلات مصالح خاصة ضخمة، وإما أن يجعل الآخرين تحت ثقل دكتاتورية طبقية؛ لأنها لم تصف في نفسه دوافع العبودية والاستعباد، لأن كل تغيير حقيقي في المجتمع لا يتصور دون تغيير ملائم في النفوس، طبقا للقانون الأعلى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم (الرعد:11)» (ص148).
ويوضح بن نبي، بأن غرضه من هذه المقارنة، بين النموذج الإسلامي والنماذج الغربية العلمانية، هو التنبيه إلى خطورة الاستنساخ الآلي للتجارب الجاهزة، فكل تجربة لها ظروفها وإطارها النفسي والاجتماعي( )، ولا يمكن استنباتها في غير منبتها «وهكذا يظهر بوضوح، الخطأ الذي نقع فيه عندا نستعـير من بلاد معينة دستـورا ديمقراطيا جاهزا، لأننا في مثل هذه الحالة لا ننقل مع النصوص الدستورية المستعارة كل الأسس النفسية، والتجربة التاريخية التي أملت هذه النصوص في بلاد مولدها، كأنما نقوم بمشروع ديمقراطي على غير أساس في صميم الواقع» (ص149).




خاتمة

الآن وقد طال بنا الحديث، وآن له أن يتوقف، ما الذي يمكن أن نخرج به من هذه المقاربة؟ وما الذي أراد بن نبي تأكيده؟
يمكننا أن نجمل ذلك في النقاط التالية:
1- أن الديمقراطية لا يمكن أن تُستنسخ آليا، وإنما هي مشروع تثقيفي يمس الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

2- أن جوهر الديمقراطية هو الإنسان، وأن أبرز خاصية تُبنى عليها الديمقراطية هي الحرية.
3- أن الحرية، التي هي في النهاية جوهر البناء الديمقراطي، لها اتجاهان: نحو ذات الإنسان بأن يتخلص من الشعور بالذلة والعبودية، ونحو الآخرين بأن لا ننظر إليهم نظرة إذلال واستعباد، أي أن الحرية تشمل الحاكم والمحكوم معا.
4- أن الشعور بالحرية، لا ينشئه نص دستوري، ولا إجراءات قانونية، وإنما هو نتيجة حركة واعية تنقل الإنسان من مرتبة (الشيء) إلى مرتبة (الإنسان الحر).
5- أن الديمقراطية ليست بديلا عن الإسلام( )، بل الإسلام في جوهره يضع الأسس السليمة لنموذج ديمقراطي، أساسه الإنسان المكرم، الذي تحفظ حقوقه الاجتماعية، كما تصان حقوقه السياسية.
6- أن البناء الديمقراطي ليس شعارات ترفع، ولا تمسكا ظاهريا بالآليات، وإنما هو تحقيق لشروط موضوعية نابعة من ظروف المجتمع وامتداده الحضاري.
7- أن التعامل المنهجي والتحليل العلمي، هو الكفيل معرفيا بإيصالنا إلى اكتشاف الصواب، سواء في أفكارنا وطروحاتنا، أو في أفكار الآخرين وطروحاتهم.
وفي الأخير نرجع لنطرح السؤال الذي بدأنا به حديثنا، عن التجاهل الذي تتعرض له أفكار بن نبي وطروحاته، على الرغم من أنها لا تزال - في أغلب جوانبها - قادرة على أن تقدم لنا بعض الإجابات عن أسئلة عديدة في واقعنا الجزائري خصوصا والعربي والإسلامي عموما.









رد مع اقتباس
قديم 2015-10-03, 20:03   رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
adziri
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

نقد مالك بن نبي للفكر السياسي الغربي الحديث







الخميس 14 محرم 1431 الموافق 31 ديسمبر 2009










د. يوسف حسين

مالك بن نبي مفكر مسلم حاول دراسة مشكلات أمته ووضع حلولًا لها مع الاحتفاظ بهويتها وأصالتها، وضع كتبه تحت عنوان رئيس هو مشكلات الحضارة.. ومن المعروف أن المفكِّر الجزائري مالك بن نبي كان ـ وما زال ـ ظاهرةً فكرية فريدة من نوعها في العالمين العربي والإسلامي في القرن العشرين الميلادي أتاح له اطّلاعُه الواسع على الثقافة الغربية (الفرنسية خصوصًا) إضافة إلى ثقافته الأصل، إدراكًا عميقًا للأوضاع في العالم الإسلامي وفي الغرب، مما مكَّنه من إنجاز قراءات واعية قدّمت نظرات ورؤى ومقترحات ذات قيمة وبإمكانها الإصلاح.
ومن أهم مؤلفاته: الظاهرة القرآنية ولبيك (رواية) تم ترجمتها إلى العربية هذا العام وشروط النهضة ووجهة العالم الإسلامي وفكرة الإفريقية الآسيوية والنجدة … الشعب الجزائري يُباد وحديث في البناء الجديد ومشكلة الثقافة والصراع الفكري في البلاد المستعمرة وفكرة كومنويلث إسلامي وتأملات في المجتمع العربي وفي مهبّ المعركة وميلاد مجتمع ومذكرات شاهد القرن.
وإنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث ومشكلة الأفكار في العالم الإسلامي والمسلم في عالم الاقتصاد.
ولقد صدر حديثًا في الجزائر كتاب تحت عنوان نقد مالك بن نبي للفكر السياسي الغربي الحديث للدكتور يوسف حسين أستاذ الفكر الإسلامي المعاصر ورئيس قسم العقائد والأديان في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر، تناول المؤلف مالك بن نبي من خلال زاوية محددة وهي نظرة مالك بن نبي للفكر السياسي الغربي الحديث.
جاء الكتابُ في مقدمة قصيرة وفصلين، تناول المؤلف في الفصل الأول منهما وعبر ثلاثة مباحث ترجمة حياة مالك بن نبي الذي وُلد في مدينة قسنطينة شرق الجزائر سنة 1905م لأسرة متواضِعة، تنقَّل كثيرًا فيما بين الجزائر وفرنسا وفيما بينهما وبين أنحاء كثيرة من العالم العربي والإسلامي، كما تنقَّل بين وظائف عِدَّة، منها الإشراف في أواخر حياته على إدارة التعليم العالي في الوزارة المختصة ورئاسة جامعة الجزائر لفترة قصيرة قبل استقالته بغية التفرغ للعمل الفكري.
وافته المنية يوم 31 أكتوبر 1973 في الجزائر العاصمة ولما يبلغ السبعين من عمره، ثمَّ تحدَّث في المبحثين الثاني والثالث من الفصل عن دراسة ومؤلفات ومصادر فكر بن نبي ومكوّنات شخصيته والدراسات حول فكره..
أما الفصل الثاني فقد جاء تحت عنوان البديل الإسلامي للفكر السياسي الغربي، وتضمن فصلين، استعرض الأول موقف مالك بن نبي من الفكر السياسي الغربي، يبدؤه المؤلف بالإشارة إلى ملاحظة مالك بن نبي أن الفكر الإسلامي الحديث في العالم الإسلامي هو في ذاته عنصر متنافر؛ لأنه اقتباس لا يتفق وحالة ذلك العالم، ذلك أن المسلمين في هذا الميدان أو في غيره لم يبحثوا عن وسائل لنهضتهم بل اكتفوا بحاجات قلدوا فيها غيرهم.. ثم ينطلق في عرض رؤيته للمفاهيم السياسية الغربية وأهمها الديمقراطية وما تعلَّق بها، انطلاقًا من اليونان القدماء وديمقراطيتهم في أثينا التي كانت تعني الحرية والمساواة، إلا أنها تستثني الأجانب والأرقّاء الذين لم تكن لهم حقوق كالمواطنين الأحرار أهل البلد.. أما فيما يتعلَّق بالديمقراطية كمفهوم شامل يعني سلطة الإنسان فهو مناقِض لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله، لأن سلطان الأمة أو الإنسان في الديمقراطية الغربية سلطة مطلقة لذا تصبح قراراتُها قوانين واجبة التنفيذ، حتى وإن كانت مُخالِفة للقانون الأخلاقي ومتعارضة مع المصالح الإنسانية العامة، ومن هنا تبدو آثارها السيئة التي تُحدِث ضررًا للآخرين.. ثم يتابع بحثه بالنظر في مدى تحقُّق الديمقراطية وتجسُّدها في الواقع الأوروبي فيضع لذلك شروطًا ذاتية وأخرى موضوعية؛ الذاتية ولها وجهان: الشعورُ الديمقراطي نحو الأنا أو النفس والشعور نفسه نحو الغير أو الآخرين، وهنا يعرف الشعورَ الديمقراطي بشقيه الإيجابي والسلبي؛ الإيجابي هو الحدّ الإيجابي بين نافيتين.. نافية العبودية ونافية الاستعباد.. أما السلبي فهو الحد الوسط بين طرفين كلُّ واحد منهما يمثِّل نقيضًا بالنسبة للآخر: النقيض المعبِّر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يُعبِّر عن نفسية وشعور المُستعبِد المُستبِدّ.
ساق إثرها ثلاثة نماذج نافية للشعور الديمقراطي هي: نموذج نفسية العبد، نموذج نفسية المُستعبِد، والنموذج الثالث الذي يجمع النفسيتين.. لينتهي إلى نتيجة مفادها أن الديمقراطية الغربية لا تكفل الشروط الذاتية؛ لكونها تفتقر إلى الحواجز والمقدِّمات المدعِّمة للشعور الديمقراطي ليتساءل بعدها عما إذا كانت تكفل الشروط الموضوعية.. التي تتمثل في الحقوق والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية، التي هي ضعيفة نظرًا لأنها لا تحمي الأفراد من الربا والاحتكار..
والنتيجة في نظر مالك بن نبي أن المجتمعات الغربية رغم اتخاذها الديمقراطية نظامًا للحكم فإنها لم تحقِّق في الواقع الاجتماعي ما تتضمنه الديمقراطية وتنصّ عليه من مساواة وعدالة وحقوق وحريات وضمانات اجتماعية، إذ لم تحقِّق الشروط المشار إليها ذاتية وموضوعية.
ينتقِل إثرها إلى توضيح العلاقة بين السياسة والدين والأخلاق، عبر تساؤل مفادُهُ: هل تتوفَّر السياسة الغربية على الشروط الكفيلة بتحقيق التجانس والتعاون بين عمل الدولة وعمل الفرد؟ يبادر بالإشارة إلى أن التعاون لا يتمّ إلا إذا توفَّر عاملٌ أساسي هو عامل العقيدة التي تستطيع وحدها جعلَ ثمن الجُهد مُحتملًا مهما كانت قيمته لدى صاحبه..
ومنه فإن الفصل بين الدين والدولة أو العلمانية لن يكون سياسة ناجِحة؛ لأنها لا تستند إلى ما من شأنه أن يغرس في نفسية الفرد والمواطن القابلية والاستعداد للتضحية والبطولة والإيثار، كما يقرِّر مالك بن نبي أن التجانسَّ بين عمل الدولة وعمل الفرد ينبغي أن يقوم وجوبًا على عامل أخلاقي؛ لأن السياسة بلا أخلاق خرابٌ للأمة.
ومنه وبما أن السياسة الغربية تقوم على مصالح عاجلة لا تعرفُ الثباتَ والاستقرارَ ولا تستند إلى قيم أخلاقية ثابتة فليس بإمكانها تحقيق التجانس المشار إليه، مما يؤدِّي إلى خلل ظاهر في صِلة الدولة بالوسط الاجتماعي وتدهور العلاقة بينهما، والحاصل في رأي مالك أن السياسة الغربية لا تقوم على الأخلاق أو العقيدة، ولذلك فإن الدول الغربية مهدَّدة بعدم الاستقرار في الداخل من جهة وتُهدِّدُ العالم بسياستها اللاإنسانية من جهة أخرى.
بينما خصّص المؤلف المبحث الثاني من الفصل الثاني من الكتاب لعرض تصور بن نبي للبديل السياسي الإسلامي، يبدؤه بالإشارة إلى أن الإسلام يقرّر في المجال السياسي خضوعَ الإنسان إلى سلطة الله في هذا النظام أو في غيره، مما يعني أن سلطة الأمة في النظام السياسي الإسلامي مقيدة بالشريعة..
لذا فالعقيدة تدعِّم التعاوُن بين الفرد والدولة وتمكِّنُ من تحقيق إنجازات ترتكزُ على الثقة في الأساس الأول ومبادئ وشروط الثقة التي من شأنها تمتين العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي: حسن المُعاملة والطاعة والنزاهة والحنكة والكفاءة السياسية والنقد الذاتي وأخيرًا التواضع السياسي.
يواصل المؤلِّف في المطلب الثاني من هذا المبحث عرض رؤية مالك بن نبي الذي يرى بأن السؤال المعهودَ عمَّ إذا كانت توجد ديمقراطية في الإسلام، لا يتعلَّق ضرورة بنصٍّ فقهي مُستنبَط من القرآن والسنَّة بل يتعلَّق بروح الإسلام وجوهرِه بصفة عامة.. لذا يتطلبُ الحديثُ عن الإسلام والديمقراطية في نظر بن نبي الإجابة عن سؤالين شبيهين بمثيليهما المطروحين عند الحديث عن الديمقراطية الغربية.
أولهما هو: هل يكفل الإسلام عند الممارسة الشروط الذاتية التي من شأنها تحقيق الشعور الديمقراطي نحو الأنا ونحو الآخرين؟ الإجابة نعم؛ لأنه عمد إلى تدعيم مشروعه الديمقراطي بمقدِّمات تساهم في تحقيقه وإنجاحه منها: مبدأ تحرير الرقيق والتصريح بحقوق الإنسان.
السؤال الثاني: وهو هل يكفل الإسلام عند الممارسة الشروطَ الموضوعية التي من شأنها أن توفِّر للفرد الحقوقَ والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية؟ الإجابة ستكون هنا أيضًا نعم، نظرًا لأن الإسلام يوفِّر:
بالنسبة للحقوق والحريات السياسية، شروطًا هي: حرية الضمير والعقيدة وحرية التعبير أو الرأي ومبدأ حصانة المنزل أو حرية المأوى.
وبالنسبة للضمانات الاجتماعية: أي المجال الاقتصادي وما يتعلَّق به من آثار، نجد هنا الزكاة وتحريم الربا ومقاومة الاحتكار، وكل الأمثلة عن هذه المبادئ والشروط وتطبيقاتها العملية مستقاةٌ من القرآن والسنة وتاريخ الحكم الإسلامي، لا سيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو عهد خلفائه الراشدين أو في عهود إسلامية أخرى.
المطلب الثالث من المبحث الثاني عنونه المؤلِّف بنحو بناء وحدة إسلامية، تتمثل في مُقترَح مالك بن نبي على العالم الإسلامي إنشاء مشروع كومنويلث إسلامي، وهي الفكرة التي استوحاها من الكومنويلث البريطاني بعدما هذَّبَه بما يتماشى والواقعَ الإسلامي الذي يتوفَّر حسبه على دعامة هامة لا تتوفَّر حتى للنموذج المقلَّد..
وهذا المبدأ هو الوحدة الروحية للعالم الإسلامي، ومنه يوضِّح الكيفيات والرؤى التي ستنشأُ عن هيئة من هذا القبيل في مختلف المجالات سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا واجتماعيًّا، من ذلك مثلًا إعادة النظر في مشكلة الخلافة وتحديدها تحديدًا جديدًا يتماشى مع التنوع الإسلامي سياسة وجغرافيًّا وأعراقًا، ليمارِس كلُّ شعب سيادتَه في مختلف المجالات..
وأولى خطوات هذه الوحدة ينبغي أن تكون في رأي بن نبي: توحيد الأعياد الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وإسناد الإشراف على كل طبعة للقرآن الكريم إلى الأزهر الشريف حتى نقطع الطريق على الطبعات المحرَّفة من إسرائيل وغيرها.. ويختم المؤلِّف كتابه بمطلب رابع للمبحث الثاني من الفصل الثاني ضمَّنه توجيهاتٍ سياسية من مالك بن نبي للحكومات الإسلامية منها: التزام مبدأ التبادل ويتعلَّق الأمر هنا باقتضاء الإسلام سلوكًا معيَّنًا من أفراده إذا انحرفوا عنه أُرغِموا على الاستقامة عليه والالتزام به، أي أنهم يُخضِعون المجتمع في الحكم وإدارة شئون البلاد والعباد إلى النقد.
ومن التوجيهات أيضًا إقرار وظيفة الحسبة، الوظيفة السياسية الإدارية التي كان مطلوبًا منها المحافظة على النظام والآداب في المجتمع، ومراقبة الأسواق وأهلها وبضائعها ومكاييلها..الخ، ومنها التزام الشورى في الحكم وتولية الأصلح وضرورة العمل على كسب ثقة الشعب وضرورة التخلي عن البوليتيك أي الدجل والنفاق السياسي الذي لا يمكنه الاستمرار حسب قول الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن في منتصف القرن التاسع عشر، وهو قول استشهد به مالك بن نبي: قد يُخدَعُ رجل كلَّ يوم، ويُخدَعُ شعبٌ بعض الأيام، إلا أنه لا يُخدَعُ شعبٌ كلَّ الأيام.
وتكمن مصداقية فكرِ بن نبي في سعة اطّلاعه وتمكنه من الفكر الغربي، مما مكَّنه من النقد الواعي لهذا الفكر ومقابلته بما يمكن أن يكون بديلًا.. هنا تكمنُ الأهمية الكبرى التي اتخذها بن نبي وفكرُه طيلة الثلاثين سنة المنقضية على وفاته، إذ لم يتوقف الباحثون عن دراسته وشرحه ونشره وإعادة نشره، ويعدّ هذا الكتاب دعوةً إلى إعادة اكتشاف هذا المفكر الفذّ بعد أكثر من 35 سنة على رحيله.











رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
..........


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 12:09

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc