*«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»* - الصفحة 2 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > منتدى العلوم الإجتماعية و الانسانية > قسم الآدب و اللغات

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

*«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-02-11, 15:23   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

نصوص من النثر الجاهلي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المنان الذي خلق الانسان وعلمه البيان واعطى العرب افصح لسان وصلى الله على نبيه المجتبى والمصطفي بافصح لسان والمقدم على سائر قحطان وعدنان وبعد فقد لفت نظري وشد انتباهي سؤال أحد الاخوة في هذا الملتقى الكريم المبارك حول النثر الجاهلي وهل هو موجود أم انه معدوم مفقود وها انا بعون الله ذكر نصوصا مما ذكره علماؤنا رحمهم الله مما نقلوه في بطون كتبهم والذي يهمني من الموضوع هو تجريد ذكر ما استطعت الوقوف عليها مجردا دون تصنيفها تحت فن معين فمعلوم أن النثر الجاهلي مقسم الى موضوعات مثل الخطابة والوصايا والامثال والحكم والمحاورات والمفاضالات (المنافرات) وهكذا وبعض العلماء ينقص من ذلك ويدمج بعضه ببعض وهذا كله لا يهمنا ولا يهمنا الا السرد الصرف مع ذكر المرجع المذكور فيه النص والله المستعان وعليه التوكل وبعد فهذا اوان الشروع بالمقصود
النص الاول
وهو عبارة عن محاورة كلامية بين مرة بن حنظلة التميمي وبين أبيه حنظلة وكان مرة من فصحاء العرب وهذا النص انقله بتمامه من كتاب الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية للطوفي الصرصري 311-312 فقال رحمه الله :ومن فصحائهم: مرة بن حنظلة التميمي وحكايته في فصاحته من أظرف ما سُمع ,وذلك أن أباه حنظلة قال له يوما في بعض عتب عليه_ وكان قد عتى عليه وعصى امره, وكان بالرد على ابيه مولعا, وكان أبوه له قاليا_:
إنّك لمُرٌ يا مرة.
قال: أعجبتني حلاوتك يا حنظلة.
قال : إنك لخبيث كاسمك.
قال: أخبث مني من سماني.
قال: ما اراك من الناس.
قال أجل , تشبهني بمن ولدني.
قال قد يخرج الله الخبيث من الطيب.
قال : كذلك أنت من أبيك.
قال: قد حرصتُ صلاحك جهدي.
قال ما أوتيتُ إلا من عجزك.
قال: ما هذا باول كفرك النعم.
قال: من أشبه أباه فما ظلم
قال:لأدعون الله عليك, فلعله أن يخزيك.
قال: تدعوا إذن عالما بك.
قال: لا يعلم منى الا خيرا.
قال: مادح نفسه يقرئك السلام
قال :إنك ما علمتُ للئيم.
قال : ما ورثته عن كلالة.
قال: لقد كنت مشؤما على إخوتك إذ أفنيتهم.
قال:ما أكثر عمومتي يا مبارك.
قال:ولد الناس ولدا وولدتُ عدوا.
قال:الاشياء قروض, والقلوب تتجازى, ومن يزرع شوكا لا يحصد عنبا.
قال:أراحنى الله منك.
قال:قد فعل إن أحببت.
قال:وكيف لي بذلك؟.
قال:تخنق نفسك حتى تستريح.
قال:سود اللهٌ وجهَك.
قال: بيّض الله عينيك.
قال: قم من بين يديّ.
قال:على أن تؤمنني لقاك.
قال: لأمسكن من أمرك ما كنتُ مضيعا.
قال: لايحصل في يديك الا الخيبة.
قال:لعن الله أما ولدتك.
قال:إذ لَقِحت منك.
قال:أنت بأمك أشبه.
قال:ما كانت بشرٍّ من أم زوجها.
قال:والله إن قمت إليك لأبطشن بك.
قال: ما تراك أبطش مني.
قال:وإن فعلتُ تفعل؟.
قال:وانت من ذلك في شك؟!
فسكت وتركه

بسم الله الرحمن الرحيم
النص الثاني
وهو عبارة عن محاورة جرت بين فصيح من فصحاء العرب واسمه ضمرة بن ضمرة النهشلي وبين النعمان بن المنذر وكان يغير على مسالح النعمان وكان يطلبه فلا يظفر به حتى اذا عيل صبره أرسل اليه أن ادخل في طاعتي ولك مائة من الابل فقبلها وأتاه حتى دخل عليه ,فلما نظر اليه ازدراه وكان دميما فقال :{تسمع بالمعيدي خير من ان تراه} فقال له:{مهلا ايها الملك إن الرجال لا يكالون بالصيعان وانما المرء باصغريه قلبه ولسانه ,إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان.فقال صدقت , وهو ذلك .هل لك علم بالامور وولوج فيها؟ قال: والله إني لابرم منها المسحول وأنقض منها المفتول واجيلها حيث تجول,ثم انظر ما يؤول. وليس للامور بصاحب من لاينظر بالعواقب. فقال :صدقت ,لله درك فاخبرني بالعجز الظاهر والفقر الحاضر والداء العياء والسوأة السوآء . فقال :أما العجز الظاهر فالشاب قليل الحيلة , اللزوم للحليلة, الذي إذا غضبت ترضاها، وإن رضيت تفداها. واما الفقر الحاضر فالمرء لاتشبع نفسه, وإن كان من ذهب حلسه. وأما الداء العياء : فجار السوء ،إن كان فوقك قهرك, وإن كان دونك همرك،وإن اعطيته كفرك,وإن حرمته شتمك. فإن كان ذلك جارك فاخل له دارك، وعجل منه فرارك، وإلا اقم بذل وصغار ،وكن ككلب هرّار. واما السوأة السوآء: فالحليلة الصخابة ، الخفيفة الوثابة ، السليطة السبابة، التي تضحك من غير عجب ،وتغضب من غير غضب, الظاهر غيبها، المحفوف عيبها، فزوجها لا يصلح له حال،ولا ينعم له بال،إن كان غنيا لم ينفعه غناه,وإن كان فقيرا أبدت له قلاه. فأراح الله منها اهلها، ولا متع بها بعلها.} فاعجب النعمان حسن كلامه وحضور جوابه،فاحسن جائزته واحبسه قبله وفي رواية قال له: أنت ضمرة, أي كانت كأبيك . فسمي ضمرة بن ضمرة ،وكان اسمه قبل ذلك شقة بن ضمرة.

الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية ص309 وما بعدها

بسم الله الرحمن الرحيم
النص الثالث
قال الميداني في مجمع الامثال تحت المثل 146(إن العصا قرعت لذي حلم) قيل إن اول من قرعت له العصا عمرو بن مالك بن ضبيعة أخو سعد بن مالك الكناني , وذلك أن سعدا أتي النعمان بن المنذر ومعه خيل قادها واخرى عراها فقيل له: لما عريت هذه وقدت هذه؟ قال: لم أقد هذه لامنعها ولم اعر هذه لاهبها. ثم دخل على النعمان ,فسأله عن ارضه فقال: أما مطرها فغزير, واما نبتها فكثير, فقال له النعمان: إنك لقوال , وإن شئتُ اتيتك بما تعيا عن جوابه,قال : نعم ,فامر وصيفا له أن يلطمه , فلطمه لطمة, فقال ما جواب هذه ؟ قال: سفيه مامور ،قال :الطمه أخرى فلطمه,قال: ما جواب هذه ؟ قال:لو أُخذ بالاولى لم يعد للاخرى,وإنما أراد النعمان أن يتعدى سعد في المنطق فيقتله, قال: الطمه ثالثة,فلطمه, قال:ما جواب هذه ؟ قال رب يؤدب عبده, قال: الطمه أخرى فلطمه، قال فما جواب هذه ؟ قال: ملكت فأسجح, فأرسلها مثلا, قال النعمان:أصبت فامكث عندي, واعجبه ما رأي منه, فمكث عنده ما مكث. ثم إنه بد للنعمان أن يبعث رائدا, فبعث عمرا أخا سعد , فأبطأ عليه ، فأغضبه ذلك فأقسم لئن جاء ذامّا للكلأ أو حامدا له ليقتلنه, فقدم عمرو, وكان سعدعند الملك , فقال سعد: أتأذن لي أن اكلمه ؟ فقال :إذن يقطع لسانك,قال:فأشير إليه؟ قال إذن تقطع يدك , قال:فأقرع له العصا؟ قال ك فاقرعها فتناول سعد عصا جليسه وقرع بعصاه قرعة واحدة, فعرف أنه يقول له : مكانك ثم قرع بالعصا ثلاث قرعات ,ثم رفعها الى السماء ومسح عصاه بالارض , فعرف أنه يقول له: لم اجد جدبا. ثم قرع العصا مرارا ثم رفعها شيئا وأومأ الى الارض , فعرف أنه يقول : ولا نباتا, ثم قرع العصا قرعة وأقبل نحو الملك , فعرف أنه يقول : كلمه , فاقبل عمرو حتى قام بين يدي الملك, فقال له: أخبرني هل حمدت خصبا او ذممت جدبا؟ فقال عمرو : لم أذمم هزلا ,ولم أحمد بقلا الارض مشكلة لاخصبها يعرف , ولا جدبها يوصف , رائدها واقف , ومنكرها عارف ,وآمنها خائف قال الملك : أولى لك
فقال سعد بن مالكيذكر قرع العصا:
قرعت العصا حتى تبين صاحبي ***** ولم تك لولا ذاك في القوم تقرع
فقال:رأيت الارض ليس بممحل ***** ولا سارح فيهاعلى الرعي يشبع
سواء فلا جدب فيعرف جدبها ***** ولا صابها غيث غزير فتمرع
فنجى بها حوباء نفس كريمة ***** وقد كاد لولا ذاك فيهم تقطع


بسم الله الرحمن الرحيم
النص الرابع
كان بباب النعمان بن المنذر , مخالس بن مزاحم الكلبي وقاصر بن سلمة الجذامي , وكان بينهما عدواة فأتى قاصر الى ابن فرتنى -وهو عمرو بن هند أخو النعمان بن منذر_ وقال له: إن مخالسا هجاك وقال في هجائه:
لقد كان من سمّى اباك فرتنى ***** به عارفا بالنعت قبل التجارب

فسماه من عرفانه جرو جيأل ***** خليلة قشع خامل الرجل ساغب
أبا منذر أنى يقود ابن فرتنى ***** كراديس جمهور كثير الكتائب
وما ثبتت في ملتقى الخيل ساعة ***** له قدم عند اهتزاز القواضب

فلما سمع عمرو ذلك أتى النعمان فشكا مخالسا , وأنشده الابيات , فأرسل النعمان الى مخالس, فلما دخل عليه قال : لاأم لك أتهجو امرأ هو ميتا خير منك حيا , وهو سقيما خير منك صحيحا, وهو غائبا خير منك شاهدا, فبحرمة ماء المزن , وحق أبي قابوس لئن لاح لي أن ذلك كان منك لأنزعن غَلْصَمَتك من قفاك ولأطعمنك لحمك, قال مخالس: أبيت اللعن! كلا والذي رفع ذروتك بأعمادها , وأمات حسادك باكمادها ما بُلّغْـتً غير أقاويل الوشاة , ونمائم العصاة, وما هجوت أحدا , ولا أهجو امرأ ذكرت أبدا , وإني اعوذ بجدك الكريم , وعز بيتك القديم ,أن ينالني منك عقاب , أو يفاجئني منك عذاب , قبل الفحص والبيان , عن أساطير أهل البهتان, فدعا النعمان قاصرا فسأله, فقال قاصر: أبيت اللعن ! وحقك لقد هجاه, وما اروانيها سواه, فقال مخالس: لا يأخذنّ ايها الملك منك قول امرئ آفك, ولا توردني سبيل المهالك ,واستدلل على كذبه بقوله:إني ارويتُه مع ما تعرف من عداوته, فعرف النعمان صدقه, فأخرجهما , فلما خرجا قال مخالس لقاصر :شَقِىَ جدك, وسَفَل خدك، وبطل كيدك, ولاح للقوم جرمك, وطاش عني سهمك, ولأنت أضيق جحرا من نقاز, وأقل قرىً من الحامل على الكرّاز.








 


رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:03   رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

العصبية القبلية في العصر الجاهلي مفهومها ومظاهرها

د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
المصدر: كتاب العصبية القبلية

أولاً: مفهوم العصبية:
1- تعريف العصبية لغة[1]:
العصبية في اللغة: مشتقة من ((العَصْبِ))، وهو: الطَّيُّ والشَّدُّ. وعََصَبَ الشيءَ يَعْصِبُهُ عَصْبًا: طَوَاه ولَوَاه، وقيل: شدَّه. والتَّعَصُّب: المحاماة والمدافعة.

والعََصَبَة: الأقاربُ من جهة الأب، وعَصَبَةُ الرَّجُلِ: أولياؤه الذكورُ من وَرَثَتِه، سُمُّوا عَصَبَةً لأنهم عَصَبُوا بنسبه، أي: أحاطوا به، فالأب طَرَفٌ والابن طرف، والعم جانب والأخ جانب، والجمع: العَصَبَات، والعرب تسمِّي قرابات الرجل: أطرافَهُ، ولمَّا أحاطتْ به هذه القراباتُ وعَصَبَتْ بنسبه، سُمُّوا: عَصَبَةً، وكلُّ شيءٍ استدار بشيء فقد عَصَبَ به.

والعُصْبَة والعِصَابة: الجماعة؛ ومنه قوله تعالى: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يُوسُف: 8]، ومنه حديث: ((اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هَذِه الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ، لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ))[2].

وعَصِيب: شديد؛ ومنه قوله تعالى: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هُود: 77].

2- العصبية في الاصطلاح:
قال الأزهري في "تهذيب اللغة": ((والعصبية: أن يدعو الرجل إلى نصرة عَصَبته والتألُّبِ معهم، على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين))[3].
وعرَّفها ابن خلدون بأنها: ((النُّعَرَةُ[4] على ذوي القربى، وأهلِ الأرحام أن ينالهم ضَيْم، أو تصيبَهم هَلَكة... ومن هذا الباب الولاء والحِلْف، إذ نُعَرَةُ كلِّ أحدٍ على أهل ولائه وحِلْفه))[5].

وعرَّفها بعضهم بأنها: ((رابطة اجتماعية سيكولوجية (نفسية) شعورية ولا شعورية معًا، تربط أفراد جماعة ما، قائمة على القرابة، ربطًا مستمرًّا، يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد؛ كأفراد أو كجماعة))[6].

وعرفها آخرون بأنها: التلاحم بالعصب، والالتصاق بالدم، والتكاثر بالنسل، ووفرة العدد، والتفاخر بالغلبة والقوة والتطاول))[7].
وهناك من الباحثين من فسرها بأنها ((رابطة الدم)) أو ((تكاتف اجتماعي)) أو ((تضامن قبلي)) [8]، إلى غير ذلك من تعريفات وتفسيرات للعصبية؛ تدور في مجملها حول معنيين رئيسين: ((الاجتماع))، و((النُّصْرة)) ؛ فهما يمثلان صُلب العصبية، ومع أن العلماء والكتّاب قد ذكروا للعصبية تعريفات متنوعة، إلا أنها لا تخرج في مجملها عن هذين المعنيين؛ سواء كان ذلك الاجتماع والتناصر حقًّا أم لا.

ثانيًا: مفهوم القَبَلِيَّة:
هي نسبةٌ إلى القَبِيلَة، ويُنسب إليها أيضًا فيقال: قَبِيلِيَّة، و((القبيلة من الناس: بنو أب واحد. ومعنى القبيلة من ولد إسماعيل: معنى الجماعة؛ يقال لكل جماعة من أب واحد: قبيلة))[9].
هذا هو المعنى العام للقبيلة، في القديم والحديث.
وإن الناظر في النظام الاجتماعي عند العرب، يدرك أن هذا المفهوم كان واسعًا في الجاهلية، ثم هذّبه الإسلام، فأقرّ بعضه، ونهى عن بعض، وتتمثل سعة النظام الاجتماعي في العهد الجاهلي، في قبوله انضمام أفراد للقبيلة لا ينتمون إلى أبيهم؛ ومن صور ذلك:

1 - المُستعرِبون:
هم ناس دخلوا جزيرة العرب، وخالطوا العرب، فأخذوا لسانهم، وأتقنوه، فصاروا منهم، ولنا في إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر - وقد كانت أَمَة - مثال ناصع، وهو من تشرفت به العرب، جاء إلى مكة صبيًّا، فاستقر بها، وشب، وخالط العرب، وصاهر جُرهُمًا، فصار بينهم كأنه منهم.
وقد أجمعت معاجم العربية على أن لفظ ((العرب المستعرِبة)) يعني: أولئك الذين ليسوا بعرب خُلَّص، وإنما هم من خالطوا العرب، فاستعربوا، فصاروا عربًا[10].

2 - الحلفاء من داخل جزيرة العرب:
وهم: قوم نزحوا من مكان إلى مكان داخلَ جزيرة العرب، فاستقروا مع قوم من قبيلة غير قبيلتهم، فحالفوهم فصاروا منهم.
ومن هؤلاء من هو معروف القبيلة والنسب، والأمثلة على ذلك عديدة.

منهم على سبيل المثال: حذيفةُ بن اليَمَان العَبْسي، ونسبه معلوم في بني عَبْس، فأصاب أبوه دمًا في قومه، فنزح إلى المدينة، وكان اسمه: حُسَيلاً، وقيل: جَرْوة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان؛ لأنه حالف اليمانية[11]، وقد تزوج منهم الرَّباب بنتَ كعبٍ من بني عبد الأشهل، فولدت له حذيفة، وكانا في بني عبد الأشهل: لهما ما لأحدهم، وعليهما ما على أيٍّ منهم.
ومنهم: ياسر بن عامر العَنْسي اليماني، استقر في مكةَ فحالف أبا حذيفة ابن المُغِيرة المخزومي؛ فزوجه أَمَته سُميَّة بنت خيَّاط، وغيرهم كثير.

3 - الموالي:
وهم: من طالهم السَّبْي، إما نتيجة للحروب، أو لسبب آخر.

ومنهم: من يكون من الأحرار فيقع ظلمًا في السَّبْي؛ ليصبح بعدها مملوكًا يُباع ويُشترى! وهذا من الظلم الشديد الذي حذر منه الإسلام؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قَالَ اللهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ))[12].
وقد كان هذا واقعًا مُعاشًا قبل الإسلام، فأبطله الإسلام، ورفضه رفضًا باتًّا. وفي قصة أبي تميمة الهُجَيمي - الآتية في سياق هذا البحث - أكبر دليل على هذا الواقع المؤلم[13].

4 - التَّبَنِّي:
كان التبنّي أمرًا واقعًا قبل الإسلام؛ يلجأ إليه الناس: إما لأن أحدهم ظل عقيمًا، أو لأنه رزق إناثًا فحسب، أو لأن أولاده الذكور لا يعيشون، أو لأي سبب آخر. يصير الابن الدخيل بعدها ابنًا منتسبًا لأبيه الذي تبناه، له من الحقوق ما لأبناء الرجل من صُلْبه، وعليه من الواجبات ما عليهم. وقد يكون المتبنى معروف القبيلة والنسب؛ كزيد بن حارثةَ الكلبي رضي الله عنه الذي تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يكون معروف الجهة غيرَ معروف القبيلة والنسب؛ كسالمٍ مولى أبي حذيفة.
ولولا أن الإسلام منع هذه العادة، لأضحى المنتسبون لبعض قبائل العرب الكبرى ممن ليسوا معروفي النسب أعضاءً فيها، دون أن يطالهم نقص في حياتهم الاجتماعية.
ولم يكن من مقاصد الشرع - بمنعه عادة التبني - أن يكرِّس للقَبَلِيَّة البغيضة، وإنما أراد الإسلام بذلك تنظيم حياة الناس على أسس حَقَّة، لا اعوجاجَ فيها.
ولو كان هذا المنع لتكريس القَبَلِيَّة لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الوَلاَءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ)) [14] ؛ فجعل صلى الله عليه وسلم الولاء في مرتبة النسب.

تهذيب الإسلام للنظام الاجتماعي الذي كان سائدًا في الجاهلية:
من خلال هذا العرض يتضح أن النظام الاجتماعي في الجاهلية كان أكثر مرونة مما هو عليه الآن، ومع ذلك فقد هذبه الإسلام ليصبح أكثر مرونة.
من أجل ذلك، فإن التعصب النَّسَبي أمر لا مسوِّغ له البتة. ولعل قصة عبدالله بن حُذَافة السَّهْمي - وهو من قريش - خير دليل على بطلان مسألة الاعتداد بالنسب؛ وقد كان من أمره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((سَلُونِي عَمَّا شِئْتُم))، فقال رجل: مَنْ أبي؟ قال: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ))، فقام آخر، فقال: من أبي يا رسول الله؟ فقال: ((أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ)). فلما رأى عمرُ ما في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغضب، قال: يا رسول الله، إنا نتوب إلى الله عز وجل[15]. وقد قالت أم عبدالله ابن حذافة: ((ما سمعت بابن قطُّ أعقَّ منك؛ أأمنتَ أن تكون أمُّك قد قارفَتْ بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية؛ فتفضحَها على أعين الناس؟!))[16].

فقد برّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ عبدالله، لكنها مع ذلك وصفت ابنها بالعقوق؛ لِمَا كانت تعرفه عن مجتمع الجاهلية، مما كان يقع فيه الناس من مقارفة الفواحش؛ علمًا أن بعضها كان مباحًا عندهم ولا يُعَدُّ عيبًا في عُرْفهم؛ فقد أخبرت عائشةُ عروةَ رضي الله عنهما: ((أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنِكاحٌ منها نكاحُ الناس اليوم؛ يخطب الرجل إلى الرجل وَلِيَّتَه أو ابنته، فيُصدِقُها، ثم يَنْكِحها، ونكاحٌ آخرُ؛ كان الرجل يقول لامرأته - إذا طَهُرَتْ من طَمْثها -: أرسلي إلى فلانٍ فاستبضِعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يَمَسُّها أبدًا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضِع منه، فإذا تبين حملُها أصابها زوجُها إذا أحبّ، وإنما يفعل ذلك رغبة في نَجَابة الولد! فكان هذا النكاح نكاحَ الاستبضاع، ونكاحٌ آخرُ؛ يجتمع الرهط ما دون العشَرة، فيدخلون على المرأة، كلُّهم يُصيبها، فإذا حمَلت ووضعت، ومر عليها ليالٍ بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنُك يا فلانُ، تسمِّي من أحبَّتْ باسمه، فيَلْحَقُ به ولدُها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهنّ البغايا، كن يَنْصِبنَ على أبوابهن راياتٍ تكون عَلَمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جُمِعوا لها، ودَعَوْا لهم القافةَ[17]، ثم ألحقوا ولدها بالذي يَرَوْنَ، فالتاطَ[18] به، ودُعِي ابنَه، لا يمتنع من ذلك، فلما بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم، هدم نكاحَ الجاهلية كلَّه، إلا نكاح الناس اليوم))[19].

فإذا علمنا أن الإسلام هو الذي هدم الأنكحة الباطلة؛ التي كان الناس عليها، علمنا أن الأوعية الاجتماعية - القبائل والأنساب - كان كثير منها مبنيًا على أساس غير صحيح، يدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُخْرِجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ))[20]، وأن سلامة الأنساب وطهارتها لم تتضح ولم تكتمل إلا بالإسلام والالتزام به، وعلمنا يقينًا أن الافتخار بالأنساب إنما هو دعوى جاهلية محضة.

هذا هو الواقع الأليم الذي كان يعيشه الناس في الجاهلية، فاستنقذهم الإسلام منه؛ وأقام المجتمعات على النحو السليم؛ وبذا يمكن أن نتفهَّم قصد نَهَار بن تَوْسِعة[21]، حين قال:

أَبِي الإِسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ[22]

فقد تيقن أن القبيلة: هي وعاء اجتماعي لتنظيم التواصل والتعارف بين الناس وحَسْبُ، وليس موضوعًا للافتخار؛ إذ لا فخر لأحد بأوضاع جاهلية قبيحة أبطلها الإسلام، وعادات مستشرية هذبها.
من خلال التعريفات السابقة لـ ((العصبية)) و((القبلية)) يمكن أن نعرِّف ((العصبية القبلية)) بأنها: ((تضامنُ قومٍ تَجْمَعُهم آصرة النسب أو الحلف، مع نصرة بعضهم بعضًا ضِدَّ من يناوئهم؛ ظالمين كانوا أم مظلومين)). وقد سأل واثلةُ ابن الأسقع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن العصبية؟ فقال: ((أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ))[23].

أنواع العصبيات:
للعصبية أنواع متعددة، وما سبق في تعريفها من أنها تعصُّب ذوي القربى والتحالف، وتضامن أبناء القبيلة؛ إنما هو أصل معناها في اللغة، وهو يعود إلى كلمة عَصَبَة، غير أن معناها قد تُوسِّع فيه بعدُ، فأُطلقت على أنواع أخرى من التعصُّبات؛ بحسب الغرض الذي نشأت لأجله، والسبب الذي اعتمدَتْ عليه، وإن من الصعوبة البالغة، حصر أنواعها، لكن يمكن أن نضرب أمثلة لها بعصبيات: ((الجنس، أو اللون، أو اللغة، أو المذهب، أو الوطن، أو الحزب، أو القوم، أو الجنسية... وهكذا))، ومنها - لا شك - عصبية النسب، أو العصبية القبلية التي هي مَدار بحثنا هذا.

ثالثًا: مظاهر العصبية القبلية في العصر الجاهلي:
لم يكن العرب في الجاهلية أمة واحدة، ولا شعبًا واحدًا، بل كانوا قبائل وعصائب متفرقة، تحكمها أعراف قبلية متنوعة، وقد كانت العصبية القبلية هي أساس النظام الاجتماعي الجاهلي، الذي شعاره: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا))[24]، الداعي إلى نصرة المنتسب إلى القبيلة دون اعتبارٍ لكونه مُحِقًّا أو غير محق، وبخاصة " أن مجتمع القبيلة في العصر الجاهلي - بعلاقاته وعاداته وأعرافه - مجتمع يولد فيه العربي، ثم ينشأ متشرِّبًا عاداته وأعرافه التي تُبنى على دعامة أساسية هي النسب، وحينما يفتح الفرد عينيه على ما حوله يجد أن كل امرئ في قبيلته يتغنَّى بانتمائه إليها، ويعتدُّ بأَرُومَته[25]؛ بدءًا من والده وإخوته، وانتهاءً إلى رهطه وعشيرته، فـ((جنسيته)) هي جنسية القبيلة المنحدر منها، و((هُويَّته)) التي يحملها في حِلِّه وتَرحاله اسمُ قبيلته، ذلك الاسم الذي يميزه عن أفراد القبائل الأخرى، ويعصمه عن أن يتيه بينهم"[26].

وبما أنّ العصبية القبلية كانت أساسًا للنظام الاجتماعي في العصر الجاهلي، فقد تأصَّلت في نفوس العرب بعامة، والأعراب منهم بخاصة؛ لعيشهم في الصحارى والقِفَار. وتجلّت في كثير من نواحي حياتهم، وقد كان من أهم مظاهرها:

1- الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب:
"كان التفاخر والتعاظم بين أهل الجاهلية سمة اجتماعية سائدة؛ إذ كانت المفاخرة بمآثر الآباء والأجداد، وبالسيادة والريادة، أمرًا شائعًا، حتى إنهم ينطلقون أحيانًا إلى المقابر، فكانوا يشيرون إلى القبر بعد القبر، ويقولون: فيكم مثل فلان، ومثل فلان؟!"[27]

"ومن أهم مظاهر التزام الفرد بالقبيلة: حرصه الشديد على النسب، والاعتزاز به، فقد كان أقوى صلة تربطه بقومه، وتشدّ أواصر العصبية معهم، فلا غرابة بعد ذلك أن يطمح إلى أن يجعل نسبه في الذروة من الشرف والرفعة، وأن يجعل الأجداد والآباء - الذين ينتمي إليهم - في مقام السادة العظماء. نجد صدى ذلك في قول معاوية بن مالك[28]:
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ عُصْبَةٍ مَشْهُورَةٍ حَشَدٍ لَهُمْ مَجْدٌ أَشَمُّ تَلِيدُ
أَلْفَوْا أَبَاهُمْ سَيِّدًا وَأَعَانَهُمْ كَرَمٌ وَأَعْمَامٌ لَهُمْ وَجُدُودُ
إِذْ كُلُّ حَيٍّ نَابِتٌ بِأَرُومَةٍ نَبْتَ العِضَاهِ فَمَاجِدٌ وَكَسِيدُ[29]

فالشاعر يؤكِّد انتماءه إلى قومه، الذين يشكلون عُصْبة قوية ملتحمة الأطراف، تشمخ متطاولة بأمجادها نحو السماء، قد رعاها الآباء، والأعمام، والجدود، حتى جعلوها كشجرة وارفة الظلال تنضح عبيرًا فوّاحًا من المجد والسيادة.

وعلى هذه الشاكلة يَنْزِع سلامةُ بن جندل السَّعدي[30] إلى الفخر بانتسابه إلى قومه، الذين يجمعون إلى شرف المحتد[31]، شجاعةً في القتال، ورأيًا صائبًا في حل قضايا القبيلة، وإحلال الوفاق والوئام بين أفرادها؛ فيقول:
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ عُصْبَةٍ سَعْدِيَّةٍ ذَرْبَى الأَْسِنَّةِ[32] كُلَّ يَوْمِ تَلاَقِي
لاَ يَنْظُرُونَ إِذَا الكَتِيبَةُ أَحْجَمَتْ نَظَرَ الْجِمَالِ كُرِبْنَ بِالأَْوْسَاقِ[33]
يَكْفُونَ غَائِبَهُمْ وَيُقْضَى أَمَُْرُهُمْ فِي غَيْرِ نَقْصٍ مِنْهُمُ وَشِقَاقِ
وَالْخَيْلُ تَعْلَمُ مَنْ يَبُلُّ نُحُورَهَا بِدَمٍ كَمَاءِ الْعَنْدَمِ[34] المُهْرَاقِ[35]
إن اعتزاز الإنسان العربي بنسبه جعله يغلو فيه أحيانًا، فلا يرى نسبًا يضاهي نسب قبيلته نُبْلاً وشرفًا، ولا يرضى أن يتطاول أحد من القبائل الأخرى فيدعي لنفسه نسبًا أشرف من نسبه، أو حَسَبًا أشرف أرومة منه، وما الرواية الآتية إلا صورة واضحة لذلك الغلو.

فقد ورد أن بدر بن مَعْشَر - من بني مُدرِكة - وقف في الجاهلية بسوق عكاظ يفخر بنسبه، ويقول:
نَحْنُ بَنُو مُدْرِكَةَ بنِ خِنْدِفِ مَنْ يَطْعَنُوا فِي عَيْنِهِ لم يَطْرِفِ[36]
وَمَنْ يَكُونُوا قَوْمَهُ يُغَطْرِفِ[37] كَأَنَّهُ لُجَّةُ بَحْرٍ مُسْدِفِ[38]
ثم مد رجله، وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها. فلم يطق الأحمر بن مازن الهوازني عنجهيته، وادعاءه رفع نسب قبيلته فوق أنساب القبائل الأخرى، فاستلّ سيفه وضرب رِجْلَه فأَنْدَرها[39] من الركبة، غير مبالٍ بحرمة الشهر الحرام، وقد كاد الشر أن يستفحل بين قبيلتي الرجلين، لولا أنهم جنحوا إلى الصلح فيما بينهم[40].

تلك - لا شك - صورة للغلو الشديد في التعصب القبلي، وهي - إنصافًا - الصورة السائدة في العصر الجاهلي. وكانت تلك الحادثة دافعًا حدا بالأحمر الهوازني إلى المزيد من الفخر بنفسه وقبيلته حين صورها في قوله[41]:
إِنِّي وَسَيْفِي حَلِيفَا كُلِّ دَاهِيَةٍ مِنَ الدَّوَاهِي الَّتِي بِالْعَمْدِ أَجْنِيهَا
إِنِّي نَقَمْتُ عَلَيْهِ الْفَخْرَ حِينَ دَعَا جَهْرًا وَأَبْرَزَ عَنْ رِجْلٍ يُعَرِّيهَا
ضَرَبْتُهَا آنِفًا إِذْ مَدَّهَا بَطَرًا وَقُلْتُ: دُونَكَهَا، خُذْهَا بِمَا فِيهَا
لَمَّا رَأَى رِجْلَهُ بَانَتْ بِرُكْبَتِهَا أَوْمَا إِلَى رِجْلِهِ الأُْخْرَى يُفَدِّيهَا[42]
2- الطَّبَقِيَّة:
لقد كان أهل الجاهلية يعاملون الناس حسب منازلهم ودرجاتهم، ويُعمِلون مبدأ عدم التكافؤ بين الناس؛ فقد كان هناك سادة القوم وأشرافهم؛ من أمراء العرب، ورجال الدين، والتجار، ورؤساء العشائر، والشعراء، وغيرهم، وكان هناك من ينتمون إلى الطبقات الدنيا؛ كالفقراء، والصعاليك، والمحتاجين، وأبناء السبيل، وأصحاب الحِرف اليدوية، بالإضافة إلى العبيد وغيرهم، وكانت هناك طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلاً على غيرها، وامتيازًا، فتترفع على الناس، ولا تشاركهم في عادات كثيرة، حتى في بعض مناسك الحج.
ولقد أشار القرآن الكريم في كثير من آياته إلى أولئك الذين اختصوا أنفسهم بامتيازات، وترفعوا على الناس، بل على دعوات الرسل - عليهم السلام - وفي السيرة النبوية الكثير من المواقف، والأحداث البارزة، الشاهدة على هذا الواقع الطبقي الجاهلي[43].

3- الأخذ بالثأر:
لا شك أن معاقبة الجاني والثأر منه أمر جائز، فقتل القاتل مثلاً شيء لا ينكره شرع ولا عقل ولا عرف، إنما المذموم هو قتل غير القاتل بحجة أنه من آل فلان، أو ترك القاتل لأنه ليس كُفْئًا للمقتول، ثم السعي في قتل من هو كفء للمقتول وإن كان بريئًا، وهو ما كان سائدًا في العصر الجاهلي. فقد كان من خُلُق القوم في الجاهلية: الحرص على الأخذ بالثأر على أي حال، واستثارة الهمم للقتال، ليتمثل بذلك اعتزاز العربي بعصبيته، وصون كرامته، والحفاظ على هذه الكرامة إنما هو حفاظ على حيَاته نفسها، وكيانه في مجتمع ينهار فيه كل شيء إذا لم يَذُد فيه عن حياضه، ويركب للشر كل مركب[44]، ويهون على العربي أمر الحياة، ويستهين بالموت من أجل ثأره، فإذا وجب الثأر دفاعًا عن الحرمات وحفظًا للكرامة، فإن المَنِيّة عند العربي خير من إعطاء الدَّنِيّة. فالأخذ بالثأر إذًا هو معنًى من المعاني التي تعبر عن روح العصبية، وهذا الخلق - على ما فيه من شر - يتصل بكرامة العربي التي تدفعه إلى أن يقتص بنفسه من المعتدين، بيد أنه تنقصه الشريعة التي يدين بها الجميع، ويمتثلون لنصوصها، ويخضعون لوجوه تطبيقها. إلى جانب هذا كان معنى الثأر أيضًا يستتبع ضروبًا من الشجاعة، والرجولة، والاستبسال، جعلت حصونهم ظهور خيلهم، ومِهادهم الأرض، وسقوفهم السماء، وجُنَّتهم السيوف، وعُدَّتهم الصبر.

وتتشعب معاني الأخذ بالثأر، وما يتصل به من فكرة دفع الديات، وما يرتبط به أيضًا من قيم وعادات خاصة برفضها أو بقبولها والرضا بها؛ حسمًا للقتال وإقرارًا للسلام، ثم علاقة ذلك كله بمفهموم الكرامة عند العربي، ومعنى الشرف في معجم أخلاقه[45].

4- الحروب:
إن ((النُّعَرَة)) - وهي الصياح، ومناداة القوم بشعارهم؛ من أجل الاستغاثة بهم، وحثهم على الحرب - هي مظهر أساس من مظاهر العصبية، وحين ينادي أحد قومه؛ فلا بد من إجابته، دون النظر إلى طبيعة موقفه، أو فعله، هل هو ظالم أو مظلوم[46]، ومن ذلك قول قُرَيْط بن أُنَيْف أحد بني العَنْبَر:
قَوْمٌ إِذَا الشَّرُّ أَبْدى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ طَارُوا إِلَيْه زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانا
لاَ يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ فِي النَّائِبَاتِ عَلَى ما قَالَ بُرْهَانَا[47]
ويمضي العربي بهذه الروح الجَسُور إلى القتال، لا يتردَّد ولا تخور قواه، ولا تصده هيبة الموت عن الإقدام؛ فقد عقد العزم على الحرب، فلا رجعة عنها؛ وهذا أحدهم يقول: ((حتى إذا جاشت نارها، وسُعِّرت لظاها، وكَشَفَت عن ساقها، جعلتُ مَقَادَها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض خُضَاخِضها[48]، حتى أنغمسَ في غمرات لُجَجها، وأكون فُلْكًا[49] لفرساني إلى بُحْبوحة كَبْشها[50]، فأستمطرها دمًا، وأترك حماتها جَزَرَ السباعِ[51] وكُلِّ نَسْرٍ قَشْعَم[52]))[53].

ومع ذلك: فإن حياة الجاهليين لم تكن ثأرًا ودماء وحسب، ولم تَحُلْ روحُ العصبية بينهم وبين التمسك ببعض القيم والفضائل التي أقرها الإسلام، وقد صوَّرتها لنا بعض أشعارهم، كما عبر عنها ما نُسِب إليهم من خطابة، بل إن قيم العصبية نفسها لم تكن كلها مما يرفضه الدين، وتنبذه طبيعة الحياة المتحضرة، فإذا كانت هذه العصبية قد دفعت العربي إلى الثأر، والدماء، والاعتداد بالقوة، والرغبة في البطش والعدوان، فقد دفعته في الجانب الآخر إلى ضروب من الشجاعة، والاستبسال، والحفاظ على الكرامة، والاعتزاز بالشرف[54].

5- مظاهر أخرى:
ما ذكرته آنفًا هو أبرز مظاهر العصبية القبلية في العصر الجاهلي وهناك مظاهر أخرى تتمثل فيما يلي:
أ - التحاكم إلى أهواء مشايخ العشائر والطواغيت والكهان ونحوهم وترك التحاكم إلى طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ب - التنقُّص من قَدْر القبيلة التي لا تسعى إلى الشر، وتكره الظلم كما في تتمة أبيات قُريط بن أنيف[55] وهي قوله:
لكنَّ قَوْمِي وإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وإِنْ هَانَا
يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ومِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا[56]
فقد مدح الشاعر في البيتين الأولين القوم الذين يسرعون جماعات وأفرادًا في نصرة أخيهم عند النائبات والملمات دون أن يطلبوا منه على استغاثته دليلاً وبرهانًا، ثم استدرك واستثنى قومه - على سبيل التنقص لهم - لأنهم لا يفعلون ذلك على الرغم من كثرة عددهم، بل يقابلون الظلم بالصفح والإساءة بالإحسان، فالبيتان ظاهرهما المدح وباطنهما الذم لأنهما استدراك بعد مدح كما ذُكر آنفًا.

ومنه قول الشاعر:
قُبَيِّلَةٌ لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ وَلاَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ[57]

وهذا البيت جاء في غرض الهجاء لهذه القبيلة وهو أيضًا ((ذم بما يشبه المدح)) فقوله ((قُبيِّلة)) من تصغير التحقير، والمراد أنها ضعيفة جدًا وفاقدة للقدرة على الغدر أو الظلم.
جـ - التفرق الحسي والمعنوي وعِمِّيَّة الراية وترك الإمارة ورد الصاع صاعين ومنه:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا[58]

د - التقليد في الباطل واتباع طريقة الآباء دون تمييز كما وصفهم الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزّخرُف: 23].

حكم الإسلام في العصبية الجاهلية
لقد بات من المسلّم به أن الشريعة الإسلامية لم تأت لتهدم كل ما كان عليه الناس قبلها، لتؤسس على أنقاضه بناءً جديدًا لاصلة له بفطرة البشر وما تقتضيه سنن الاجتماع، وإنما جاءت لتُحِقّ الحق وتبطل الباطل، ومما لا شك فيه أيضًا أن عادات العرب وتقاليدهم وأخلاقهم ومعاملاتهم في العصر الجاهلي - بمختلف جوانب الحياة - لم تكن سيئة كلها، بل منها ماكان ممدوحًا فأقره الإسلام ونبي الإسلام؛ انطلاقًا من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُِتَمِّمَ صَالِحَ الأَْخْلاَقِ))[59]، ومنها ما كان مذمومًا فأبطله الإسلام، أو صحّح فهمه، وطريق إعماله، فأصبح بعدها أمرًا محمودًا.

وبما أن العصبية الجاهلية كانت بمثابة الأساس للأعراف القبلية السائدة آنذاك، وكانت في الوقت نفسه من أسباب الفرقة، والتقاتل بين الناس؛ لذا فقد ركز الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، "وحاربها بكل قوة، ودون هوادة، وحذر منها، وسد منافذها؛ لأنه لا بقاء للدين العالمي، ولا بقاء للأمة الواحدة مع هذه العصبيات، ومصادر الشريعة الإسلامية زاخرة بإنكارها، وتشنيعها، وما أكثر النصوص في ذلك"[60].

ويمكن تلخيص حكم الإسلام في العصبية الجاهلية في الأمور الآتية:
1- إلغاء العصبية الجاهلية، والتحذير منها؛ ويتجلى ذلك في كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ)) [61]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ومَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ[62]؛ يَغْضبُ لعَصَبَةٍ، أو يَدْعُو إلَى عَصَبَةٍ، أو يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ؛ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ))[63].

2- تقرير المساواة بين الناس، وعدم الاعتراف بالامتيازات الطبقية، أو النفوذ الموروث؛ فأساس التفاضل: التقوى والعمل الصالح؛ قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...} الآية [الحُجرَات: 13]، وعن أبي نَضْرة قال: حدثني من سمع خُطْبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق؛ فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلاّ بِالتَّقْوَى)) [64]، وعن عائشةَ رضي الله عنها أن قريشًا أهمَّهم شأنُ المرأة المخزومية التي سرقَتْ، فقالوا: من يكلّم فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامةُ، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلّمه أسامةُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟))، ثم قام فاختطب، فقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)) [65].

3- إلغاء كل مظاهر العبودية لغير الله؛ من نحو تقديس الأعراف القبلية، والانسياق معها باطلاً دون تبصُّر، إلا لمجرد الهوى واجتماع الناس عليها، ومِنْ ثَمَّ إثبات العبودية لله وحده؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذّاريَات: 56].

4- النهي عن الطعن في الأنساب، وعن التفاخر؛ والتعاظم بالآباء، والأجداد، والمآثر، والأمجاد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى َلا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، ولا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))[66].

ومن أعظم صور التواضع في الإسلام: أن جبريل عليه السلام جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا مَلَك ينزل، فقال جبريل عليه السلام: إن هذا الملك ما نزل منذ يومِ خُلِقَ قبل الساعةِ، فلما نزل قال: يا محمد، أرسلَني إليك ربُّك: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يجعلك، أو عبدًا رسولاً؟ قال جبريل عليه السلام: تواضعْ لربك يا محمّد، قال: ((بَلْ عَبْدًا رَسُولاً)) [67].
ـــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: مادة (ع ص ب) في "تهذيب اللغة" للأزهري (45-51)، و"الصحاح" للجوهري (1/182-183)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/2964-2966)، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 148)، و"موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم" للتهانوي (946).
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم (1763)، من حديث عمر رضي الله عنه.
[3] "تهذيب اللغة" للأزهري (2453 ع ص ب).
[4] النُّعَرَةُ: بضم النون، وفتح العين؛ كـ«هُمَزَة»، والعامَّة تقول: النَّعْرَة على وزن التَّمْرَة. انظر: "تاج العروس" للزبيدي (7/543 ن ع ر).
[5] "مقدمة ابن خلدون" (ص235).
[6] "فكر ابن خلدون، العصبية والدولة" لمحمد عابد الجابري (ص168).
[7] "خُلُق ودين (دراسات اجتماعية أخلاقية)" لإبراهيم سلامة (ص81).
[8] "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون" لزينب الخضيري (ص179- 182).
[9] "لسان العرب" لابن منظور (5/3519 ق ب ل).
[10] المرجع السابق (4/ 2863 ع ر ب)، وانظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (1/121).
[11] انظر: "تهذيب الكمال" للحافظ المِزِّيّ (5/495).
[12] أخرجه البخاري (2227)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] انظر ما سيأتي (ص89-90).
[14] رواه الشافعي في "المسند" (ص456)، وابن حبان (4950)، والبيهقي (10/293)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[15] متفق عليه، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أخرجه البخاري (92)، ومسلم (2360).
[16] أخرجه مسلم (2359)، من حديث أنس رضي الله عنه.
[17] القافة: جمع قائف، وهو الذي ينظر إلى شبه الولد بأبيه. انظر: "لسان العرب" (5/3776 ق و ف).
[18] التاط: التاط ولدًا، واستلاطه: استلحقه، أي: بنسبه. انظر: "لسان العرب" (5/4098 ل و ط).
[19] أخرجه البخاري (5127). وانظر في شرح الحديث: «فتح الباري» للحافظ ابن حجر (9/184-186).
[20] أخرجه عبدالرزاق في "المصنف" (13273)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (32173) من حديث جعفر الصادق عن أبيه رفعه.
[21] شاعر فارس، من بكر بن وائل، عاش في العصر الأموي، في عهد هشام بن عبدالملك، من سكان خراسان، له ترجمة في "تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/314).
[22] انظر: "الكتاب" لسيبويه (2/282).
[23] أخرجه أبو داود (5119)، والطبراني في "الكبير" (236).
[24] وقد قيل: إن أول من قال: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» هو جُنْدُب بن العنبر، وقد عنى بها ظاهرها، وهو: ما اعتيد من حمية الجاهلية. كما في: "فيض القدير" للمناوي (3/59). لكنَّ الإسلام هذَّب هذا المبدأ الجاهلي فيما بعد؛ ففي "صحيح البخاري" (2444) من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص): «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، قالوا: يا رسول الله، هذا نَنْصُرُهُ مظلومًا، فكيف نَنْصُرُهُ ظالمًا؟ قال: «تأخُذُ فوقَ يَدَيْهِ».
[25] الأَرُومة: أصل كل شجرة، وأصلُ الحَسَب: أَرومة، وكذلك أصلُ كل شيء ومجتمَعُه. انظر: "معجم المقاييس" لابن فارس (1/49-50 أرم).
[26] "الخفجي" مجلة شهرية، العدد 12، ذو القعدة 1413هـ - يونيو 1993م، الشاعر والقبيلة، د. عبدالغني زيتوني (ص20).
[27] "الإسلام والعروبة" لمجدي رياض (ص98).
[28] هو: ابن مالك بن جعفر بن كلاب، شاعر جاهلي، لقبه: معوِّد الحكماء. انظر: "نزهة الألباب في الألقاب" لابن حجر (2/187).
[29] "المفضليات" للمفضل الضبِّي (ص355).
[30] شاعر جاهلي من بني تميم، من الفرسان، ومن وُصَّاف الخيل. انظر: "الأعلام" للزركلي (3/106).
[31] المَحْتِد: الأصل. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي، (ص352 ح ت د).
[32] ذَرِب الشيءُ ذَرْبًا، أي: صار حديدًا ماضيًا. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (ص79 ذرب).
[33] الأوساق: جمع وَسْقٍ، وهو ستون صاعًا، وقال الخليل بن أحمد: الوَسْق: حِمْل البعير، والوِقْر: حمل البغل والحمار. انظر: "مختار الصحاح" للرَّازي (ص619- و س ق). فالأوساق: الأحمال الثقيلة، والمقصود هنا: تجشُّم قومِه تحمّلَ مشاقِّ الحرب وويلاتِها دون سائر الأقوام.
[34] العندم: شجر أحمر، «دم الأخوين» انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص1473/عندم)
[35] "ديوان سلامة بن جندل" صنعة: محمد بن الحسن الأحول، (ص151- 152).
[36] لم يطرف: أي مات، وهو كقولهم: «ما بَقِيَتْ منهم عين تَطْرِف». انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص1075 ط رف)
[37] يُغطرف: يمشي مختالاً فخورًا. انظر: القاموس المحيط (ص 1088 غ ط ر ف).
[38] مسدف: مظلم. انظر: القاموس المحيط (ص 1058 س د ف)
[39] فأَنْدَرَها: ندر الشيءُ، سقط وشذّ. والمقصود: فقطعها برُكْبتها. انظر: "مختار الصحاح" للرَّازي (561 ن د ر).
[40] "العقد الفريد" لابن عبد ربه، (6/87 - 88).
[41] "المؤتلف والمختلف" للآمدي، (ص42).
[42] انظر: "مجلة الخفجي" الشاعر والقبيلة، (ص20 - 21).
[43] انظر: "الإسلام والعروبة" لمجدي رياض (ص96 - 97).
[44] "القيم الخُلُقية في الخطابة العربية" لسعيد حسين منصور (ص24).
[45] انظر: "القيم الخلقية في الخطابة العربية" لسعيد حسين منصور (ص24 - 26).
[46] انظر: "الإسلام والعروبة" لمجدي رياض، (ص94).
[47] البيتان في "خزانة الأدب" للبغدادي (7/413-414)، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/296).
[48] خُضَاخِضها، بالضم: الكثير الماء والشجر من الأمكنة. "القاموس المحيط" (ص827 خ ض ض).
[49] فُلْكًا: سفينة. "القاموس المحيط" (ص1228 ف ل ك).
[50] كبشها: كبش القوم: سيدهم، وقائدهم. "القاموس المحيط" (ص778 ك ب ش).
[51] جَزَر السباع: قِطَعًا لها. "القاموس المحيط" (ص465 ج ز ر).
[52] القشعم من النسور: المُسِنّ، الضخم. "القاموس المحيط" (ص1484 ق ش ع م).
[53] "جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب" للسيد أحمد الهاشمي (1/231).
[54] انظر: "القيم الخُلُقُية في الخطابة العربية"، لسعيد حسين منصور، (ص25، 33).
[55] انظر: (ص39).
[56] البيتان في "خزانة الأدب" للبغدادي (7/413-414)، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/296).
[57] انظر: "جمهرة الأمثال" للعسكري (1/81).
[58] البيت لعمرو بن كلثوم بن مالك، من بني تغلب (39 ق.هـ). انظر: "خزانة الأدب" لابن حجَّة الحموي (1/64، 423، 252).
[59] أخرجه أحمد (8939)، والبخاري في "الأدب المفرد" (273)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (45).
[60] "رِدَّة ولا أبا بكر لها" لأبي الحسن الندوي (ص12).
[61] أخرجه أبو داود (5121)، من حديث جبير بن مُطعِم رضي الله عنه.
[62] عِمِّيَّة، أي: في الأمر الأعمى للعصبية، فلا يستبين المقاتلُ ما وجه الأمرِ الذي عليه يقاتِل. انظر: "لسان العرب" (4/3115 ع م ي).
[63] جزء من حديث أخرجه مسلم (1848)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[64] سبق تخريجه (ص7)، هامش (1).
[65] متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها: أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
[66] أخرجه مسلم (2865)، من حديث عِيَاض بن حِمَارٍ المجاشعي رضي الله عنه.
[67] أخرجه أحمد (7160)، والبزار في "كشف الأستار" (2462)، وأبو يعلى في "مسنده" (6105)، وابن حبان (2137)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.









رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:08   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

يمكن الحديث عن "النثر الجاهلي" إلاّ بطريقة استرجاعية تخترق حاجزين أساسيين يفصلان "العصر الجاهلي" عن العصور اللاحقة في تاريخ الثقافة العربية-الإسلامية،

أولهما: القرآن والممارسة النبوية، ومن ثمّ الصورة التي ركبّت لذلك العصر من خلالهما.
والثاني: التدوين المتأخر عن تلك الحقبة الذي استدعى "بعض المظاهر الثقافية" لذلك العصر، وتحديداً المظاهر التي تمكنت من اختراق الحاجز الأول، لأنها تطابقت في رؤيتها معه.
ومهما حفرت الدراسات المتخصصة في العصر الجاهلي عامة، وفي آدابه خاصة، سعياً وراء العثور على "حقيقة موضوعية" لذلك العصر، فإنها ستواجه بالحاجزين اللذين أشرنا إليهما. ذلك إن "الشؤون الجاهلية" في معظمها، أعيد تشكيلها في ضوء معايير الرؤية الدينية، وإكراهات عصر التدوين بملابساته الثقافية والسياسية والاجتماعية وبمنظوره المغاير لما كانت عليه الطبيعة الثقافية للحقبة الجاهلية. وإذا خُصص الحديث في "النثر الجاهلي" فالأمر يزداد التباساً وغموضاً بسبب التدخل اللانهائي بين النص القرآني بوصفه نثراً وضروب النثر الأخرى التى عُرفت آنذاك من جهة، وبين الرسول بوصفه نبيّاً ومحدّثاً وخطيباً وطائفة كبرى من المتنبئين والمحدّثين والخطباء. ويزداد ذلك التداخل إذا أخذنا في الاعتبار شيوع الروح الديني والتنبؤي والأدب النثري كما يدل عليه القرآن والحديث والشذرات المتناثرة التي وصلت إلينا من النثر المنسوب إلى تلك الحقبة. يضاف إلى كل ذلك، إستراتيجية الإقصاء والاستحواذ المزدوجة التي مارسها الخطاب الديني تجاه مظاهر التعبير النثري المعاصرة له، أو تلك التي سبقته. ففي عصر شفاهي مثل العصر الجاهلي تزداد احتمالات التداخل بين الخطابات الشفاهية، وتذوب في بعضها، ويعاد أحياناً إنتاجها في صور مختلفة في ضوء مقتضيات الرواية الشفهية وحاجات التلقي وأيدلوجيا العصر الذي تظهر فيه المرويات أو تعاد فيه روايتها، وإجمالاً فان الثقافات الشفاهية لم توفر ظروفاً تساعد على حماية نصوصها الأدبية، وهي في واقع الحال لا تستطيع ذلك لأن تلك النصوص رهينة التداول الشفاهي الذي يتعرّض لإكراهات وانزياحات واقصاءات كثيرة. وغالباً ماتدمج الشذرات والنبذ المتبقية من نصوص متماثلة في الموضوع والأسلوب فتظهر من تلك الأمشاج نصوص جديدة تسهل نسبتها إلى هذا أو ذاك، وتخضع لروح العصر الذي تعرف فيه، ويظهر الراوي بوصفه وسيطاً بين جملة من النصوص ومتلقيها، وعموماً فالنصوص القديمة، بما فيها الدينّية تمنح الوسيط(= الراوي) مكانة مهمة، فهو يوصل بين قطبين: مصدر النص وغالباً ما يكون مجهولاً، وفي النصوص الدينية إلهياً، ومتلقيه. وهذا الملتقي يكون جمهوراً قبلياً أو طائفة دينية أو نخبة في مجلس أو فرداًَ مخصوصاً. وقوة التواصل بين الوسيط والمتلقي هي التي تٌكتسب - في الثقافات الشفاهية - المرويات الشفوية دلالاتها وأهميتها ووظائفها. وعلى أية حال فالصورة التى ركبّها القرآن والرسول للعصر الجاهلي تقتضي وقفة نستكشف من خلالها المنظور القرآني للأدب والنثر السردي بخاصة، وطبيعة الممارسات التى عزّز بها الرسول ماهية ذلك المنظور الديني.









رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:12   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي



المعلقاات الشعرية

تحتل المعلقات المقام الاول بين قصائد الجاهلية .
هي قصائد طوال من اجود ما وصل الينا من الشعر الجاهلي . وقد زعم ابن عبد ربه وابن رشيق وابن خلدون انها سبع قصائد ، فكتبت‏بماء الذهب وعلقت على استار الكعبة ، سميت‏ب: المعلقات تارة والمذهبات تارة اخرى ، وسميت‏بالسبع الطوال ثالثة وايضا بالسموط .
وقد ذهب الرواة الى ان اول قصيدة نالت اعجاب المحكمين في سوق عكاظ هي معلقة امرئ القيس .
اهم شعراء المعلقات:

ونحدث عن:
1- امرؤ القيس الكندي: لقب بالملك الضليل ، لقب ذكر في نهج البلاغة ، توفي سنة 540م .
2- طرفة بن العبد البكري: كان اقصرهم عمرا ، اشتهر بالغزل والهجاء ، توفي سنة 569م .
3- الحارث بن حلزة اليشكري: اشتهر بالفخر ، واطول الشعراء عمرا ، توفي سنة 580م .
4- عمرو بن كلثوم: كان مشهورا بالفخر ، امه ليلى بنت المهلهل ، توفي سنة 600م .
5- علقمة الفحل: كان شاعرا بدويا ، توفي سنة 603م .
6- النابغة الذبياني: زعيم الشعراء في سوق عكاظ ، توفي سنة 604م . 7- عنترة بن شداد العبسي: اشتهر بانه احد فرسان العرب ، واكثر شعره بالغزل والحماسة ، توفي سنة 615م .
8- زهير بن ابي سلمى: كان اعفهم قولا ، واكثرهم حكمة ، ابنه كعب بن زهير من شعراء صدر الاسلام ، توفي زهير سنة 627م .
9- الاعشى الاكبر (اعشى القيس)، اراد ان يلتحق بالاسلام فخدعه قومه حيث قالوا له: نعطيك مائة ناقة لكي تؤجل اسلامك الى السنة القادمة ، فوافق ، وبعد ستة اشهر توفي اي مات كافرا وذلك سنة 629م .
10- لبيد بن ربيعة العامري: الوحيد الذي اسلم ، وقال الشعر في العهد الجاهلي والاسلامي .










رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:15   رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي


بحث عن المعلّقات
التعريف المختصر الكامل للمعلقات من كافة الجوانب
كان فيما اُثر من أشعار العرب ، ونقل إلينا من تراثهم الأدبي الحافل بضع قصائد من مطوّلات الشعر العربي ، وكانت من أدقّه معنى ، وأبعده خيالاً ، وأبرعه وزناً ، وأصدقه تصويراً للحياة ، التي كان يعيشها العرب في عصرهم قبل الإسلام ، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة قديماً قمّة الشعر العربي وقد سمّيت بالمطوّلات ، وأمّا تسميتها المشهورة فهي
المعلّقات . نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض الأوجه الفنّية فيها :
فالمعلّقات لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول : هذا عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير1 ، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ شيء ، وفي حديث حذيفة : «فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقنا» أي نفائس أموالنا2 . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق3 .
وأمّا المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات : قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية4 .
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال والفكر ، وفي الموسيقى وفي نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي الى ما وصل إليه في عصر
المعلّقات من غزل امرئ القيس ، وحماس المهلهل ، وفخر ابن كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين طويلة .
وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها :
لأنّهم استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة ، وهذا ما ذهب إليه ابن عبد ربّه في العقد الفريد ، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم ، يقول صاحب العقد الفريد : «وقد بلغ من كلف العرب به (أي الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة ، وعلّقتها بين أستار الكعبة ، فمنه يقال : مذهّبة امرئ القيس ، ومذهّبة زهير ، والمذهّبات سبع ، وقد يقال :
المعلّقات ، قال بعض المحدّثين قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت :
برزةٌ تذكَرُ في الحسـ ـنِ من الشعر المعلّقْ
كلّ حرف نادر منـ ـها له وجهٌ معشّق5
أو لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات ، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء قلّدهم في طريقتهم ، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر6 . أو أن الملك إذا ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته .
هل علّقت على الكعبة؟
سؤال طالما دار حوله الجدل والبحث ، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد على ستار الكعبة ، ويدافع عنه ، بل ويسخّف أقوال معارضيه ، وبعض آخر ينكر الإثبات ، ويفنّد أدلّته ، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا أدلّة النفي ، ولم يعطوا رأياً في ذلك .
المثبتون للتعليق وأدلّتهم :
لقد وقف المثبتون موقفاً قويّاً ودافعوا بشكل أو بآخر عن موقفهم في صحّة التعليق ، فكتبُ التاريخ حفلت بنصوص عديدة تؤيّد صحّة التعليق ، ففي العقد الفريد7 ذهب ابن عبد ربّه ومثله ابن رشيق والسيوطي8وياقوت الحموي9وابن الكلبي10وابن خلدون11 ، وغيرهم إلى أنّ
المعلّقات سمّيت بذلك; لأنّها كتبت في القباطي بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة ، وذكر ابن الكلبي : أنّ أوّل ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر إليه ثمّ اُحدر ، فعلّقت الشعراء ذلك بعده .
وأمّا الاُدباء المحدّثون فكان لهم دور في إثبات التعليق ، وعلى سبيل المثال نذكر منهم جرجي زيدان حيث يقول :
«وإنّما استأنف إنكار ذلك بعض المستشرقين من الإفرنج ، ووافقهم بعض كتّابنا رغبة في الجديد من كلّ شيء ، وأيّ غرابة في تعليقها وتعظيمها بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب؟! وأمّا الحجّة التي أراد النحّاس أن يضعّف بها القول فغير وجيهة; لأنّه قال : إنّ حمّاداً لمّا رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم عليها وقال لهم : هذه هي المشهورات»12 ، وبعد ذلك أيّد كلامه ومذهبه في صحّة التعليق بما ذكره ابن الأنباري إذ يقول : «وهو ـ أي حمّاد ـ الذي جمع السبع الطوال ، هكذا ذكره أبو جعفر النحاس ، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنّها كانت معلّقة على الكعبة»13 .
وقد استفاد جرجي زيدان من عبارة ابن الأنباري : «ما ذكره الناس» ، فهو أي ابن الأنباري يتعجّب من مخالفة النحاس لما ذكره الناس ، وهم الأكثرية من أنّها علقت في الكعبة .
النافون للتعليق :
ولعلّ أوّلهم والذي يعدُّ المؤسّس لهذا المذهب ـ كما ذكرنا ـ هو أبو جعفر النحّاس ، حيث ذكر أنّ حمّاداً الراوية هو الذي جمع السبع الطوال ، ولم يثبت من أنّها كانت معلّقة على الكعبة ، نقل ذلك عنه ابن الأنباري14 . فكانت هذه الفكرة أساساً لنفي التعليق :
كارل بروكلمان حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد ، وقد سمّاها بالسموط والمعلّقات للدلالة على نفاسة ما اختاره ، ورفض القول : إنّها سمّيت بالمعلّقات لتعليقها على الكعبة ، لأن هذا التعليل إنّما نشأ من التفسير الظاهر للتسمية وليس سبباً لها ، وهو ما يذهب إليه نولدكه15.
وعلى هذا سار الدكتور شوقي ضيف مضيفاً إليه أنّه لا يوجد لدينا دليل مادّي على أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ، فالعربية كانت لغة مسموعة لا مكتوبة . ألا ترى شاعرهم حيث يقول :
فلأهدينّ مع الرياح قصيدة منّي مغلغلة إلى القعقاعِ
ترد المياه فما تزال غريبةً في القوم بين تمثّل وسماعِ؟16
ودليله الآخر على نفي التعليق هو أنّ القرآن الكريم ـ على قداسته ـ لم يجمع في مصحف واحد إلاّ بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) (طبعاً هذا على مذهبه) ، وكذلك الحديث الشريف . لم يدوّن إلاّ بعد مرور فترة طويلة من الزمان (لأسباب لا تخفى على من سبر كتب التأريخ وأهمّها نهي الخليفة الثاني عن تدوينه) ومن باب أولى ألاّ تكتب القصائد السبع ولا تعلّق17 .
وممّن ردّ الفكرة ـ فكرة التعليق ـ الشيخ مصطفى صادق الرافعي ، وذهب إلى أنّها من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتّى وثق بها المتأخّرون18 .
ومنهم الدكتور جواد علي ، فقد رفض فكرة التعليق لاُمور منها :
1 ـ أنّه حينما أمر النبي بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور ، لم يذكر وجود معلقة أو جزء معلّقة أو بيت شعر فيها .
2 ـ عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءَها من جديد .
3 ـ لم يشر أحد من أهل الأخبار الّذين ذكروا الحريق الذي أصاب مكّة ، والّذي أدّى إلى إعادة بنائها لم يشيروا إلى احتراق
المعلّقات في هذا الحريق .
4 ـ عدم وجود من ذكر
المعلّقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم .
ولهذا كلّه لم يستبعد الدكتور جواد علي أن تكون
المعلّقات من صنع حمّاد19 ، هذا عمدة ما ذكره المانعون للتعليق .
بعد استعراضنا لأدلة الفريقين ، اتّضح أنّ عمدة دليل النافين هو ما ذكره ابن النحاس حيث ادعى انّ حماداً هو الذي جمع السبع الطوال .
وجواب ذلك أن جمع حماد لها ليس دليلا على عدم وجودها سابقاً ، وإلاّ انسحب الكلام على الدواوين التي جمعها أبو عمرو بن العلاء والمفضّل وغيرهما ، ولا أحد يقول في دواوينهم ما قيل في
المعلقات . ثم إنّ حماداً لم يكن السبّاق الى جمعها فقد عاش في العصر العباسي ، والتاريخ ينقل لنا عن عبد الملك أنَّه عُني بجمع هذه القصائد (المعلقات) وطرح شعراء أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة20 .
وأيضاً قول الفرزدق يدلنا على وجود صحف مكتوبة في الجاهلية :
أوصى عشية حين فارق رهطه عند الشهادة في الصحيفة دعفلُ
أنّ ابن ضبّة كان خيرٌ والداً وأتمّ في حسب الكرام وأفضلُ
كما عدّد الفرزدق في هذه القصيدة اسماء شعراء الجاهلية ، ويفهم من بعض الأبيات أنّه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من دواوينهم بدليل قوله :
والجعفري وكان بشرٌ قبله لي من قصائده الكتاب المجملُ
وبعد ابيات يقول :
دفعوا إليَّ كتابهنّ وصيّةً فورثتهنّ كأنّهنّ الجندلُ21
كما روي أن النابغة وغيره من الشعراء كانوا يكتبون قصائدهم ويرسلونها الى بلاد المناذرة معتذرين عاتبين ، وقد دفن النعمان تلك الأشعار في قصره الأبيض ، حتّى كان من أمر المختار بن أبي عبيد واخراجه لها بعد أن قيل له : إنّ تحت القصر كنزاً22 .
كما أن هناك شواهد أخرى تؤيّد أن التعليق على الكعبة وغيرها ـ كالخزائن والسقوف والجدران لأجل محدود أو غير محدود ـ كان أمراً مألوفاً عند العرب ، فالتاريخ ينقل لنا أنّ كتاباً كتبه أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة في حلف خزاعة لعبد المطّلب ، وعلّق هذا الكتاب على الكعبة23 . كما أنّ ابن هشام يذكر أنّ قريشاً كتبت صحيفة عندما اجتمعت على بني هاشم وبني المطّلب وعلّقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم24 .
ويؤيّد ذلك أيضاً ما رواه البغدادي في خزائنه25 من قول معاوية : قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حِلزه من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً26 .
هذا من جملة النقل ، كما أنّه ليس هناك مانع عقلي أو فنّي من أن العرب قد علّقوا أشعاراً هي أنفس ما لديهم ، وأسمى ما وصلت إليه لغتهم; وهي لغة الفصاحة والبلاغة والشعر والأدب ، ولم تصل العربية في زمان إلى مستوى كما وصلت إليه في عصرهم . ومن جهة اُخرى كان للشاعر المقام السامي عند العرب الجاهليين فهو الناطق الرسمي باسم القبيلة وهو لسانها والمقدّم فيها ، وبهم وبشعرهم تفتخر القبائل ، ووجود شاعر مفلّق في قبيلة يعدُّ مدعاة لعزّها وتميّزها بين القبائل ، ولا تعجب من حمّاد حينما يضمّ قصيدة الحارث بن حلزّة إلى مجموعته ، إذ إنّ حمّاداً كان مولى لقبيلة بكر بن وائل ، وقصيدة الحارث تشيد بمجد بكر سادة حمّاد27 ، وذلك لأنّ حمّاداً يعرف قيمة القصيدة وما يلازمها لرفعة من قيلت فيه بين القبائل .
فإذا كان للشعر تلك القيمة العالية ، وإذا كان للشاعر تلك المنزلة السامية في نفوس العرب ، فما المانع من أن تعلّق قصائد هي عصارة ما قيل في تلك الفترة الذهبية للشعر؟
ثمّ إنّه ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدداً لا يستهان به من المؤرّخين والمحقّقين قد اتفقوا على التعليق .
فقبول فكرة التعليق قد يكون مقبولا ، وأنّ
المعلّقات لنفاستها قد علّقت على الكعبة بعدما قرئت على لجنة التحكيم السنوية ، التي تتّخذ من عكاظ محلاً لها ، فهناك يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة ، ويقرأونها أمام الملإ ولجنة التحكيم التي عدُّوا منها النابغة الذبياني ليعطوا رأيهم في القصيدة ، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق ، وتناقلتها الألسن ، وعلّقت على جدران الكعبة أقدس مكان عند العرب ، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها ، وخفي بريقها ، حتّى ينساها الناس وكأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً .
موضوع شعر المعلّقات
لو رجعنا إلى القصائد الجاهلية الطوال والمعلّقات منها على الأخصّ رأينا أنّ الشعراء يسيرون فيها على نهج مخصوص; يبدأون عادة بذكر الأطلال ، وقد بدأ عمرو بن كلثوم مثلاً بوصف الخمر ، ثمّ بدأ بذكر الحبيبة ، ثمّ ينتقل أحدهم إلى وصف الراحلة ، ثمّ إلى الطريق التي يسلكها ، بعدئذ يخلص إلى المديح أو الفخر (إذا كان الفخر مقصوداً كما عند عنترة) وقد يعود الشاعر إلى الحبيبة ثمّ إلى الخمر ، وبعدئذ ينتهي بالحماسة (أو الفخر) أو بذكر شيء من الحِكَم (كما عند زهير) أو من الوصف كما عند امرئ القيس .
ويجدر بالملاحظة أنّ في القصيدة الجاهلية أغراضاً متعدّدة; واحد منها مقصود لذاته (كالغزل عند امرئ القيس ، الحماسة عند عنترة ، والمديح عند زهير . .) ،
عدد القصائد المعلّقات
لقد اُختلف في عدد القصائد التي تعدّ من
المعلّقات ، فبعد أن اتّفقوا على خمس منها; هي معلّقات : امرئ القيس ، وزهير ، ولبيد ، وطرفة ، وعمرو بن كلثوم . اختلفوا في البقيّة ، فمنهم من يعدّ بينها معلّقة عنترة والحارث بن حلزة ، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى ، ومنهم من جعل فيها قصيدة عبيد بن الأبرص ، فتكون المعلّقات عندئذ عشراً .
نماذج مختارة من القصائد المعلّقة مع شرح حال شعرائها
أربع من هذه القصائد اخترناها من بين القصائد السبع أو العشر مع اشارة لما كتبه بعض الكتاب والأدباء عن جوانبها الفنية.. لتكون محور مقالتنا هذه :
امرؤ القيس
اسمه : امرؤ القيس ، خندج ، عدي ، مليكة ، لكنّه عرف واشتهر بالاسم الأوّل ، وهو آخر اُمراء اُسرة كندة اليمنيّة .
أبوه : حجر بن الحارث ، آخر ملوك تلك الاُسرة ، التي كانت تبسط نفوذها وسيطرتها على منطقة نجد من منتصف القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس .
اُمّه : فاطمة بنت ربيعة اُخت كليب زعيم قبيلة ربيعة من تغلب ، واُخت المهلهل بطل حرب البسوس ، وصاحب أوّل قصيدة عربية تبلغ الثلاثين بيتاً .
نبذة من حياته :
قال ابن قتيبة : هو من أهل نجد من الطبقة الاُولى28 . كان يعدّ من عشّاق العرب ، وكان يشبّب بنساء منهنّ فاطمة بنت العبيد العنزية التي يقول لها في معلّقته :
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلّل
وقد طرده أبو ه على أثر ذلك . وظل امرؤ القيس سادراً في لهوه إلى أن بلغه مقتل أبيه وهو بدمّون فقال : ضيّعني صغيراً ، وحمّلني دمه كبيراً ، لا صحو اليوم ولا سكرَ غداً ، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ ، ثمّ آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتّى يثأر لأبيه29 .
إلى هنا تنتهي الفترة الاُولى من حياة امرئ القيس وحياة المجون والفسوق والانحراف ، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته ، وهي فترة طلب الثأر من قَتَلة أبيه ، ويتجلّى ذلك من شعره ، الّذي قاله في تلك الفترة ، الّتي يعتبرها الناقدون مرحلة الجدّ من حياة الشاعر ، حيكت حولها كثير من الأساطير ، التي اُضيفت فيما بعد إلى حياته . وسببها يعود إلى النحل والانتحال الذي حصل في زمان حمّاد الراوية ، وخلف الأحمر ومن حذا حذوهم . حيث أضافوا إلى حياتهم ما لم يدلّ عليه دليل عقلي وجعلوها أشبه بالأسطورة . ولكن لا يعني ذلك أنّ كلّ ما قيل حول مرحلة امرئ القيس الثانية هو اُسطورة .
والمهم أنّه قد خرج إلى طلب الثأر من بني أسد قتلة أبيه ، وذلك بجمع السلاح وإعداد الناس وتهيئتهم للمسير معه ، وبلغ به ذلك المسير إلى ملك الروم حيث أكرمه لما كان يسمع من أخبار شعره وصار نديمه ، واستمدّه للثأر من القتلة فوعده ذلك ، ثمّ بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم ، فلمّا فصل قيل لقيصر : إنّك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب وهم أهل غدر ، فإذا استمكن ممّا أراد وقهر بهم عدوّه غزاك . فبعث إليه قيصر مع رجل من العرب كان معه يقال له الطمّاح ، بحلّة منسوجة بالذهب مسمومة ، وكتب إليه : إنّي قد بعثت إليك بحلّتي الّتي كنت ألبسها يوم الزينة ليُعرف فضلك عندي ، فإذا وصلت إليك فالبسها على الُيمن والبركة ، واكتب إليّ من كلّ منزل بخبرك ، فلمّا وصلت إليه الحلّة اشتدّ سروره بها ولبسها ، فأسرع فيه السمّ وتنفّط جلده ، والعرب تدعوه : ذا القروح لذلك ، ولقوله :
وبُدِّلْتُ قرحاً دامياً بعد صحّة فيالك نُعمى قد تحوّلُ أبؤسا
ولمّا صار إلى مدينة بالروم تُدعى : أنقرة ثقل فأقام بها حتّى مات ، وقبره هناك .
وآخر شعره :
ربّ خطبة مسحنفَرهْ وطعنة مثعنجرهْ
وجعبة متحيّرهْ تدفنُ غداً بأنقرةْ
ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك العرب هلكت بأنقره فسأل عنها فاخبر ، فقال :
أجارتنا إنّ المزار قريبُ وإنّي مقيم ما أقام عسيبُ
أجارتَنا إنّا غريبانِ هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيبُ30
وقد عدَّ الدكتور جواد علي والدكتور شوقي ضيف وبروكلمان وآخرون بعض ما ورد في قصّة امرئ القيس وطرده ، والحكايات التي حيكت بعد وصوله إلى قيصر ودفنه بأنقرة إلى جانب قبر ابنة بعض ملوك الروم ، وسبب موته بالحلة المسمومة ، وتسميته ذا القروح من الأساطير .
قالوا فيه :
1 ـ النبيّ(صلى الله عليه وآله) : ذاك رجل مذكور في الدنيا ، شريف فيها منسيّ في الآخرة خامل فيها ، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار31 .
2 ـ الإمام علي(عليه السلام) : سُئل من أشعر الشعراء؟ فقال :
إنّ القوم لم يَجروا في حَلبة تُعرفُ الغايةُ عند قصبتها ، فإنْ كان ولابُدّ فالملكُ الضِّلِّيلُ32 . يريد امرأ القيس .
3 ـ الفرزدق سئل من أشعر الناس؟ قال : ذو القروح .
4 ـ يونس بن حبيب : إنّ علماء البصرة كانوا يقدّمون امرأ القيس .
5 ـ لبيد بن ربيعة : أشعر الناس ذو القروح .
6 ـ أبو عبيدة معمّر بن المثنّى : هو أوّل من فتح الشعر ووقف واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها . . .33
معلّقة امرئ القيس
البحر : الطويل . عدد أبياتها : 78 بيتاً منها : 9 : في ذكرى الحبيبة . 21 : في بعض مواقف له . 13 : في وصف المرأة . 5 : في وصف الليل . 18 : في السحاب والبرق والمطر وآثاره . والبقية في اُمور مختلفة .
استهلّ امرؤ القيس معلّقته بقوله :
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزِلِ بِسِقْط اللِّوَى بين الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ
فتوضِحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها لما نسجتها من جنوب وَشَمْأَلِ
وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته ، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى وذكر الحبيب والمنزل ، ثمّ انتقل إلى رواية بعض ذكرياته السعيدة بقوله :
ألا ربّ يوم لَكَ منهُنَّ صالحٌ ولاسيّما يومٌ بدراة جُلجُلِ
ويومَ عقرت للعِذارى مطيّتي فيا عجباً من رحلِها المتحمّلِ
فضلّ العذارى يرتمينَ بلحمها وشحم كهذّاب الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ
وحيث إنّ تذكّر الماضي السعيد قد أرّق ليالي الشاعر ، وحرمه الراحة والهدوء; لذا فقد شعر بوطأة الليل; ذلك أنّ الهموم تصل إلى أوجها في الليل ، فما أقسى الليل على المهموم! إنّه يقضّ مضجعهُ ، ويُطير النوم من عينيه ، ويلفّه في ظلام حالك ، ويأخذه في دوامة تقلّبه هنا وهناك لا يعرف أين هو ، ولا كيف يسير ولا ماذا يفعل ، ويلقي عليه بأحماله ، ويقف كأنّه لا يتحرّك . . يقول :
وليل كموج البحرِ أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمومِ ليبتلي
فقُلْتُ لَهُ لمّا تمطّى بصلبِهِ وأردف أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ
ألا أيّها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبح وما الأصْبَاحُ منكَ بِأمْثَلِ
وتعدّ هذه الأبيات من أروع ما قاله في الوصف ، ومبعث روعتها تصويره وحشيّة الليل بأمواج البحر وهي تطوي ما يصادفها; لتختبر ما عند الشاعر من الصبر والجزع .
فأنت أمام وصف وجداني فيه من الرقّة والعاطفة النابضة ، وقد استحالت سدول الليل فيه إلى سدول همّ ، وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة ، وانتقل الليل من الطبيعة إلى النفس ، وانتقلت النفس إلى ظلمة الطبيعة .
فالصورة في شعره تجسيد للشعور في مادّة حسّية مستقاة من
البيئة الجاهلية .
ثمّ يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذّاته فيه ، وكأنّه يريد أن يضع بين يدي صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته في ركوب الخيل واصطياد الوحش يقول :
وقد أَغتدي والطير في وُكُناتِها بِمُنْجرد قيدِ الأوابدِ هيكلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِل مُدْبر معاً كجُلْمُودِ صَخْر حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
وهو وصف رائع لفرسه الأشقر ، فقد صوّر سرعته تصويراً بديعاً ، وبدأ فجعله قيداً لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنّها لا تستطيع إفلاتاً منه كأنّه قيد يأخذ بأرجلها .
وهو لشدّة حركته وسرعته يخيّل إليك كأنّه يفرّ ويكرّ في الوقت نفسه ، وكأنّه يقبل ويدبر في آن واحد ، وكأنّه جلمود صخر يهوى به السيل من ذورة جبل عال .
ثمّ يستطرد في ذكر صيده وطهي الطهاة له وسط الصحراء قائلاً :
فظلّ طهاةُ اللحمِ ما بين منضج صفيف شواء أو قدير معجّلِ
وينتقل بعد ذلك إلى وصف الأمطار والسيول ، التي ألمّت بمنازل قومه بني أسد بالقرب من تيماء في شمالي الحجاز ، يقول :
أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضَهُ
كلمعِ اليدين في حبيٍّ مكَلّلِ
يضيءُ سناهُ أو مصابيحُ راهب
أهانَ السَّليطَ في الذُّبالِ المفتّلِ
قعدتُ له وصحبتي بين حامِر
وبين إكام بُعْدَ ما متأمّلِ
استهلّ هذه القطعة بوصف وميض البرق وتألّقه في سحاب متراكم ، وشبّه هذا التألّق واللمعان بحركة اليدين إذا اُشير بهما ، أو كأنّه مصابيح راهب يتوهّج ضوؤها بما يمدّها من زيت كثير .
ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأمّلونه بين جامر وإكام ، والسحاب يسحّ سحّاً ، حتّى لتقتلع سيوله كلّ ما في طريقها من أشجار العِضاه العظيمة ، وتلك تيماء لم تترك بها نخلاً ولا بيتاً ، إلاّ ما شيّد بالصخر ، فقد اجتثّت كلّ ما مرّت به ، وأتت عليه من قواعده واُصوله .
لبيد بن ربيعة
هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة . . الكلابي
قال المرزباني : كان فارساً شجاعاً سخيّاً ، قال الشعر في الجاهلية دهراً34 .
قال أكثر أهل الأخبار : إنّه كان شريفاً في الجاهلية والإسلام ، وكان قد نذر أن لا تهبّ الصبا إلاّ نحر وأطعم ، ثمّ نزل الكوفة ، وكان المغيرة بن شعبة إذا هبّت الصبا يقول : أعينوا أبا عقيل على مروءته35 .
وحكى الرياشي : لمّا اشتدّ الجدب على مضر بدعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفد عليه وفد قيس وفيهم لبيد فأنشد :
أتيناك يا خير البريّة كلّها لترحمنا ممّا لقينا من الأزلِ
أتيناك والعذراء تدمى لبانها وقد ذهلت أمّ الصبيّ عن الطفلِ
فإن تدعُ بالسقيا وبالعفو ترسل الـ ـسّماءَ لنا والأمر يبقى على الأَصْلِ
وهو من الشعراء ، الّذين ترفعوا عن مدح الناس لنيل جوائزهم وصِلاتهم ، كما أنّه كان من الشعراء المتقدّمين في الشعر .
وأمّا أبوه فقد عرف بربيعة المقترين لسخائه ، وقد قُتل والده وهو صغير السّنّ ، فتكفّل أعمامهُ تربيتَه .
ويرى بروكلمان احتمال مجيء لبيد إلى هذه الدنيا في حوالى سنة 560م . أمّا وفاته فكانت سنة 40هـ . وقيل : 41هـ . لمّا دخل معاوية الكوفة بعد أن صالح الإمام الحسن بن علي ونزل النخيلة ، وقيل : إنّه مات بالكوفة أيّام الوليد بن عقبة في خلافة عثمان ، كما ورد أنّه توفّي سنة نيف وستين36 .
قالوا فيه :
1 ـ النبي(صلى الله عليه وآله) : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل37
وروى أنّ لبيداً أنشد النبي(صلى الله عليه وآله) قوله :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ
فقال له : صدقت .
فقال :
وكلّ نعيم لا محالة زائلُ
فقال له : كذبت ، نعيم الآخرة لا يزول38 .
2 ـ المرزباني : إنّ الفرزدق سمع رجلاً ينشد قول لبيد :
وجلا السيوف من الطلولِ كأنّها زبر تجدّ متونَها أقلامُها
فنزل عن بغلته وسجد ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : أنا أعرف سجدة الشعر كما يعرفون سجدة القرآن39 .
القول في إسلامه
وأمّا إسلامه فقد أجمعت الرواة على إقبال لبيد على الإسلام من كلّ قلبه ، وعلى تمسّكه بدينه تمسّكاً شديداً ، ولا سيما حينما يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه ، وبقرب دنوّ أجله; ويظهر أنّ شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقعت في أيّامه ، فابتعد عن السياسة ، وابتعد عن الخوض في الأحداث ، ولهذا لا نجد في شعره شيئاً ، ولا فيما روي عنه من أخبار أنّه تحزّب لأحد أو خاصم أحداً .
وروي أنّ لبيداً ترك الشعر وانصرف عنه ، فلمّا كتب عمر إلى عامله المغيرة ابن شعبة على الكوفة يقول له : استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام . أرسل إلى لبيد ، فقال : أرجزاً تُريد أم قصيداً؟ فقال :
أنشدني ما قلته في الإسلام ، فكتب سورة البقرة في صحيفة ثمّ أتى بها ، وقال : أَبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر . فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد40 .
وجعله في اُسد الغابة من المؤلّفة قلوبهم وممّن حسن إسلامه41 ، وكان عمره مائة وخمساً وخمسين سنة ، منها خمس وأربعون في الإسلام وتسعون في الجاهلية42 .
معلّقة لبيد بن ربيعة
البحر : الكامل . عدد الأبيات : 89 موزّعة فيما يلي : 11 في ديار الحبيبة . 10 في رحلة الحبيبة وبعدها وأثره . 33 في الناقة . 21 في الفخر الشخصي . 14 في الفخر القبلي .
يبدأ الشاعر معلقته ببكاء الأطلال ووصفها ، وكيف أنّ الديار قد درست معالمها حتّى عادت لا ترى فقد هجرت ، وأصبحت لا يدخلها أحدٌ لخرابها :
عفت الديار محلّها فمقامها بمنىً تأبّد غولها فرجامها
رزقت مرابيع النجوم وصابها ودقَ الرواعد جودها فرهامها
ثمّ عاد بمخيلته شريط الذكريات ، ذكريات فراق الأحبّة فيتحدّث عن الظعائن الجميلات الرشيقات ، وعن هوادجهنّ المكسوّة بالقماش والستائر :
مشاقتك ظعن الحيّ يوم تحمّلوا فتكنّسوا قطناً تصرّ خيامها
من كلِّ محفوف يظلّ عصيّه روح عليه كلّةٌ وقرامها
ويرى أن يقطع أمله منها ويترك رجاءه فيها ما دامت نوار قد تغيّر وصلها :
ما قطع لبانه من تعرّض وصله ولشرّ واصل خلّة صرّامها
ثمّ يأخذ في وصف ناقته بألفاظ غريبة وتعابير بدوية متينة ، فهو يشبهها بالغمامة الحمراء تدفعها رياح الجنوب فيقول :
فلها هبابٌ في الزمامِ كأنّها صهباء خفّ مع الجنوب حمامُها
واُخرى يشبّهها بالبقرة الوحشيّة قائلاً :
خنساءُ ضيّعتِ الغريرَ فلم ترِمْ عُرْضَ الشّقائقِ طوفها وبُغامُها
لمعفّر قَهْد تنازعَ شلوهُ غبسٌ كواسبُ ، لا يُمَنّ طعامُها
وعلى الرغم من تعرّضه لوصف الناقة فلم تفته الحكمة :
صادفْنَ منها غرّة فأصبنها إنّ المنايا لا تطيش سهامها
ويقول :
لتذودهنّ وأيقنت إن لم تَزُدْ أن قد أحمّ من الحتوفِ حمامها
فهو مؤمن بقضاء الله ، قانع بما قسم له وكتب عليه ، راض بذلك ، ويدعو النّاس إلى الرضا :
فاقنع بما كتب المليكُ فإنّما قسم الخلائق بيننا علاّمها
ثمّ ينتقل لبيد للفخر بفروسيّته ، وكونه يحمي قومه في موضع المحنة والخوف ، يرقب لهم عند ثغور الأعداء وهو بكامل عدّته متأهّباً للنزال ، حتّى إذا أجنّه الظلام نزل من مرقبه إلى السهل ، وامتطى جواده القوي السريع :
ولقد حميت الحيّ تحمل مثكتي
فرطٌ وشاحي إذ غدوت لجامها
فعلوت مرتقباً على ذي هبوة
حرج إلى أعلامهنّ قَتَامُها
حتّى إذا ألقت يداً في كافر
وأجنّ عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصبتْ كجذعِ منيفة
جرداءَ يَحْصَرُ دونَها جرّامُها
ولبيد خير شاعر برّ قومه ، فهو يحبّهم ويؤثرهم ويشيد بمآثرهم ويسجّل مكرماتهم ، ويفخر بأيّامهم وأحسابهم ، فسجّل في معلّقته فضائل قومه ، وافتخر بأهله وخصّهم بأجود الثناء :
إنّا إذا التقت المجامعُ لم يزل
منّا لزازُ عظيمة جشّامُّها
من معشر سنّت لهم آباؤهم
ولكلّ قوم سنّةٌ وإمُامها
لا يطبعون ولا يبور فعالُهم
إذ لا يميل مع الهوى أحلامُها
وهم السعاةُ إذا العشيرة اُفظِعَتْ
وهُمُ فوارسها وهم حكّامُها
وهُمُ ربيعٌ للمجاور فيهمُ
والمرملاتِ إذا تطاولَ عامُها
وهُمُ العشيرةُ أن يُبَطّئ حاسدٌ
أو أن يميلَ مع العدى لوّامُها
زهير بن أبي سلمى
هو زهير بن أبي سلمى ـ واسم أبي سلمى : ربيعة بن رباح المزني من مزينة ابن أد بن طايخة .
كانت محلّتهم في بلاد غطفان ، فظنّ الناس أنّه من غطفان ، وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة أيضاً .
وهو أحد الشعراء الثلاثة الفحول المقدّمين على سائر الشعراء بالاتّفاق ، وإنّما الخلاف في تقديم أحدهم على الآخر ، وهم : امرؤ القيس وزهير والنابغة . ويقال : إنّه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير ، وكان والد زهير شاعراً ، واُخته سلمى شاعرة ، واُخته الخنساء شاعرة ، وابناه كعب ومجبر شاعرين ، وكان خال زهير أسعد بن الغدير شاعراً ، والغدير اُمّه وبها عرف ، وكان أخوه بشامة بن الغدير شاعراً كثير الشعر .
ويظهر من شعر ينسب إليه أنّه عاش طويلا إذ يقول متأفّفاً من هذه الحياة ومشقّاتها حتّى سئم منها :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
قالوا فيه :
1 ـ الحطيئة اُستاذ زهير : سئل عنه فقال : ما رأيت مثله في تكفِّيه على أكتاف القوافي ، وأخذه بأعنّتها حيث شاء ، من اختلاف معانيها امتداحاً وذمّاً44 .
2 ـ ابن الاعرابي : كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره45 .
3 ـ قدامة بن موسى ـ وكان عالماً بالشعر ـ : كان يقدّم زهيراً .
4 ـ عكرمة بن جرير : قلت لأبي : مَن أشعر الناس؟ قال : أجاهليةٌ أم إسلامية؟ فقلت : جاهلية ، قال : زهير46 .
مميّزات شعره :
امتاز زهير بمدحيّاته ، وحكميّاته ، وبلاغته ، وكان لشعره تأثير كبير في نفوس العرب . وكان أبوه مقرّباً من اُمراء ذبيان ، وخصوصاً هرم بن سنان والحارث ابن عوف ، وأوّل قصيدة نظمها في مدحهما على أثر مكرمة أتياها . معلّقته المشهورة .
ويؤخذ من بعض أقواله أنّه كان مؤمناً بالبعث كقوله :
يؤخَّر فيودَع في كتاب فيدَّخَرْ ليومِ الحسابِ أو يعجّلْ فينتقمِ
وممّا يدلّ على تعقّله وحنكته وسعة صدره حِكمه في معلّقته ، وقد جمع خلاصة التقاضي في بيت واحد :
وإنّ الحقّ مقطعه ثلاث : يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ
معلّقة زهير بن أبي سلمى
البحر : الطويل . عدد الأبيات : 59 موزّعة فيما يلي : 6 في الأطلال . 9 في الأظعان . 10 في مدح الساعين بالسلام . 21 في الحديث إلى المتحاربين . 13 في الحكم .
يبدأ الشاعر معلّقته بالحديث عمّا صارت إليه ديار الحبيبة ، فقد هجرها عشرين عاماً ، فأصبحت دمناً بالية ، وآثارها خافتة ، ومعالمها متغيّرة ، فلمّا تأكّد منها هتف محيّياً ودعا لها بالنعيم :
أمن اُمّ أوفى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِ بحَوْمانَةِ الدّرّاجِ فالمتثَلَّمِ
وقفتُ بها من بعدِ عشرينَ حجّةً فَلاَْياً عرفتُ الدار بعد توهُّمِ
فلمّا عرفتُ الدار قلت لربعها ألا أنعم صباحاً أيّها الربع وأسلمِ
ثمّ عاد بالذاكرة إلى الوراء يسترجع ساعة الفراق ، ويصف النساء اللاتي ارتحلن عنها ، فيتبعهنّ ببصره كئيباً حزيناً ، ويصف الطريق الّتي سلكنها ، والهوادج التي كنّ فيهاو . . . :
بكرن بكوراً واستحرنَ بسحره
فهنّ ووادي الرسّ كاليدِ للفمِ
جعلن القنان عن يمين وحزنه
وكم بالقنان من محلّ ومحرمِ
فلمّا وردنَ الماء زرقاً جمامه
وضعْنَ عِصِيَّ الحاضرِ المتخيَّمِ
وفيهنّ ملهى للّطيف ومنظر
أنيق لعين الناظر المتوسّمِ
وكأنّه حينما وصل إلى هذا المنظر الجميل الفتّان سبح به خاطره إلى جمال الخلق وروعة السلوك ، وحبّ الخير والتضحية في سبيل الأمن والاستقرار ، فشرع يتحدّث عن الساعين في الخير ، المحبّين للسلام ، الداعين إلى الإخاء والصفاء ، فأشاد بشخصين عظيمين هما هرم والحارث ، وذلك لموقفهما النبيل في إطفاء نار الحرب بين عبس وذبيان ، وتحمّلهما ديات القتلى من مالهما وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير ، قال :
سعى ساعياً غيظ من مرّة بعدما
تبزّل ما بين العشيرة بالدمِ
فأقسمت بالبيت الّذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش وجرهمِ
يميناً لنعم السّيّدان وُجدتما
على كلّ حال من سحيل ومبرمِ
تداركتما عبساً وذبيان بعدما
تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشمِ
وقد قلتما : إن ندرك السلم واسعاً
بمال ومعروف من القول نسلمِ
فأصبحتما منها على خير موطن
بعيدين فيها من عقوق ومأثمِ
ثمّ وجّه الكلام إلى الأحلاف المتحاربين قائلاً :
هل أقسمتم أن تفعلوا ما لاينبغي؟ لا تظهروا الصلح ، وفي نيّتكم الغدر; لأنّ الله سيدخره لكم ويحاسبكم عليه ، إن عاجلاً أو آجلاً ، يقول :
ألا أبلغ الأحلاف عنّي رسالة وذبيان هل أقسمتم كلّ مقسمِ
فلا تكتمنّ الله ما في صدوركم ليخفى ومهما يكتم اللهُ يعلمِ
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر ليوم الحساب أو يعجّل فينقمِ
ويختمها بتأكيد معروف الممدوحين عليه فيقول :
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتمُ ومن يكثر التسآلَ يوماً سيحرمِ
عنترة بن شدّاد العبسي
هو عنترة بن عمرو بن شدّاد بن عمرو... بن عبسي بن بغيض47، وأمّا شدّاد فجدّه لأبيه في رواية لابن الكلبي، غلب على اسم أبيه فنسب إليه، وقال غيره: شدّاد عمّه، وكان عنترة نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه، وكان يلقّب بـ (عنترة الفلحاء) لتشقّق شفتيه. وانّما ادّعاه أبوه بعد الكبر، وذلك لأنّه كان لأمة سوداء يقال لها زبيبة، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من اُمّه استعبده.
وكان سبب ادّعاء أبي عنترة إيّاه أنّ بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس، فتبعهم العبسيّون فلحقوهم فقاتلوهم عمّا معهم، وعنترة فيهم، فقال له أبوه أو عمّه في رواية اُخرى: كرّ يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسِن الكرّ، إنّما يحسن الحلاب والصرّ، فقال: كرّ وأنت حرّ، فكرّ وقاتل يومئذ حتّى استنقذ ما بأيدي عدوّهم من الغنيمة، فادّعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه48.
كان شاعرنا من أشدّ أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان لا يقول من الشعر إلاّ البيتين والثلاثة حتّى سابّه رجل بني عبس فذكر سواده وسواد اُمّه وسواد اُخوته، وعيّره بذلك، فقال عنترة قصيدته المعلّقة التي تسمّى بالمذهّبة وكانت من أجود شعره: هل غادر الشعراء من متردّمِ49 .
وكان قدشهد حرب داحس والغبراء فحسن فيها بلاؤه وحمد مشاهده.
أحبّ ابنة عمّه عبلة حبّاً شديداً، ولكنّ عمّه منعه من التزويج بها. وقد ذكرها في شعره مراراً وذكر بطولاتها أمامها، وفي معلّقته نماذج من ذلك.
وقد ذكر الأعلم الشنتمري في اختياراته من أشعار الشعراء الستة الجاهليين ص461 أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) حينما أنشد هذا البيت :
ولقد ابيتُ على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكلِ
قال(صلى الله عليه وآله): ما وصف لي أعرابي قط، فأحببتُ أن أراه إلاّ عنترة .
نماذج من شعره:
بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني
أصبحتُ عن عرضِ الحتوفِ بمعزلِ
فأجبتها إنّ المنيّة منهلٌ
لابدّ أن اُسقى بذاك المنهلِ
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
أنّي امرؤٌ سأموتُ إن لم اُقتلِ
ومن إفراطه:
وأنا المنيّة في المواطن كلّها والطعنُ منّي سابقُ الآجالِ
وله شعر يفخر فيه بأخواله من السودان:
إنّي لتعرف في الحروب مواطني في آل عبس مشهدي وفعالي
منهم أبي حقّاً فهم لي والدٌ والاُمّ من حام فهم أخوالي50
قال الدكتور جواد علي: اِن صحّ هذا الشعر هو لعنترة دلّ على وقوف الجاهليين على اسم «حام» الوارد في التوراة على أنّه جدّ السودان، ولابدّ أن تكون التسمية قد وردت إلى الجاهليين عن طريق أهل الكتاب51.
وقد اختلف في موته، فذكر ابن حزم52 انّه قتله الأسد الرهيص حيّان بن عمرو بن عَميرة بن ثعلبة بن غياث بن ملقط. وقيل: إنّه كان قد أغار على بني نبهان فرماه وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع النبهاني فقطع مطاه، فتحامل بالرميّة حتّى أتى أهله فمات53.
معلّقة عنترة العبسي
البحر: الكامل. عدد الأبيات : 80 بيتاً. 5 في الأطلال. 4 في بعد الحبيبة وأثره. 3 في موكب الرحلة. 9 في وصف الحبيبة. 13 في الناقة. 46 في الفخر الشخصي . . .
يبدأ عنترة معلّقته بالسؤال عن المعنى الذي يمكن أن يأتي به ولم يسبقه به أحد الشعراء من قبل، ثمّ شرع في الكلام فقال: إنّه عرف الدار وتأكّد منها بعد فترة من الشكّ والظنّ فوقف فيها بناقته الضخمة ليؤدّي حقّها ـ وقد رحلت عنها عبلة وصارت بعيدة عنه ـ فحيّا الطلل الّذي قدم العهد به وطال...
فيقول:
هل غادر الشعراء من متردّمِ
أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ
يا دار عبلة بالجواء تكلّمي
وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
فوقفت فيها ناقتي وكأنّها
فدن لأقضي حاجة المتلوّمِ
حُيّيتَ من طللِ تقادمَ عهدهُ
أقوى وأقفر بعد اُمّ الهيثمِ
ثمّ سرد طرفاً من أسباب هيامه، فقال:
إنّها ملكت شغاف قلبه بفم جميل، أبيض الأسنان طيّب الرائحة، يفوح العطر من عوارضه:
إذ تستبيك بذي غروب واضح عذب مقبّله لذيذ المطعمِ
ثمّ قارن بين حاله وحالها; فهي تعيش منعّمة، وهو يعيش محارباً، وتمنّى أن توصله إليها ناقة قويّة لا تحمل ولا ترضع وتضرب الآثار بأخفافها فتكسرها... فقال:
تمسي وتصبح فوق ظهر حشيّة
وأبيت فوق سراة أدهم ملجمِ
وحشيتي سرج على عبل الشوى
نهد مراكله نبيل المحزمِ
ثمّ يتجّه بالحديث إلى الحبيبة يسرد أخلاقه وسجاياه قائلاً:
إن ترخي قناع وجهك دوني فإنّي خبير ماهر بمعاملة الفرسان اللابسين الدروع، وأنا كريم الخلق لين الجانب إلاّ إذا ظُلمت فعند ذلك يكون ردّي عنيفاً مرّاً:
إن تغدفي دوني القناع فإنّني
طبّ بأخذ الفارس المستلئم
أثني عليّ بما علمت فإنّني
سهل مخالقتي إذا لم اُظلمِ
فإذا ظُلمت فإنّ ظلمي باسل
مرّ مذاقته كطعم العلقمِ
ثمّ يستمرّ البطل في وصف بطولته لحبيبته، فيحثّها أن تسأل عنه فرسان الوغى الّذين شهدوه في معترك الوغى وساحات القتال ليخبروها بأنّ لعنترة من الشجاعة ما تجعله لا يهاب الموت بل يقحم فرسه في لبّة المعركة، ويقاتل، وبعد الحرب ـ وكعادة الجيش المنتصر ـ فإنّ أفراده ينشغلون بجمع الغنائم، امّا هو فيده عفيفة عن أخذ الغنائم، فقتاله لا للغنيمة وإنّما لهدف أبعد وهو أن يكسب لقومه شرف الانتصار.
ويستمرّ في مدح نفسه فيذكر في شعره معان نبيلة، وهي معان ارتفعت عنده إلى أروع صورة للنبل الخلقي حتّى لنراه يرقّ لأقرانه الّذين يسفك دماءهم، يقول وقد أخذه التأثّر والانفعال الشديد لبطشه بأحدهم:
فشككت بالرمح الطويل ثيابَهُ ليس الكريم على القنا بمحرّمِ
فهو يرفع من قدر خصمه، فيدعوه كريماً، ويقول إنّه مات ميتة الأبطال الشرفاء في ساحة القتال.
وكان يجيش بنفسه إحساس عميق نحو فرسه الّذي يعايشه ويعاشره حين تنال منه سيوف أعدائه ورماحهم، يقول مصوّراً آلامه وجروحه الجسديّة وقروحه النفسية:
فأزورّ من وَقْعِ القَنا بِلبَانهِ وشكا إليّ بعبرة وتَحَمْحُمِ
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ولكان لو عَلِمَ الكلامَ مكلِّمي
وكأنّما فرسه بضعة من نفسه.
ثمّ يختم قصيدته بأنّه يعرف كيف يسوس أمره ويصرف شؤونه، فعقله لا يغرب عنه، ورأيه محكم، وعزيمته صادقة، ولا يخشى الموت إلاّ قبل أن يقتصّ من غريمه:
ذلّل ركابي، حيث شئت مشايعي
لبّي وأحفره بأمر مبرمِ
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن










رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:22   رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الأدب :


كلمة عامة وشاملة وهو يمثل الجانب الايجابي سلوكات أي من شأنه أن يرفع من قيمة الفرد



الجاهلي :


هو كل سلوك من شأنه أن يحط من قيمة الفرد يمثل الجانب السلبي



الأدب الجاهلي :


مفهومه العام : يطلق على الفترة الزمانية 150 إلى 200 ما بلغنا من شعر ونثر في تلك الفترة



مفهومه الخاص : هو ما يتصل بالشعر والنثر حيث أن العرب قسموا كلامهم إلى شعر ونثر




وبعد التمهيد المبسط بالتعريف بالمفهومين ندخل عالم الشعر بــ :



طبقات الشعراء :


الطبقة الأولى : الشعراء الجاهليون


الطبقة الثانية : الشعراء المخضرمون


الطبقة الثالثة : الشعراء الإسلاميون


الطبقة الرابعة : الشعراء المحدثون (المولدون )




وان شاء الله سنقوم بدراسة الطبقة الأولى وهى الشعراء الجاهليون ، شعراء المعلقات



شعراء المعلقات :


امرئ القيس


عمر ابن كلثوم


زهير بن أبي سلمه


النابغة الذبياني


عنترة بن ربيعة


الحارث بن حلزة



وهناك من يضيف :



علقمة الفحل


الأعشى


النابغة الجعدي


عروة بن الورد





وبإذن الله كل مرة أقدم لكم شاعرا من هؤلاء مع عشر أبيات الأولى من معلقته وشرحها



وقبل هذا .....هذه لمحة حول مفهوم المعلقة




تعريف المعلقات :


لغة : من العلق وهو المال الذي يكرم عليه المرء ، تقول ، هذا علق مضنة وما عليه علقة إذا لم يكن عليه نياب فيها خير والعلق هو النفيس من كل شيء وفي حديث حذيفة : فما بال هؤلاء الذين يسرقون أعلاقنا ، أي نفائس أموالنا والعلق هو ما عُلِق


اصطلاحا : فالمعلقات قصائد جاهلية بلغ عددها السبع أو العشر على قول برزت فيها خصائص الجاهلي حتى عدت أفضل مابلغنا عن الجاهلين من آثار أدبية أربعة والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما فهي قصائد نفسية ذات قيمة كبيرة بلغت الذروة في اللغة وفي الخيال والفكر والموسيقى وفي نضج التجربة وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي إلى ما وصل إليه في عصر المعلقات من غزل امرئ القيس وحماس المهلهل وفخر ابن كلثوم إلا بعد أن مر بادوار ومراحل إعداد وتكوين طويل المدى




المثبتون لتعليق المعلقات :



بن عبد ربه ، ابن رشيق ، السيوطي ، ياقوت ألحمري ، ابن الكلبي ، ابن خلدون ، ...



وهناك معارضون للتعليق ومن بينهم الدكتور جواد علي الذي رفض فكرة التعليق لأمور عدة نذكر بعضها :


· 1- انه حينما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور لم يذكر وجود المعلقات أو جزء معلقة أو بيت شعر فيها


· 2- عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءها من جديد


· 3- عدم وجود من ذكر المعلقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم




امرؤالقيس



نحو (130 - 80 ق. هـ = 496 - 544م)


هو امرؤالقيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية بن ثور وهو كندة. شاعرجاهلي يعد أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده بنجد. كان أبوه ملكأسد وغطفان، ويروى أن أمّه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير أخت كليب ومهلهل ابنيربيعة التغلبيين. وليس في شعره ما يثبت ذلك، بل إنه يذكر أن خاله يدعى ابن كبشة حيث يقول:

خالي ابنُ كبشة قد علمتَ مكانه - وأبو يزيدَ ورهطُهُأعمامي

قال الشعر وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلكأباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحوالعشرين من عمره. أقام زهاء خمس سنين، ثم جعل يتنقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشربويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه، فبلغه ذلك وهو جالس للشرابفقال: رحم الله أبي! ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً،اليوم خمر وغداً أمر. وذهب إلى المنذر ملك العراق، وطاف قبائل العرب حتى انتهى إلىالسموأل، فأجاره ومكث عنده مدة، ثم قصد الحارث بن شمر الغساني في الشام، فسيرهالحارث إلى القسطنطينية للقاء قيصر الروم يوستينياس، ولما كان بأنقرة ظهرت في جسمهقروح فأقام فيها إلى أن مات.

وليس يعرف تاريخ ولادة امرئ القيس ولا تاريخوفاته، ويصعب الوصول إلى تحديد تواريخ دقيقة مما بلغنا من مصادر. وتذهب بعضالدراسات الحديثة إلى أن امرأ القيس توفي بين عام 530م. وعام 540م. وأخرى إلى أنّوفاته كانت حوالي عام 550م. وغيرها تحدّد عام 565م. إلاّ أن هناك بعض الأحداثالثابتة تاريخياً ويمكن أن تساعد على تحديد الفترة التي عاش فيها



العشر أبيات الاولى من معلقته :




قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ


فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ


تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَـا

وَقِيْعَـانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُــلِ


كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُـوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ


وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُـمُ

يَقُوْلُوْنَ لاَ تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَمَّـلِ


وإِنَّ شِفـَائِي عَبْـرَةٌ مُهْرَاقَـةٌ

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ


كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَـا

وَجَـارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَـلِ


إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَـا

نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ


فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً

عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي


ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِـحٍ

وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُـلِ



شرح العشر الابيات الاولى :


خاطب الشاعر صاحبيه ، وقيل بل خاطب واحدا وأخرج الكلام مخرج الخطاب لاثنين ، لان العرب من عادتهم إجراء خطاب الاثنين على الواحد والجمع ، فمن ذلك قول الشاعر: فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر، وأن ترعياني أحمِ عِرضاً ممنّعاً خاطب الواحد خطاب الاثنين ، وإنما فعلت العرب ذلك لان أدنى أعوان الرجل هم اثنان : راعي إبله وراعي غنمه ، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة ، فجرى خطاب الاثنين على الواحد لمرور ألسنتهم عليه ، ويجوز أن يكون المراد به : قف قف ، فإلحاق الألف إشارة الى أن المراد تكرير اللفظ كما قال أبو عثمات المازني في قوله تعالى : "قال رب أرجعون " المراد منه أرجعني أرجعني ، جعلت الواو علما مشعرا بأن المعنى تكرير اللفظ مرارا ، وقيل : أراد قفن على جهة التأكيد ، فقلب النون ألفا في حال الوصل ، لأن هذه النون تقلب ألفا في حال الوقف ، فحمل الوصل على الوقف ، ألا ترى أنك لو وقفت على قوله تعالى : "لنسفعن" قلت : لنسفعا . ومنه قول الأعشى: وصلِّ على حين العشيّات والضحى ولا تحمد المثرين واللهَ فاحمدا = أراد فاحمدَن ، فقلب نون التأكيد ألفا ، يقال يكى يبكي بكاء وبكى ، ممدودا ومقصورا ، أنشد ابن الأنباري لحسان بن ثابت شاهدا له: بكت عيني وحق لها بكاها، وما يعني البكاء ولا العويل فجمع بين اللغتين ، السقط : منقطع الرمل حيث يستدق من طرفه ، والسقط أيضا ما يتطاير من النار ، والسقط أيضا المولود لغير تمام ، وفيه ثلاث لغات :سَقط وسِقط وسُقط في هذه المعاني الثلاثة ، اللوى:رمل يعود ويلتوي ، الدخول وحومل: موضعان . يقول : قفا وأسعداني وأعيناني ، أو : قف وأسعدني على البكاء عند تذكري حبيباً فارقته ومنزلا خرجت منه ، وذلك المنزل أو ذلك الحبيب أو ذلك بمنقطع الرمل المعوج بين هذين الموضعين



والجمع أرسم ورسوم ، وشمال ، فيها ست لغات : شمال وشمال وشأمل وشمول وشَمْل و شَمَل ، نسج الريحين: اختلافهما عليها وستر إحداهما إياها بالتراب وكشف الأخرى التراب عنها . وقيل : بل معناه لم يقتصر سبب محوها على نسج الريحين بل كان له أسباب منها هذا السبب ، ومر السنين ، وترادف الامطار وغيرها . وقيل : بل معناه لم يعف رسم حبها في قلبي وإن نسجتها الريحان . والمعنيان الاولان أظهر من الثالث ، وقد ذكرها كلها ابن الانبارى


الآرآم : الظباء البيض الخالصة البياض ، وأحداهما رئم ، بالكسر ، وهي تسكن الرمل ، عرصات (في المصباح) عرصة الدار : ساحتها ، وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء ، والجمع عراص مثل كلبة الكلاب ، وعرصات مثل سجدة وسجدات ،وعن الثعالبي : كل بقعة ليس فيها بناء فهي عرصة ، و(في التهذيب) : سميت ساحة الدار عرصة لأن الصبيان يعرصون فيها أي يلعبون ويمرحون ؛ قيعان : جمع قاع وهو المستوي من الأرض ، وقيعة مثل القاع ، وبعضهم يقول هو جمع ، وقاعة الدار : ساحتها ، الفلفل قال في القاموس : كهدهد وزبرج ، حب هندي . ونسب الصاغاني الكسر للعامة : و(في المصباح) ، الفلفل: بضم الفاءين ، من الأبرار ، قالوا : لايجوز فيه الكسر . يقول الشاعر : انظر بعينيك تر ديار الحبيبة التي كانت مأهولة بأهلها مأنوسة بهم خصبة الأرض كيف غادرها أهلها وأقفرت من بعدهم أرضها وسكنت رملها الظباء ونثرت في ساحتها بعرها حتى تراه كأنه حب الفلفل . في مستوى رحباتها




غداة : (في المصباح) ، الغداة : الضحوة ، وهي مؤنثة ، قال ابن الأنباري . ولم يسمع تذكيرها ، ولو حملها حامل على معنى أول النهار جاز له التذكير ، والجمع غدوات ، البين : الفرقة ، وهو المراد هنا ، وفي القاموس : البين يكون فرقة ووصلا ، قال الشارح : بأن يبين بينا وبينونة ، وهو من الأضداد ، اليوم : معروف ، مقدارة من طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يراد باليوم والوقت مطلقا ، ومنه الحديث : "تلك أيام الهرج" أي وقته ، ولا يختص بالنهار دون الليل ، تحملوا واحتملوا : بمعنى : ارتحلوا ، لدي : بمعنى عند ، سمرات ، بضم الميم : من شجر الطلح ، الحي: القبيلة من الأعراب ، والجمع أحياء ، نقف الحنظل : شقة عن الهبيد ، وهو الحب ، كالإنقاف والانتفاف ، وهو ، أي الحنظل ، نقيف ومنقوف ، وناقفة وهو الذي يشقه . والشاعر يقول : كأني عند سمرات الحي يوم رحيلهم ناقف حنظل ، يريد ، وقفت بعد رحيلهم في حيرة وقفة جاني الحنظلة ينقفها بظفره ليستخرج منها حبها


نصب وقوفا على الحال ، يريد ، قفا نبك في حال وقف أصحابي مطيتهم علي ، والوقوف جمع واقف بمنزلة الشهود والركوع في جمع شاهد وراكع ، الصحب : جمع صاحب ، ويجمع الصاحب على الأصحاب والصحب والصحاب والصحابة والصحبة والصحبان ، ثم يجمع الأصحاب على الأصاحيب أيضا ، ثم يخفف فيقال الأصاحب ، المطي : المراكب ، واحدتها مطية ، وتجمع المطية على المطايا والمطي والمطيات ، سميت مطية لأنه يركب مطاها أي ظهرها ، وقيل : بل هي مشتقة من المطو وهو المد في السير ، يقال : مطاه يمطوه ، فسميت الرواحل به لانها تمد في السير ، نصب الشاعر أسى على أنها مفعول له. يقول : لقد وقفوا علي ، أي لاجلي أو على رأسي وأنا قاعد ، رواحلهم ومراكبهم ، يقول لي : لا تهلك من فرط الحزن وشدة الجزع وتجمل بالصبر . وتلخيص المعنى : انهم وقفوا عليه رواحلهم يأمرونه بالصبر وينهونه عن الجزع


المهراق والمراق: المصبوب ، وقد أرقت الماء وهرقته وأهرقته أي صببته ، المعول : المبكى ، وقد أعول الرجل وعول إذا بكى رافعا صوته به ، والمعول : المعتمد والمتكل عليه أيضا ، العبرة : الدمع ، وجمعها عبرات ، وحكى ثعلب في جمعها العبر مثل بدرة وبدر. يقول : وإن برئي من دائي ومما أصابنى وتخلصي مما دهمني يكون بدمع أصبه ، ثم قال : وهل من معتمد ومفزع عند رسم قدر درس ، أو هل موضع بكاء عند رسم دارس ؟ وهذا استفهام يتضمن معنى الإنكار ، والمعنى عند التحقيق : ولا طائل في البكاء في هذا الموضع ، لأنه لا يرد حبيبا ولا يجدى على صاحبه خيراً، أو لا أحد يعول عليه ويفزع إليه في هذا الموضع . وتلخيص المعنى : وإن مخلصي مما بي هو بكائي . ثم قال : ولا ينفع البكاء عند رسم دارس


الدأب والدأب ، بتسكين الهمزة وفتحها : العادة ، وأصلها متابعة العمل والجد في السعي ، يقال : دأب يدأب دأبا ودئابا ودؤوبا ، وأدأبت السير : تابعته ، مأسل ، بفتح السين: جبل بعينه ، ومأسل ، بكسر السين : ماء بعينه ، والرواية فتح السين. يقول عادتك في حب هذه كعادتك من تينك ، أي قلة حظك من وصال هذه ومعاناتك الوجد بها كقلة حظك من وصالها ومعاناتك الوجد بهما ، قبلها أي قبل هذه التي شغفت بها الآن


ضاع الطيب وتضوع ؛ انتشرت رائحته ، الريا : الرائحة الطيبة. يقول : إذا قامت أم الحويرث وأم الرباب فاحب ريح المسك منهما كنسيم الصبا إذا جاءت بعرف القرنفل ونشره . شبه طيب رياهما بطيب نسيم هب على قرنفل وأتى برياه ، ثم لما وصفهما بالجمال وطيب النشر وصف حاله بعد بعدهما


الصبابة ، رقة الشوق ،وقد صب الرجل يصب صبابة فهو صب ، والأصل صبب فسكنت العين وأدغمت في اللام ، والمحمل : حمالة السيف، والجمع المحامل ،والحمائل جمع الحمالة . يقول : فسالت دموع عيني من فرط وجدي بهما وشدة حنيني إليهما حتى بل دمعي حمالة سيفي . نصب صبابة على أنه مفعول له كقولك : زرتك طمعا في برك ، قال الله تعالى : " من الصواعق حذر الموت "، أي لحذر الموت ، وكذلك زرتك للطمع في برك ، وفاضت دموع العين مني للصبابة

في رب لغات : وهي ، رُبْ ورُبَ ورُبُ ورَبَ ، ثم تلحق التاء فتقول : ربة وربت ، ورب : موضوع في كلام العرب للتقليل ، وكم : موضوع للتكثير ، ثم ربما حملت رب على كم في المعني فيراد بها التكثير ، وربما حملت كم على رب في المعني فيراد بها التقليل . ويروى ؛ ألا رب "يوم" كان منهن صالح ، والسي : المثل ، يقال : هما سيان أم مثلان . ويجوز في يوم الرفع والجر ، فمن رفع جعل ما موصولة بمعني الذي ، والتقدير : ولا سيّ اليوم الذي هو بدارة جلجل ، ومن خفض جعل ما زائدة وخفضه بإضافة سي إليه فكأنه قال : ولا سي يومأي ولا مثل يوم دارة جلجل ، وهو غدير بعينه . يقول : رب يوم فزت فيه بوصال النساء وظفرت بعيش صالح ناعم منهن ولا يوم من تلك الأيام مثل يوم دارة جلجل ، يريد أن ذلك اليوم كان أحسن الأيام وأتمها ، فأفادت ولا سيما التفضيل والتخصيص

هذا تفصيل عن امرؤ القيس وحياته









رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:23   رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عنترة بن شداد



نحو (... - 22 ق. هـ = ... - 601م)



هو عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن مخزوم بن ربيعة، وقيل بن عمرو بن شداد، وقيل بن قراد العبسي، على اختلاف بين الرواة. أشهر فرسان العرب في الجاهلية ومن شعراء الطبقة الولى. من أهل نجد. لقب، كما يقول التبريزي، بعنترة الفلْحاء، لتشقّق شفتيه. كانت أمه أَمَةً حبشية تدعى زبيبة سرى إليه السواد منها. وكان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفساً، يوصف بالحلم على شدة بطشه، وفي شعره رقة وعذوبة. كان مغرماً بابنة عمه عبلة فقل أن تخلوله قصيدة من ذكرها. قيل أنه اجتمع في شبابه بامرئ القيس، وقيل أنه عاش طويلاً إلى أن قتله الأسد الرهيفي أو جبار بن عمرو الطائي.
وتعدّدت الروايات في وصف نهايته، فمنها: أنّ عنترة ظل ذاك الفارس المقدام، حتى بعد كبر سنه وروي أنّه أغار على بني نبهان من طيء، وساق لهم طريدة وهو شيخ كبير فرماه
- كما قيل عن ابن الأعرابي- زر بن جابر النبهاني قائلاً: خذها وأنا ابن سلمى فقطعمطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله ، فقال وهو ينزف: وإن ابنَ سلمى عنده فاعلموادمي- وهيهات لا يُرجى ابن سلمى ولا دمي
رماني ولم يدهش بأزرق لهذَمٍ- عشيّةحلّوا بين نعْقٍ ومخرَم
وخالف ابن الكلبي فقال: وكان الذي قتله يلقب بالأسدالرهيص. وفي رأي أبي عمرو الشيباني أنّ عنترة غزا طيئاً مع قومه، فانهزمت عبس، فخرّعن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب، فدخل دغلا وأبصره ربيئة طيء، فنزل إليه،وهاب أن يأخذه أسيراً فرماه فقتله. أما عبيدة فقد ذهب إلى أن عنترة كان قد أسنّواحتاج وعجز بكبر سنّه عن الغارات، وكان له عند رجل من غطفان بكر فخرج يتقاضاهإيّاه فهاجت عليه ريح من صيف- وهو بين ماء لبني عبس بعالية نجد يقال له شرج آخر لهم يقال لها ناظرة- فأصابته فقتلته



العشر أبيات الاولى :




هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَـرَدَّمِ أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ

أَعْيَاكَ رَسْمُ الدَّارِ لَمْ يَتَكَلَّـمِ حَتَّى تَكَلَّمَ كَالأَصَـمِّ الأَعْجَـمِ

وَلَقَدْ حَبَسْتُ بِهَا طَوِيلاً نَاقَتِي أَشْكُو إلى سُفْعٍ رَوَاكِدِ جثَّـمِ

يَا دَارَ عَبْلَـةَ بِالجَوَاءِ تَكَلَّمِي وَعِمِّي صَبَاحَاً دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلَمِي

دَارٌ لآنِسَةٍ غَضِيْضٍ طَرْفُـهَا طَوْعَ العِناقِ لذيـذةِ المُتَبَسَّـمِ

فَوَقَفْتُ فِيهَا نَاقَتِي وَكَأنَّـهَا فَدَنٌ لأَقْضِي حَاجَـةَ المُتَلَـوِّمِ

وَتَحُلُّ عَبْلَـةُ بِالجَـوَاءِ وَأَهْلُنَـا بِالْحَـزْنِ فَالصَّمَـانِ فَالمُتَثَلَّـمِ

حُيِّيْتَ مِنْ طَلَلٍ تَقادَمَ عَهْدُهُ أَقْوَى وَأَقْفَـرَ بَعْدَ أُمِّ الهَيْثَـمِ

حَلَّتْ بِأَرْضِ الزَّائِرِينَ فَأَصْبَحَتْ عَسِرَاً عَلَيَّ طِلاَبُكِ ابْنَـةَ مَخْرَمِ

عُلِّقْتُهَا عَرَضَاً وَاقْتُـلُ قَوْمَهَا زَعْمَاً لَعَمْرُ أَبِيكَ لَيْسَ بِمَزْعَـمِ

وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلا تَظُنِّـي غَيْرَهُ مِنِّي بِمَنْزِلَـةِ المُحِبِّ المُكْـرَمِ






مناسبة القصيدة :




لعنترة ديوان طبع طبعات مختلفة ومن طبعاته تلك التي حققها عبد المنعم شلبي وكتب مقدمتها إبراهيم الابياري ونشرتها المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة بدون تاريخ إن اغلب شعره في الوصف والحماسة والفخر وبعضه في الغزل واقله في الهجاء وذروته شعر المعلقة ولنظمها سبب يتصل بأصل عنترة إذا انتزع الشاعر الفارس إقرار أبيه بنسبه انتزاعا وبقى عليه انتزاع إقرار الناس بملكاته وحدث أن شتمه رجل من عبس وعيره بلونه فرد عليه عنترة قائلا :


إني لاحتضر البأس وأوافي المغنم .....وأعف عن المسألة وأجود بما ملكت يدي



فقال له الرجل أنا اشعر منك فرد عليه عنترة ستعلم دلك وانشد معلقته وفيها دليل على عبقريته في نظمها على الكامل وجعل رويها الميم وهي في شرح القز ويني 74 بيت وفي غيره من الكتب 75بيت





شرح الأبيات العشر الاولى :




المعلقة من حيث المبني :




إن المتمعن في المقطع الأول من المعلقة يجدها تعبر عن البكاء والدموع والذكريات التي حوتها الليالي وهي كذلك تعبر عن الألم العمى في نفسية الشاعر وهده عادة الشعراء الجاهليين


بدا عنترة معلقته بالوقوف على الأطلال والتسليم عليها والجزع لفراق الأحبة ووصف الديار المقفرة بعد رحيل أهلها عنها وهو ما نجده في الأبيات 08 الأولى إذ يقول فيها :




........



بغض النظر عن هده المقدمة الطلالية هناك أبيات يتحدث فيها الشاعر عن عشقه لعبلة ويأسه من فراقها فراح يشكو الصد والبعد ثم أشار إلى تبعه أخبارها وافتتانه بحبها وابتسامتها والتفاتتها إلا أن تغزل عنترة بعبلة نمط آخر من الغزل وهو الغزل العفيف الحب العذري كما برع عنترة في غرض الوصف وأطال فمن شدة حبه لجواده بلغ به المقام إلى التحليل النفسي وانتقل من التأدب و المصانعة في مخاطبة الأدهم إلى المشاركة الوجدانية


لقد صبر الأدهم عن الألسنة الوالغة في جلده ولحمه غادية رائعة في صدره كحبال البئر صاعدة هابطة ولم يخذل عنترة ولكن عنترة أحس بها في نفسه من شكوى مكظومة وألم حبيس إذ يقول :


يدعونا عنترة والرماح كأنما .......أشطان بئر لبان الأدهم


مازلت ارميهم نعرة اشتكي ...ولو كان لو علم الكلام مكلم



كما نجده يصف الحرب ومجرياتها وبلائه الحسن فيها ، ثم ينتقل إلى غرض الفخر وبما أن عنترة كان عاجزا عن مجارات سادة عبس لنسبه وأمجاده التالية فهو قادر على قهرهم بقوة الساعد ومضاء السيف من القوة الأنسب لها وزيدت الختام أن عنترة اطلع على الفخر الفردي نزعة واقعية وتتمثل في تقدير الخلق الكريم والقويم والعمل النافع والأمجاد الموروثة




من حيث المبنى :




1- نغم موسيقي رشيق تخلل كل القصيدة فاستعمل بحر الكامل الذي يتلاءم والأغراض الموجودة في القصيدة ولو كان يجزي والمحاورة اشتكى ولو كان لو علم الكلام مكلم


2- البناء متين شأنه شأن الشعراء الجاهلين المنظومين على القوة في التعيير والبلاغة نجده مثلا استعمل المقاطع تعبيرا عن آلمه وحزنه فيها يقول متردم ، رسم ، الدار ، أما حين راح يستعطف عبلة ويتذكر الذكريات الخالية قد استعمل مفردات ذات الحروف الخفيفة التي تحمل في طياتها معاني الود والشوق وظف


3- وظ الشاعر الكثير من الصور البيانية تعبيرا عن جمال الطبيعة وكذلك في وصف جوداه في قوله


4-و:ان قارة تاجر قسيمة ........سبقت عوارضها البك من الفم




زهير بن أبي سلمى





(... - 13 ق. هـ = ... - 609 م)








هو زهير بن أبي سُلمى ربيعةبن رباح بن قرّة بن الحارث بن إلياس بن نصر بن نزار، المزني، من مضر. حكيم الشعراءفي الجاهلية، وفي أئمة الأدب من يفضله على شعراء العرب كافة. كان له من الشعر ما لميكن لغيره، ولد في بلاد مزينة بنواحي المدينة، وكان يقيم في الحاجر من ديار نجد،واستمر بنوه فيه بعد الإسلام. قيل كان ينظم القصيدة في شهر ويهذبها في سنة، فكانتقصائده تسمى الحوليات. إنه، كما قال التبريزي، أحد الثلاثة المقدمين على سائرالشعراء، وإنما اختلف في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه، والآخران هما امرؤ القيسوالنّابغة الذبياني. وقال الذين فضّلوا زهيراً: زهير أشعر أهل الجاهلية



مناسبة قصيدة زهير بن ابي سلمة





هناك حوادث هامة أثرت في حياة زهير وصقلت موهبته منها الشعرية


حرب الداحس والغبراء : لما شب زهير كانت الحرب دائرة الرحى بين عبس وذبيان وطال بها الأمد


زوجته أم أوفى : وهي مناط غزله في معلقته بها افتتح قصيدته المطولة مما يدل على انه كان يحبها فذكر ديارها وبكى أطلالها ولكن الأقدار شاءت إن يموت أولاده فتزوج امرأة أخرى


وفاة ابنه سالم : يروى أن كان جميل المنظر وسيمة الطلعة رثاه والده في بعض الأبيات متأثرا بفراقه.


نظم زهير قصيدته استجابة لموقف هرم بن سنان والحارث بن عوف حيث مدحهما بصنيعهما وسعيهما في حقن الدماء وتحملهما ديات القتلى من القبيلتين عبس وذبيان ، دامت هذه الحرب 40 سنة ولم يقصد زهير بشعره تكسبا وإنما اعترافا منه بالفضل





مضمون المعلقة من حيث المعنى :




إن الناظر لمعلقة زهير بن أبي سلمه يجد أن هذا الأخير وقف في أبياته على جوانب عديدة إذ استطاع إن يحقق لصنعة الشعر في العصور القديمة كل ما يمكن من تجويد ، فالشعر عنده حرفة وقد اعتمد على الكثير من الأغراض ، إذ استهل معلقته كعادة الجاهلين بذكر الديار والوقوف على الآثار وهذا ما نستخلصه في البيت الأول ...من البيت 01 إلى 05


شرحها : في هذه الأبيات يصف الشاعر ديار أم أوفى فيقول أنها أصبحت كالوشم في المعصم ، والمعصم هو موضع السوار من اليد ، أما في البيت الثاني من الآبيات الأربعة يقول بهذه الديار بقر وحشي واسعات العيون وضباي يمشين خلفه ( تتابع ) أما البيتين الثالث والرابع فيقول وفقت بدار آم أوفى عشرين عام وعرفت دارها بعد جهد ومشقة ( توهم ) فلما عرفت الدار قلت مجيبا إياها طاب عيشك في صباحك ثم ينتقل الشاعر إلى نظم المعلقة وهو الإشادة الحميدة بالسيدين هرم بن سنان والحارث بن عوف



وهذه الآبيات التي قالها مشيدا بهما :



فأقسمت بالبيت الذي طاق حوله ...رجال بنوه من قريش وجرهم


يمينا لنعم السيدان وجدتما ....على كل حال من سحيل ومبرم


تداركتما عبسا وذبيان بعدما ....تفاونوا ودقوا بينهم عطر منشم


نجد بغض النظر عن الأغراض الأخرى غرض الحكمة في قوله :


سأمت تأليف الحياة ومن يعش ....ثمانين حولا لا أبا لك يسأم


رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ...تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم


ومن لم يصانع في أمور كثيرة ...يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم




مضمون القصيدة من حي المبنى :



للمعنى علاقة وثيقة بالمبنى وانطلاقا لما شرحناه نكتشف مضمون القصيدة من حيث المبنى


كما جاءت ألفاظ الشاعر زهير متناسقة الألفاظ واضحة المعاني دقيقة بحيث تمكن زهير من إشراكنا شعوريا في رحلته فيها من تعب ، واعتمد على نغمة موسيقية تحت تفعيلات البحر الطويل


فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن















رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:24   رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

معلقة عمرو بن كلثوم





عمرو بن كلثوم هو من قبيلة تغلب كان أبوه كلثوم سيد تغلب و أمه ليلى بنت المهلهل المعروف ( بالزير ) و في هذا الجو من الرفعة

و السؤدد نشأ الشاعر شديد الإعجاب بالنفس و بالقوم أنوفاً عزيز الجانب ، فساد قومه و هو في الخامسة عشرة من عمره تقع
معلقة ابن كلثوم في ( 100 ) بيت أنشأ الشاعر قسماً منها في حضرة عمرو بن هند ملك الحيرة و كانت تغلب قد انتدبت الشاعر للذود عنها
حين احتكمت إلى ملك الحيرة ، لحل الخلاف الناشب بين قبيلتي بكر و تغلب ، و كان ملك الحيرة ( عمرو بن هند ) أيضاً .
مزهواً بنفسه و قد استشاط عضباً حين وجد أن الشاعر لا يقيم له ورناً و لم يرع له حرمة و مقاماً فعمد إلى حيلة يذله بها فأرسل ( عمرو بن هند ) إلى عمرو بن كلثوم ( يستزيره )
و أن يزير معه أمه ففعل الشاعر ذلك و كان ملك الحيرة قد أوعز إلى أمه أن تستخدم ليلى أم الشاعر و حين طلبت منها أن تناولها الطبق قالت ليلى : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها . . . . ثم صاحت ( واذلاه ) يالتغلب ! فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم فوثب إلى سيف معلق بالرواق
فضرب به رأس عمرو بن هند ملك الحيرة و على إثر قتل الملك نظم الشاعر القسم الثاني من المعلقة و زاده عليها .
( و هي منظومة على البحر الوافر ) و من أطرف ما ذكر عن المعلقة أن بني تغلب كباراً و صغاراً كانوا يحفظونها و يتغنون بها




زمناً طويلاً . توفي الشاعر سنة نحو ( 600 ) للميلاد بعد أن سئم الأيام و الدهر.





الأبيات العشر من معلقته :






1- أَلا هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبَحينا ............. وَلا تُبْقِي خُمورَ الأَندَرِينا



2- مُشَعْشَعَةً كانَّ الحُصَّ فيها ....... إِذا ما الماءُ خالَطَها سَخِينا




3- تَجُورُ بذي اللُّبَانَةِ عَنْ هَوَاهُ .......... إِذا مَا ذاقَها حَتَّى يَلِينا




4- تَرَى الّلحِزَ الشّحيحَ إِذا أُمِرَّتْ ............ عَلَيْهِ لمِالِهِ فيها مُهينا




5- صَبَنْتِ الْكَأْسَ عَنّا أُمَّ عَمْرٍو ...... وكانَ الْكَأْسُ مَجْراها الْيَمِينا




6- وَمَا شَرُّ الثّلاثَةِ أُمَّ عَمْروٍ ............ بِصاحِبِكِ الّذِي لا تصْبَحِينا




7- وَكَأسٍ قَدْ شَرِبْتُ بِبَعْلَبَكِّ ...... وَأُخْرَى في دِمَشْقَ وَقَاصِرِينا




8- وَإِنَّا سَوْفَ تُدْرِكُنا الَمنَايَا ................ مُقَدَّرَةً لَنا وَمُقَدِّرِينا




9- قِفِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ظَعِينا ............ نُخَبِّرْكِ الْيَقِينَ وَتُخْبِرِينا








10- قِفِي نَسْأَلْكِ هَلْ أَحْدَثْتِ صِرْماً .... لِوَ شْكِ الْبَيْنِ أَمْ خُنْتِ اْلأَمِينَا





شرح الأبيات العشر :




هب من نومه يهب هبا : إذا استيقظ ، الصحن : القدح العظيم والجمع الصحون ، الصبح: سقي الصبوح ، والفعل صبح يصبح ، أبقيت الشيء وبقيته بمعنى ، الأندرون : قرى بالشام يقول : ألا استيقظي من نومك أيتها الساقية واسقيني الصبوح بقدحك العظيم ولا تدخري خمر هذه القرى



شعشعت الشراب : مزجته بالماء ، الحص : الورس ، وهونبت في نوار أحمر يشقه الزعفران . ومنهم من جعل سخينا صفة ومعناه الحار ، من سخن يسخن سخونة ، ومنهم من جعله فعلا من سخي يسخى سخاء ، وفيه ثلاث لغات : إحداهن ما ذكرنا ، والثانية سخو يسخو ، والثالثة سخا يسخو سخاوة يقول : اسقنيها ممزوجة بالماء كأنها من شدة حمرتها بعد امتزاجها بالماء ألقي فيها نور هذا النبت الأحمر ، وإذا خالطها الماء وشربناها وسكرنا جدنا بعقائل أموالنا وسمحنا بذخائر أعلاقنا ، هذا إذا جعلنا سخينا فعلا وإذا جعلناه صفة كان المعنى : كأنها حال امتزاجها بالماء وكون الماء حارا نور هذا النبت . ويروي شحينا ، بالشين المعجمة ، أي إذا خالطها الماء مملوءة به . والشحن : الملء ، والفعل شحن يشحن ، والشحين بمعنى المشحون كالقتيل بمعنى المقتول ، يريد أنها حال امتزاجها بالماء وكون الماء كثيرا تشبه هذا النور



يمدح الخمر ويقول : انها تميل صاحب الحاجة عن حاجته وهواه إذا ذاقها حتى يلين ، أي إنها تنسي الهموم والحوائج أصحابها فاذا شربوها لانوا ونسوا أحزانهم وحوائجهم




اللحز : الضيق الصدر ، الشحيح البخيل الحريص ، والجمع الأشحة الأشحاء ، الشحاح أيضا مثل الشحيح ، والفعل شح يشح والمصدر الشح وهو البخل معه حرص يقول : ترى الانسان الضيق الصدر البخيل الحريص مهينا لماله فيها ، أي في شرائها ، إذا أمرت الخمر عليه ، أي إذا أديرت عليه



الصبن : الصرف ، والفعل صبن يصبن يقول : صرفت الكأس عنا يا أم عمرو وكان مجرى الكأس على اليمين فأجريتها على اليسار



يقول : ليس بصاحبك الذي لا تسقينه الصبوح هو شر هؤلاء الثلاثة الذين تسقيهم ، أي لست شر أصحابي فكيف أخرتني وتركت سقيي الصبوح



يقول : ورب كأس شربتها بهذه البلدة ورب كأس شربتها بتينك البلدتين



يقول : سوف تدركنا مقادير موتنا وقد قدرت تلك المقادير لنا وقدرنا لها ، المنايا : جمع المنية وهي تقدير الموت



أراد يا ظعينة فرخم ، والظغينة : المرأة في الهودج ، سميت بذلك لظعنها مع زوجها ، فهي ، فعيلة بمعنى فاعلة ، ثم أكثر استعمال هذا الأسم للمرأة حتى يقال لها ظعينة وهي في بيت زوجها يقول : فقي مطيتك أيتها الحبيبة الظاعنة نخبرك بما قاسينا بعدك وتخبرينا بما لاقيت بعدنا



الصرم : القطيعة ، الوشك : السرعة ، والوشيك : السريع ، الأمين : بمعنى المأمون يقول : فقي مطيتك نسألك هل أحدثت قطيعة لسرعة الفراق أم هل خنت حبيبك الذي نؤمن خيانته ؟ أي هل دعتك سرعة الفراق إلى القطيعة أو الخيانة في مودة من لا يخونك في مودته إياك





معلقة طرفة بن العبد




هو عمرو بن العبد الملقب ( طرفة ) من بني بكر بن وائل ، ولد حوالي سنة 543 في البحرين من أبوين شريفين

و كان له من نسبه ما يحقق له هذه الشاعرية فجده و أبوه و عماه المرقشان و خاله المتلمس
كلهم شعراء مات أبوه و هو بعد حدث فكفله أعمامه إلا أنهم أساؤوا تريبته و ضيقوا عليه فهضموا
حقوق أمه و ما كاد طرفة يفتح عينيه على الحياة حتى قذف بذاته في أحضانها يستمتع بملذاتها فلها و سكر و لعب
و أسرف فعاش طفولة مهملة لاهية طريدة راح يضرب في البلاد حتى بلغ أطراف جزيرة العرب ثم عاد إلى قومه
يرعى إبل معبد أخيه ثم عاد إلى حياة اللهو بلغ في تجواله
بلاط الحيرة فقربه عمرو بن هند فهجا الملك فأوقع الملك به مات مقتولاً و هو دون الثلاثين من عمره سنة 569 . من آثاره : ديوان شعر أشهر ما فيه المعلقة
نظمها الشاعر بعدما لقيه من ابن عمه من سوء المعاملة و ما لقيه من ذوي قرباه من الاضطهاد في المعلقة ثلاثة أقسام كبرى
( 1 ) القسم الغزالي من ( 1 ـ 10 ) ـ ( 2 ) القسم الوصفي ( 11 ـ 44 ) ـ ( 3 ) القسم الإخباري ( 45 ـ 99 ) .
و سبب نظم المعلقة ( إذا كان نظمها قد تم دفعة واحدة فهو ما لقيه من ابن عمه من تقصير و إيذاء و بخل و أثرة و التواء عن المودة
و ربما نظمت القصيدة في أوقات متفرقة فوصف الناقة الطويل ينم على أنه وليد التشرد و وصف اللهو و العبث يرجح أنه نظم
قبل التشرد و قد يكون عتاب الشاعر لابن عمه قد نظم بعد الخلاف بينه و بين أخيه معبد . شهرة المعلقة و قيمتها : بعض النقاد
فضلوا معلقة طرفة على جميع الشعر الجاهلي لما فيها من الشعر الإنساني ـ العواصف المتضاربة ـ الآراء في الحياة ـ و الموت
جمال الوصف ـ براعة التشبيه ، و شرح لأحوال نفس شابة و قلب متوثب . في الخاتمة ـ يتجلى لنا طرفة شاعراً جليلاً من فئة
الشبان الجاهليين ففي معلقته من الفوائد التاريخية الشيء الكثير كما صورت ناحية واسعة من أخلاق العرب الكريمة و تطلعنا
على ما كان للعرب من صناعات و ملاحة و أدوات ... و في دراستنا لمعلقته ندرك ما فيها من فلسفة شخصية
و من فن و تاريخ



الأبيات العشر من معلقته :






1-لخِولة أَطْلالٌ بِيَرْقَةِ ثَهْمَدِ ........... تَلُوحُ كَبَاقي الْوَشْمِ في طَاهِرِ الْيَدِ


2 - وُقُوفاً بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مطِيَّهُمْ ......... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَلَّدِ

3 -كأنَّ حُدُوجَ الَمْالِكِيَّةِ غُدْوَةً ............. خَلا يا سَفِين بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ

4 -عَدُو لِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ ......... يَجُوز بُهَا الْمّلاحُ طَوراً وَيَهْتَدِي

5 -يَشُقُّ حَبَابَ الَماءِ حَيْزُ ومُها بها ......... كما قَسَمَ التِّرْبَ الْمَفايِلُ باليَدِ

6 -وفِي الَحيِّ أَخْوَى يَنْفُضُ المرْ دَشادِنٌ ......... مُظَاهِرِ سُمْطَيْ لُؤْلؤٍ وَزَبَرْجَدِ

7 -خَذُولٌ تُراعي رَبْرَباً بِخَميلَةٍ ............... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الَبريرِ وَتَرْتَدِي

8 - وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمى كأَنَّ مُنَوّراً ........... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٍ لَهُ نَدِ

9 -سَقَتْهُ إِيَاُة الشَّمْس إِلا لِثَاتِهِ ............. أُسِفّ وَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمدِ


10 -وَوَجْهٌ كأنَّ الشَّمْسَ أَلفَتْ رِداءَهَا ......... عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ


شرح العشر ابيات :



خولة : اسم امرأة كلبية ، الطلل : ماشخص من رسوم الدار ، والجمع أطلال وطلول ، البرقة والأبرق والبرقاء : مكان اختلط ترابه بحجارة أو حصى ، والجمع الأبارق والبراق والبرق ، ثهمد : موضع ، تلوح : تلمع ، واللوح اللمعان ، الوشم : غرز ظاهر اليد وغيره بإبرة وحشو المغارز بالكحل أو النقش بالنيلج ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله الواشمة والمستوشمة " يقول : لهذه المرأة أطلال ديار بالموضع الذي يخالط أرضه حجارة وحصى من ثهمد فتلمع تلك الأطلال لمعان بقايا الوشم في ظاهر الكف


تفسير البيت هنا كتفسيره في قصيدة أمرىء القيس ، التجلد : تكلف الجلادة ، أي التصبر


الحدج : مركب من مراكب النساء ، والجمع حدوج وأحداج ، المالكية : منسوبة إلى بني مالك قبيلة من كلب ، الخلايا: جمع الخلية وهي السفينة العظيمة ، السفين : جمع سفينة ، النواصف : جمع الناصفة ، وهي أماكن تتسع من نواحي الأودية مثال السكك وغيرها ، دد ، قيل : هو اسم واد في هذا البيت ، وقيل دد مثل يد ، يقول : كأن مراكب العشيقة المالكية غدوة فراقها بنواحي وادي دد سفن عظام . شبه الشاعر الإبل و عليها الهوادج بالسفن العظام ، وقيل : بل حسبها سفنا عظاما من فرط لهوه وولهه ، إذا حملت ددا على اللهو ، وإن حملته على أنه واد بعينه فمعناه على القول الأول

عدولي : قبيلة من أهل البحرين ، وابن يامن : رجل من أهلها ، الجور : العدول عن الطريق ، والباء للتعدية ، الطور : التارة ، والجمع الأطوار يقول : هذه السفن التي تشبهها هذه الإبل من هذه القبيلة أو من سفن هذا الرجل ، الملاح يجريها مرة على استواء واهتداء ، وتارة يعدل بها فيميلها عن سنن الاستواء ، وكذلك الحداة تارة يسوقون هذه الإبل على سمت الطريق ، وتارة يميلها عن الطريق ليختصروا المسافة ، وخص سفن هذه القبيلة وهذا الرجل لعظمها وضخمها ثم شبه سوق الإبل تارة على الطريق وتارة على غير الطريق بإجراء الملاح السفينة مرة على سمت الطريق ومرة عادلا عن ذلك السمت
حباب الماء : أمواجه ، الواحدة حبابة ، الحيزوم : الصدر ، والجمع : الحيازم ، الترب والتراب والترباء والتورب والتيراب والتوراب واحد ، الفيال : ضرب من اللعب ، وهو أن يجمع التراب فيدفن فيه شيء، ثم يقسم التراب نصفين ، ويسأل عن الدفين في أيهما هو ، فمن أصاب فسمر ومن أخطأ فمر ، يقال : فايل هذا الرجل يفايل مفايلة وفيالا إذا لعب بهذا الضرب من اللعب . شبه الشاعر شق السفن الماء بشق المفايل التراب المجموع بيده
الأحوى : الذي في شفتيه سمرة ، يقال : حوي الفرس مال إلى السواد ، فعلى هذا شادن صفة أحوى ، وقيل بدل من أحوى ، وينفض المرد صفة أحوى ، الشادن : الغزال الذي قوي واستغني عن أمه ، المظاهر : الذي لبس ثوبا فوق ثوب أو درعا فوق درع ، السمط : الخيط الذي نظمت فيه الجواهر ، والجمع سموط يقول : وفي الحي حبيب يشبه ظبيا أحوى في كحل العينين وسمرة الشفتين في حال نفض الظبي ثمر الأراك لأنه يمد عنقه في تلك الحال ، ثم صرح بأنه يريد إنسانا ، وقال قد لبس عقدين أحدهما من اللؤلؤ والآخر من الزبرجد ، شبهه بالظبي في ثلاثة أشياء : في كحل العينين وحوة الشفتين ، وحسن الجيد ، ثم أخبر أنه متحل بعقدين من لؤلؤ وزبرجد

خذول : أي خذلت أولادها ، تراعي ربربا: أي ترعى معه ، الربرب : القطيع من الظباء وبقر الوحش ، الخميلة : رملة منبتة ، البرير: ثمر الأراك المدرك البالغ ، الواحدة بريرة ، الارتداء والتردي : لبس الدراء يقول : هذه الظبية التي اشبهها الحبيب ظبية خذلت اولادها وذهبت مع صواحبها في قطيع من الظباء ترعى معها في أرض ذات شجر أو ذات رملة منبتة تتناول اطراف الأراك وترتدي بأغصانه ، شبه الشاعر طول عنق الحبيب وحسنه بذلك


الألمى : الذي يضرب لون شفتيه إلى السواد ، والانثى لمياء ، والجمع لمي ، والمصدر اللمى ، والفعل لمي يلمى ، البسم والتبسم والابتسام واحد ، كأن منورا يعني اقحوانا منورا ، فحذف الموصوف اجتزاء بدلالة الصفة عليه ، نور النبت خرج نوره فهو منور ، حر كل شيء: خالصة ، الدعص : الكثيب من الرمل ، والجمع الادعاص ، الندى يكون دون الابتلال ، والفعل ندي يندى ندى ، ونديته تندية يقول وتبسم الحبيبة عن ثغر ألمى الشفتين كأنه أقحوان خرج نوره في دعص ند يكون ذلك الدعص فيما بين رمل خالص لايخالطه تراب ، وإنما جعله نديا ليكون الاقحوان غضا ناضرا


إياة الشمس وإياها : شعاعها ، اللثة : مغرز الأسنان ، والجمع اللثات ، الإسفاف : إفعال سففت الشيء أسفه سفا ، الإثمد : الكحل ، الكدم : العض . ثم وصف ثغرها فقال : سقاة شعاع الشمس ، أي كأن الشمس أعارته ضوءها . ثم قال : إلا لثاته ، يستثنى اللثات لأنه لا يستحب بريقها . ثم قال : إلا لثاته ، يستثنى اللثات لأنه لا يستحب بريقها . ونساء العرب تذر الإثمد على الشفاه واللثات فيكون ذلك أشد لمعان الأسنان

التخدد : التشنج والتغضن يقول : وتبسم عن وجه كأن الشمس كسته ضياءها وجمالها ، فاستعار لضياء الشمس اسم الرداء ، ثم ذكر ان وجهها نقي اللون غير متشنج متغضن . وصف وجهها بكمال الضياء والنقاء والنضارة ، وجر الوجه عطفا على ألمى




الحارث بن حلزة




نحو (... - 54 ق. هـ = ... - 570 م)





هو الحارث بن ظليم بن حلزّة اليشكري ، من عظماء قبيلة بكر بن وائل ، كان شديد الفخر بقومه حتى ضرب
به المثل فقيل : أفخر من الحارث بن حلزة ، ولم يبق لنا من أخباره إلا ما كان من أمر الاحتكام إلى عمرو بن هند سنة ( 554 ـ 569 )
لأجل حل الخلاف الذي وقع بين القبيلتين بكر و تغلب توفي سنة 580 للميلاد أي في أواخر القرن السادس الميلادي على وجه
التقريب . أنشد الشاعر هذه المعلقة في حضرة الملك عمرو بن هند رداً على عمرو بن كلثوم
و قيل أنه قد أعدّها و روّاها جماعة من قومه لينشدوها نيابة عنه لأنه كان برص و كره أن ينشدها من وراء سبعة ستور
ثم يغسل أثره بالماء كما كان يفعل بسائر البرص ثم عدل عن رأيه و قام بإنشادها بين يدي الملك
و بنفس الشروط السابقة فلما سمعها الملك و قد وقعت في نفسه موقعاً حسناً أمر برفع الستور و أدناه منه و أطمعه في جفنته

و منع أن يغسل أثره بالماء ... كان الباعث الأساسي لإنشاد المعلقة دفاع الشاعر عن قومه و تفنيد أقوال خصمه عمرو بن كلثوم ـ



معلومات حول المعلقة :





تقع المعلقة في ( 85 ) خمس و ثمانين بيتاً نظمت بين عامي ( 554 و 569 ) . شرحها الزوزني ـ
و طبعت في اكسفورد عام 1820 ثم في بونا سنة 1827 و ترجمت إلى اللاتينية و الفرنسية و هي همزية على البحر الخفيف



تقسم المعلقة إلى : 1 ـ مقدمة : فيها وقوف بالديار ـ و بكاء على الأحبة و وصف للناقة ( 1 ـ 14( 2 ـ المضمون : تكذيب أقوال التغلبيين من ( 15 ـ 20 )
عدم اكتراث الشاعر و قومه بالوشايات ( 21 ـ 31 ) مفاخر البكريين ( 32 ـ 39 ) مخازي التغلبيين و نقضهم للسلم ( 40 ـ 55 )
استمالة الملك ـ ذكر العداوة ( 59 ـ 64 ) مدح الملك ( 65 ـ 68 ) خدما البكريين للملك ( 69 ـ 83 ( القرابة بينهم
وبين الملك ( 84 ـ 85 ( . قيمة المعلقة : هي نموذج للفن الرفيع في الخطابة و الشعر الملحمي و فيها قيمة أدبية
و تاريخية كبيرة تتجلى فيها قوة الفكر عند الشاعر و نفاذ الحجة كما أنها تحوي القصص و ألواناً من التشبيه الحسّي
كتصوير الأصوات و الاستعداد للحرب و فيها من الرزانة ما يجعلها أفضل مثال للشعر السياسي و الخطابي في ذلك العصر .

و في الجملة جمعت المعلَّقة العقل و التاريخ و الشعر و الخطابة ما لم يجتمع في قصيدة جاهلية أخرى


الأبيات العشر من المعلقة :






1- آذَنَتْنا ببَيْنهِا أَسْمَاءُ ..................... ربَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ اُلْثَّوَاءُ

2- بَعْدَ عَهْدٍ لَنَا بِبُرْقَةِ شَمّا ............... ءَ فَأَدْنَى دِيَارِهَا اٌلْخَلْصاءُ

3- فَالُمحَيَّاةُ فالصِّفاحُ فَأَعْنا ............... قُ فِتَاقٍ فَعادِبٌ فَالْوَفَاءُ

4- فَرِياضُ اُلْقَطَا فأوْدِيَةُ الشُّرْ ...............بُبِ فالشُّعْبَتَانِ فالأَبْلاءُ

5- لا أرى مَنْ عَهِدْتُ فيهَا فأبكي اٌلْـ ......... ـيَوْمَ دَلْهاً وَمَا يُحِيرُ اُلْبُكَاء

6- وَبِعَيْنَيْكَ أَوْقَدَتْ هِنْدٌ اُلْنَّا ................. رَ أَخِيراً تُلْوِي بِها اُلْعَلْيَاءُ

7- فَتَنَوَّرْتُ نَارَهَا مِنْ بَعيدٍ ............... بِخَزَازَى هَيْهاتَ منْكَ الصَّلاءُ

8- أوْقَدَتْها بَينَ اُلْعَقِيقِ فَشَخْصَيْـ ............نِ بِعُودٍ كما يَلُوحُ الضٍّيَاءُ

9- غَيْرَ أَنّي قَدْ أَسْتَعِينُ على اٌلَهْمٍّ ........... إذا خَفَّ بالثَّوِيٍّ النٍّجاءُ




10- بِزَفُوفٍ كَأُنَّهَا هقْلَةٌ أُمُّ .......................... رئَالٍ دوِّيَّةٌ سَقْفاءُ





شرح العشر أبيات الاولى :




الإيذان : الإعلام ، البين : الفراق ، الثواء والثوي : الإقامة ، والفعل ثوى يثوي يقول : أعلمتنا أسماء بمفارقتها إيانا ، أي بعزمها على فراقنا , ثم قال : رب مقيم تمل إقامته ولم تكن أسماء منهم ، يريد أنها وإن طالت إقامتها لم أمللها ، والتقدير : رب ثاو يمل من ثوائه


العهد : اللقاء ، والفعل عهد يعهد يقول : عزمت على فراقنا بعد أن لقيتها ببرقة شماء وخلصاء التي هي أقرب ديارها إلينا

هذه كلها مواضع عهدها بها يقول : وقد عزمت على مفارقتنا بعد طول العهد

الاحارة : الرد من قولهم : حار الشيء يحور حورا ، أي رجع ، وأحرته أنا أي رجعته فرددته يقول : لا أرى في هذه المواضع من عهدت فيها ، يريد أسماء ، فأنا أبكي اليوم ذاهب العقل وأي شيء رد البكاء على صاحبه ؟ وهذا استفهام يتضمن الجحود ، أي لا يرد البكاء على صاحبه فائتا ولا يجدي عليه شيئا .. تحرير المعنى: لما خلت هذه المواضع منها بكيت جزعا لفراقها مع علمي بأنه لا طائل في البكاء ، الدله : ذهاب العقل ، والندليه إزالته

ألوى بالشيئ : أشار به . العلياء : البقعة العالية يخاطب نفسه ويقول : وإنما أوقدت هند النار بمرآك ومنظر منك ، وكأن البقعة العالية التي أوقدتها عليها كانت تشير إليك بها .. يريد أنها ظهرت لك أتم ظهور فرأيتها أتم رؤية

التنور : النظر إلى النار ، خزازى : بقعة بعينها ، هيهات : بعد الأمر جدا ، الصلاء : مصدر صلى النار ، وصلي بالنار يصلى صلى ويصلا إذا احترق بها أو ناله حرها يقول : ولقد نظرت إلى نار هند بهذه البقعة على بعد بيني وبينها لأصلاها ، ثم قال : بعد منك الاصطلاء بها جدا ، أي أردت أن آتيها فعاقتني العوائق من الحروب وغيرها

يقول : أوقدت هند تلك النار بين هذين الموضعين بعود فلاحت كما يلوح الضياء

غير أني : يريد لكني ، انتقل من النسيب إلى ذكر حاله في طلب المجد ، الثوي والثاوي : المقيم ، النجاء : الاسراع في السير ، والباء للتعدية يقول : ولكني أستعين على إمضاء همي وقضاء أمري إذا أسرع المقيم في السير لعظيم الخطب وفظاعة الخوف

الزفيف : إسراع النعامة في سيرها ثم يستعار لسير غيرها ، والفعل زف يزف ، والنعت زاف ، والزفوف مبالغة ، الهقلة : النعامة ، والظليم هقل ، الزأل : ولد النعامة ، والجمع : رئال ، الدوية منسوبة إلى الدو وهي المفازة ، سقف : طول مع انحناء ، والنعت أسقف يقول : أستعين على إمضاء همي وقضاء أمري عند صعوبة الخطب وشدته بناقة مسرعة في سيرها كأنها في إسراعها في السير نعامة لها أولاد طويلة منحنية لا تفارق المفاوز






لبيد بن ربيعة



( ... - 41 هـ = ... - 661 م)


هو لبيد بن ربيعة بن مالك العامري، أبو عقيل، من هوازن قيس. كان من الشعراء المعدودين وأحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية، من أهل عالية نجد، أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم. يعد من الصحابة، ومن المؤلفة قلوبهم. ترك الشعر فلم يقل في الإسلام إلا بيتاً واحداً. وسكن الكوفة وعاش عمراً طويلاً.
اهتم المستشرقون الغربيون بشعراء المعلقات وأولوا اهتماماً خاصاً بالتعرف على حياتهم، فقد قالت ليدي آن بلنت وقال فلفريد شافن بلنت عن لبيد في كتاب لهما عن المعلقات السبع صدر في بداية القرن العشرين: عاش أيضاً في الجاهلية والإسلام. عمر طويلاً وترك نظم الشعر بعد إسلامه. قصة إسلامه أسطورة ورعٍ، إذ أن أخيه أربد قدم إلى الرسول بتفويض من كلاب وقد عزم، كما يقال، على غدره وقتله. حين نطق بعض كلمات عاقة ضربته صاعقة برق واختفى

كان لبيد شاعراً مخضرماً شهد الجاهلية والإسلام. هناك عدة روايات حول إسلامه. وفق الأغاني كان لبيد ضمن وفد ذهب إلى الرسول بعد وفاة أخ لبيد أربد، الذي قتلته صاعقة بعد يوم أو يومين من إلقائه خطبة ضد مباديء العقيدة الإسلامية. وهناك اعتنق الإسلام وكان طاعناً في السن. يقول آخرون إن تعليق القصائد على باب الكعبة كان عادة الشعراء كتحد عام في سوق عكاظ القادم، وهذا ما جعل لبيد يقول:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل*** وكل نعيم لا محالة زائل

استقر لبيد في الكوفة بعد إسلامه حيث وافته المنية قرابة نهاية عهد معاوية (660 ميلادية) في سن 157 سنة كما يذكر ابن قتيبة أو 145 كما ورد في الأغاني، تسعون منها في الجاهلية وما تبقى في الإسلام.
أرسل حاكم الكوفة يوماً في طلب لبيد وسأله أن يلقي بعضاً من شعره فقرأ لبيد الجزء الثاني من القرآن الكريم (سورة البقرة) وقال عندما انتهى " منحني الله هذا عوض شعري بعد أن أصبحت مسلماً."

عندما سمع الخليفة عمر بذلك أضاف مبلغ 500 درهم إلى 2000 درهم التي كان يتقاضها لبيد. حين أصبح معاوية خليفة اقترح تخفيض راتب الشاعر، ذكره لبيد أنه لن يعيش طويلاً. تأثر معاوية ودفع مخصصه كاملاً، لكن لبيد توفي قبل أن يصل المبلغ الكوفة.


أبيات العشر من المعلقة


ِعَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا _ بِمِنَىً تَأَبَّـدَ غَوْلُهَا فَرِجَامُهَـا



فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَـا _ خَلَقَاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُهَا



دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدِ أَنِيسِهَا _ حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُهَا وَحَرَامُهَا



رُزِقَتْ مَرَابِيْعَ النُّجُومِ وَصَابَهَا _ وَدْقُ الرَّوَاعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُهَا



مِنْ كُلِّ سَارِيَةٍ وَغَادٍ مُدْجِنٍ _ وَعَشِيَّةٍ مُتَجَـاوِبٍ إِرْزَامُهَا



فَعَلا فُرُوعُ الأَيْهُقَانِ وأَطْفَلَتْ _ بِالجَلْهَتَيْـنِ ظِبَاؤُهَا وَنَعَامُهَـا



وَالعِيْـنُ سَاكِنَةٌ عَلَى أَطْلائِهَا _ عُوذَاً تَأَجَّلُ بِالفَضَـاءِ بِهَامُهَا



وَجَلا السُّيُولُ عَنْ الطُّلُولِ كَأَنَّهَا _ زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَهَا أَقْلامُـهَا



أَوْ رَجْعُ وَاشِمَةٍ أُسِفَّ نَؤُورُهَا _ كِفَفَاً تَعَرَّضَ فَوْقَهُنَّ وِشَامُهَا



فَوَقَفْتُ أَسْأَلُهَا وَكَيْفَ سُؤَالُنَا _ صُمَّاً خَوَالِدَ مَا يَبِيْنُ كَلامُهَا




شرح أبيات المعلقة




عفا لازم ومتعد ، يقال : عفت الريح المنزل وعفا المنزل نفسه عفوا وعفاء ، وهو في البيت لازم ، المحل من الديار : ما حل فيه لأيام معدودة ، والمقام منها ما طالت إقامته به ، منى : موضع يحمى ضرية غير منى الحرم ، ومنى ينصرف ولا ينصرف يذكر ويؤنث ، تأبد : توحش وكذلك أبد يؤبد يأبد أبودا ، الغول والرجام : جبلان معروفان . ومنه قول أوس بن حجر : زعمتم أن غولا والرجام لكم ومنعجا فاذكروا فالأمر مشترك يقول : عفت ديار الأحباب وانمحت منازلهم ماكان منها للحلول دون الإقامة وما كان منا للإقامة ، وهذه الديار كانت بالموضع المسمى منى ، وقد توحشت الديار الغولية والديار الرجامية منها لارتحال قطانها واحتمال . سكانها ، والكناية في غولها ورجامها راجعة إلى الديار ، قوله : تأبد غولها ، أي ديار غولها ورجامها . فحذف المضاف
المدافع : أماكن يندفع عنها الماء من الربى والأخياف ، والواحد مدفع ، الريان : جبل معروف . ومنه قول جرير : ياحبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كنا التعرية : مصدر عريته فعري وتعرى ، الوحي : الكتابة ، والفعل وحى يحي والحي الكتاب ، والجمع الوحي ، السلام : الحجارة ، والواحد سلمة بكسر اللام ، فمدفع معطوف على قوله غولها يقول : توحشت الديار الغولية والرجامية ، وتوحشت مدافع جبل الريان لارتحال الأحباب منها واحتمال الجيران عنها. ثم قال : وقد توحشت وغيرت رسوم هذه الديار فعريت خلقا وإنما عرتها السيول ولم تنمح بطول الزمان فكأنه كتاب ضمن حجرا ، شبه بقاء الآثار لعدة أيام ببقاء الكتاب في الحجر ، ونصب خلقا على الحال ، والعامل فيه عري ، والمضمر الذي أضيف اليه سلام عائد إلى الوحي

التجرم : التكمل والانقطاع ، يقال ، تجرمت السنة وسنة مجرمة أي مكملة ، العهد ، اللقاء ، والفعل عهد يعهد ، الحجج : جمع حجة وهي السنة . وأراد بالحرام الأشهر الحرم ، وبالحلال أشهر الحل ، الخلو : المضي ومنه الأمم الخالية ، ومنه قوله عز وجل "وقد خلت القرون من قبلي" يقول : هي آثار ديار قد تمت وكملت وانقطعت إذ بعد عهد سكانها بها سنون مضت أشهر الحرم وأشهر الحل منها ، وتحرير المعنى : قد مضت بعد ارتحالهم عنها سنون بكمالها ، خلون : المضمر فيه راجع إلى الحجج ، وحلالها بدل من الحجج ، وحرامها معطوف عليها ، والسنة لا تعدو أشهر الحرم وأشهر الحل ، فعبر عن مضي السنة بمضيهما


مرابيع النجوم : الأنواء الربيعية وهي المنازل التي تحلها الشمس فصل الربيع ، الواحد مرباع ، الصوب : الإصابة ، يقال : صابه أمر كذا وأصابه بمعنى ، الودق : المطر ، وقد ودقت السماء تدق ودقا إذا أمطرت الجود : المطر التام العام ، وقال ابن الأنباري : هو المطر الذي يرضي أهله وقد جاد يجوده جودا فهو جود ، الرواعد : ذوات الرعد من السحاب ، واحدتها راعدة ، الرهام والرهم : جمع رهمة وهي المطرة التي فيها لين يقول : رزقت الديار والدمن أمطار الأنواء الربيعية فأمرعت وأعشبت وأصابها مطر ذوات الرعود من السحائب ما كان منه عاما بالغا مرضيا أهله وما كان منه لينا سهلا . وتحرير المعنى : أن تلك الديار ممرعة معشبة لترادف الأمطار المختلفة عليها ونزاهتها

السارية : السحابة الماطرة ليلا ، والجمع السواري ، المدجن : الملبس آفاق السماء بظلامه لفرط كثافته ، والدجن إلباس الغيم آفاق السماء ، وقد أدحن الغيم ، الإرزام : التصويت ، وقد أرزمت الناقة إذا رغت ، والأسم الرزمة ، ثم فسر تلك الأمطار فقال : هي كل مطر سحابة سارية ومطر سحاب غاد يلبس آفاق السماء بكثافته وتراكمه وسحابة عشية تتجاوب أصواتها ، أي كأن وعودها تتجاوب ، جمع لها أمطار السنة لأن أمطار الشتاء أكثرها يقع ليلا ، وأمطار الربيع يقع أكثرها غداة وأمطار الصيف يقع أكثرها عشيا . كذا زعم مفسرو هذا البيت
الأيهقان : بفتح الهاء وضمها : ضرب من النبت وهو الجرجير البري ، أطفلت أي صارت ذوات الأطفال ، المجلهتان : جانبا الوادي : ثم أخبر عن إخصاب الديار وأعشابها فقال : علت بها فروع هذا الضرب من النبت وأصبحت الظباء والنعام ذوات أطفال بجانبي وادي هذه الديار ، قوله : ظباؤها ونعامها ، يريد وأطفلت ظباؤها وباضت نعامها ، لأن النعام تبيض ولا تلد الأطفال ، ولكنه عطف النعام على الظباء في الظاهر لزوال اللبس . ومثله قول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا أي وكحلن العيون ، وقوله الآخر: تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه أن مولاه صار له وفر أي ويفقأ عينيه ، وقول الآخر : ياليت زوجك قد غدا منقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا ، تضبط نظائر ما ذكرنا ، وزعم كثير من الأئمة النحويين والكوفيين أن هذا المذهب سائغ في كل موضع ، ولوح أبو الحسن الأخفش إلى أن المعول فيه على السماع
العين : واسعات العيون ، الطلا : ولد الوحش حين يولد إلى أن يأتي عليه شهر ، والجمع الأطلاء ، ويستعار لولد الإنسان وغيره ، العوذ : الحديثات النتاج ، الواحدة عائذ ، مثل عائط وعوط ، وحائل وحول ، وبازل وبزل ، وفاره وفره ، وجمع الفاعل على فعل قليل معول فيه على الحفظ ، الاجل أجلا ، الفضاء : الصحراء ، البهام : أولاد الضأن اذا انفردت ، وإذا اختلطت بأولاد الضأن أولاد الماعز قيل للجمع بهام ، وإذا انفردت أولاد العز من أولاد الضأن لم تكن بهاما ، وبقر الوحش بمنزلة الضأن ، وشاة الجبل بمنزلة المعز عند العرب ، وواحدة البهام بهم ، وواحد البهم بهمة ، ويجمع البهام على البهمات يقول : والبقر الواسعات العيون قد سكنت وأقامت على أولادها ترضها حال كونها حديثات النتاج وأولادها تصير قطيعا في تلك الصحراء فالمعنى من هذا الكلام : أنها صارت مغنى الوحش بعد كونها مغنى الإنس . ونصب عوذا على الحال من العين
جلا : كشف ، يجلو جلاء ، وجلوت العروس جلوة من ذلك ، وجلوت السيف جلاء صقلته ، منه أيضا ، السيول : جمع سيل مثل بيت بيوت ، شيخ وشيوخ ، الطلول : جمع الطلل ، الزبر : جمع زبور وهو الكتاب ، والزبر الكتابة ، والزبور فعول بمعنى المفعول بمنزلة الركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب ، الإجداد والتجديد واحد يقول : وكشفت السيول عن أطلال الديار فأظهرتها بعد ستر التراب إياها ، فكأن الديار كتب تجدد الأقلام كتابتها .. فشبه الشاعر كشف السيول عن الأطلال التي غطاها التراب بتجديد الكتاب سطور الكتاب الدارس ، وظهور الأطلال بعد دروسها بظهور السطور بعد دروسها ، وأقلام مضافة إلى ضمير زبر ، وأسم كان ضمير الطلول

الرجع الترديد والتجديد ، وهو من قولهم : رجعته أرجعته رجعا فرجع يرجع رجوعا . وقد فسرنا الواشمة ، الاسفاف : الذر ، وهو من قولهم : سف زيد السويق وغيره يسفه سفا النؤور : ما يتخذ من دخان السراج والنار ، وقيل : النيلج ، الكفف : جمع كفة وهي الدارات ، وكل شيئ مستدير كفة ، بكسر الكاف ، وجمعها كفف ، وكل مستطيل كفة بضمها ، والجمع كفف ، كذا حكى الأئمة ، تعرض وأعرض : ظهر ولاح ، الوشام : جمع وشم ، شبه ظهور الأطلال بعد دروسها بتجديد الكتابة وتجديد الوشم يقول : كأنها زبر أو ترديد واشمة وشما قد ذرت نؤورها في دارات ظهر الوشام فوقها فأعادتها كما تعيد السيول الأطلال إلى ما كانت عليه ، فجعل إظهار السيل الأطلال كإظهار الواشمة الوشم ، وجعل دروسها كدروس الوشم ، نؤورها اسم ما لم يسم فاعله ، وكففا هو المفعول الثاني بقي على انتصابه بعد إسناد الفعل إلى المفعول ، وشامها : فاعل تعرض وقد أضيف إلى ضمير الواشمة


الصم : الصلاب ، والواحد أصم والواحدة صماء ، خوالد : بواق ، يبين : بان يبين بيانا ، وأبان قد يكون بمعنى أظهر ويكون بمعنى ظهر ، وكذلك بين وتبين بالتضعيف قد يكون بمعنى ظهر وقد يكون بمعنى عرف واستبان كذلك ، فالأول لازم والأربعة الباقية قد تكون لازمة وقد تكون متعدية ، وقولهم : بين الصبح لذي عينين ، أي ظهر فهو هنا لازم ويروى في البيت : ما يبين كلامها وما يبين ، بفتح الياء وضمها ، وهما هنا بمعنى ظهر يقول : فوقفت أسأل الطلول عن قطانها وسكانها ، ثم قال وكيف سؤالنا حجارة صلابا بواقي لا يظهر كلامها ، أي كيف يجدي هذا السؤال على صاحبه وكيف ينتفع به السائل ؟ لوح إلى أن الداعي إلى هذا السؤال فرط الكلف والشغف وغاية الوله ، وهذا مستحب في النسيب والمرئية لأن الهوى والمصيبة يدلهان صاحبهما









رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:27   رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

النابغة الذبياني


(... - 18 ق. هـ = ... - 605 م)

هو زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن مرّة بن عوف بن سعد، الذبياني، الغطفاني، المضري. شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، من أهل الحجاز، ينتهي نسبه كما قال التبريزي إلى قيس بن عيلان، ويكنى بأبي أمامة، وقيل بأبي ثمامة، كما هو وارد في "الشعر والشعراء"، وبأبي عقرب على ما يذهب إليه البغدادي في خزانة الأدب. والنابغة لقب غلب على الشاعر، اختلف النقاد في تعليله وتفسيره، أما ابن قتيبة فيذكر أنه لقب بالنّابغة لقوله:
وحلّت في بني القين بن جسر- فقد نبغت لهم منا شؤون
وردّ ابن قتيبة هذا اللقب إلى قولهم: "ونبغ- بالشعر- قاله بعد ما احتنك وهلك قبل أن يهتر". وفي رأي البغدادي، أن هذا اللقب لحقه لأنه لم ينظم الشعر حتى أصبح رجلاً. وربّما كان اللقب مجازاً، على حدّ قول العرب: نبغت الحمامة، إذا أرسلت صوتها في الغناء، ونبغ الماء إذا غزر. فقيل: نبغ الشاعر، والشاعر نابغة، إذا غزرت مادة شعره وكثرت. ولا يعرف شيئاً يذكر عن نشأة الشاعر قبل اتصاله بالبلاط، فيما خلا ما نقله صاحب الروائع عن المستشرق دي برسفال، من مزاحمة النّابغة لحاتم الطائيّ على ماوية، وإخفاقه في ذلك.

وتتفق روايات المؤرخين على أن النّابغة نال حظوة كبيرة عند النعمان الذي قرّبه إليه بعد أن أحسن وفادته. ولا شك أن الشاعر نزل من نفس الملك منزلة طيبة فآثره هذا بأجزل عطاياه وأوفر نعمه، مما لم ينله شاعر قبله، ويذكر أبو الفرج في أغانيه أن النّابغة كان يأكل ويشرب في آنية من الفضة والذهب. وعن ابن قتيبة عن ابن الكلبي الرواية الآتية التي تثبت مكانة الشاعر عند النعمان. قال حسان بن ثابت: رحلت النعمان فلقيت رجلاً فقال: أين تريد فقلت هذا الملك قال: فإنك إذا جئته متروك شهراً، ثم يسأل عنك رأس الشهر ثم أنت متروك شهراً آخر ثم عسى أن يأذن لك فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه، وإن رأيت أبا أمامة النّابغة فاظعن، فإنه لا شيء لك. قال: فقدمت عليه، ففعل بي ما قال، ثم خلوت به وأصبت منه مالاً كثيراً ونادمته فبينما أنا معه في قبة إذ جاء رجل يرجز. فقال النعمان: أبو أمامة فأذنوا له، فدخل فحيا وشرب معه، ووردت النعم السود، فلما أنشد النابغة قوله:
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكب- إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كوكبُ
دفع إليه مائة ناقة من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحداً حسدي النّابغة لما رأيت من جزيل عطيته، وسمعت من فضل شعره.


الأبيات العشر الاولى

يَـا دَارَ مَيَّـةَ بالعَليْـاءِ ، فالسَّنَـدِ
أَقْوَتْ ، وطَالَ عَلَيهَا سَالِـفُ الأَبَـدِ
وقَفـتُ فِيـهَا أُصَيلانـاً أُسائِلُهـا
عَيَّتْ جَوَاباً ، ومَا بالرَّبـعِ مِنْ أَحَـدِ
إلاَّ الأَوَارِيَّ لأْيـاً مَـا أُبَـيِّـنُـهَا
والنُّؤي كَالحَوْضِ بالمَظلومـةِ الجَلَـدِ
رَدَّتْ عَليَـهِ أقَـاصِيـهِ ، ولـبّـدَهُ
ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بالمِسحَـاةِ فِي الثَّـأَدِ
خَلَّتْ سَبِيـلَ أَتِـيٍّ كَـانَ يَحْبِسُـهُ
ورفَّعَتْهُ إلـى السَّجْفَيـنِ ، فالنَّضَـدِ
أمْسَتْ خَلاءً ، وأَمسَى أَهلُهَا احْتَمَلُوا
أَخْنَى عَليهَا الَّذِي أَخْنَـى عَلَى لُبَـدِ
فَعَدِّ عَمَّا تَرَى ، إِذْ لاَ ارتِجَـاعَ لَـهُ
وانْـمِ القُتُـودَ عَلَى عَيْرانَـةٍ أُجُـدِ
مَقذوفَةٍ بِدَخِيسِ النَّحـضِ ، بَازِلُهَـا
لَهُ صَريفٌ ، صَريفُ القَعْـوِ بالمَسَـدِ
كَأَنَّ رَحْلِي ، وَقَدْ زَالَ النَّـهَارُ بِنَـا
يَومَ الجليلِ ، عَلَى مُستأنِـسٍ وحِـدِ
مِنْ وَحشِ وَجْرَةَ ، مَوْشِيٍّ أَكَارِعُـهُ
طَاوي المَصِيرِ ، كَسَيفِ الصَّيقل الفَرَدِ



شرح ابيات المعلقة



1- العلياء: مكان مرتفع من الأرض.قال ابن السكت: قال: بالعلياء، فجاء بالياء لأنه بناها على عليت، والسند: سند الوادي في الجبل، وهو ارتفاعه حيث يسند فيه: أي يصعد فيه

2- ويروى وقفت فيها طويلا، ويروى طويلاناً وأصيلالاً فمن روى أصيلا أراد عشيا، ومن روى طويلا جار أن يكون معناه وقوفا طويلا، ويجوز أن يكون معناه وقفا طويلا، ومن روى أصيلانا ففيه قولان، أحدهما أنه تصغير أصلان وأصلان جمع أصيل كما يقال رغيف ورغفان، والقول الآخر بمنزلة غفران وهذا هو القول الصحيح، والأول خطأ لأن أصلانا لا يجوز أن يصغر إلا أن يرد إلى أقل العدد.
وهو حكم كل جمع كثير، وقوله عييت يقال عيبت بالأمر، إذا لم تعرف وجهه وقوله: جوابا منصوب على المصدر أي عيت أن تجيب وما بها أحد ومن زائدة للتوكيد فأنا به عيي

3-
ويروى أواري بضم الهمزة والنصب أجود، والأواري والأواخي واحد وهي التي تحبس بها الخيل، واللأي، البطء يقال التأت عليه صاحبته أي بعد بطء استبانها، والنؤي حاجز من تراب يعمل حول البيت والخيمة لئلا يصل إليها الماء والمظلومة الأرض من غير عمارة، ولا حجارة، وإنما قصد إلى الجلد لأن الحفر فيها يصعب فيكون ذلك أشبه شيء بالنؤي.
4- يروى بفتح الراء وضمها ردت عليه أقاصيه، وهذه الرواية أجود لأنه إذا قال ردت عليه أقاصيه. فأقاصيه في موضع رفع فأسكن الياء لأن الضمة فيها ثقيلة وإذا روي ردت فأقاصيه في محل نصب. والفتح لا يستثقل فكان يجب أن يفتح الباء إلا أنه يجوز إسكانها في الضرورة لأنه تسكين في الرفع والخفض، فأجرى النصب مجراهما وأيضا فإنه إذا روي ردت، فقد أضمر ما لم يجر ذكره أراد ردت عليه الأمة، إلا أن هذا يجوز إذا عرف معناه، وأقاصيه ما شذ منه ولبده سكنه أي سكنه حضر الوليدة والثأد الموضع الندي التراب، الثأد ثأد يثأد فهو ثئد
5- الأتي: النهر الصغير، أي خلت الأمة سبيل الماء في الأتي تحفرها، ورفعته ليس يريد به علت الماء، ومعناه [قدمته، وبلغت به] كما تقول ارتفع القوم إلى السلطان والسجفان ستران رقيقان يكونان في مقدمة البيت، والنضد ما نضد من متاع البيت
6- ويروى ارتحلوا، أخنى: أفسد لأن الخنا الفساد والنقصان، وقيل أخنى عليها أتى
7- يعني ما ترى من خراب الديار، والقتود خشب الرحل وهو للجمع الكثير وفي القليل أقتاد والواد قتد
8-
مقذوفة: أي مرمية باللحم، والدخيس والدخاس الذي قد دخل بعضه في بعض من كثرته، والنحض: اللحم، وهو جمع نحضة بالحاء المهملة، والضاد المعجمة، والبازل الكبير، والصريف: الصياح، والصريف من الإناث من شدة الإعياء، ومن الذكور من النشاط. والقعد بالضم البكرة، إذا كان خشبا وإذا كان حديدا فهو خطاف، ويروى صريف صريف بالرفع على المصدر وعلى النصب أجود وعلى البدل أحسن.
9- زال النهار أي انتصف، وبنا بمعنى علينا، والجليل الثمام أي موضع فيه ثمام. والمستأنس الناظر بعينه ومنه قوله تعالى: (إني آنست نارا) أي أبصرت ومنه قيل إنسان لأنه مرئي ويروى على مستوحش وهو الذي أوجس في نفسه الفزع
10-
خص وحش وجرة لأنها فلاة قليلة الشرب، والموشى الذي فيه ألوان مختلفة، طاوي أي ضامر، والمصير: المصار وجمعه مصران وجمع مصران مصارين أي هو يلمع كسيف الصقيل، والفرد الذي ليس له نظير ويجوز فيه فتح الراء وضمها.








الأعشى بن قيس


(... - 7 هـ = ... - 628 م)



هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضُبيعة، من بني قيس بن ثعلبة، وصولاً إلى علي بن بكر بن وائل، وانتهاء إلى ربيعة بن نزار. يعرف بأعشى قيس، ويكنّى بأبي بصير، ويقال له أعشى بكر بن وائل، والأعشى الكبير. عاش عمراً طويلاً وأدرك الإسلام ولم يسلم، ولقب بالأعشى لضعف بصره، وعمي في أواخر عمره. مولده ووفاته في قرية منفوحة باليمامة، وفيها داره وبها قبره.
من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، كان كثير الوفود على الملوك من العرب، والفرس، فكثرت الألفاظ الفارسية في شعره. غزير الشعر، يسلك فيه كل مسلك، وليس أحد ممن عرف قبله أكثر شعراً منه. كان يغني بشعره فلقب بصنّاجة العرب، اعتبره أبو الفرج الأصفهاني، كما يقول التبريزي: أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، وذهب إلى أنّه تقدّم على سائرهم، ثم استدرك ليقول: ليس ذلك بمُجْمَع عليه لا فيه ولا في غيره.


كان الأعشى بحاجة دائمة إلى المال حتى ينهض بتبعات أسفاره الطويلة ويفي برغباته ومتطلباته فراح بلاد العرب قاصداً الملوك.. يمدحهم ويكسب عطاءهم. ولم يكن يجتمع إليه قدر من المال حتى يستنزفه في لذّته.. ثم يعاود الرحلة في سبيل الحصول على مال جديد، ينفقه في لذّة جديدة.
أما ديوان الأعشى فليس أقلّ من دواوين أصحاب المعلقات منزلة عند النقّاد والرواة. عني به بين الأقدمين أبو العباس ثعلب- كما ذكر صاحب الفهرست- ثمّ عكف الأدباء على ما جمعه ثعلب، ينتقون منه القصائد والشواهد، وفي طليعة هؤلاء التبريزي الذي جعل قصيدة الأعشى اللامية "ودّع هريرة" إحدى معلقات الجاهليين كذلك اعتبرت لامية الأعشى: "ما بكاءُ الكبير بالأطلال" .. من المعلقات العشر في شرح آخر لتلك القصائد. وبين المستشرقين الذين أكبوا على شعر أبي بصير جمعاً واستدراكاً وشرحاً سلفستر دي ساسي (1826م- 1242هـ)، ثوربكه (1875م- 1292هـ)، ورودلف جاير الذي أمضى نصف قرن في صحبة الأعشى وشعره، بحيث أصدر في (1928م- 1347هـ) ديوان الشاعر القيسي في طبعة بعنوان: "الصبح المنير في شعر أبي بصير"..





الابيات العشر من معلقته :




وَدّعْ هُرَيْـرَةَ إنّ الرَّكْـبَ مرْتَحِـلُ
وَهَلْ تُطِيقُ وَداعـاً أيّهَـا الرّجُـلُ ؟
غَـرَّاءُ فَرْعَـاءُ مَصْقُـولٌ عَوَارِضُـهَا
تَمشِي الهُوَينَا كَمَا يَمشِي الوَجي الوَحِلُ
كَـأَنَّ مِشْيَتَـهَا مِنْ بَيْـتِ جَارَتِهَـا
مَرُّ السَّحَابَةِ ، لاَ رَيْـثٌ وَلاَ عَجَـلُ
تَسمَعُ للحَلِي وَسْوَاساً إِذَا انصَرَفَـتْ
كَمَا استَعَانَ برِيـحٍ عِشـرِقٌ زَجِـلُ
لَيستْ كَمَنْ يكرَهُ الجِيـرَانُ طَلعَتَـهَا
وَلاَ تَـرَاهَـا لسِـرِّ الجَـارِ تَخْتَتِـلُ
يَكَـادُ يَصرَعُهَـا ، لَـوْلاَ تَشَدُّدُهَـا
إِذَا تَقُـومُ إلـى جَارَاتِهَـا الكَسَـلُ
إِذَا تُعَالِـجُ قِـرْنـاً سَاعـةً فَتَـرَتْ
وَاهتَزَّ مِنهَا ذَنُـوبُ المَتـنِ وَالكَفَـلُ
مِلءُ الوِشَاحِ وَصِفْرُ الـدّرْعِ بَهكنَـةٌ
إِذَا تَأتّـى يَكَـادُ الخَصْـرُ يَنْخَـزِلُ
صَدَّتْ هُرَيْـرَةُ عَنَّـا مَـا تُكَلّمُنَـا
جَهْلاً بأُمّ خُلَيْدٍ حَبـلَ مَنْ تَصِـلُ ؟
أَأَنْ رَأَتْ رَجُلاً أَعْشَـى أَضَـرَّ بِـهِ
رَيبُ المَنُونِ ، وَدَهْـرٌ مفنِـدٌ خَبِـلُ





شرح الابيات :




قال أبو عبيدة: هريرة قينة كانت لرجل من آل عمرو بن مرثد، أهداها إلى قيس بن حسان بن ثعلبة بن عمرو بن مرثد فولدت له خليدا وقد قال في قصيدته
والركب لا يستعمل إلا للإبل، وقوله وهل تطيق وداعا، أي أنك تفزع إن ودعتها
قال الأصمعي] الغراء: البيضاء الواسعة الجبين، وروي عنه أنه قال الغراء البيضاء النقية العرض، والفرعاء الطويلة الفرع: أي الشعر [والعوارض الرباعيات والأنياب] تمشى الهوينى: أي على رسلها، والوجى يشتكي حافره، ولم يخف، وهو مع ذلك وحل فهو أشد عليه.
وغراء مرفوع لأنه خبر مبتدأ ويجوز نصبه بمعنى أعني، وعوارضها مرفوعة على أنها اسم ما لم يسم فاعله والهوينى في موضع نصب على المصدر وفيها زيادة على معنى مصدر.
المشية: الحالة، وقوله مر السحابة أي تهاديها كمر السحابة، وهذا مما يوصف به [النساء].
الحلي واحد يؤدي عن جماعة، ويقال في جمعه حلي، والوسواس جرس الحلي، إذا انصرفت: يريد إذا خفت، فمرت الريح، تحرك الحلي، فشبه صوت الحلي بصوت خشخشة العشرق على الحصباء
تختتل وتختل واحد [بمعنى تسرق وتخدع] فهي لا تفعل هذا
يقول لولا أنها تشدد إذا قامت لسقطت وإذا في موضع نصب والعامل فيها يصرعها
ذنوب المتن: العجيزة والمعاجز مقر الوشاح.
صفر الوشاح: أي خميصة البطن، دقيقة الخصر، فوشاحها يقلق عليها لذلك هي تملأ الدرع لأنها ضخمة، والبهكنة الكبيرة الخلق، وتأتى تترفق من قولك هو يتأتى لك لأمر، وقيل تأتى: تهيأ للقيام، والأصل تتأتى فحذف إحدى التاءين، تنخزل: تنثني، وقيل تتقطع ويقال خزل عنه حقه إذا قطعه
الدجن: إلباس الغيم السماء. وقوله للذة المرء كناية عن الوطء ويروى تصرعه. لا جاف: أي لا غليظ والتفل: المنتن الرائحة وقيل هو الذي لا يتطيب.









رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:29   رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عَبيد بن الأبرَص
؟؟؟ - 25 ق.هـ / ؟؟؟ - 598 ق م


عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم الأسدي، أبو زياد، من مضر.
شاعر من دهاة الجاهلية وحكمائها، وهو أحد أصحاب المجمهرات المعدودة طبقة ثانية عن المعلقات. عاصر امرؤ القيس وله معه مناظرات ومناقضات، وعمّر طويلاً حتى قتله النعمان بن المنذر وقد وفد عليه في يوم بؤسه.

ت
تعريف / بمعلقة عبيد بن الأبرص

على الرغم من هزال هذه القصيدة واضطرابها من الناحية الفنية، فإنها تعتبر من أشهر قصائد عبيد بن الأبرص، ذلك أن المنذر قد طلب إلى الشاعر أن يلقيها في حضرته. وقد أوردها التبريزي ضمن مجموعة (القصائد العشر). بدأها عبيدُ بذكر المنازل المقفرة وتقلّب صروف الزمان عليها، ثم انتقل إلى الحديث عن سنّة الحياة في تحوّل كل شيء، ونهاية الإنسان إلى الموت، ويستطرد في بقية القصيدة، أي في ثلاثة أرباعها، إلى وصف سفره بالنّاقة، ثم إلى وصف فرسه.
وأجمل ما في القصيدة هو المقطع الأخير الذي وصف به المعركة التي جرت بين العقاب والثعلب وانتصارها عليه. وهو وصف يكاد ينسينا جفاف المطلع واتشاحه بالألوان القاتمة. وقد ذكرها ابن سيده مثلاً على "الشعر المهزول غير المؤتلف البناء". وقال ابن كناية "ولم أر أحداً ينشد هذه القصيدة على إقامة العروض. "وقيل أيضاً: "كادت ألا تكون شعراً". وكل هذا لم يمنع من شهرة القصيدة. اعتمدنا في ذلك على: مطاع صفدي وإيليا حاوي، موسوعة الشعر العربي: الشعر الجاهلي، إشراف د. خليل حاوي، تحقيق وتصحيح أحمد قدامة، بيروت: شركة خياط، 1974، جـ2، ص582.



معلقة عبيد الأبرص

أقفـرَ من أهلهِ مَلْحـوبُ *** فالقُطبيَّــات فالذَّنـــوبُ

فَراكِـسٌ فثُعَيـلٍبــاتٌ *** فَـذاتَ فَـرقَـينِ فالقَـلِيبُ

فَعَـرْدةٌ ، فَقَفــا حِـبِرٍّ *** لَيسَ بِها مِنهُــمُ عَـريبُ

وبُدِّلَتْ مِنْ أهْلِها وُحوشًا *** وغًـيَّرتْ حالَها الخُطُــوبُ

أرضٌ تَوارَثَهـا الجُدوبُ *** فَكُـلُّ من حَلَّهـا مَحْـروبُ

إمَّـا قَتيـلاً وإمَّـا هَلْكـًا *** والشَّيْبُ شَـيْنٌ لِمَنْ يَشِـيبُ

عَينـاكَ دَمْعُهمـا سَـروبٌ *** كـأنَّ شَـأنَيهِمـا شَـعِيبُ

واهِيــةٌ أو مَعـينُ مَـعْنٍ *** مِنْ هَضْبـةٍ دونَها لَهـوبُ

أو فَلْجُ وادٍ بِبَطْـنِ أرضٍ *** لِلمـاءِ مِنْ تَحْتِهـا قَســيبُ

أوْ جَدولٌ في ظِلالِ نَخْـلٍ *** لِلمـاءِ مِنْ تَحتِهـا سَـكوبُ

تَصْبو وأنَّى لكَ التَّصابي ؟ *** أنَّي وقَد راعَـكَ المَشـيبُ

فإنْ يَكُـنْ حـالَ أجْمَعِهـا *** فلا بَـدِيٌّ ولا عَجـيبُ

أوْ يـكُ أقْفَـرَ مِنها جَـوُّها *** وعادَها المَحْـلُ والجُـدوبُ

فكُـلُّ ذي نِعْمـةٍ مَخلـوسٌ *** وكُـلُّ ذي أمَـلٍ مَكـذوبُ

فكُـلُّ ذي إبِـلٍ مَـوْروثٌ *** وكُـلُّ ذي سَـلْبٍ مَسْـلوبُ

فكُـلُّ ذي غَيْبـةٍ يَـؤوبُ *** وغـائِبُ المَـوْتِ لا يَغـيبُ

أعاقِـرٌ مِثْـلُ ذاتِ رَحْـمٍ *** أوْ غـانِمٌ مِثْـلُ مَنْ يَخـيبُ

مَنْ يَسْـألِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ *** وســــائِلُ اللهِ لا يَخـيبُ

باللهِ يُـدْرَكُ كُـلُّ خَـيْرٍ *** والقَـوْلُ في بعضِـهٍِ تَلغـيبُ

واللهُ ليسَ لهُ شَــريكٌ *** عـلاَّمُ مـا أخْفَـتِ القُلُـوبُ

أفْلِحْ بِما شِئْتَ قدْ يَبلُغُ بالضَّعْـ *** ـفِ وقَدْ يُخْـدَعُ الأرِيبُ

يَعِـظُ النَّاسُ مَنْ لا يَعِـظُ الدْ *** دَهْـرُ ولا يَنْفَـعُ التَّلْبِيبُ

إلاَّ سَــجِيَّـاتُ ما القُلُـو *** بُ وكمْ يُصَـيِّرْنَ شائنًا حَبِيبُ

سـاعِدْ بِأرضٍ إنْ كُنتَ فيها *** ولا تَقُـلْ إنَّنـي غَـريبُ

قدْ يُوصَلُ النَّازِحُ النَّائي وقد *** يُقْطَـعُ ذو السُّـهْمَةِ القَـريبُ

والمَرْءُ ما عاشَ في تَكْذيبٍ *** طُـولُ الحَيــاةِ لـهُ تَعْـذيبُ

يا رُبَّ مـاءٍ وَرَدتُّ آجِـنٍ *** سَـــبيلُهُ خـائفٌ جَـدِيبُ

رِيشُ الحَمـامِ على أرْجائِهِ *** لِلقَـلبِ مِنْ خَـوْفِـهِ وَجِـيبُ

قَطَعتـهُ غُـدْوة مُشِــيحًا *** وصــاحِبي بـادِنٌ خَبــوبُ

غَـيْرانةٌ مُوجَـدٌ فَقـارُهـا *** كـأنَّ حـارِكَهــا كَثِـيبُ

أخَـلَّفَ بـازِلاً سَـــديسٌ *** لا خُـفَّـةٌ هِـيَ ولا نَـيُـوبُ

كـأنَّهـا مِنْ حَمـيرِ غـاب *** جَـوْنٌ بِصَفْحـَتِــهِ نُـدوبُ

أوْ شَـبَبٌ يَـرْتَعي الرُّخامِي *** تَـلُـطُّـهُ شَـمْألٌ هَـبُـوبُ

فـذاكَ عَصْـرٌ وقدْ أرانـي *** تَحْمِـلُنـي نَهْـدَةٌ سَـرْحوبُ

مُضَـبَّرٌ خَلْـقُهـا تَضْـبيرًا *** يَنْشَـقُّ عَنْ وَجْهِهـا السَّـبيبُ

زَيْـتِـيَّـةٌ نائـمٌ عُـروقُهـا *** ولَـيِّنٌ أسْــرُها رَطِـيبُ

كـأنَّهـا لِقْــوَةٌ طَـلُـوبٌ *** تَـيْـبَسُ في وَكْـرِها القُـلُوبُ

بَـانَـتْ علَى إرْمٍ عَـذوبـًا *** كـأنَّهـا شَــيْخةٌ رَقُــوبُ

فَأَصْـبَحَتْ في غَـداةِ قُـرٍّ *** يَسْـقُطُ عَنْ رِيشِـها الضَّـريبُ

فَأبْصَرَتْ ثَعْلَـبًا سَـريعـًا *** ودونَـهُ سَــبْسَـبٌ جَـديـبُ

فَنَفَّـضَتْ رِيشَـها ووَلَّـتْ *** وَهْـيَ مِنْ نَهْضَـةٍ قَـريـبُ

فاشْـتالَ وارْتاعَ مِنْ حَسِيسٍ *** وفِعْلـهُ يَفعَــلُ المَـذْؤوبُ

فَنَهَضَـتْ نَحْـوَهُ حَثِـيثـًا *** وحَـرَّدتْ حَـرْدَهُ تَسِــيبُ

فَـدَبَّ مِنْ خَلفِهـا دَبيبـًا *** والعَـيْنُ حِمْـلاقُهـا مَقْلـوبُ

فـأدْرَكَتْـهُ فَطَـرَّحَتْــهُ *** والصَّـيْدُ مِنْ تَحْتِهـا مَكْـروبُ

فَجَـدَّلَـتْـهُ فَطَـرَّحَتْــهُ *** فكَـدَّحَتْ وَجْهَـهُ الجَـبوبُ

فعـاوَدَتْـهُ فَـرَفَّـعَـتْـهُ *** فـأرْسَـلَـتْـهُ وهُوَ مَكْـروبُ

يَضغُو ومِخْلَـبُهـا في دَفِـهِ *** لا بُـدَّ حَـيْزومُـهُ مَنقُــوبُ









رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:33   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

السبع المعلقات (تحليل أنثروبولوجي) بنية المطالع في المعلقات – عبد المالك مرتاض



أولاً: لماذا الطلل؟

لقد علّل ابن قتيبة نقلاً عن بعض معاصريه أنّ “مُقصِّدَ القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار: فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق؛ ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها؛ إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن، على خلاف ما عليه نازلة المدر من انتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثمّ وصل ذلك بالنسيب (…) ليُمِيلَ نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه”([1]).
وإذاً، فقد نَبَّه النقاد القدماء لعلة ابتداء مقصِّدِي القصائدِ بذكر الديار، ووصف الدمن، والوقوف على الربوع يبكون لديها، ويشكون من تَحّمُّل أهلها عنها، ومزايلة الأحبة إياها فيذكرون الأيام الخوالي، والأزمان المواضي؛ وما كانوا نَعِموا به فيها من اللحظات السعيدات، مع الحبيبات الوامقات: إما بالنظرات والرنوات، وإما بتبادل أسقاط الحديث، وأما بنيل أكثر من ذلك منهنّ… يذكرون كلّ ذلك فتذرف منهم العيون تذرافاً، وتهيم بهم الصبابة، وترتعش في أعماقهم العواطف، وتلتعج في قلوبهم المشاعر، فينهال عليهم الشعر الجميل انهيالاً، كما تنهال من أعينهم الدموع الغزار حتى تبلّ محامِلَهم.
وكان هذا الدّيْدُن جِبِلّةً في ذلك المجتمع البدويّ الذي لم يك نظامه ينهض على الاستقرار كما كان ذلك مفترضاً في الحواضر العربية مثل مكة، ويثرب، وصنعاء، والحيرة…، وإنما كان ينهض على نظام التظعان: انتجاعاً للكلأ، والتماساً لمدافِع الماء، وارتشافاً لمنابعها، وارتواء بما في غدرانها؛ فكان المقام لا يكاد يستقرّ بهم قرارُه. وعلى الرغم من أنّ تلك المقامات التي كانت تقع لهم على عيون الماء وغدران الأمطار لا دَيَّارَ يعرفُ مُدَدَ أزمنتها؛ فإننا نفترض، مع ذلك، أنها كانت لا تزيد عن الشهرين والثلاثة. وعلى قِصَر هذه المدد التي كانت تُقَضَّى بتلك الغدران والمراعي المُمْرِعَةِ إلاّ أنها كانت مُجْزِئةً لاضطرام علاقات غرامية بين فتيات وفتيان ما أشدّ ما كانت قلوبهم تهفو للحبّ وتتعلقّ به. وغالباً ما كانت تلك العلاقات الغراميّة تقع بين أقاربَ وأهلِ عشيرة، لقيام تلك الحياة البدويّة المتنقلة على النظام القبلي أو العَشَريّ. وربما كانت تقع بين أجنبيّ عن القبيلة المتنقّلة بإحدى فتياتها…. وغالباً ما كان ذلك الحب يظلّ مكتوماً غير معلنٍ، وخفيَّاً غير ظاهرٍ؛ وإلاّ فهي المآسي للحبيبين الاثنين… ذلك بأنّ العرب كانوا يُحرِّمون على مَن يحبُّ فتاة ويشتهر حبُّه إيّاها أن يُقْدِم على اختطابها من أهلها. وكانوا يعدُّون ذلك من الفضائح وملطّخات الشرف. وإنّا لا نحسب أنّ أولئك الشعراء كانوا يصفون الدِمَنَ والأطلال، وخصوصاً أوائلهم، لمجرد حبّ الوصف، وإمتاع المتلقين؛ وإنما كانوا يصّورون عواطفهم الجيّاشة، ويعبرون عن تجاربهم الحميمة من خلال أشعارهم. من أجل ذلك كثيراً ما كنا نُلْفيهم يذكرون أسماء المواضع التي يقع حوالها الطلل البالي الذي زايلته الحبيبة وتحمّلت عنه إلى سوائه من مُخْصِبات الأرض، ومُرْوِيَات الأودية.
ولكننا نحسب أنّ ذِكْر أسماء النساء الحبيبات (زهير: أمّ أوفى؛ لبيد: نوار؛ عنترة: أم الهيثم؛ الحارث بن حلزة: هند…..) في المعلقات خصوصاً لم يكن يعني أن تلك الأسماء كانت تنصرف حقاً إلى حبيبات الشعراء، وإلاّ رُبَّتما كانوا قُتِلُوا قتلاً وَحِيّاً، وفُتِكَ بهم فتكاً ذريعاً. وإنما هي، في تمثّلنا على الأقل، أسماءٌ رمزيّة لا تعني إلاّ سمةً دالة على نساء بدون تخصيص للنسب، ولا تدليل على الانتماء العائليّ الحقيقيّ؛ ففي كلّ قبيلة عربية كان يوجد عدد لا يحصى من النساء ممن كن يَتَكَنَّين أويَتَسمين أُمَّ أوفى، ونَواراً، وأمَّ الهيثم، وهِنْداً…
والحق أنَّ ظاهرة الطلل في الشعر العربي قبل الإسلام الذي اتخذها له دأْباً لم تأتِ عبثاً؛ و لا لمجرد البكاء على عهود ماضية، وأزْمُنٍ خالية؛ ولا لمجرد الحنين والتعلق بالمكان؛ فتلك جوانب عاطفية وقد تناولها الناس قديماً وحديثاً من ابن قتيبة إلى نقاد عهدنا هذا؛ وإنما الذي يجب التوقّف لديه هو أن هذه الطلليات، أو المطالع الطللية، أو المقدمات الطللية- فبكلّ عبّر النقاد فيما نحسب -كانت جزءاً من تلك الحياة البدوية، الرعويّة، الشظِفَة، الضنْكة التي كان نظامها ينهض على إجبارية التنقل من مرعىً إلى مرعىً، ومن وادٍ إلى واد، ومن غديرٍ إلى غدير. وكانت القبيلة ربما اضطرت إلى التنقل فجأةً عن مستقرها من منزلها إذا خشيت العدوان عليها، أو الإغارة المبيتّة ضدها كما جاءت، مثلاً، بعض ذلك قبيلة بني أسدٍ حين تَوجَّسَتْ أن يُصَبِّحَها امرؤ القيس طلباً بثأر أبيه([2]).
ولما كان نظام حياتهم ينهض على الترحال، وعلى التكيف بطقس الصحراء القاسي الجاف؛ فقد كانوا يجتزئون بأقل ما يمكن التبلّغُ به في الطعام والشراب من وجهةٍ، وبأقلّ ما يمكن التدثّر به من وجهة أخراةٍ. فكانوا، في باديتهم، أقدر على الإجتزاء بأيسر الطعام وأشْظَفِهِ وأسوئه كأكْلِهمُ الْعِلْهِزَ، والحيّات، والجراد، وبأقلّ الشراب وأخبثه كالفظّ والمجدوح([3])، فكانوا أقدر الناس على احتمال الجوع، والظمأ، ووعثاء الأسفار، وأصبرهم على التنقّل في مجاهل الصحراء.
ولم تكن تلك الحواضر العربية القديمة، القليلة، مثلُ مكّة، والطائف، ويثرب، والحيرة، وصنعاء، كافيةً لأن تشعّ بحضارتها، واستقرارها، ونظامها الحَضَريّ القارّ.
وعلى غير ما يحاول أن يثبت أستاذنا نجيب محمد البهبيتيّ([4]) من أن العرب كانوا على حظ عظيم من الحضارة والرقي والتعلم: فإننا نميّز بين الحياة في القرى، والحياة في البادية القاحلة. ولا سواءٌ قومٌ تُفْعِمُهُمُ الحساسية بالحياة، وتطبع عواطفهم بالرقة لدى الحبّ، كما تطبع مشاعرهم بالغلظة والقسوة لدى التعرض للمهانة والضيم؛ قومٌ يحرصون على الموت كحرصهم على الحياة لا يبالون أن يُقْتُلُوا أو يُقْتَلُوا: حبُّ الضيف شِنْشِنَتُهُمْ، وإكرامه جبلَّتُهُم، ورعي الذمام خُلُقُهم، والوفاء بالعهد طبعهم، وفصاحة اللسان مجْدهُم، وذكاء الجنان هبة الطبيعة إياهم… وقوم ينتلقون من فجّ إلى فج، ومن كنف إلى كنف دون أن يستقر لهم قرار، لا يكادون يصطحبون أثناء تظعانهم إلاّ المُحِلاّت([5]).
ولعلّ كل ذلك، أو بعضه على الأقل، تجسده هذه المطالع الطلليّة التي وردت في القصائد التي عرفت في تاريخ النقد العربي تحت مصطلح “المعلقات”، أو “السبع الطوال” ([6]) التي تسميها العرب أيضاً “السُّمُوط”، فيما يزعم المفضّل الضبيّ([7]).
وقد لاحظنا أن بنبة كل معلقة تقوم على ثلاثة عناصر لا تكاد تعدوها، ولا تكاد تمرق عن نظامها: إذ كلٌّ منهنّ تبتدئ بذكر الطلل أو وصفه، ثم ذكر الحبيبة ووصفها، ثم الانتقال، من بعد ذلك، إلى الموضوع. ولا نستثني من هذا النظام إلاّ معلقة عمرو بن كلثوم التي تخرق العادة بابتدائها بالغزل، ثم وصف الطلل، قبل الانطلاق إلى الفخر. وعلى الرغم من خرق هذا الترتيب، فإن المعلقة تظلّ محافظة على البنية الثلاثية العناصر.
وما عدا ذلك فامرؤ القيس يبتدئ معلقته بوصف الطلل، أو البكاء على الربوع الدارسة، ثم يتدرج إلى الغزل الجسديّ بالنساء فيتوقف خصوصاً لدى حادثة دارة جلجل، لينتهي إلى الفَرَس والليل، والمطر ووصف القفر، أو طبيعة البلاد العربية اليمنية خصوصاً.
بينما نلفي زهيراً يبتدئ بالطلل، ويعوج على الغزل، وينتهي إلى وصف الحرب والتزهيد فيها. على حين أنّ طرفة، هو أيضاً، يبتدئ معلقته بذكر الطلل، ويثنّي بالغزل، وينتهي إلى وصف الناقة والافتخار بنفسه وبشيمه، وبإقباله على تبذير ماله في شراب الخمر، والإقبال على الملذّات. ولا يأتي إلاّ بعض ذلك لبيد الذي يبتدئ بوصف الطلل، ويثنّي بالتوقف لدى الغزل، لينتهي إلى الناقة فيصفها ويمجّدها، وينوّه بمكانتها، ويختم معلقته بوصف البقرة الوحشية وصفاً دقيقاً قائماً على تجربة ومُجسداً لمعرفة؛ ولكن على أساس ما لناقته بتلك البقرة الوحشية من علاقة، والتي منها التشابه في السرعة. أما عمرو بن كلثوم فيخالف جميع أصحاب السموط، كما سبقت الإشارة، بابتدائه بالغزل، ثمّ تعريجه على وصف الطلل، قبل الانتهاء إلى الفخر بنفسه، والاعتداد بقومه، في حماسة عجيبة، وغضبة عربية رهيبة.
وأما عنترة بن شداد فإنّا ألفيناه يبتدئ معلقته بوصف الطلل، قبل أن ينزلق إلى الحديث عن امرأة يجتهد في إغرائها به لينتهي، آخر الأمر، إلى وصف فرسه وحُسْنِ تجاوبه معه في المعارك، وقدرته العجيبة على فهمه، وإدراكه الذكيّ لما كان يريده منه وهو يجندل الأبطال في ساحة الوغى.
ولا يأتي الحارث بن حلّزة إلاّ بعض ذلك الضيع حيث يبتدئ بوصف الطلل، والتثنية بوصف حبيبته هندٍ، قبل الانتهاء إلى وصف الناقة التي ينزلق منها إلى وصف الحرب وشدائدها وأهوالها.
فكأنّ نظام البناء العامّ في هذه المعلقات يقوم على:

الطلل -المرأة – الفرس.
الطلل -المرأة – البعير.
الطلل -المرأة – الحرب
الطلل -المرأة -الماء.
الطلل -المرأة -الفخر.
وبتعبير رياضياتيٍّ (نحن نميّز بين النسبة إلى الرياضة، وإلى الرياضيات) تغتدي بنية المعلقات قائمة على بعض هذه القيم أو الرموز:
ا + ب + جـ
ا + ب + د
ا + ب + هـ
ا + ب + و
ا + ب + ز
إلا معلقة عمرو بن كلثوم فإنها تبتدئ بـ (ب)، ثم (أ)، ثم (ج).
ولكننا، لدى اختصار هذه النظرة إلى بنية هذه المعلقات، نلفيها؛ في أغلبها، تنهض على: الطلل- الغزل -الحرب. ذلك بأنّ الجُزْءَ الثالث من كل معلقة يمثّل، غالباً، إما الحرب صراحة؛ كما يمثل ذلك في معلقات زهير، والحارث بن حلّزة، وعنترة؛ وإمّا شيئاً من ملازماتها كما يتمثل بعض ذلك في وصف الفرس وجَوَبَان القفار ليلاً، ومعاشرة الذئاب والوحوش الضّارية حيث إنّ هذه المواضيع، كما نرى، هي أدنى ما تكون إلى الحرب، وأبعد ما تكون عن السلم؛ وكما يتمثل في الفخر الملتهب الذي يصادفنا في معلقة عمرو بن كلثوم خصوصاً. وإذن، فهناك خمس معلقاتٍ، على الأقلّ، ينتهين بالحديث عن الحرب، إما بصورة مباشرة، وإما بصورة غير مباشرة.
ومثل هذه السيرة تمثل، بصدق، الحياة العربية قبل ظهور الإسلام حيث كان البقاء للأقوى لا للأصلح، والوجود للأشجع لا للأجبن، إذْ لم تكُ أي قبيلةٍ بمنأىً عن الحرب إما بشنّها هي الغارة على سَوائِها؛ وإما بتعرضها، هي نفسها، لغارةٍ تشُنُّها عليها قبيلةً أخراةٌ مُعادية.
وذلك همٌّ آخر الهموم التي كانت تَضْطَرُّ القبائل العربيّة البدويّة إلى التّظعان على وجه الدهر، والتي كانت تحول دون قيام مجتمع مستقرٍّ ينهض على نظام مدنيّ. وقد نلحظ، أثناء ذلك، أنّ كلّ هذه العلاقات كانت تنهض على ما يسميه الأناسيّون (الأنثروبولوجيون) “نظام القرابة” ([8]).
كما أننا نلاحظ أنّ الماء يرتبط بالخصب، وأنّ الخصب يرتبط بالأرض، وأنّ الأرض ترتبط بالإخصاب لدى المرأة، وأنّ المرأة نلفيها في مركز اهتمام النصوص الشعريّة الجاهلية. وكلّ ذلك يحدث في وسط يتغيّر عبر الرُّتُوبِ، ويُمارُسُ عليه الانتقال والتحول، ولكنْ داخل حيز مغلق لا يعدوه.
ونتوقف الآن لدى طلليلة امرئ القيس لنحاول قراءتها من الوجهتين الانثروبولوجية والسِمَائياتيَّة، لنصف ونَُؤَّوِل معاً. ولعلَّنا، ببعض هذا السعي، أن نضيف شيئاً إلى القراءات الكثيرة التي سُبِقْنا إليها، قديماً وحديثاً.
وقبل أن نثبت الأبيات الستة الطلليلة المرقسيّة، نودّ أن نومئ إلى أننا لا نريد أن ننزلق إلى الحديث عن انتماء هذه الأبيات أو عدم انتمائها حقاً إلى امرئ القيس، وذلك على أساس ما ادّعت قبيلة كلب([9]) من أنها لامرئ قيسها المعروف بابن الحُمَام([10])، وقل إن شئت ابن حُمام، وق










رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:35   رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

المعلقات الشعرية

المعلقات هي من أشهر ما كتب العرب في الشعر وسميت معلقات. وقد قيل لها معلقات لأنها مثل العقود النفيسة تعلق بالأذهان. ويقال أن هذه القصائد كانت تكتب بماء
الذهب وتعلق على استار الكعبة قبل مجيء الإسلام، وتعتبر هذه القصائد أروع وأنفس ما قيل في الشعر العربي القديم لذلك اهتم الناس بها ودونوها وكتبوا شروحا لها,
وهي عادة ما
تبدأ بذكر الأطلال وتذكر ديار محبوبة الشاعر وتكون هذه المعلقات من محبته له شهاره الخاص.
وقيل إن حماد الراوية هو أول من جمع القصائد السبع الطوال وسماها بالمعلقات (السموط). وكان يقول أنها من أعذب ماقالت العرب وأن العرب كانو يسمونها بالسموط
(المعلقات). ذهب الأدباء والكتاب من بعده لدراستها. مثل ابن الكلبي. وابن عبد ربه صاحب العقد الفريد وأضاف بكتابه أمر تعليقها بالكعبة. قد تجدهم سبع قصائد
في كل كتاب قديم لكن منهم من أضاف قصيدة لشاعر وأهمل قصيدة الاخر. فاحتاروا من هم السبعة. فجعلوها عشر. (تاريخ الأدب العربي. [شوقي أبو خليل]
.وكتبت هذه المقاله من كتاب اسمه البطوله الذي كتبه ورد خطيب .

باللغة ..

فالمعلّقات لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول : هذا عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير ، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ
شيء ، وفي حديث حذيفة : «فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقنا» أي نفائس أموالنا . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق .
اصطلاحاً..

قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية.
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال والفكر ، وفي الموسيقى وفي
نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي إلى ما وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرؤ القيس ، وحماس المهلهل ، وفخر ابن كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار
ومراحل إعداد وتكوين طويلة .

هل المعلقات الظاهرة المتميزة الوحيدة........؟

هل المعلقات الظاهرة المتميزة الوحيدة في تراثنا الشعري في عصر ما قبل الإسلام؟ هل من المنطق
اختزال طليعة ما قدمه العرب من شعر في عصر ما قبل الإسلام إلى سبع أو عشر قصائد؟ لماذا لم
تقدم القبائل الأخرى قصائدها المميزة؟ أين دور قبيلة قريش؟ لماذا لم يخرج منها شاعراً له معلقة؟.
هذه تساؤلات ربما يطرحها بعض المهتمين بالشعر العربي، ونتائج البحث للإجابة عليها تؤكد أنه رغم
أن المعلقات العشر تمثل أكثر القصائد تميزاً في الشعر العربي في عصر ما قبل الإسلام، ومن يشك
في ذلك عليه أن يتصفح موقع واحة المعلقات وقراءة ما كتبه الشراح القدامى والباحثون المعاصرون
عنها، إلا أن ذلك لا يعني أنها الظاهرة المتميزة الوحيدة في شعر ذلك العصر، بل إن هناك ظواهر
أخرى متميزة لا يمكن إغفالها أو التقليل من قدرها ينبغي أن تحظى باهتمامنا، إذا ما أردنا أن نتخذ
من الشعر العربي أداة للنهوض باللغة العربية في واقعنا المعاصر.

النظر في هذين المؤلفين القيمين من تراثنا الأدبي العظيم يمكن أن يوضحا هذه الحقيقة بشكل لا لبس
فيه: كتاب طبقات فحول الشعراء الجاهليين لابن سلام الجمحي المتوفي سنة 232 هجرية، وكتاب
جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام لأبي زيد القرشي المتوفي سنة 170 هجرية. حيث
صنف الجمحي الشعراء الجاهليين في 12 طبقة تضم 73 شاعراً، واختار أبو زيد القرشي 49 شاعراً
ليكونوا أفضل الشعراء العرب في الجاهلية والإسلام وصنفهم إلى 7 مجموعات رئيسية.

فقد بدأ الجمحي تصنيفه لأفضل الشعراء الجاهليين بعشر طبقات رئيسية، في كل طبقة 4 شعراء، وأضاف لهم طبقتين آخرتين هما: طبقة أصحاب المراثي، وعددهم أيضاً 4 شعراء؛ وطبقة شعراء القرى، وعددهم 29 شاعراً موزعون كالتالي: 5 شعراء من المدينة، 9 من مكة، 5 من الطائف، 3 من البحرين، و7 شعراء من اليهود.

أما أبو زيد القرشي فقد صنف أفضل الشعراء إلى سبع مجموعات، تمثل كل مجموعة منهم ظاهرة مميزة، فبالإضافة إلى المعلقات السبع، وقد أسماها السبع الطوال، تحدث عن: المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، عيون المراثي، المشوبات، والملحمات.

من جهة أخرى، فإن المعلقات نفسها ظاهرة زمنية محدودة لا يتجاوز عمرها المائة عام، مقارنة بعصر ما قبل الإسلام الذي تزيد مدته عن ألفي عام. وهو أمر يفرض علينا ضرورة التمييز بين ظاهرة التعليق وظاهرة المعلقات. التعليق عرف في أواخر العصر الجاهلي، بينما المعلقات لم تعرف إلا عام 200 هجرية، وكان أول من نقلها إلينا وعرفنا بها هو حماد الراوية


ما حاجتنا إلى المعلقات اليوم؟

 
اللغة أداة البيان ووعاء الفكر، الارتقاء بها، والتنقيب عن ذخائرها، والنهل من مفرداتها، وإعادة تعميق استخداماتها في حياتنا اليومية والاجتماعية، وتوظيف أكبر قدر منها في حياتنا الثقافية والعلمية والتعليمية، كبديل للمفردات والمفاهيم والاصطلاحات الدخيلة علينا من اللغات الأخرى، يعد مؤشراً أساسياً من مؤشرات النهوض. إذ لم نسمع في التاريخ الإنساني عن أمة واحدة نجحت في النهوض في ظل الاستعانة بلغة أخرى على حساب لغتها بحجة أنها لغة العصر، وإنما استعانت باللغات الأخرى فوظفتها لخدمة مفردات لغتها واصطلاحاتها ودلالات معانيها. وكانت حذرة كل الحذر من مفاهيم اللغات الأخرى، خشية أن تطغى على مفاهيم لغتها الأصلية. فانتشار مفهوم دخيل ذو دلالات معينة من شأنه أن يقمع المفهوم المستخدم في لغتنا الأصلية، فيكون ذلك مدعاة للاستهانة أو الاستخفاف به، أو استخدامه في غير موضعه وبشكل سلبي، أو عدم استخدامه أصلاً. وهذا الأمر لا يقبله عقل.

الألمان يضرب بهم المثل في الاعتزاز بلغتهم، وكذلك الإيطاليين، والروس، والأسبان، والصينيين، واليابانيين وغيرهم. غير أن الموقف الأبرز جسده الفرنسيين، صحافة ومفكرين وعامة، عندما شنوا مؤخراً هجوماً لاذعاً على رئيسهم نيكولاي ساركوزي عندما تحدث باللغة الإنجليزية أثناء زيارته للولايات المتحدة ولم يتحدث باللغة الفرنسية. فالمتعارف عليه في الدول المتقدمة، أن الرئيس أينما ذهب لا يتحدث إلا بلغة بلده، حتى ولو كان يجيد لغة الدولة التي يزورها. ويثور التساؤل هنا عن حال مناهج التعليم في هذه البلدان، هل تكون بغير لغتها الوطنية، وكذلك الحال لغة التخاطب التجاري والحكومي وما إلى ذلك.

بالنسبة لنا نحن العرب، الاستعانة باللغة الإنجليزية اليوم باعتبارها لغة العلم الحديث أمر هام ولا غنى عنه، بل إن الاستعانة باللغات الأخرى للأمم المتقدمة أمر ضروري لبناء قوتنا وتحقيق نهضتنا. لكن هناك فرق بين أن نتعامل مع اللغة الإنجليزية بالشكل الأمثل الذي لا يضر بلغتنا العربية، وبين أن تكون وسيلة يستخدمها البعض لانتزاع لغة القرآن الكريم من عقولنا أو يتقلص استخدامنا لها في كل مناحي حياتنا، حتى داخل بيوتنا، وبين أطفالنا. ما من شك أن هناك خيط رفيع يفصل بين الحالتين، يمكن تلخيصه بالقول أننا بحاجة إلى اللغات الأخرى من خلال لغتنا العربية، لا على حسابها، وعلى من يجيد اللغة الإنجليزية، عليه أن يجيد اللغة العربية قبلها. إن كل عمالقة الترجمة في تاريخنا العربي، الذين نقلوا إلى العربية أعمالاً رائدة، امتلكوا ناصية اللغة العربية بشكل جدير بالتقدير.

إنني أتساءل: لماذا أصبحت اللغة العربية في بلادنا ليست لغة التخاطب التجاري؟ ولا لغة التخاطب الحكومي في كثير من الوزارات والدوائر الحكومية؟ ولا لغة التخاطب بين كثير من الأكاديميين والمهنيين العرب؟ لماذا أصبحنا في هذه الأيام قلما نجد أسماء عربية لمحلاتنا أو شركاتنا أو مؤسساتنا؟ المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري طالب بمنع أي أسماء غير عربية في محلات القاهرة. ما أحوجنا اليوم إلى مثل هذا الطرح. إنني أقترح للإجابة على هذه التساؤلات أن نقارن بين ما يحدث في باريس أو لندن أو بون أو طوكيو أو موسكو، وبين ما يحدث في مدننا العربية، ونتخذ من ذلك موعظة لنتبين حقيقة إجحافنا بحق لغتنا العظيمة.

إن الأدهى والأمر هو أن يتنصل من استخدام اللغة العربية بعض العرب ممن يدّعون أنهم يفضلون التحدث باللغة الإنجليزية، وهم الذين تعلموها من قاموس جيب صدر قبل مائة عام! علينا أن نتخذ من اهتمام الألمان والفرنسيين والإيطاليين والروس والصينيين واليابانيين بلغتهم قدوة في هذا الجانب، وعلينا كذلك أن نتعظ من عدونا الصهيوني، الذي أحيا لغة اندثرت منذ آلاف السنين لتكون أداة بيانه ووعاء فكره وإحدى مقومات قوته ووحدته.

إن اعتزازنا بلغتنا والاهتمام بها وتطوير استخدامنا لها، أساس الحفاظ على هويتنا وشخصيتنا الحضارية، والمدخل الحقيقي للإفاقة من سباتنا العميق وتحقيق نهضتنا وبناء قوتنا. وهنا أود أن أتوجه بتحية إجلال وتقدير إلى الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، على جعله العام 2008 عام الهوية في الإمارات، وأحيي الصحف ومراكز البحوث الإماراتية ومفكريها وأبناءها الذين اعتبروا أن إحياء اللغة العربية هو أساس الاهتمام بالهوية.

ويأتي الاهتمام بالقرآن الكريم والسنة النبوية كمصدر أساسي من مصادر تدعيم اللغة العربية، وهنا أوجه تحية إجلال للقرية الإلكترونية على مشروعها الجديد قيد الإنجاز، المسمى: "أطلس القرآن الكريم"، وهو حالياً وبشكل مؤقت يمثل إحدى الصفحات الفرعية لموقع المسالك دوت كوم
كما يأتي الشعر والأدب العربي، كمصدر أساسي آخر لتعميق اللغة العربية في نفوس أبنائنا، وخاصة في مراحل التعليم المدرسي. ولا ننسى أن القرآن الكريم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم مستخدماً مفردات العرب واصطلاحاتهم في عصر ما قبل الإسلام، لذلك فكثيراً ما يقول شراح الشعر العربي لبيت من الأبيات عبارتهم المشهورة: "وكذلك قال القرآن كذا وكذا". وتأتي الاستفادة من الوسائل التتقنية الحديثة، وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وتطويع الوسائط المتعددة لتساعد على تقديم اللغة العربية بشكل جذاب وبسيط ومشوق. وهنا تكمن القيمة الفعلية لواحة المعلقات.

من هنا، وضمن هذا السياق، فإن الاهتمام بالمعلقات، كنموذج من النماذج الهامة المساعدة على تدريس اللغة العربية في مدارسنا، وهي التي اتسمت بدقة المعنى وبعد الخيال وبراعة الوزن وصدق التصوير لحياة العرب الاجتماعية، وخاصة من خلال إظهارها بالصورة الممتعة المقدمة في واحة المعلقات، من الممكن أن يكون وسيلة مؤثرة وإيجابية تسهم في ترغيب أبنائنا في اللغة العربية وتعميق الاعتزاز بها في عقولهم ونفوسهم. إنني أطالب القائمين على نظم التعليم في الدول العربية منح المعلقات اهتماماً خاصاً. وجعلها مقرراً أساسياً من مقررات تدريس مادة اللغة العربية. ليس بالشكل التلقيني الجامد والمنفر، وإنما بالأسلوب التفاعلي الممتع والجذاب الذي يطرحه موقع واحة المعلقات، من خلال المزج بين الوسائط المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمرئية، ووفقاً لتقنية التطوير الثاني لشبكة المعلومات الدولية Web 2، وما ارتبط بها من فهرسة حديثة للموضوعات، وتعاون متبادل بتقديم المستخدمين لإسهاماتهم، فضلاً عن تطويع خريطة القمر الصناعي لناسا وجوجل لتحديد الأماكن الوارد ذكرها في قصائد الشعر بشكل مباشر أو غير مباشر.




لمعلقات بين التذهيب والتعليق

 
اختار العرب قبل الإسلام من أشعارهم بعض القصائد اتسمت بدقة المعنى وبعد الخيال وبراعة الوزن وصدق التصوير لحياتهم الاجتماعية، اعتبروها واعتبرها النقاد والرواة والشراح قمة الشعر العربي. أسموها: "المطولات"، لكثرة عدد أبياتها، و"المذهبات"، لكتابتها مذهبة. غير أن تسميتها الأشهر: "المعلقات"، لتعليقها على ستار الكعبة، بعد الحصول على موافقة لجنة تحكيم تنظم سنوياً عرفت بسوق عكاظ.

وفيه يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة، فيقرأون قصائدهم أمام الملأ وأمام لجنة التحكيم، التي كان من أعضائها النابغة الذبياني، ليعطوا رأيهم في القصيدة، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق وتناقلتها الألسن وعلقت على جدران الكعبة، أقدس مكان عند العرب، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها وخفي بريقها، حتى ينساها الناس وكأنها لم تكن شيئاً مذكوراً.

والمعلقات لغة، من العِلْق، وهو النفيس من كل شيء، والعَلَق هو كل ما عُلِّق. وهي اصطلاحاً قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة عددها سبع، هي: معلقة امرؤ القيس، معلقة طرفة بن العبد، معلقة زهير ابن أبي سلمى، معلقة لبيد العامري، معلقة عمرو ابن كلثوم، معلقة عنترة العبسي، ومعلقة الحارث بن حلزة. أو عشر، مضاف إليها ثلاث أخرى هي: معلقة النابغة الذبياني، معلقة الأعشى، ومعلقة عبيد بن الأبرص. وقد بلغت هذه المعلقات الذروة في اللغة والخيال والفكر والموسيقى ونضج التجربة وأصالة التعبير، برزت فيها خصائص الشعر في عصر ما قبل الإسلام بوضوح حتى عدت من أفضل الآثار الأدبية لهذا العصر.

ورغم أن أبا جعفر النحاس لم يعترف بتعليقها أصلاً، إلا أن ابن عبد ربه الأندلسي له رأي آخر في العقد الفريد كان الأكثر شهرة بين الناس قديماً وحديثاً، قال فيه: "وقد بلغ من كلف العرب به (أي الشعر) وتفضيلهم له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بين أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات السبع، وقد يقال: المعلقات". قال ابن الكلبي: أن أول ما علق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتى نظر إليه ثم اُحدر، فعلقت الشعراء ذلك بعده.

وللمعلقة الواحدة عدة روايات لأكثر من راوي، عرفناهم وعرفنا رواياتهم والفروق الدقيقة في ما بينها، من كتب التراث العربي التي ارتبطت بأسماء الرواة كمؤلفين، أو بأسماء الشراح الكبار من أمثال الزوزني والخطيب التبريزي والأنباري وغيرهم. كما عرفناهم من خلال حواشي ومقدمات المحققين المعاصرين للمعلقات، أو أحدث الدراسات عن المعلقات في الأدب العربي المعاصر والحديث، ومنها دراسات لكتاب غربيين أيضاً.

من أشهر هؤلاء الرواة: الأصمعي، الأعلم، البطليوسي، أبوعبيدة، القرشي، الطوسي، أبو سهل، والنحاس. كما أن هناك روايات تنسب للشراح الكبار المذكورين آنفاً. ويمكن القول أن درجة الاختلاف بين رواية وأخرى لنفس المعلقة لها عدة صور، منها: عدم المطابقة في ترتيب بعض الأبيات تقديماً وتأخيراً، التباين في بعض الكلمات التي قد تكون مرادفة لبعضها البعض أو مختلفة المعنى، وأحياناً وجود الفروق في بعض الحروف كحروف الجر.

لذلك، وإن كان الحرص على تقديم الروايات جميعاً، أمر مطلوب، إلا أن ذلك لا يمنع من أفضلية اتخاذ رواية واحدة، مثل رواية الزوزني على سبيل المثال، كرواية أساسية، تبنى عليها الشروح المختلفة للمعلقات والمواد الأخرى المرتبطة بها، مع الإشارة في عجالة إلى الفروق مع الروايات الأخرى.


شعراء المعلقات هم

أعشى قيس
النابغة الذبياني
امرؤ القيس
زهير بن أبي سلمى
طرفة بن العبد
عبيد بن الأبرص
عمرو بن كلثوم
عنترة بن شداد
لبيد بن ربيعة

 
وأشهر تلك المعلقات سبعة هي

* أمن أم أوفى دمنة لم تكلم، لـ (زهير بن أبي سلمى)0
* هل غادر الشعراء من متردم، لـ (عنترة بن شداد)0
* ألا هبي بصحنك فأصبحينا، لـ (عمرو بن كلثوم).
* آذتنا ببينها أسماء، لـ (الحارث بن حلزة اليشكري).
* عفت الديار محلها ومقامها، لـ (لبيد بن ربيعة العامري).
* قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، لـ (امرؤ القيس).
* لخولة أطلال ببرقة ثهمد، لـ (طرفة بن العبد.)



نبذة عن شاعر المعلقات طرفة بن العبد

هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن بكر بن وائل الشاعر المشهور ،
وطرفه بالتحريك ، والجمع الطرفاء ، وطرفة لقبه الذي عرف به ، واسمه عمرو .
وقد عاش الشاعر يتيماً ، ونشأ في كنف خاله المتلمس ، فأبى أعمامه أن يقسموا ماله ،
وظلموا حقاً لأمه وردة ، وحرم من إرث والده .
وطرفة من الطبقة الرابعة عند ابن سلام ، ويقال :هو أشعر الشعراء بعد امرىء القيس ، ومرتبته
ثاني مرتبة ولهذا ثني بمعلقته ، وقد أجمعت المصادر على انه أحدث الشعراء سناً، وأقلهم عمراً،
كان في بيئة كلها شعر ، فالمرقش الأكبر عم والده ، والمرقش الأصغر عمه ، والمتلمس خاله ،
وأخته الخرنق شاعرة أيضاً، رثته حين وفاته .وكان طرفة معاصرا ًللملك عمرو بن هند ، وكان
ينادمه ، ولكنه هجاه ، فبعث به الى عامل له بالبحرين ، بأن يأخذ جائزته منه ،وأوعز عمرو الى
عامله المكعبر بقتله ، فقتله شاباً ، في هجر ، قيل : ابن العشرين عاماً ، وقيل: ابن الست و
عشرين عاماً ويقال : انه من أوصف الناس للناقة . وقد سئل لبيد عن أشعر الناس : فقال :
الملك الضليل ، ثم سئل : ثم من ؟ قال : الشاب القتيل ، يعني طرفة . . . وللشاعر
ديوان صغير مطبوع . توفي نحو سنة 60 ق. هـ / 564 م.










رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:54   رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

التعريف المختصر الكامل للمعلقات من كافة الجوانب
كان فيما اُثر من أشعار العرب ، ونقل إلينا من تراثهم الأدبي الحافل بضع قصائد من مطوّلات الشعر العربي ، وكانت من أدقّه معنى ، وأبعده خيالاً ، وأبرعه وزناً ، وأصدقه تصويراً للحياة ، التي كان يعيشها العرب في عصرهم قبل الإسلام ، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة قديماً قمّة الشعر العربي وقد سمّيت بالمطوّلات ، وأمّا تسميتها المشهورة فهي المعلّقات . نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض الأوجه الفنّية فيها :
فالمعلّقات لغةً من العِلْق : وهو المال الذي يكرم عليك ، تضنّ به ، تقول : هذا عِلْقُ مضنَّة . وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير1 ، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ شيء ، وفي حديث حذيفة : آ«فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقناآ» أي نفائس أموالنا2 . والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق3 .
وأمّا المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات : قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر ـ على قول ـ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت
أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية4 .
والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما ، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة ، بلغت الذّروة في اللغة ، وفي الخيال والفكر ، وفي الموسيقى وفي نضج التجربة ، وأصالة التعبير ، ولم يصل الشعر العربي الى ما وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرئ القيس ، وحماس المهلهل ، وفخر ابن كلثوم ، إلاّ بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين طويلة .
وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها :
لأنّهم استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة ، وهذا ما ذهب إليه ابن عبد ربّه في العقد الفريد ، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم ، يقول صاحب العقد الفريد : آ«وقد بلغ من كلف العرب به (أي الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم ، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة ، وعلّقتها بين أستار الكعبة ، فمنه يقال : مذهّبة امرئ القيس ، ومذهّبة زهير ، والمذهّبات سبع ، وقد يقال : المعلّقات ، قال بعض المحدّثين قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت :
برزةٌ تذكَرُ في الحسـ ـنِ من الشعر المعلّقْ
كلّ حرف نادر منـ ـها له وجهٌ معشّق5

أو لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات ، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء قلّدهم في طريقتهم ، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر6 . أو أن الملك إذا ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته .
هل علّقت على الكعبة؟
سؤال طالما دار حوله الجدل والبحث ، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد على ستار الكعبة ، ويدافع عنه ، بل ويسخّف أقوال معارضيه ، وبعض آخر ينكر الإثبات ، ويفنّد أدلّته ، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا أدلّة النفي ، ولم يعطوا رأياً في ذلك .
المثبتون للتعليق وأدلّتهم :
لقد وقف المثبتون موقفاً قويّاً ودافعوا بشكل أو بآخر عن موقفهم في صحّة التعليق ، فكتبُ التاريخ حفلت بنصوص عديدة تؤيّد صحّة التعليق ، ففي العقد الفريد7 ذهب ابن عبد ربّه ومثله ابن رشيق والسيوطي8وياقوت الحموي9وابن الكلبي10وابن خلدون11 ، وغيرهم إلى أنّ المعلّقات سمّيت بذلك; لأنّها كتبت في القباطي بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة ، وذكر ابن الكلبي : أنّ أوّل ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر إليه ثمّ اُحدر ، فعلّقت الشعراء ذلك بعده .
وأمّا الاُدباء المحدّثون فكان لهم دور في إثبات التعليق ، وعلى سبيل المثال نذكر منهم جرجي زيدان حيث يقول :
آ«وإنّما استأنف إنكار ذلك بعض المستشرقين من الإفرنج ، ووافقهم بعض كتّابنا رغبة في الجديد من كلّ شيء ، وأيّ غرابة في تعليقها وتعظيمها بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب؟! وأمّا الحجّة التي أراد النحّاس أن يضعّف بها القول فغير وجيهة; لأنّه قال : إنّ حمّاداً لمّا رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم عليها وقال لهم : هذه هي المشهوراتآ»12 ، وبعد ذلك أيّد كلامه ومذهبه في صحّة التعليق بما ذكره ابن الأنباري إذ يقول : آ«وهو ـ أي حمّاد ـ الذي جمع السبع الطوال ، هكذا ذكره أبو جعفر النحاس ، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنّها كانت معلّقة على الكعبةآ»13 .
وقد استفاد جرجي زيدان من عبارة ابن الأنباري : آ«ما ذكره الناسآ» ، فهو أي ابن الأنباري يتعجّب من مخالفة النحاس لما ذكره الناس ، وهم الأكثرية من أنّها علقت في الكعبة .

النافون للتعليق :
ولعلّ أوّلهم والذي يعدُّ المؤسّس لهذا المذهب ـ كما ذكرنا ـ هو أبو جعفر النحّاس ، حيث ذكر أنّ حمّاداً الراوية هو الذي جمع السبع الطوال ، ولم يثبت من أنّها كانت معلّقة على الكعبة ، نقل ذلك عنه ابن الأنباري14 . فكانت هذه الفكرة أساساً لنفي التعليق :
كارل بروكلمان حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد ، وقد سمّاها بالسموط والمعلّقات للدلالة على نفاسة ما اختاره ، ورفض القول : إنّها سمّيت بالمعلّقات لتعليقها على الكعبة ، لأن هذا التعليل إنّما نشأ من التفسير الظاهر للتسمية وليس سبباً لها ، وهو ما يذهب إليه نولدكه15.
وعلى هذا سار الدكتور شوقي ضيف مضيفاً إليه أنّه لا يوجد لدينا دليل مادّي على أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ، فالعربية كانت لغة مسموعة لا مكتوبة . ألا ترى شاعرهم حيث يقول :
فلأهدينّ مع الرياح قصيدة منّي مغلغلة إلى القعقاعِ
ترد المياه فما تزال غريبةً في القوم بين تمثّل وسماعِ؟16

ودليله الآخر على نفي التعليق هو أنّ القرآن الكريم ـ على قداسته ـ لم يجمع في مصحف واحد إلاّ بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) (طبعاً هذا على مذهبه) ، وكذلك الحديث الشريف . لم يدوّن إلاّ بعد مرور فترة طويلة من الزمان (لأسباب لا تخفى على من سبر كتب التأريخ وأهمّها نهي الخليفة الثاني عن تدوينه) ومن باب أولى ألاّ تكتب القصائد السبع ولا تعلّق17 .
وممّن ردّ الفكرة ـ فكرة التعليق ـ الشيخ مصطفى صادق الرافعي ، وذهب إلى أنّها من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتّى وثق بها المتأخّرون18 .
ومنهم الدكتور جواد علي ، فقد رفض فكرة التعليق لاُمور منها :

1 ـ أنّه حينما أمر النبي بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور ، لم يذكر وجود معلقة أو جزء معلّقة أو بيت شعر فيها .
2 ـ عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءَها من جديد .
3 ـ لم يشر أحد من أهل الأخبار الّذين ذكروا الحريق الذي أصاب مكّة ، والّذي أدّى إلى إعادة بنائها لم يشيروا إلى احتراق المعلّقات في هذا الحريق .
4 ـ عدم وجود من ذكر المعلّقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم .
ولهذا كلّه لم يستبعد الدكتور جواد علي أن تكون المعلّقات من صنع حمّاد19 ، هذا عمدة ما ذكره المانعون للتعليق .
بعد استعراضنا لأدلة الفريقين ، اتّضح أنّ عمدة دليل النافين هو ما ذكره ابن النحاس حيث ادعى انّ حماداً هو الذي جمع السبع الطوال .
وجواب ذلك أن جمع حماد لها ليس دليلا على عدم وجودها سابقاً ، وإلاّ انسحب الكلام على الدواوين التي جمعها أبو عمرو بن العلاء والمفضّل وغيرهما ، ولا أحد يقول في دواوينهم ما قيل في المعلقات . ثم إنّ حماداً لم يكن السبّاق الى جمعها فقد عاش في العصر العباسي ، والتاريخ ينقل لنا عن عبد الملك أنَّه عُني بجمع هذه القصائد (المعلقات) وطرح شعراء أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة20 .
وأيضاً قول الفرزدق يدلنا على وجود صحف مكتوبة في الجاهلية :
أوصى عشية حين فارق رهطه عند الشهادة في الصحيفة دعفلُ
أنّ ابن ضبّة كان خيرٌ والداً وأتمّ في حسب الكرام وأفضلُ
كما عدّد الفرزدق في هذه القصيدة اسماء شعراء الجاهلية ، ويفهم من بعض الأبيات أنّه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من
دواوينهم بدليل قوله :
والجعفري وكان بشرٌ قبله لي من قصائده الكتاب المجملُ
وبعد ابيات يقول :
دفعوا إليَّ كتابهنّ وصيّةً فورثتهنّ كأنّهنّ الجندلُ21

كما روي أن النابغة وغيره من الشعراء كانوا يكتبون قصائدهم ويرسلونها الى بلاد المناذرة معتذرين عاتبين ، وقد دفن النعمان تلك الأشعار في قصره الأبيض ، حتّى كان من أمر المختار بن أبي عبيد واخراجه لها بعد أن قيل له : إنّ تحت القصر كنزاً22 .
كما أن هناك شواهد أخرى تؤيّد أن التعليق على الكعبة وغيرها ـ كالخزائن والسقوف والجدران لأجل محدود أو غير محدود ـ كان أمراً مألوفاً عند العرب ، فالتاريخ ينقل لنا أنّ كتاباً كتبه أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة في حلف خزاعة لعبد المطّلب ، وعلّق هذا الكتاب على الكعبة23 . كما أنّ ابن هشام يذكر أنّ قريشاً كتبت صحيفة عندما اجتمعت على بني هاشم وبني المطّلب وعلّقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم24 .
ويؤيّد ذلك أيضاً ما رواه البغدادي في خزائنه25 من قول معاوية : قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حِلزه من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً26 .
هذا من جملة النقل ، كما أنّه ليس هناك مانع عقلي أو فنّي من أن العرب قد علّقوا أشعاراً هي أنفس ما لديهم ، وأسمى ما وصلت إليه لغتهم; وهي لغة الفصاحة والبلاغة والشعر والأدب ، ولم تصل العربية في زمان إلى مستوى كما وصلت إليه في عصرهم . ومن جهة اُخرى كان للشاعر المقام السامي عند العرب الجاهليين فهو
الناطق الرسمي باسم القبيلة وهو لسانها والمقدّم فيها ، وبهم وبشعرهم تفتخر القبائل ، ووجود شاعر مفلّق في قبيلة يعدُّ مدعاة لعزّها وتميّزها بين القبائل ، ولا تعجب من حمّاد حينما يضمّ قصيدة الحارث بن حلزّة إلى مجموعته ، إذ إنّ حمّاداً كان مولى لقبيلة بكر بن وائل ، وقصيدة الحارث تشيد بمجد بكر سادة حمّاد27 ، وذلك لأنّ حمّاداً يعرف قيمة القصيدة وما يلازمها لرفعة من قيلت فيه بين القبائل .
فإذا كان للشعر تلك القيمة العالية ، وإذا كان للشاعر تلك المنزلة السامية في نفوس العرب ، فما المانع من أن تعلّق قصائد هي عصارة ما قيل في تلك الفترة الذهبية للشعر؟
ثمّ إنّه ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدداً لا يستهان به من المؤرّخين والمحقّقين قد اتفقوا على التعليق .
فقبول فكرة التعليق قد يكون مقبولا ، وأنّ المعلّقات لنفاستها قد علّقت على الكعبة بعدما قرئت على لجنة التحكيم السنوية ، التي تتّخذ من عكاظ محلاً لها ، فهناك يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة ، ويقرأونها أمام الملإ ولجنة التحكيم التي عدُّوا منها النابغة الذبياني ليعطوا رأيهم في القصيدة ، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق ، وتناقلتها الألسن ، وعلّقت على جدران الكعبة أقدس مكان عند العرب ، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها ، وخفي بريقها ، حتّى ينساها الناس وكأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً .
موضوع شعر المعلّقات
لو رجعنا إلى القصائد الجاهلية الطوال والمعلّقات منها على الأخصّ رأينا أنّ الشعراء يسيرون فيها على نهج مخصوص; يبدأون عادة بذكر الأطلال ، وقد بدأ عمرو بن كلثوم مثلاً بوصف الخمر ، ثمّ بدأ بذكر الحبيبة ، ثمّ ينتقل أحدهم إلى وصف الراحلة ، ثمّ إلى الطريق التي يسلكها ، بعدئذ يخلص إلى المديح أو الفخر (إذا كان الفخر مقصوداً كما عند عنترة) وقد يعود الشاعر إلى الحبيبة ثمّ إلى الخمر ، وبعدئذ ينتهي بالحماسة (أو الفخر) أو بذكر شيء من الحِكَم (كما عند زهير) أو من الوصف كما عند امرئ القيس .
ويجدر بالملاحظة أنّ في القصيدة الجاهلية أغراضاً متعدّدة; واحد منها مقصود لذاته (كالغزل عند امرئ القيس ، الحماسة عند عنترة ، والمديح عند زهير . .) ،
عدد القصائد المعلّقات
لقد اُختلف في عدد القصائد التي تعدّ من المعلّقات ، فبعد أن اتّفقوا على خمس منها; هي معلّقات : امرئ القيس ، وزهير ، ولبيد ، وطرفة ، وعمرو بن كلثوم . اختلفوا في البقيّة ، فمنهم من يعدّ بينها معلّقة عنترة والحارث بن حلزة ، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى ، ومنهم من جعل فيها قصيدة عبيد بن الأبرص ، فتكون المعلّقات عندئذ عشراً .
نماذج مختارة من القصائد المعلّقة مع شرح حال شعرائها
أربع من هذه القصائد اخترناها من بين القصائد السبع أو العشر مع اشارة لما كتبه بعض الكتاب والأدباء عن جوانبها الفنية.. لتكون محور مقالتنا هذه :
امرؤ القيس
اسمه : امرؤ القيس ، خندج ، عدي ، مليكة ، لكنّه عرف واشتهر بالاسم الأوّل ، وهو آخر اُمراء اُسرة كندة اليمنيّة .
أبوه : حجر بن الحارث ، آخر ملوك تلك الاُسرة ، التي كانت تبسط نفوذها وسيطرتها على منطقة نجد من منتصف القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس .
اُمّه : فاطمة بنت ربيعة اُخت كليب زعيم قبيلة ربيعة من تغلب ، واُخت المهلهل بطل حرب البسوس ، وصاحب أوّل قصيدة عربية تبلغ الثلاثين بيتاً .

نبذة من حياته :
قال ابن قتيبة : هو من أهل نجد من الطبقة الاُولى28 . كان يعدّ من عشّاق العرب ، وكان يشبّب بنساء منهنّ فاطمة بنت العبيد العنزية التي يقول لها في معلّقته :
أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلّل
وقد طرده أبو ه على أثر ذلك . وظل امرؤ القيس سادراً في لهوه إلى أن بلغه مقتل أبيه وهو بدمّون فقال : ضيّعني صغيراً ، وحمّلني دمه كبيراً ، لا صحو اليوم ولا سكرَ غداً ، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ ، ثمّ آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتّى يثأر لأبيه29 .
إلى هنا تنتهي الفترة الاُولى من حياة امرئ القيس وحياة المجون والفسوق والانحراف ، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته ، وهي فترة طلب الثأر من قَتَلة أبيه ، ويتجلّى ذلك من شعره ، الّذي قاله في تلك الفترة ، الّتي يعتبرها الناقدون مرحلة الجدّ من حياة الشاعر ، حيكت حولها كثير من الأساطير ، التي اُضيفت فيما بعد إلى حياته . وسببها يعود إلى النحل والانتحال الذي حصل في زمان حمّاد الراوية ، وخلف الأحمر ومن حذا حذوهم . حيث أضافوا إلى حياتهم ما لم يدلّ عليه دليل عقلي وجعلوها أشبه بالأسطورة . ولكن لا يعني ذلك أنّ كلّ ما قيل حول مرحلة امرئ القيس الثانية هو اُسطورة .
والمهم أنّه قد خرج إلى طلب الثأر من بني أسد قتلة أبيه ، وذلك بجمع السلاح وإعداد الناس وتهيئتهم للمسير معه ، وبلغ به ذلك المسير إلى ملك الروم حيث أكرمه لما كان يسمع من أخبار شعره وصار نديمه ، واستمدّه للثأر من القتلة فوعده ذلك ، ثمّ بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم ، فلمّا فصل قيل لقيصر : إنّك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلاً من العرب وهم أهل غدر ، فإذا استمكن ممّا أراد وقهر بهم عدوّه غزاك . فبعث إليه قيصر مع رجل من العرب كان معه يقال له الطمّاح ، بحلّة منسوجة بالذهب مسمومة ، وكتب إليه : إنّي قد بعثت إليك بحلّتي الّتي كنت ألبسها يوم الزينة ليُعرف فضلك عندي ، فإذا وصلت إليك فالبسها على الُيمن والبركة ، واكتب إليّ من كلّ منزل بخبرك ، فلمّا وصلت إليه الحلّة اشتدّ سروره بها ولبسها ، فأسرع فيه السمّ وتنفّط جلده ، والعرب تدعوه : ذا القروح لذلك ، ولقوله :
وبُدِّلْتُ قرحاً دامياً بعد صحّة فيالك نُعمى قد تحوّلُ أبؤسا
ولمّا صار إلى مدينة بالروم تُدعى : أنقرة ثقل فأقام بها حتّى مات ، وقبره هناك .
وآخر شعره :
ربّ خطبة مسحنفَرهْ وطعنة مثعنجرهْ
وجعبة متحيّرهْ تدفنُ غداً بأنقرةْ
ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك العرب هلكت بأنقره فسأل عنها فاخبر ، فقال :
أجارتنا إنّ المزار قريبُ وإنّي مقيم ما أقام عسيبُ
أجارتَنا إنّا غريبانِ هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيبُ30
وقد عدَّ الدكتور جواد علي والدكتور شوقي ضيف وبروكلمان وآخرون بعض ما ورد في قصّة امرئ القيس وطرده ، والحكايات التي حيكت بعد وصوله إلى قيصر ودفنه بأنقرة إلى جانب قبر ابنة بعض ملوك الروم ، وسبب موته بالحلة المسمومة ، وتسميته ذا القروح من الأساطير .

قالوا فيه :
1 ـ النبيّ(صلى الله عليه وآله) : ذاك رجل مذكور في الدنيا ، شريف فيها منسيّ في الآخرة خامل فيها ، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار31 .
2 ـ الإمام علي(عليه السلام) : سُئل من أشعر الشعراء؟ فقال :
إنّ القوم لم يَجروا في حَلبة تُعرفُ الغايةُ عند قصبتها ، فإنْ كان ولابُدّ فالملكُ الضِّلِّيلُ32 . يريد امرأ القيس .
3 ـ الفرزدق سئل من أشعر الناس؟ قال : ذو القروح .
4 ـ يونس بن حبيب : إنّ علماء البصرة كانوا يقدّمون امرأ القيس .
5 ـ لبيد بن ربيعة : أشعر الناس ذو القروح .
6 ـ أبو عبيدة معمّر بن المثنّى : هو أوّل من فتح الشعر ووقف واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها . . .33
معلّقة امرئ القيس
البحر : الطويل . عدد أبياتها : 78 بيتاً منها : 9 : في ذكرى الحبيبة . 21 : في بعض مواقف له . 13 : في وصف المرأة . 5 : في وصف الليل . 18 : في السحاب والبرق والمطر وآثاره . والبقية في اُمور مختلفة .
استهلّ امرؤ القيس معلّقته بقوله :
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزِلِ بِسِقْط اللِّوَى بين الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ
فتوضِحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها لما نسجتها من جنوب وَشَمْأَلِ
وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته ، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى وذكر الحبيب والمنزل ، ثمّ انتقل إلى رواية بعض ذكرياته السعيدة بقوله :
ألا ربّ يوم لَكَ منهُنَّ صالحٌ ولاسيّما يومٌ بدراة جُلجُلِ
ويومَ عقرت للعِذارى مطيّتي فيا عجباً من رحلِها المتحمّلِ

فضلّ العذارى يرتمينَ بلحمها وشحم كهذّاب الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ
وحيث إنّ تذكّر الماضي السعيد قد أرّق ليالي الشاعر ، وحرمه الراحة والهدوء; لذا فقد شعر بوطأة الليل; ذلك أنّ الهموم تصل إلى أوجها في الليل ، فما أقسى الليل على المهموم! إنّه يقضّ مضجعهُ ، ويُطير النوم من عينيه ، ويلفّه في ظلام حالك ، ويأخذه في دوامة تقلّبه هنا وهناك لا يعرف أين هو ، ولا كيف يسير ولا ماذا يفعل ، ويلقي عليه بأحماله ، ويقف كأنّه لا يتحرّك . . يقول :
وليل كموج البحرِ أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمومِ ليبتلي
فقُلْتُ لَهُ لمّا تمطّى بصلبِهِ وأردف أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ
ألا أيّها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبح وما الأصْبَاحُ منكَ بِأمْثَلِ
وتعدّ هذه الأبيات من أروع ما قاله في الوصف ، ومبعث روعتها تصويره وحشيّة الليل بأمواج البحر وهي تطوي ما يصادفها; لتختبر ما عند الشاعر من الصبر والجزع .
فأنت أمام وصف وجداني فيه من الرقّة والعاطفة النابضة ، وقد استحالت سدول الليل فيه إلى سدول همّ ، وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة ، وانتقل الليل من الطبيعة إلى النفس ، وانتقلت النفس إلى ظلمة الطبيعة .
فالصورة في شعره تجسيد للشعور في مادّة حسّية مستقاة من البيئة الجاهلية .
ثمّ يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذّاته فيه ، وكأنّه يريد أن يضع بين يدي صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته في ركوب الخيل واصطياد الوحش يقول :
وقد أَغتدي والطير في وُكُناتِها بِمُنْجرد قيدِ الأوابدِ هيكلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِل مُدْبر معاً كجُلْمُودِ صَخْر حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
وهو وصف رائع لفرسه الأشقر ، فقد صوّر سرعته تصويراً بديعاً ، وبدأ فجعله قيداً لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنّها لا تستطيع إفلاتاً منه كأنّه قيد يأخذ بأرجلها .
وهو لشدّة حركته وسرعته يخيّل إليك كأنّه يفرّ ويكرّ في الوقت نفسه ، وكأنّه يقبل ويدبر في آن واحد ، وكأنّه جلمود صخر يهوى به السيل من ذورة جبل عال .
ثمّ يستطرد في ذكر صيده وطهي الطهاة له وسط الصحراء قائلاً :
فظلّ طهاةُ اللحمِ ما بين منضج صفيف شواء أو قدير معجّلِ
وينتقل بعد ذلك إلى وصف الأمطار والسيول ، التي ألمّت بمنازل قومه بني أسد بالقرب من تيماء في شمالي الحجاز ، يقول :

أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضَهُكلمعِ اليدين في حبيٍّ مكَلّلِيضيءُ سناهُ أو مصابيحُ راهب أهانَ السَّليطَ في الذُّبالِ المفتّلِقعدتُ له وصحبتي بين حامِروبين إكام بُعْدَ ما متأمّلِوأضحى يسحُّ الماء عن كلِّ فيقةيكبُّ على الأذهان دوحَ الكَنهْبَلِوتيماءَ لم يترك بها جذعَ نخلةولا اُطماً إلاّ مشيداً بِجَنْدَلِ


استهلّ هذه القطعة بوصف وميض البرق وتألّقه في سحاب متراكم ، وشبّه هذا التألّق واللمعان بحركة اليدين إذا اُشير بهما ، أو كأنّه مصابيح راهب يتوهّج ضوؤها بما يمدّها من زيت كثير .
ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأمّلونه بين جامر وإكام ، والسحاب يسحّ سحّاً ، حتّى لتقتلع سيوله كلّ ما في طريقها من أشجار العِضاه العظيمة ، وتلك تيماء لم تترك بها نخلاً ولا بيتاً ، إلاّ ما شيّد بالصخر ، فقد اجتثّت كلّ ما مرّت به ، وأتت عليه من قواعده واُصوله .

لبيد بن ربيعة
هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة . . الكلابي
قال المرزباني : كان فارساً شجاعاً سخيّاً ، قال الشعر في الجاهلية دهراً34 .
قال أكثر أهل الأخبار : إنّه كان شريفاً في الجاهلية والإسلام ، وكان قد نذر أن لا تهبّ الصبا إلاّ نحر وأطعم ، ثمّ نزل الكوفة ، وكان المغيرة بن شعبة إذا هبّت الصبا يقول : أعينوا أبا عقيل على مروءته35 .
وحكى الرياشي : لمّا اشتدّ الجدب على مضر بدعوة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وفد عليه وفد قيس وفيهم لبيد فأنشد :
أتيناك يا خير البريّة كلّها لترحمنا ممّا لقينا من الأزلِ
أتيناك والعذراء تدمى لبانها وقد ذهلت أمّ الصبيّ عن الطفلِ
فإن تدعُ بالسقيا وبالعفو ترسل الـ ـسّماءَ لنا والأمر يبقى على الأَصْلِ
وهو من الشعراء ، الّذين ترفعوا عن مدح الناس لنيل جوائزهم وصِلاتهم ، كما أنّه كان من الشعراء المتقدّمين في الشعر .
وأمّا أبوه فقد عرف بربيعة المقترين لسخائه ، وقد قُتل والده وهو صغير السّنّ ، فتكفّل أعمامهُ تربيتَه .
ويرى بروكلمان احتمال مجيء لبيد إلى هذه الدنيا في حوالى سنة 560م . أمّا وفاته فكانت سنة 40هـ . وقيل : 41هـ . لمّا دخل معاوية الكوفة بعد أن صالح الإمام الحسن بن علي ونزل النخيلة ، وقيل : إنّه مات بالكوفة أيّام الوليد بن عقبة في خلافة عثمان ، كما ورد أنّه توفّي سنة نيف وستين36 .
قالوا فيه :
1 ـ النبي(صلى الله عليه وآله) : أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل37

وروى أنّ لبيداً أنشد النبي(صلى الله عليه وآله) قوله :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطلُ
فقال له : صدقت .
فقال :
وكلّ نعيم لا محالة زائلُ
فقال له : كذبت ، نعيم الآخرة لا يزول38 .
2 ـ المرزباني : إنّ الفرزدق سمع رجلاً ينشد قول لبيد :
وجلا السيوف من الطلولِ كأنّها زبر تجدّ متونَها أقلامُها
فنزل عن بغلته وسجد ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : أنا أعرف سجدة الشعر كما يعرفون سجدة القرآن39 .
القول في إسلامه
وأمّا إسلامه فقد أجمعت الرواة على إقبال لبيد على الإسلام من كلّ قلبه ، وعلى تمسّكه بدينه تمسّكاً شديداً ، ولا سيما حينما يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه ، وبقرب دنوّ أجله; ويظهر أنّ شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقعت في أيّامه ، فابتعد عن السياسة ، وابتعد عن الخوض في الأحداث ، ولهذا لا نجد في شعره شيئاً ، ولا فيما روي عنه من أخبار أنّه تحزّب لأحد أو خاصم أحداً .
وروي أنّ لبيداً ترك الشعر وانصرف عنه ، فلمّا كتب عمر إلى عامله المغيرة ابن شعبة على الكوفة يقول له : استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام . أرسل إلى لبيد ، فقال : أرجزاً تُريد أم قصيداً؟ فقال :
أنشدني ما قلته في الإسلام ، فكتب سورة البقرة في صحيفة ثمّ أتى بها ، وقال : أَبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر . فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد40 .
وجعله في اُسد الغابة من المؤلّفة قلوبهم وممّن حسن إسلامه41 ، وكان عمره مائة وخمساً وخمسين سنة ، منها خمس وأربعون في الإسلام وتسعون في الجاهلية42 .









رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 16:57   رقم المشاركة : 29
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

تحليل كامل للمعلقات



السبْع المعلّقات [مقاربةسيمائيّة/ أنتروبولوجيّة لنصوصها] - د.عبد الملك مرتاض منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998
دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998
ما قبل الدخول في القراءة:

-1-
كيف يمكن لأسراب متناثرة من السِّمات اللّفظيّة- حين تجتمع، وتتعانق، وتتوامق، وتتعانق، وتتجاور، وتتحاور، وتتضافر؛ فتتناسخ ولا تتناشز- فتغتدِي نسْجاً من الكلام سحريّاً، ونظاماً من القول عطريّا؛ فأما العقولُ فتبهرُها، وأمّا القلوب فتسحرها. فأنَّى ينثال ذلك القَطْرُ المعطَّرُ، ويتأتّى ذلك السحر المَضمّخ: لهذا النسْج الكلاميّ العجيب؟ وكيف تقع تلك العناية البلاغيّة والتعبيريّة للشاعر، فيتفوّق ويَسْتَميزُ؟ ولِمَ يتفاوت الشعراء فيْ ذلك الفضل: فإذا هذا يغترف من بحر، وذاك ينحت من صخر، على حدّ تعبير المقولة النقديّة التراثية. ولِمَ، إذن، يتفاوتون في درجات الشعريّة بين محلّق في العلاء، ومُعْدٍ في سبيلٍ كَأْداء، وَسَارٍ في ليلةٍ دَأْدَاء؟
-2-
ذلك؛ ويندرج أي‌ُّ ضرْب من القراءة الأدبيّة، ضمن إجراءات التأويليّة- أو الهرومينوطيقا- الشديدة التسلّط على أيّ قراءة نقرأ بها نصّاً أدبيّاً، أو دينيّاً، أو فلسفيّاً، أو قانونيّاً، أو سياسيّاً... لكنّ الذي يعنينا، هنا والآن، هو النصّ الأدبيّ الخالص الأدبيّة. والأدبيُّ، هنا، في تمثّلنا ممتدّ إلى الشعريّ، شامل له، معادل لمعناه.
وإنّا إِذْ نأتي اليوم إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، وإلى القصائدِ المعلّقاتِ، أو المعلّقاتِ السبعِ، أو السَّبْعِ الطوال، أو السُّموط- فكلُّ يقال- لِنحاولَ قراءتها في أَضواءٍ من المعطيات جديدة، على الأقلّ ما نعتقده نحن: فإنما لكي نُبْرِزَ، من حيث نبتغي أن لا نبتغي، دور هذه التأويليّة المتسلّطة في تمزيق حجاب السريّة التي كان قُصارَاهَا حَجْبَ الحُمولةِ الأدبيّة للنص المقرءِ، أن المحلِّلِ، أو المؤَوَّلِ، أو مواراة الملامح الجماليّة للكتابة...
وسواء علينا أقرأنا نصوص المعلّقات السبع ضمن الإِجراء الأنتروبولوجي، أم ضمن الإِجراء السيمائِياني؛ فإننا في الطوريْن الاثنين معاً نَدْرُجُ في مُضْطَرَبِ التأويليّة ولا نستطيع المروق من حيزها الممتدّ، وفضائها المفتوح، وإجراءاتها المتمكّنة ممّا تودّ أن تتّخذ سبيلَها إِليه...
وإنّا لن ننظر إلى الشعر الجاهليّ نظرة مَنْ يرفضون أن يكون له سياق، أو أن ينهض على مرجعيّة، أو تكون له صلة بالمجتمع الذي ينتمي إِليه: من حيث هو بيئة شاملةُ المظاهر، متراكبة العلاقات؛ لأننا لو إِلى ذلك أردْنا، وإياهُ قَصَدْنا؛ لَمَا عُجْنا على مفهوم الأنتربولوجيا نسائله عن دلالاتها التّي تعدّدت بين الأمريكيّين والأوربيّين من وِجْهة، وتَطوّرت بين قرنين اثنيْن: القرن التاسع عشر والقرن العشرين من وجهة أخراة: كما كان شعراء ما قبل الإسلام يسائلون الربوع الدارسة، والأطلال البالية، والقِيعان التي هجرَها قطينُها، فعَزَّ أَنيسُها...
لكنّنا لسنا أيضاً اجتماعِيّيَن نتعصّب للمجتمع فنزعم أنه هو كلّ شيء، وأنّ ما عداه ممّا يبدو فيه من آثار المعرفة، ومظاهر الفنّ، ووجوه الجمال، وأَسقاط الأدب؛ لا يعدو كلّ أولئك أن يكون مجرّد انعكاس له، وانتساخ منه، وانبثاق عنه... ذلك بأنّ الفنّ قد يستعصم، والجمالَ قد يستعصي، والأدب قد يعتاص على الأَفهام فلا يعترف بقوانين المجتمع، ولا بتقاليده، فيثور عليها، وينسلخ منها رافضاً إِيّاها؛ مستشرفاً عالَماً جديداً جميلاً، وحالماً ناضراً، لا يخضع للقيود، ولا يذعن للنواميس البالية...
إِنّا لو شئنا أن نُدَارِسَ الأدب في ضوء المنهج الاجتماعيّ لكنّا استرحنا من كلّ عناء، ولما كنّا جشّمنا النفس ضنى القراءة في المعرفيّات الإنسانيّة، ولكنّا أخلدنا إلى هذه القراءة البسيطة التي تجتزىْ، مقتنعة واثقة من أمرها، بتأويل الظاهرة الأدبيّة، أو قل بتفسيرها على الأصحّ، في ضوء الظاهرة الاجتماعيّة، وتستريح؛ ولكنها لا تريح. بل إِنّ مفهوم التأويل الذي نصطنع هنا قد يكون في غير موضعه من الدلالة الاصطلاحية؛ إِذ عادة ما يكون هذا التأويل أدعى إِلى الجهد الفكري، والذهاب في مجاهله إِلى أقصى الآفاق الممكنة من حيث إِنّ المنهج الاجتماعيّ، في قراءة الأدب، لا يكاد يُعْنِتُ نفسّه، ولا يكاد يشقّ عليها، أو يجاهدها: إِذ حَكَمَ، سلَفاً، باجتماعيّة هذا النصّ، أي بابتذالِه؛ أي بتمريغه في السوقّيّة؛ أي بعزوه إِلى تأثير الدهماء. بل لا يجتزىْ بذلك حتى يجعَلَه نتاجاً من أثارها، ومظهراً من مظاهر تفكيرها، وطوراً من أطوار حياتها، بدون استحياء...
المنهج الاجتماعيّ بفجاجته، وسطحيّته، وسوقيّته، وفزَعِه إِلى شؤون العامّة يستنطقها: لا يُجْدِي فتيلاً في تحليل الظاهرة الأدبيّة الراقية، ولا في استنطاق نصوصها العالية، ولا في الكشف عمّا في طيّاتها من جمال، ولا في تقصّي ما فيها من عبقريّ الخيال... فأَوْلَى لعلم الاجتماع أن يظلّ مرتبطاً بما حدّده بنفسه لنفسه، وبما حَكَم به على وضعه، وهو النظر في شؤون العوامّ وعلاقاتهم: بعضهم ببعض، أو تصارع بعضهم مع بعض، أو تصارعهم مع مَنْ أعلى منهم، حسَداً لهم، وطمَعَاً في أرزاقهم؛ كما قرر ذلك ماركسهم فأقام الحياة كلَّها على صراع البنية السفلى مع العليا...
وعلى الرغم من أننا لا نعدم من يحاول ربط علم الاجتماع بالأنتروبولوجيا، أوجعل الأنتروبولوجيا مجرد فرعيّة اجتماعيّة، وأنّ قد يسمّى "الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة" إِنما انبثق عن دراسة المجتمعات الموصوفة بـ "البدائيّة" (1): فإِنّ ذلك لا يعدو كَونَهُ حذلقةً جامعيّة تكاد لا تعني كبيرَ شيءٍ؛ وإِلاّ فما بالُ هذا العِلْمِ يتمرّد على علم الاجتماع، فيختلف عنه في منهجه، ويمرق عنه في تحديد حقوله؛ ممّا أربك علم الاجتماع نفسّه، فجعله يكاد لا يُعْنَى بشيء إِلاّ‍ ألفى نفسه خارج الحدود الحقيقيّة التي كان اتخذها، أصلاً، لطبيعة وضعه؛ وذلك كشأن البحوث المنصرفة إلى الدين، وإلى الأسطورة، وإلى السحر، وإلى السياسة، وإلى علاقات القربى بين الناس، وإلى كل، مظاهر العادات والتقاليد والمعتقدات والبيئات الأولى لنشوء الإنسان...
لقد استأثرت الانتروبولوجيا- أو علم معرفة الإنسان- بمعظم مجالات الحياة الأولى للإنسان، فإذا هي كأنها: "علم الحيوان للنوع البشريّ" (2)؛ إذ تشمل، من بين ما تشمله: علم التشريح البشريّ، وما قبل التاريخ، وعلم الآثار، وعلم وصف الشعوب، وعلم معرفة الشعوب، وعلم الاجتماع نفسه، والفولكور، والأساطير، واللسانيّات (3). فما ذا بقي لعلم الاجتماع أمام كلّ هذا؟
أم أنّ علم الاجتماع يستطيع أن يزعم أنه قادر على منافسة الأنتروبولوجيا في صميم مجالات اختصاصها؟ أنّا لا نعتقد ذلك. ولكن ما نعتقده أنّ الأنتروبولوجيا ليست علماً واحداً بمقدار ما هي شبكة معقّدة من علوم مختلفة ذات موضوع واحد مشترك هو الإنسان وتطوره التاريخيّ، وتطوره فيما قبل التاريخ أيضاً (4).
وإذن، فليس علم الاجتماع إِلاّ مجرّد نقطة من هذا المحيط، هذا العُباب الذي لا ساحل له؛ وليس إذن، إِلاّ مجرّد جملة من الظواهر التي تظهر في مجتمع ما، لتختفي، ربما، من بعد ذلك، أو لتستمر، ربما، إلى حين: كظاهرة الطلاق، أو ظاهرة المخدّرات، أو ظاهرة الجريمة، في مدينة من المدن، أو في بلد من البلدان.... على حين أنّ الأنتروبولوجيا هي العمق بعينه، وهي الأصل بنفسه؛ فهي تمثّل الجذور الأولى للإنسان، وفيزيقيّته وطبيعته، وعلاقته مع الطبيعة، وعلاقته بالآخرين، وعلاقته بما وراء الطبيعة المعتقدات- الدين- الأساطير)، وعلاقته بالأنظمة والقوانين (الأنظمة السياسيّة)، وعلاقته بالأقارب أو ارتباطه بالأسرة، وعلاقته بالعشيرة أو القبيلة، وعلاقته بالمحيط بكلّ أبعاده الطقسية، والاقتصاديّة، والثقافيّة (وتشمل الثقافة في نفسها: جملة من المظاهرة مثل الأسطورة، والسحر، وكيفيّات التعبّد، وهلّم جرّا.....).
فبينما عِلْمُ الاجتماع يتخذ، من بين ما يتّخذ، من الإحصاءات والاستبيانات إِجراءُ له في تحليل الظاهرة الاجتماعية وتفسيرها؛ نُلْغي العالِم الأنتروبولوجيّ "الغارق" في المجتمع الذي يدرسه،
يُعْنَى بصميم المعيش في هذا المجتمع. وأيّاً كان الشأن، فإنّ كُلاً منهما اغتدى الآن يستعير من منهج الآخر، دون أن يلفي في ذلك غضاضةً (5).
بيد أنّ الأنتروبولوجيا أوسعُ مجالاً، و أشدّ تسلّطاً على المجتمعات. ونحن نرى أنّ علم الاجتماع يتسلّط على الظاهرة من حيثُ كَوْنُها تَحْدُثُ وتتكرّر، وتشيع في مجتمع ما؛ أي كأنه يتسلّط على وصف ما هو كائن؛ على حين أنّ الأَناسِيَّةَ تتسلّط على المجتمعات التقليديّة، أو البدائيّة من حيث هي: فتصفها، ثم تحلّلها. فكأنّ علم الاجتماع يتسلّط على ظواهر اجتماعيّة منفردة ليصفها ويحلّلها، بينما الأَناسِيَّةُ تتسلّط على المجتمع البدائيّ في كلّيّاته فتجتهد في وصفها أوّلاً، ثم تحليلها آخراً.
وإذن، فلأْمرٍ ما أطلق العلماء على هذه المعرفيّة اصطلاح "علم الأناسة"، أو "علم الإنسان"، أو "الأناسيّة (كما نريد نحن أن نصطلح على ذلك): فكأنها العلم الذي بواسطته، وقبل علم النفس ذاته، يستطيع معرفة الإنسان في أصوله العرقيّة، وتاريخه الحضاريّ، وعلاقته بالعالم الخارجي.. بل الإيغال في معرفة معتقداته، وعاداته، وتقاليده، وأعرافه، وكلّ علاقاته بالطبيعة والكون...
-4-
ذلك، وأنّا ألفينا الناس دَرَسوا الشعر العربيّ القديم، وينصرف، لدينا، معنى القِدَمِ، وَهُنَا، إِلى عهدِ ما قبل الإسلام تحديداً: من جملة من المستويات، وتحت جملةٍ من الأشكال، وتحت طائفة من الزوايا، وعبر مختلف الرُّؤى والمواقف، وبمختلف الإجراءات والمناهج: انطلاقاً من أبي زيد القرشي، ومحمد بن سلاّم، ومروراً بالقرطاجنّي إِلى كمال أبي ديب، ومصطفى ناصف... ونحن نعتقد أنّ الذي لا يخوض في الظاهرة الشعريّة، العربيّة القديمة، من النقاد لا تكتمل أدواتُه، ولا تَنْفُقُ بضاعتُه من العلم، ولا يقوم له وجه من المعرفة الرصينة، ولا يذيع له صيت في نوادي الأدب؛ ولا يستطيع، مع كلّ ذلك، أو أثناء كلّ ذلك، أن يزعم للناس من قرائه أنه قادر على فهم الظاهرة الأدبيّة في أيّ عهد من العهود اللاّحقة، ما لَمْ يَعُجْ على هذه الأشعار يستنطقها استنطاقاً، ويقصّ آثارها، ويتسقّط أخبارها: فيعاشر أُولئِكَ الشعراءَ، ويقْعُدُ القُرْفُصَاءَ لِرُواتِهم، ويتلطّف مع أشباح أَرِئْيّائِهِمْ؛ ثمّ على الديار البالية، ويقترِئُ الأطلالَ الخالية؛ يتتبّع بَعَرَ الأَرْأمِ في العَرَصات، ويقف لدى الدِمَنِ المقفرات: يباكي الشعراء المدلّهين، ويتعذّب مع العشاق المدنّفين..
ما لَمْ يأتِ الناقدُ العربيُّ المعاصر شيئاً من ذلك.... ما لم ينهض بهذه التجربة الممتعة الممرعة... ما لم يجتهدْ في أَن ينطلق من الجذور الأدبيّة... ما لم يُصْرِرْ على الاندفاع من أرومة الأدب، وينابيع الشعر العذريّة... ما لمْ يُقْدِمْ، إذن، على البّدءِ مما يجب البدء منه: يظلّ، أخرى اللّيالي، مفتقراً، في ثقافته النقديّة، وفي ممارسته الدرسية، وفي تمثّله الجماليّ أيضاً، إلى شيء ما.... هو هذا المفقود مما كان يجب أن يكون، في مسيرته الأدبيّة، موجوداً موفوراً...
ولعلّ بعض ذلك التمثّل الذي نتمثّل به هذا الأمر، هو الذي حَملَنا على الإقبال على هذا الشعر الجميل الأصيل، والعُذْريّ الأثيل، نغترف من منابعه، ونرتشف من مدافعه؛ بعد أن كنّا في أول كتاب لنا، أصْلاً، عُجْنا على بعض شعر امرئ القيس نقرؤه ونحلّله، بما كنّا نعتقد، يومئذ، أنّه قراءة وتحليل... ولكن لاَ سواءٌ ما كنّا جِئناهُ منذ زهاء ثلاثين سنة، وما نزمع على مجيئه اليوم...
إنّ الاستهواءَ لا يكفي. فقد يَهْوى أحدُنا موضوعاً فيقبل عليه، بحبّ شديد، يعالجه.. ولكنه، مع ذلك، قد لا يبلغ منه ما كان يريد... وإذن، فهوايَتُنا هذا الشعرَ القديمَ ليست شفيعة لنا؛ ما لم نجدّد في سعينا، ونبتكر في قراءتنا، بعد أن كان تعاوَرَ على هذا الشعر الكبير مئات من النقاد والمؤرخين والدارسين، قديماً وحديثاً.... ولو جئنا نحصي من المحدثين، منذ عهد طه حسين فقط، من تناولوا هذا الشعر لألفينا عدَدَهم جمّاً، وسَوادَهم كُثْراً.... فما الذي غرَّنا بالخوض فيما خاضوا فيه، مع تغازُر العدد، وتوافر المدد، واعتياص الصّدد؟ فلعلّ الذي حَمَلنا على التجرّؤ، ودَفَعنا إلى التحفّز، مع ما نعلم من عدد السابقين لنا، هو الحريّة التي جعلها الله لنا حقاً؛ وهو، أيضاً، حبّ إبداء الرأي الذي جعله الله لنا باباً مفتوحاً، وسبباً ميسوراً، إلى يوم القيامة. وهو، بعد ذلك، ما نطمع فيه من القدرة على المسابقة والمنافسة، وما نشرئبّ إلى إضافته إلى قراءات الذين سبقونا. ولَوْلا أعْتِقادُنا بشيء من هذا التفرّد الشخصيّ في هذه القراءة التي ندّعي لها صفة الجدّة في كثير من مظاهرها ومساعيها؛ لما أعْنَتْنَا النفْسَ، وجاهدنا الوُكْد، في هذه الصحائف التي نَزْدَفُّها إلى قرائنا في المشرق وفي المغرب، وكلّنا طمع في أنها ستقدّم إليهم شيئاً مما لم تستطع القراءات السابقة تقديمَه إليهم، إن شاء الله....
ولمّا كان حرصُنا شديداً على ذلك، ورجاؤُنا شديداً في تحقيق ذلك- وبعد تدبّر وتفكّر- بدا لنا أن نجيء إلى بعض هذا الشعر العربي القديم، ممثّلاً في معلّقاته السبع العجيبات البديعات، فنقرأه قراءةً تركيبيّة الإجراء بحيث قد تنطلق من الإجراء الأنتروبولوجيّ، وتنتهي لدى الإجراء السيمائياتّي؛ إذا ما انصرف السعْيُ إلى النصّ. وتنطلق من الإجراء الشكّيّ العقلانّي، وتنتهي لدى استنتاج قائم على المساءلة أكثر مما هو قائم على الحكم والجواب.
وقد اغتدى، الآن، واضحاً أننا نحاول، في هذه التجربة، المزاوَجَة بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة لدى التعرض للنص، والمزاوجة بين المعلومات التاريخيّة وافتراض الفروض، لدى غياب النصّ، وحين التعرّض للحياة العامّة لدى العرب قبل الإسلام. وليست هذه المزاوجة بين الأنتروبولوجية، وما اصطلح عليه أنا بـ "السِيمائيّةِ"، أمراً مُستَهجَناً في مَسارِ علم المنهجة. فقد كنّا ألفينا بعض الدارسين الغربيين، ومنهم كلود ليفي سطروس، كان يزاوج بين الأنتروبولوجيا والبنوية؛ وكما كان يزاوج لوى قولدمان أيضاً بين البِنويّة والاجتماعية....
ونحن لم نجئ ذلك لمجرد الرغبة العارمة في هذه المزاوجة التي قد يراها بعضهم أنها تمّت، أو تتّم، على كُرْهٍ، وربما على غير طهْر!... ولكنّنا جئناه، اعتقاداً منّا أنّ الانطلاق في تأويل الظاهرة الشعريّة القديمة من الموقف الأنتروبولوجيّ هو تأصيل لمنابت هذا الشعر، وهو قدرة على الكشف عن منابعه... وعلى الرغم من أنّ كتابات ظهرت، في العِقديْن الأخيرين من هذا القرن، حول بعض هذا الموضوع، وذلك كالحديث عن الأسطورة في الشعر الجاهليّ مثلاً؛ فإنّ التركيب بين الأنتروبولوجيا والسيمائيّة، في حدود ما بلغناه من العلم على الأقلّ، لم ينهض به أحد من قبلنا.
ونحن إنما نُرْدفُ الأنتروبولوجيا السيمائيّة لاعتقادنا أنّ الأولى كَشَفٌ عن المنابت، وبحث في الجذور؛ وأنّ الأخراةَ تأويلٌ لمِرامِزِ تلك الجذور، وتحليل لمكامن من الجمال الفنّيّ، والدلالات الخفيّة، فيها. فلو اجتزأنا بالقراءة الأنتروبولوجيّة (والمفروض أنّ النسبة الصحيحة لهذا الاصطلاح تكون: "الأنتروبولوجويّة"، ولكننا ننبّه إليها، راهناً، دون استعمالها، حتى تألف اللغة العربيّة، العُلَمائيّة، هذا التمطّط الذي يُطيل منها...) وحدها لوقعنا في الفجاجة والنضوب. كما أننا لو اقتصرنا على القراءة السيمائياتيّة (ونحن نريد بهذه النسبة إلى قُصْرِ الإجراءات والممارسات التحليليّة على التطبيقات السيماءويّة...) وحدها، لما أَمنّا أن يُفْضِيَ ذلك إلى مجرّد تأويل للسطوح، وتفسير للأشكال، ووصف للظواهر، دون التولّج في أعماق الموالج، والتدرّج إلى أواخّي المنابت.
5-
وإنما فزِعْنا إلى هذه المقاربة الأنتروبولوجيّة- والمُرْدَفة أطواراً بالسيمائيّة- لأنّ النصوص الشعريّة التي نقرؤها قديمة؛ وأنها بحكم قدمها -أو جاهليّتها- تتعامل مع المعتقدات، والأساطير، والزجر، والكهانة، والقيافة، والحيوانات، والوشم، والمحلاّ‍ت (6)، وكلّ ما له صلة بالحياة البدائيّة، والعادات والتقاليد التي كانت تحلّ محل القوانين لدينا، لديهم... ونحن نعجب كيف لم يفكّر أحد من قبل في قراءة هذا الشعر، أو قراءة طرف من هذا الشعر على الأقلّ، بمقاربة أنتروبولوجيّة تحلّل ما فيه من بعض ما ذكرنا، أو من بعض ما لم نأت عليه ذكراً.. ذلك بأنّ أيّ قراءةٍ لهذه النصوص الأزليّة، أو المفترضة كذلك (عمرها الآن ستّة عشر قرناً على الأقلّ...)، لا تتخّذ لها هذه المقاربة ممارسة: قد لا نستطيع أن تبلغ من هذه النصوص الشعرية بعض ما تريد.
وعلى أنّنا لا نودّ أن يَتَطالَل مُتَطالِلٌ فيزعَمُ، لنا أو للناس، أنّنا إنما نريد من خلال هذه القراءة، تحت زاوية المقاربة الأنتروبولوجيّة، وتحت زاوية المقاربة السيمائياتيّة أيضاً: أنْ نَسْتَبين مقاصد الشعراء.. فذاك أمر لم نرم إليه؛ وذاك ما لم يعد أحد من حذاق منظّري النصوص الأدبيّة ومحلّليها يعيره شيئاً كثيراً من العناية؛ ولكننا إنما نريد من خلال تبيان مقاصد تلك النصوص ذاتها، وكما هي، وكما رُوِيَتْ لنا؛ أو رُويَ بعضها ونُسِجَ بعضها الآخر على روح الرواية الأصليّة وشكلها؛ أي كما وصلتنا مدّونة في الأسفار...
ومن الواضح أن من حق القارئ- المحلِّل- أن يؤوّل النصّ المقروء على مقصديّة الناصّ، ولكن دون أن يدّعيّ أن تأويله يندرج ضمن حكم الصّحة؛ إذ لا يستطيع أن يبلغ تلك المرتبة من العلم إلا إذا لابس الناصّ، وألَمَّ إلماماً حقيقياً بأحداث التاريخ التي تلابس النص والناصّ معاً، وعايش لحظة إبداع النص، وتواجَدَ في مكانه، وساءل الناصّ شخصيّاً عمّا كان يقصد إليه من وراء نسج نصّه المطروح للقراءة... ولِمَ قال ذلك؟ ولِمَ وَصَفَ هذا؟ ولِمَ، لَمْ يَصِفْ هذا؟ ولم كثّف هنا، ولم يُسَطّحْ؟ ولِمَ أومأ ولمْ يصرّح؟ أو، لِمَ صرّح ولم يُلَمّح؟ وهذا أمر مستحيل التحقيق.. إنّ تأويل النص قراءة للتاريخ، ولابحثاً عن الحقيقة، ولا التماساً للواقع، كما تدّعي المدرسة الواقعيّة التي تزعم للناس، باطلاً، أنّ الأدب يصف المجتمع كما هو؛ وأنها هي تستطيع أن تفسّره كما قَصَدَ إليه صاحُبه...، ولا طلباً للمَعيشِ بالفعل... ولكنه إنشاء لعالم جديد يُنْسَجُ انطلاقاً من عالم النصّ من حيث هو نصّ؛ لا من حيث مَقْصِدِيّةُ الناصّ من حَيْثُ هو ناصٌّ.
ولا سواءٌ تأويلٌ يكون منطلقُه من مَقْصِديَّة النصّ فيقرؤُه بحكم ما يرى مما توحي به القراءة؛ وتأويلٌ يكون منطلقه من مقصديّة الناصّ فيقرؤه على أساس أنّه يتناول حقيقة من الحقائق (ولا نريد أن ينصرف الوهم إلى معنى "الحقيقة" في اللغة القديمة، وقد استعملت في المعلّقات..)، ثمّ على أساس أنه يخوض في أمر التاريخ...
-6-
لكن لما ذا الضَرْبَ، أو المُضْطَرَبُ، في كلّ هذه المستويات لتأويل قراءة نصوص المعلّقات السبع؟ أَلأَنَّ الأمر ينصرف إلى النصّ الشعريّ، والنصّ صورةٌ إن شئت، ولكنه ليْسَها وحْدَها؛ وهو تَشاكُلٌ إن شئت، ولكنه ليسَهُ وحده؛ وهو لذّاتٌ فنيّة روحيّة إن شئت، ولكنه لَيْسَهُما وحدهما، وهو تجليات جماليّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وحدها؛ وهو سمات لفظيّة إن شئت، ولكنه ليْسَها وَحْدَها؛ وهو لَعِبٌ باللغة إن شئت، ولكنه لَيْسَه وحده؛ وهو أسْلبَةٌ وتشكيل إن شئت، ولكنه ليسهما وحْدَهُما؛ وهو فضاء دلاليّ يتشكّل من الصوت وصَدى الصوت، والإيقاع وظِلّ الإيقاع، والمعنى ومعنى المعنى؛ فيحمل كلّ مقوّمات التبليغ في أسمى المستويات...؟ أم لأنّ الأمر ينصرف إلى غير كلِّ ذلك...؟
ولمّا كان الأمر كذلك، كان لا مناص، إذن، من قراءة النصّ الأدبي، بإجْرائِهِ في مستويات مختلفات أصلاً، لكنها، لدى منتهى الأمر، تُفْضي، مُجْتَمعةً، إلى تسليط الضياء على النصّ، وإلى جعل التأويلات المتأوّلة حَوَالَهُ بمثابة المصابيح المضيئة التي تزيح عن النص الظلام، وتكشف عن مغامضه اللّثام....

-7-
وممّا لاحظناه في قراءاتنا للمعلّقات أنّ هناك إلحاحاً، كأنه مقصود -أو كأنه دأب مسلوك في تقاليد بنية القصيدة العربيّة؛ أو كأنّه إرثٌ موروث من الأزمنة الموغلة في القِدَم، فيها: على ذكر أماكن جغرافيّة بعينها؛ مما حمل ياقوت الحموي على أن يستشهد، كثيراً، بهذه الأشعار الواردِ فيها ذِكْرُ الأماكن، في اجتهادٍ منه لتحديد الأمكنة في شبه الجزيرة العربيّة، وطرفي العراق والشام. ويبدو أنّ بعض الأمكنة كان من الخمول والغُمورَةِ بحيث لم يكنيعرف إلاّ في ذلك الشعر المستشهد به، ولا يكاد في سَوائِهِ...
ويحمل هذا الأمر على الاعتقاد بأنّ شعراء الجاهليّة كثيراً من كانوا يظْعَنون من مكان إلى مكان آخر؛ كما أن الحبيبات اللواتي كانوا يتحدثون عنهنّ، أو يشبّبون بهنّ؛ كُنّ، هنّ أيضاً، بحكم اتسام تلك الحياة بالتّرحال المستمرّ، والتّظعانِ غير المنقطع، يتحملّن مع أهليهنّ... فكان، إذن، ذِكْرُ الأمكنة؛ من هذه المناظير، أمراً مُنتَظراً في أشعار أولئك الشعراء....
-8-
وقد لاحظنا وحدة المعجم اللغويّ في نسج لغة مطالع المعلّقات بخاصّة، والشعر الجاهليّ بعامّة، بحيث لم يكن الشاعر، على ذلك العهد، يرعوي في أن يسلخ بيتاً كاملاً من شعر سوائه -إلاّ لفظاً واحداً- كما جاء ذلك طرفة بالقياس إلى امرئ القيس... أمّا سَلْخُ الأعجاز أو الصدور فحدّث عنها ولا حرج. فقد كان الشاعر إمّا أن يتناصّ مع نفسه، كما نلفي ذلك في سيرة شعر امرئ القيس، عبر المعلّقة والمطوّلة، مثل:
*فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجة (تكرر في المعلّقة والمطوّلة)،

*وجاد عليها كلّ أسحم هطّال. (تكررا مرتين اثنتين في المطوّلة)

*ألحّ عليها كلّ أسحم هطّال.
على أننا نؤثر أن لا نفصّل الحديث عن هذه المسالة هنا، لأننا اختصصناها بفصل مستقلّ في هذا الكتاب.

-9-
كيف اختار شعراء المعلّقات، وسَواؤُهُمْ من غير شعراء المعلّقات من أهل الجاهليّة، استعمال الناقة في التّظعان إلى الحبيبة عِوَضاً عن الفَرَس؛ وبمَنْ فيهم امرؤ القيس الذي نلفيه يتحدث عن نحر ناقته للعذارى يوم دارة جلجل، ويعود إلى الحيّ، فيما تزعم الحكاية، رديفاً لفاطمة ابنة عمّه...؟ مع أنّ المسافة القصيرة التي كانت تقع بين الحيّ وغدير دارة جلجل يفترض أنها كانت قصيرة: فما منع امرأ القيس من اصطناع الفَرَس في تنقّله ذاك القصير؟ ولِمَ نلفي الفرسان والفُتّاكَ، مثل عنترة بن شداد، هو أيضاً، يتحدث عن ناقته، قبل أن يتحدث عن فرسه؟ فهل كان اصطناع الناقة في الأسفار دأباً مألوفاً لديهم لا يغادرونه، أم أنّ في الأمر سرّاً آخرَ؟ أم أنّ الخيل كانت عزيزة جداً لديهم، أثيرةً في نفوسهم؛ بحيث كانوا يَضِنّونَ بالارتفاق بها في الأسفار، ويذَرونَها مكرّمةً منعّمة للارتفاق بها في الحروب؟ بل لماذا كانوا يصطنعون جيادهم في الطرد، كما نلفي امرأ القيس يذكر ذلك بالقياس إلى جواده الذي يصفه بالعِتْقِ والكرم، وأنه كان سباقاً، وأنه يقيّد الأوابد..؟ فما بالُهُ حين اندسّ لِعَذارى دارة جلجل اصطنع الناقة وهي وئيدة السير، ثقيلة الخطو، مزعجة للتنقّل القريب، وهو الأمير الغنيّ الثريُّ:
فأين كان فرسه؟ وما منعه من اصطناعه، وقد كان يفترض أنه يظهر بمظهر الفارس المغامر، وليس أدلّ على الفروسيّة والرجوليّة شيء كركوب الخيل، وحمل السلاح، في منظور المرأة العربيّة على ذلك العهد..؟
-10-
ولا يمكن قراءة أيّ قصيدة من الشعر الجاهليّ، بَلْهَ قراءة أشهرِ قصائده سيرورةً، وأكثرها لدى الناس رواية؛ وهي المعلّقات السبع، دون التعرض لمسألة النحل والعبث بنصوصها، والتزيّد على شعرائها، والتصرّف في مادة شعرها: لبعد الزمان، وفناء الرجال، وانعدام الكتاب، وضعف الذواكر، وتدخّل العصبيّة القبليّة، وطفوح الحميّة الجاهليّة، وطفور المذهبيّة السياسيّة: لدى جمع الشعر الجاهليّ بعد أن مضى عليه ما يقرب من ثلاثة قرون من الدهر الحافل بالفتن والمكتظّ بالأحداث، والمتضرّم بالحروب.
ولم يكن هناك شعر أدعى إلى أن يُتَزَيَدَ فيه، ويُدَسّ عليه؛ كشعر المعلّقات التي جمعها أحد أوْضَعِ الرواة للشعر، وأَجْرَئِهِمْ على العبث به؛ وهو حمّاد الراوية بعد أن كان مضى على قدم المعلّقات وجوداً ما يقرب من ثلاثة قرون. والآية على ذلك أننّا لاحظنا أبياتاً إسلامية الألفاظ، كثيرة وقليلة، في جملة من المعلّقات مثل معلّقات زهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم... ولنضرب لذلك مثلاً في هذا التمهيد بالأبيات الأربعة، والتي نطلق عليها "أبيات القِرْبة" والمعزوة إلى امرئ القيس في نصّ المعلّقة... فإنها، كما لاحظ ذلك بعض القدماء أنفسهم (7)، مدسوسة عليه؛ وكأنّ امرأ القيس استحال إلى مجرّد صعلوك متشرّد، وضارب في الأرض متذلّل، يحمل على ظهره القراب، ويعاشر في حياته الذئاب..
إننا لا نَقْبلُ بأن تُغْزَى تلك الأبيات الأربعة الصعاليكيّة:
وقربةِ أقوامٍ جَعلْتُ عِصامَها

على كاهلٍ مِنّي ذَلول مُرَحّلِ
ووادٍ كجَوفِ العيرِ، قَفَرٍ، قطعتُه

به الذئب يعوي كالخليع المُعَيّلِ
إلى امرئ القيس، وذلك لعدم عيشه تلك التجربة، ولأنه كان موسراً غنيّاً، ولم يثبت قطّ أنه كان مضطراً إلى أن يحتمل القراب. بل لا نلفيه، في هذا الشعر يحتمل تلك القراب على ظهره فحسب، ولكنّا نلفيه متعوّداً على حملها، وإنما ذلك شأن الفقراء الصعاليك، وسيرة السفلة والمماليك... ثم لعدم حاجته أيضاً إلى أن يُخَاطِبَ السيَّد حين عوى في وجهه:
فقلت له لمّا عوى إِنّ شَأْننَا

قليلُ الغِنَى إن كنت لَمَّا تَمَوّلِ
كِلانا إذا ما نال شيئاً أفاتَه

ومن يحترثْ حرثي وحرَثكَ يهزل
ونحن لا نرتاب في أبيات القربة الأربعة فحسب، ولكننا نرتاب، أيضاً، في أبيات الليل الأربعة التي يصف فيها الليل، وأنه كموج البحر في عمقه وظلامه، وهوله وإبهامه، وذلك لبعض هذه الأسباب:
أوّلها: إنّ الأبيات الأربعة التي يزعم فيها الرواة الأقدمون- والرواة هنا مختصرون في شخص حمّاد الراوية وحده؛ إذ هو الذي جمع المعلّقات السبع وأغرى الناس بروايتها لما رأى من عزوفهم عن حفظ الشعر (8)- أنّ امرأ القيس يصف فيها الليل، هي أيضاً، لا تجاوز الأربعة، مَثَلُها مَثَلُ الأبيات الأربعة الأخراة التي شكّ فيها الأقدمون أنفسهم وعَزَوْها إلى تأبّط شرّاً (9)؛ ولذلك لم يتفقوا على إلحاقها بشعر امرئ القيس، على أساس أنها تخالف روح سيرة حياته لديهم.. وثانيها: إنّا وجدنا امرأ القيس حين يصف شيئاً يتولّج في تفاصيله، ويلحّ عليه بالوصف، بناء على ما وصلنا من الشعر الذي زعم الرواة الأقدمون أنه له: فنلفيه يصف حبيبته، وقل أن شئت حبيبتيْه- عنيزة أو فاطمة، وبيضة الخدر-، وقل أن شئت حبيباته إذا أدخلنا في الحسبان أمّ الحويرث، وجارتها أمّ الرباب، وعذارى دارة جلجل، وعنيزة، والحبالى، والمرضعات اللواتي كان طَرَقَ قبْلَها، أو قبَلَهنّ، وبيضة الخدر التي جاوز إليها الأحراس، وجازف بحياته من جلالها أمام من كانوا حِرَاصاً على قتله، وشداداً في معاملته.
ولقد استغرق منه وصْفُ مغامراته ومعاهراته، مع هؤلاء النساء، سبعة وثلاثين بيتاً ربما كانت أجمل ما في معلّقته. ومن أجمل ما قيل في الشعر العربيّ على وجه الإطلاق. فكأنّها الشعر الكامل. وكأنها السحر المكتوب. وكأنّها الشَّهْدُ المشتار. وكأنّها النص الأدبيّ الكامل: تشبيهاً، ونسجاً، وأسلبةً، وصورةً، وابتكاراً، وجمالاً..
على حين أنّنا ألفينا وصف الفرس يمتدّ في شعره على مدى ثمانية عشر بيتاً. وربما كان وصف الفرس لديه أجمل وصف قيل، هو أيضاً، في هذا الحيوان الجميل الأنيق، في الشعر العربيّ إطلاقاً.. بينما استغرق وصف المطر في معلّقته اثني عشر بيتاً. فما معنى، إذن، أن تستغرق هذه المواضيع الثلاثة، كلّ هذه الأحياز عبر المعلقة المَرْقِسيّةِ، وتمتدّ على كلّ هذه الأَفْضَاءِ، ويَقْصُرُ وصفُ الليل، وحده، فلا يجاوز أربعة أبيات، كما يقتصر وصف القربة، وقطع الوادي الأجوف ليلاً، ومخاطبة الذئب، على أربعة أبيات، فقط أيضاً، ولِمَ كان الملك الضليّل طويل النفس في بعض، وقصيَره في بعضٍ آخرَ؟
وآخرها: إنّ وحدة القصيدة تأبى أن يُقْحَمْ وصْفُ الليل: وأنه موقر بالهُمُوم، مُثْقَلٌ بالخطوب؛ وأنه كان يبتليه بما لا يقال، ويضربه بما لا يتصوّر: بين وصف الحبيبات الجميلات، وذكر الملذّات الرطيبات، ووصف الفرس الذي لم يركَبْه امرَؤُ القيس للذاته يوم دارة جلجل؛ ولكنه امتطي مطيّته التي نحرها للحسان، فيما تزعم تلك الحكاية العجيبة.... فما معنى، إذن، ذكر الهموم والأتراح بين التشبيب والطرد؛ بين لذّات الحبّ، ولذّات الصيد؟
-11-
كان أستاذنا الدكتور نجيب محمد البهبيتي حَكَمَ- كما سنناقشه في المقالة التي وقفناها على متابعة المرأة، بما هي أنثى، في المعلّقاتُ السبع، ضمن هذا الكتاب- برمزيّة المرأة، وبرمزيّة أسماء النساء في الشعر الجاهليّ (10) الذي المعلّقاتُ واسَطِةُ عِقْدِهِ. بينما ألفينا الدكتور علي البطل يعلّل الأسماء في الجاهليّة تعليلا‌ً معتقداتيّاً (11)؛ بينما نجد أبا عثمان الجاحظ يذهب إلى غير ذلك سبيلا؛ فيرى أنّ ذلك لم يكن مرجعه إلى معتقدات دينيّة خالصة، ولكن إلى معتقداتية خرافية حميمة. وكانوا يأتون ذلك على سبيل التفاؤل والتبرّك، وخصوصاً لدى تبشيرهم بميلاد الذكور. فكان الرجل منهم "إذا ولد له ذكر خرج يتعرّض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنساناً يقول حجراً، أو رأى حجراً سمّى ابنه به، وتفاءل فيه الشدّة والصلابة، والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما لقي. وكذلك إن سمع إنساناً يقول ذئباً، أو رأى ذئباً، تأوّل فيه الفطنة والخبّ، والمكر والكسب. وإن كان حماراً تأوّل فيه طول العمر والوقاحة، والقوة والجلَد. وإن كان كلباً تأوّل فيه الحراسة واليقظة وبعد الصيت، والكسب، وغير ذلك (....).. ووجدناهم (...) يسمّون بقمر، وشمس، على جهة اللقب، أو على جهة المديح..." (12).
وممّا يقرّر الجاحظ حول هذه المسألة أنّ العرب كانت تفزع إلى مثل هذه الأسامي على سبيل التفاؤل، لا على سبيل المعتقدات التي يحاول بعض الباحثين المعاصرين تأوّلها (13)، وبرهاناتُهمْ على ذلك أدنى الوَهَن منها إلى الآد، وحججهم في ذلك أقرب إلى الضعف منها إلى القوة. ذلك بأنّ نصوصهم، في سعيهم، لا تكاد تذكر مع مثل هذه النصوص التي تتجسّد في مثل كلام الجاحظ، إذ ممّا يقرره أنه إذا: "صار حمار، أو ثورٌ، أو كلبٌ: اسمَ رجلٍٍ مُعظّم، تتابعت عليه العربُ تطير إليه، ثمّ يكثر ذلك في ولده خاصة بعده" (14).
وواضح أنّ هذا الأمر، في التسمية، لا يبرح قائماً إلى يومنا هذا؛ فما هو إلاّ أن يشتهر زعيم من الزعماء، أو سياسيّ من الساسة، أو بطل من الأبطال، أو مصلح من المصلحين، أو مغنّ من المغنّين، أوعالم منالعلماء، أو أديب من الأدباء.... وإذا الناس يتهافتون على اسمه يسمّون به أولاهم: تبركاً وتحبباً، وتفاؤلاً وتشبّهاً.
ولا يرى الجاحظ أنّ العرب إنما كانت تسمّي أولادها بمثل قمر وشمس على سبيل المعتقد بهذين الكوكبين الاثنين، أو على أساس أنّ العرب كانت تعبدهما وتقدّسهما، ولكنّ ذلك كان منها "على جهة اللقب، أو على جهة المديح"(15).
-12-
وعلى أننّا لا نريد أن يعتقد معتقد أنّا نرفض الترسبّات الدينيّة، الوثنية خصوصاً، والسحريّة، والمعتقداتية في الشعر الجاهليّ، كلّه أو بعضه؛ ولكن ما لانريد أن يعتقده معتقد هو أنّنا لا نميل إلى هذا التحمس، وهذا التحفز؛ وإلى الذهاب، بأيّ ثمن، إلى ذلك التعليل الأسطوري للصورة الشعريّة، وللوقائع، وللّغة... فقد كان الأعراب أغلظ أكباداً، وأحرص على التعامل في حياتهم اليوميّة بواقعها الشظف، ورتابتها المحسوسة، مع المادّة - من أن يقعوا فيما يريد أن يوقعهم فيه، على سبيل الإرغام، بعضُ الناقدين المعاصرين، وذلك بالذهاب إلى أنّ كلّ ما هو شمس أو قمر، أو ثوراً وبقر، أو عيراً وظبي، أو نمر أوكلب، أو ثعلب أو عجل، أو ليث أو ضبّ- ممّا كانوا يقدسونه فيما غَبَر من الأزمان، ومر من الدهْرِ الدَّهارير: لم يكن يدلّ بالضرورة على التمسّك تمسّكاً دينيّاً أو روحيّاً بتلك المعتقدات الوثنيّة؛ وإلاّ فماذا سيقال في النباتات والأشجار، والسحب والأمطار، والرمال والأنهار...؟
وإنما كانوا يسمّون أبناءهم بما كانوا يرون في بيئتهم البدويّة الشظفة: أنّه هو الأيّدُ الأقوى، أو الأشدّ الأبقى: سواء في ذلك الشجر والحجر؛ وسواء في ذلك الحيوان والهوامّ. على حين أنهم كا نوا يُؤْثِرونَ لعبيدهم الأسماء الجميلة الأنيقة اللطيفة مثل صبيح، ورباح.... ذلك بأنّ الأسماء التي تُرْعِبُ وتُخيف كانوا يرون بأنها قَمَنٌ بأن تُفْزِعَ يوم الوغى، وتُرْهِبَ في مآقِطِ النِزال، بالإضافة إلى ما كانوا يريدون أن يميلوا إليه من التفاؤل بالشيء لمجرّد منوحه لهم (16).
-13-
وممّا لا نوافق الدكتور البطل علىالذهاب إليه حول هذه المسألة حِرْصُه على الرجوع إلى أبعد الأزمنة إيغالاً في القدم، ثمّ إخضاع تلك الفترة إلى ما يطلق عليه "الفترة الطوطميّة" التي يحيل فيها قُرَّاءَه على الرجوع إلى الدكتور جواد عليّ الذي كان بسط هذه النظريّة الأنتروبولوجية بناء على تنظيرات مكلينان، وليس بناء على تنظيراته هو (17).
وإنما كان الأولى أن يحيل قراءه على الأصل الذي هو جون مكلينان الذي تعود محاولاته النظريّة إلى سنة تسع وستين وثمانمائة وألف للميلاد حيث كان نشر بعض المقالات التي نبّه فيها إلى ما أطلق عليه الطوطميّة (18). لكن لم يلبث أن جاء فرازر فنشر كتابه المؤلف من أربعة مجلدات انتقد فيها ماكلينان حيث اغتدت الطوطمية لديه: "مؤسسة ذات خصوصيّة من المعتقدات البدائية وهي تتناقض (....) مع التفكير الدينيّ، كما كان يريده وليم روبرتصون سميث، ومع التفكير العقليّ الذي كان يعتقد فرازر أنه كان الناطق باسمه، في آن واحد"(19).
وعلى أنّ الانتروبولوجيين انتقدوا انتقاداً شديداً تنظيرات فرازر، وفي طليعتهم الأسكندر قولد نويزر الذي رأى انّ إدراج ثلاث ظَواهِر في عِقْدٍ واحد من الزمن ضئيل العلميّة.. (20).
وأياً كان الشأن؛ فإن الطوطمية في مفهومها الأدنى والأشهر،تعني وجود العبقرية الراعية (21) التي ينشأ عنها "الأنظمةُ الطوطمية" (22)، والتي حاول بعض العلماء تطبيقها على المجتمعات البدائية في استراليا، وأمريكا... ولكننا، نحن، لا نحسبها ممكنة الانطباق على المجتمع العربيّ قبل الإسلام، بحذافيرها...
إنّ هناك دعائِمَ أربعاً تنهض عليها هذه النزعة الأنتروبولوجية، ولا تَوْفُرُ في الأسامي العربية القديمة وفوراً كاملاً؛ لأن الجاحظ وهو الأعلم بعادات العرب وتقاليدها، والأقرب إليها عهداً، والأدنى منها زمناً، والألصق بها نَسَباً؛ لم يذكر أنّ العرب كانت تسميّ أبناءها بأسماء الحيوانات على سبيل التقديس والتبرك؛ ولكنّ ذلك كان "على جهة الفال" (23)، وعلى سبيل حفظ نسب الجدّ، "وعلى شكل اسم الأب، كالرجل يكون اسمه عمر فيسمّي ابنه عميراً.. " (24). والآية على عدم ثبات مزعم الذين يزعمون بطوطميّة الأسماء العربية على عهد ما قبل الإسلام أنّ العرب كانوا يتسمون "أيضاً بأسماء الجبال: فتسموا بأبان وسلمى"(25). بل أنهم قد "سمّوا بأسد، وليث، وأسامة، وضرغامة، وتركوا أن يسمّوا بسبع وسبعة.وسبع هو الاسم الجامع لكلّ ذي ناب ومخلب" (26).
إنّ من أصول الطوطميّة الأربعة تحريم أكل الحيوان المقدّس، والشجرة المباركة؛ بينما لم تكن العرب تتحرج في أكل أيّ من الحيوانات وثمر الأشجار التي كانت تسمّي بها أبناءها.
وواضح أنّ الزجر من المعتقدات العربيّة الحميمة التي لا نكاد نظفر بها في الفكر البدائيّ لدى الإغريق، وقدماء المصريّين، والبابليين، والكنعانيين على هذا النحو الذي وقعنا عليه في النصوص الأدبيّة والتاريخية العربيّة. فليس الزجر سحراً، ولا ديناً، ولا حتّى معتقداً حقيقياً، ولكنه نحو من السلوك قام في معتقداتهم فسلكوه..
وأمّا تقديس الثور فإننا نلفيه في بعض الأساطير الكنعانيّة، حيث "كان الثور هو الحيوان المقدّس"(27) لدى الكنعانيّين.
وربما لم تعبد الشمس في شمال الجزيرة قطّ، لأنّنا لم نعثر على صنم من أصنامهم هناك كان يمثّل على الحقيقة التاريخية الدامغة، الشمس المعبودة التي عبدت في مأرب على عهد الملكة بلقيس، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم [28]. وما نراهم قد تسمّوا به من مثل عبد شمس لعله لم يك إلاّ أثراً شاحباً لذلك التوهج الوثنيّ القديم الذي محاه الزمن، ودرسه الدهر حيث أنّ بلقيساً كانت تعيش في القرنين، الحادي عشر، والعاشر قبل الميلاد.
"وقد كانت العرب- كما يقول ابن الكلبي- تسمّي بأسماء يعبّدونها؛ لا أدري أعبّدوها للأصنام، أم لا؛ منها "عبد ياليل" ، و "عبد غنم"، و "عبد كلال"، و "عبد رضى" (29).
ومن الغريب حقاً أنّ الأساطير تذكر أن الكنعانيين كانوا يقدسون الثور؛ وفي الوقت ذاته نلفي الإله "بعل" يذبح لشقيقته عناة "ثوراً ويشويه؛ فتأكل؛ ثم تغسل يديها بالندى والماء" (30).
إن هي، إذن، إلاّ أساطير في أساطير، والذي يحاول أن يستخلص منها علماً، أو يستنبط منها أحكاماً تاريخية، سيتورط في فخّ أسطوريتها فلا يفلح في بحثه، ولا يهتدي في أحكامه...
ويرى الدكتور البطل بأن العرب لم يكونوا، في الأزمنة الغابرة، "أصحاب حضارة زراعية يعتدّ بها (....) ولعل هذا هو سر اتجاههم إلى الشمس وهي أظهر ما في حياة الصحراء، خالعين عليها صفة الأمومة؛ فاعتبروها الربة، والآلهة الأم. ولعل هذا هو سر تأنيث الشمس في اللغة العربية على عكس اللغات التي ربطتها بإلهٍ ذكر"(31):
فالأولى: أن تأنيث الشمس، في اللغة العربية، لا حجة فيه على الأمومة، ولا على الإخصاب؛ لأن هناك أمماً أخراة ربما كانت تعبد الشمس، وهي، مع ذلك تذكّرها، فالتذكير والتأنيث، في اللغة، لا ينبغي له أن يخضع، في كل الأطوار، للمعايير التي يبني عليها الدكتور البطل حكمه.
والثانية: أن الماء من الأمور التي لفتت عناية الإنسان القديم، ومع ذلك نلفي الماء مذكّراً، في اللغة العربية، وهو رمز للإخصاب، أكثر بكثير من الشمس (وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ) (32): حتى أن ملك الروم كان بعث إلى معاوية بقارورة وقال له: "ابعث إليّ فيها من كل شيء" (33)، فملأها له ماء. فقال ملك الروم لما وردت عليه: "للّه أبوه ما أدهاه" (34)؛ وذلك على أساس أن اللّه جعل في الماء كل شيء... وإن كنا نلفي هذا الماء مؤنثاً في كثير من اللغات الأخراة كالفرنسية، والإنجليزية، والإسبانية...
والثالثة: أن العرب لم تكن تؤنث الأشياء والظواهر للتعظيم والتقدير، في كل الأطوار؛ ولذلك قال أبو الطيب المتنبي:
ولو كان النساء كَمَنْ فقدَنْا

لفُضِّلَتْ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاُسْمِ الشمسِ عَيْبٌ

ولا التذكيرُ فخْرٌ لِلْهلالِ (35)
وقد خاطب الله الكفار حين جعلوا له بناتٍ (أفرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزَّى، ومَنَاةَ الثالثةَ الأُخْرى. ألَكُمُ الذّكَرُ وله الأُنُثَى؟ تلك إِذَنْ قِسْمَةٌ ضِيزَى" (36).
والرابعة: إنّ المشركين حين اتخذوا اللاّت يعبدونها من دون الله في الطائف وما والاها إنما "اشتّقّوا اسمها من اسم الله، فقالوا: اللاّتَ، يعنون مؤنّثة منه، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا"(37). ويؤيّد ذلك ما ذهب إليه الزمخشري في تفسير بعض هذه الآيات حين قرر:
"إنّ اللاّت والعزّى ومناة: إناثٌ، وقد جعلتموهنّ لله شركاء، وما شأنكم أن تحتقروا الإناث وتستنكفوا من أن يُولدْنَ لكم، ويُنْسَبْنَ إليكم: فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمّونهنّ آلهة؟" (38).

وإذن، فلا يمكن أن يكون التأنيث للشمس تفخيماً لها وتعظيماً ، ولا تقديراً لها وتقديساً. ولو كانوا أرادوا إلى ما أراد إليه الدكتور البطل، وبناء على بعض ما رأينا من أمر هذه الآيات الكريمات، وما استنبطنا من تفسيرها: لكانوا، في رأينا، ذكّروها، لا أنّثوها.
فقد سقطت، إذن، تلك الحجة؛ ووهن: إذن، ذلك البرهان.
والخامسة: إنّا لا نعتقد أنه كان للمرأة العربيّة، على عهد ما قبل الإسلام، مكانةٌ محترمة، ومنزلة اجتماعية تتبوّؤُها إزاء الرجل الذي يطلّقها لأوهى الأسباب، وكان يطلبها للفراش لا للعِشْرة؛ فلمجرّد أن حكمت أمّ جندب لعلقمة الفحل على أمرئ القيس بادَرَ إلى تطليقها (39).
والسادسة: وأمّا مسألة عبادة الأرض، وأنّ المجتمعات الزراعيّة العتيقة "عبدت الأرض بوصفها أماً" (40)؛ فإنّ الإنسان البدائيّ عبد الأحجار، والأشجار، والشمس والقمر، والأرض والسماء، والحيوانات، والريح، وكل، مظاهر الطبيعة... فلا حجّة فيه على أنّ ذلك باقٍ في الصورة الشعريّة لما قبل الإسلام. فصنم "اللاّت" بينما يزعم بعض المفسريّن (41) أنه مؤّنث الله في لغتهم ومعتقداتهم جميعاً؛ كان الآخرون من المفسرين يرون أنّ اللاّت "كان(....) رجلاً يَلُتُّ السُّويْقَ، سويق الحجّ" (42). كما روى "عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع بن أنس، أنهم قرأوا "اللاّت" بتشديد التاء وفسّروه بأنّه كان رجلاً يلتّللحجيج في الجاهلية السويق، فلمّا مات عكفوا على قبره، فعبدوه "(43). فالمعبودات لم يكنَّ نساءً فحسب؛ ولكنْ كُنَّ رجالاً أساساً. بل إنّا أصنام العرب يغلب عليها التذكير أكثر من التأنيث.
والسابعة: وأمّا اعتبار العرب أنهم ليسوا "أصحاب حضارة رزاعيّة يعتدّ بها "فإنا لا ندري كيف يمكن تناسي اليمن السعيد، وهو مهد العروبة، ومحْتِدُها الأوّل، وما كان فيه من زراعة نوّه بها القرآن (44)؛ وحيث كان سدّ مأرب العظيم قبل أن ينفجر؛ وحيث الجنتان عن يمين وشمال؛ وحيث البلدةُ الطيبة، والتربة الخصبة؛ وحيث الربُّ الكريم الغفور، وحيث كانت المرأة اليمنيّة "تمشي تحت الأشجار، وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، وهو الذي تخترف فيه الثمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يُحْتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه" (45)؛ وحيث، كما يقرر ابن عباس كانت بلاد اليمن "أخصب البلاد وأطيبها: تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير بين الشجر، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر" (46).
أم لم يكن اليمن عربيَّ الأرض، عريق العروبة؟ أم لم يُبْنَ فيه أوَّلُ سدٍّ في تاريخ الزراعة على وجه الاطلاق؟ وإذن فكيف يمكن تَجْريدهمُ ممَّا هو ثابت لهم بالأخبار المتراوية، والآثار المتتالية، والوحي المنزّل، والتاريخ المفصّل؟
ومن الغبن العلميّ أن يحاول محاول بناء مسألة على هواء، وإقامتها على فراغ، بعد أن تستهويه استهواء، وبعد أن تشدّه إليه شدّاً؛ فيجتهد في أن يجعل من الحبّة قبّة، ومن القليل كثيراً، ومن العدم وجوداً.... وقد أحسسنا بشيء من ذلك ونحن نقرأ الدكتور البطل وهو يشقّ على نفسه، ويُعْنتُها ويُضْنيها، لإثبات ما لا يمكن إثباته باليقين الدامغ، والتاريخ الناطق، فيُحسُّ ببعض الخيبة في قرارة نفسه، فيقرر: "و لانقصد بهذا أنّ شعر هذه المرحلة المتأخّرة من تاريخ العرب، يحمل لنا في صورة الدين البدائيّ القديم، فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة؛ ولكننا نرى أنّ الصور المتّرسبة في الشعر من الدين القديم هي من آثار احتذاء الشعراء لنماذج فنيّة سابقة، لم تصلنا، كانت وثيقة الصلة بهذا الدين..." (47).
ونحن نوافق الدكتور البطل على بعض ما أثبتناه له هنا لأنه عين الحقّ، وخصوصاً قوله: "فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلاّ آثار باهتة حتّى في الممارسات الدينيّة. وهو عين الحق؛ لأنّ التاريخ العربيّ القديم دَرَسَ وباد، ولم يعد يُرْوى ولا يُعاد: فقد بادت طسم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وعاد، وثمود... فمنهم من تفانوا فيما بينهم في حروب مدّمرة لم تُبْقِ منهم ديَّاراً، ولا تركت لهم آثاراً؛ ومنهم من سلّط الله عليهم العواصف الهوجاء، والأمطار الطوفانيّة فأبادتهم؛ ومنهم من فنوا بتهدّم سدّ مارب(سيل العرم)، فلم يصلنا مما قالوا إلاّ أقلّة، ولم يبق للتاريخ من معتقداتهم القديمة، ومعقتدانهم الوثنية، إلاّ مظاهر شاحبة لا تسمن من جوع، ولا تروى من ظمأٍ؛ فألفينا الأقدمين يفزعون لملء الفراغ التاريخيّ الهائل إلى أساطير التوراة، وأكاذيب يهود... بينما ألفينا المحدثين يصطنعون افتراض الفروض طوراً، ويفزعون إلى الاحترافيّة الفكريّة، واصطناع الإجراءات التأويليّة طوراً آخر: من أجل التوصّل إلى نتائج يقيمونها، في كثير من أطوارهم، على افتراضات تنقصها الشروط المنهجيّة لفرض الفروض، أو على نصوص واهِيَة التاريخيَّةِ. وفي الحاليْن الاثنتَين لا نجد من يقنعنا في غياب النصوص التاريخيّة التي لم تكتب عن العرب قبل ظهور الإسلام، إذ لم يسرع الناس في التأليف، وجمع الأخبار بكيفيّة مستفيضة إلاّ ابتداء من القرن الثاني للهجرة....
وحين جاؤوا يكتبون تاريخ العرب: الأيام، والشعر، واللغة، والأديان: تكأَّدَهُمْ ذهابُ الذين كانوا يحملون هذا الشعر، وتلك الأخبار. ولقد سُقِطَ في أيدي بعض القبائل التي ضاع شعر شعرائها، أو لم يكن لها، في الأصل، إلاّ شعراً قليل، فعَمَدتْ إلى النحل... كما صادف الرواة المحترفون في تعطّش الناس لأخبار أهل الجاهليّة مصدراً للرزق الكريم، ومنزلة للعز المنيع؛ فكان حمّاد الراوية يعيث في الشعر العربيّ فساداً على مرأىً ومسمع من العلماء الذين قصروا عن إصلاح أمره... وإذا عجزوا هم عن إصلاحه، وكان الزمن الجاهليّ لا يبرح طرياً رطباً، فمن المستحيل علينا نحن اليوم إصلاحه... (48).
ولم يكن الأصمعيّ الثقة العالم بقادر على إصلاح ما كان أفسده أستاذه خلف الأحمر الذي لازمه عشْرَ سنين؛ مثله مثل أبي عمرو بن العلاء العالم الثقة المتحرّج الذي كان يتردد ويتألّم ويتحرج، لأنه كان يعلم أنّ ما انتهى إلينا مما قالت العرب إلاّ أقّلُّهُ، ولو جاءنا وافراً لجاءنا "علم وشعر كثير" (49).
-14-
والذي يعنينا في كلّ ما أوردناه في الفقرة السابقة، وما ناقشنا به الصديق الدكتور عليّ البطل، أنّ تعليل التسميّة تعليلاً دينيًاً ليس أمراً مسلمّاً. ومن الأولى التفكير في تعليلها تعليلاً يقوم على التفاؤل والتبرّك، كما قرر ذلك أبو عثمان الجاحظ.
ذلك، وأنّا عايشنا هذه المعلّقات السبع العِجَابَ أكثر من سنتين اثنتين: ظَلْنَا، خلالَهُما، نقرؤُها، ونعيد قراءتها، حتّى تجمّع لدينا مقدارٌ صالح من الموادّ ممّا لو جئنا نحلّله كلّه لكان هذا العمل خرج في مجلّدين اثنين على الأقلّ؛ بالإضافة إلى الموادّ الأخراة الكثيرة التي ينصرف شأنها إلى الشعر الجاهليّ بعامّة، والتي قد نعود إليها يوماً لبلورتها، وإخراجها للناس. ولغزارة المادّة المصنَّفة، والمنبثقة عن قراءات نصوص المعلّقات السبع، ورغبة منّا في أن لا يكون الكتاب الذي نقدَّم بين أيدي الناس أضخم ممّا يجب، وأطول ممّا ينبغي: ونحن نحيا عصر السرعة، والميل إلى القليل المفيد: ارتأينا أن لا يزيد تقديمها على أكثر من عشر مقالات كلّ مقالة تعالج مستوىً بذاته، أو محوراً بعينه: مثل إثنولوجيّة المعلّقات، وبنية الطلليات المعلّقاتيّة، وفكرة التناص في المعلّقات، والصناعات والحرف، وطقوس الماء، والمرأة، وجماليّة الإيقاع، وجماليّة الحيز... وهلّم جرّا.
ذلك، وأنّا كنّا أزمعنا على تقديم فهارس تتناول من الحقول ذات العلاقة بالأنتروبولوجيا، لدى نهاية هذه الدراسة: ترصد بعض الظواهر التي لم نتمكّن من بلورتها، أو تحليلها في ثنايا هذه الدراسة مثل الألفاظ الدالّة على الزراعة، والزينة (أي الملابس والعطور والحليّ)، والألوان، والأديان، والمعتقدات، والألعاب... ثمّ ‎أضربنا عن ذلك لمّا رأينا حجم الكتاب طال، وموادّه اتّسعت... -ولعلّنا أن نأتي ذلك في الطبعة الثانية إن شاء الله....
فعسى أن نكون قد وفّقنا إلى إضافة لبنة صغيرة، جديدة، إلى ذلك الصرح الأدبيّ الشامخ.









رد مع اقتباس
قديم 2012-02-11, 17:00   رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998


1- إثنولوجيّة المعلّقات: أولاً: إثنولوجيّة المعلّقاتيّين:1 - الانتماء القبليّ لاُمْرِئْ القيس:
على الرغم من أنّ القحطانيّين يجسّدون أصل العروبة وجُرثومَتَها، ومهدها وأرومتها؛ وأنّهم يشكّلون ما يطلق عليه النسّابون العرب: "العرب العاربة"، فإنما حين نعدّ شعراء المعلّقات لا نلفي منهم إلاّ شاعراً واحداً- من بين السبعة- قحطانيّاً، وهو امرؤ القيس (وهو لقب له، واسمه فيما يزعم بعض اللغوّيّين: حُنْدُج (بضم الحاء المهملة، وسكون النون)، وهو في اللغة: الرملة الطّيبة، أو الكثيب من الرمل يكون أصغر من النّقا) (1) بن حُجْر بن عمرو بن الحارث بن حجر آكِل المُرَارِ (2) بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن ثور بن كندة (3) الذي ينتهي نسبه الأعلى إلى كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان(4).
وليس نسب امرئ القيس، من جهة أمّه، أقلّ مجداً، ولا أدنى شرفاً، من مجد أبيه. بل ربما كان أعلى وأنبل، وأسمى وآثَل؛ ذلك بأنّ أمّه هي فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، وهي أخت كليب وائل الذي تضرب العرب به المثل في العزّ والمنعة، فقالت: "أعزّ من كليب وائل"، والذي بمقتله أضطرمت الحروب الطاحنة بين قبيلتي بكر وتغلب دهوراً طِوالاً (5). فكليب خال امرئ القيس، إذن، مَثَلُه مَثَلُ مهلهل بن ربيعة الذي يعدّ أوّل "من قصّد القصائد، وذكر الوقائع" (6)، وأوّل من هلهل الشعر.
ونعتقد أنّ امرأ القيس قد يكون تأثّر بخاله مهلهل الذي يبدو أنه كان مؤسّساً لبنية القصيدة العربيّة. ولكنّ ابن الأخت أخْمَلَ خاله، أو كاد يُخْمِله؛ وهو، على كلّ حال، لا يذكر إلاّ أنه أوّل من قصّد القصائد في رثاء أخيه كليب؛ بينما يذكر امرؤ القيس على أنّه أمير الشعراء العرب على وجه الإطلاق... وكثيراً ما يتفوّق التلميذ على أستاذه، ويشمخ النجل على من نَجَلَه.
ويبدو أنّ قباذ ملك الفرس هو الذي كان "ملّك الحارث بن عمرو جدّ امرئ القيس على العرب" (7).
على حين أنّ أهل اليمن يزعمون أنّ ملّك جدّ امرئ القيس لم يكن قباذ الفارسيّ، ولكنّه كان تبّعاً الأخير.
ثمّ لم تلبث بنو أسد أن ملّكت حجر بن عمرو، أبا امرئ القيس، عليها. ويبدو أنّ سيرته ساءت فيهم فثاروا عليه، ولم يلبثوا أن تطاولوا عليه وقتلوه في فتنة رهيبة (8). وزعم ابن الكلبي أنّ الذي كان سبباً في اضطرام تلك الفتنة رفْض بني أسد دفع الإتاوة السنويّة للملك (9).
ومن مقتل حجر تبتدئ مأساة امرئ القيس، الشاعر الحساس، والابن الأصغر لأبيه الذي تزعم الأخبار التي نرتاب فيها أنه كان أمر بقتله صغيراً حين رفض التخليّ عن قيل الشعر، ثم طرده فعاش متشرّداً بين القبائل (10). وقد حاول أن يثأر الشاعر لأبيه من بني أسد، فاستعدى عليهم ذا جدن الحميريّ الذي أمدّه بجيش طارد به قتلة أبيه، وفتك بهم فتكاً ذريعاً. ولكنه كان، كأنّه، يريد إبادتهم عن آخرهم؛ فلم يرْضَ بمنْ قُتلَ منهم، وظلّ يتنقّل بين جبلي طيئ في انتظار جمع الرجال وحشدهم لمحاربة من بقي من بني أسد... ولكنه حين يئس من تحقيق ذلك قرر الاستنجاد بقيصر الروم الذي أمدّه بجيش، فيما تزعم بعض الروايات، ثمّ ندم على ذلك إمّاً مخافة أن يغزوه امرؤ القيس إذا انتصر على أعدائه، وقَوِيَتْ شوكتهُ، وإمّا انتقاماً لشرف ابنته التي يقال إنها أحبّت امرأ القيس...
فأرسل إليه حلّة مسمومة وهو في سبيله إلى بلاد العرب، فتساقط جِلْدُه لمّا ارتداها..(11).
ولقد حاول حمّاد الراوية أن يضفي صبغة أسطوريّة على طفولة امرئ القيس، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك، مثله في ذلك مثل ابن الكلبي (12)، ومثل ابن الكلبي في ذلك مثل أبي زيْدٍ القرشيّ (13)، حيث إنّ أبا زيد، خصوصاً، أورد أسجاعاً تسجّل مبتدأ تفتّق العبقريّة الشعريّة لأُمرئ القيس، وتصف أيام كان أبوه حُجْر كلّفه خلالها برعي الإبل، ثمّ برعي الخيل، ثم برعي الشاة؛ فكان في كلّ يوم يرسل أسجاعاً يصف فيها تجربته الرعويّة، فيئس منه أبوه وطرده...
وعلى الرغم من أننا اختصرنا حياة امرئ القيس اختصاراً شديداً- لأنّ أخباره مدوّنة في مظانّها- فإن الذي يعنينا، من كلّ ذلك، هو قبيلته التي لاقت عناء وعقوقاً من بني أسد. ويبدو أن الملك حجراً لم يكن يستمدّ قوته من كبر عشيرته التي لم تصنع شيئاً حين تعرّض للقتل:
1- إنّ قبيلة بني أسد رفضت دفع الإتاوة لحجر أبي الشاعر، فلما حاول إرغامهم على ذلك ما لبثوا أن تطاللوَا على مَقْتَلِه.
2- أنّ امرأ القيس أُريد لحياته أن تتّسم بالأسطوريّة حين أبى عليه أبوه قول الشعر، ومغازلة النساء؛ فحاول معاقبته برعي الأنعام؛ فلمّا لم يفلح طرده في رواية، وحاول قتله في رواية أخراة.
ونلاحظ أن هذه الحكاية تتّخذ لها سيرة القوانين التي تحكم الأساطير بحيث يسبق شرط الحظر والمنع من سُلوكِ سلوكٍ معيّن، ولكنّ الطرف الذي يفرض عليه المنع لا يبرح يُصِرّ على موقفه حتى يقع في المحظور، لتفجير الحكاية، وانطلاقها.... فلو استجاب امرؤ القيس لطلب أبيه، وأذعن لإرداته فلم يقل الشعر، ولم يتغزّل بالنساء، لكانت حياته عاديّة جداً، ولما كَلِفَ بذكر أخباره التاريخ عبر الأعصار والأمصار...
3- إنّ خيال الرواة اختصب اختصاباً شديداً لدى ذكر أخبار امرئ القيس، قبل مقتل أبيه، وبعده... ولا يزال الرواة يختلفون من حوله حتى تجرَّأ بعضهم على التشكيك في نسبه من أمّه، بل من أبيه أيضاً حيث إنّ هناك من الرواة من لا يتردّد في أن يجعله امرأ القيس بن السمط، وأن يجعل أمه تَمْلكَ بنت عمروٍ بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب(14).
ولعلّ مغالاة الرواة في هذا الاختلاف مؤئله إلى كَلَفِ الناس بعد أن استقرّوا بالأمصار- خصوصاً البصرة والكوفة- بمثل هذه الأخبار الجميلة يتسامرون بها ويتثاقفون. ونحسب أنّ التاريخانِيَّة، في هذه الأخبار، أكثر من التاريخيّة.
4- إنّ الناس كَلِفُوا بالحديث عن سيرة امرئ القيس وانتمائه القبليّ من جهتي أمّه وأبيه، وعن سيرة جده وأبيه أكثر من كلفهم بالحديث عن شعره الذي جمعه حمّاد الراوية، المشكوك في وثوق روايته بعد أكثر من قرنين من وفاته.
5- إنّ الاتفاق وقع- عبر الاختلاف- بين الرواة على أنّه يمنيّ، وأنّه من أسرة مالكة، ماجدة، وأنه، إذن، ملك بن ملك، بن ملك.
6- نلاحظ أنّ امرأ القيس ربما يكون أوّل شاعر عظيم يموت متسمّماً؛ أي يموت مغتالاً بحقد قيصر الروم وغدره ونذالته (ولا ينبغي أن ننسى أنّ أسطورة جميلة أخراة ارتبطت بسفر امرئ القيس إلى أنقرة، ومقامه بالقصر القيصريّ، ووقوع ابنة القيصر في غرام الشاعر العربيّ الوسيم... وأنّ قيصر الروم حين تابع امرأ القيس بالحّلة المسمومة إنما جاء ذلك انتقاماً لشرف ابنته؛ وقد يدلّ ذلك، إن صحّ، على أنّ علاقة الشاعر العربي بالأميرة الرومية جاوز مستوى النظرة إلى مستوى الفعل.... ولا يدلّ إصرار القيصر على الانتقام من امرئ القيس إلاّ على بعض ذلك... فكأنّ امرأ القيس كتب عليه أن تظلّ المرأة فاعلة في حياته، مؤثّرة فيها، إلى نهايتها، فيموت بسببها.
7- ونلاحظ، أيضاً، أنّ أبا امرئ القيس مات، هو أيضاً، مقتولاً، وأنّ كليهما قتل وهو متطلّع إلى مجد السلطة، وأبّهة الحكم. وأنّ كلاً منهما انقطع أمله بذلك القتل...
8- إنّ امرأ القيس يمثّل عهده عصر الجاهليّة بكلّ مايحمل اللفظ من معنى، وكان محكوماً على عظماء الرجال إمّا أن يَقْتِلوا، وإما أنْ يُقْتَلُوا: إذ قُتل حجر والد امرئ القيس، كما قُتل كليب وائل، أعز العرب، فطالب أخوه مهلهل بثأره؛ فاضطرمت حرب البسوس بين بكر وتغلب فتجسّدت في خمس حروب (15)، كما تعرّض مهلهل، خال امرئ القيس للأسر مرتين اثنتين: نجا في الأسْرَة الأولى، وهلك في الأخراة (16). بينما نلفي حفيده، وهو صاحب معلّقة أخراة، وهو عمرو بن كلثوم بن ليلى ابنة مهلهل بن ربيعة لا يتعرّض هو للفتك؛ ولكنه هو الذي يُقْدِم على الفَتْك بعمرو ابن هندٍ حين أرادت أمِه هند أن تنال من شرف ليلى ابنة مهلهل لَمَّا التمست منها أن تناولها الطَّبَق...
فالشاعر قتيل، والملك أبوه قتيل، والخال كليب- أعزّ العرب- قتيل، والخال الآخر- مهلهل أسير، وابن ابنة الخال -عمرو بنت كلثوم- قاتل...والبسوس طاحنة المعارك، مَهُولَةُ الأيام الخمسة.. والفتنة بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب على أشدّها.... إنه عصر الشاعر امرئ القيس.... وإنه لانتِماؤُه القَبَليُّ... ولعلّ ولاءَهُ لتقاليد القبيلة، وحرصَه على شرفها.... وهوالذي جعله يخوض، هو أيضاً، حروباً طاحنة يشنّها على قبيلة بني أسد... فتنة... حروب... انتقام... تأرات... حبّ وغزل وخمر... نساء ولهو.... تلك هي
حياة المعلّقاتيّ الأوّل: امرئ القيس....
2- الانتماء القبليّ لبقيّة المعلقاتيّين:
لقد كنّا لاحظنا أنّ امرأ القيس، هو المعلّقاتيّ الوحيد الذي ينتهي نسبه الأعلى إلى قحطان من بين كلّ المعلّقاتيّين السبعة. وينشأ عن ذلك أنّ كلّ المعلّقاتيّين الستّة الآخرين ينتهي نسبهم الأعلى إلى عدنان إذْ نُلفي اثنين، من بينهم، ينتميان إلى بكر، وهما: طرفة بن العبد (17)، والحارث بن حلّزة (18). على حين أنّ عمرو بن كلثوم تغلبيّ (19)، وعنترة بن شدّاد عبسي/ قيسيّ، مضريّ (20)، وزهير بن أبي سلمى مُزَنِيّ/ تميميّ (وقد اختلط على بعض الناس أمر نسبه فعدّه غطفانيّاً، بينما هو مزنيّ، نزل بديار غطفان (21)، ولبيد بن أبي ربيعة قيسيّ (22). وكلّ من تغلب، وبكر، وعبس، وتميم، وقيس ينتهي نسبها الأعلى إلى عدنان.
وترتبط حياة معظم أولاء المعلّقاتيّين بقبائلهم بما لها من مآثر وأمجاد، وخطوب وأهوال؛ وذلك أمثال عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد. وحتى زهير بن أبي سلمى اختصّ معلّقته بالأحداث المهولة، والحروب الطاحنة التي دارت بسبب سباق فرسي داحس (وكانت لقيس بن زهير سيد بني عبس)، والغبراء (وكانت لحمل بن بدر سيّد بني فزارة، غطفان). ولولا الصلح الذي سعى به كلّ من هرم بن سنان، والحارث بن عوف، وتحمّلهما دفع ديّات القتلى التي بلغت زهاء ثلاثة آلاف بعير، لتفانت عبس وفزارة. وإذا كانت دية القتيل غير الملك مائة بعير، فإنّ عدد الذين سقطوا ضحايا هذه الحروب من القبيلتين لا يقلّ عن ثلاثمائة رجل...
وعلينا أن نلاحظ أنّ موضوع معلّقة زهير، على ما يبدو فيه من حكمة وتأمّل في الكون؛ بأنّ الباعث الأوّل على قولها يَمْثُلْ في عادات عربيّة قديمة، وقد ظلّت قائمة إلى يومنا هذا، وهي تنظيم مسابقات بين الخيول... فلولا سباق تينك الفرسين لما وقعت حرب بين عبس وفزارة، ولولا تلك الحرب الطاحنة لما أنشأ زهير قصيدته المعلّقة...
على حين موضوع معلّقة عمرو بن كلثوم يرتبط بحادثة الطبق المشؤومة؛ وذلك لَمَّا التمست هند أمّ عمرو بن هند، ملك الحيرة من ليلى، أمّ عمرو بن كلثوم-وبنت مهلهل بن ربيعة خال امرئ القيس: أن تُناوِلَها الطبق، فأَبَتْ وصاحت: واذُلاَّه! وهي الحادثة التي أفضت إلى قتل ملك الحيرة عمرو بن هند على يد ابن كلثوم (23).
وكأن هذه المعلّقة، معلّقة ابن كلثوم، بمثابة سجّل لأعمال قبيلة تغلب، وما عانته من أهوال، وما لاقته من طوائل، سواء مع أختها قبيلة بكر، أم مع عمرو بن هند ملك الحيرة، الذي اتّهمته تغلب بالتحيّز لبكر في مسألة الرهائن... وقد كلفت تغلب بهذه القصيدة حتى قال أحد الشعراء يسخر منهم، ويتهكّم بهم:


ألهى بني تَغْلِبٍ عن كلّ مَكْرُمَةٍ




قصيدةٌ قالَها عمرو بن كلثوم (24)



بينما ترتبط أحداث معلّقة الحارث بن حّلزة، هي أيضاً، بقبيلة بكر التي ينتمي إليها الحارث، فجاء يردّ فيها على عمرو بن كلثوم التغلبيّ الذي غالى في المكابرة والمنافجة، وبالغ في المنافسة والمنافحة: فجاوز كلّ حدّ، وعدا كلّ طور. ويبدو الحارث بن حلّزة في معلّقته هذه ، على الهدوء البادي، داهيةً ألوى، استطاع أن يدافع عن قبيلته، ويبيّض وجهها، ويسُلَّها من الفتنة كما تسلّ الشعرة من العجين، ويبرئّها من كلّ ما كانت متّهمة به في علاقتها بملك الحيرة في مسألة الرهائن.... فحكمة هذا المعلّقاتي لا تتمثّل في سوق الأقوال، وضرب الأمثال؛ كما جاء ذلك طرفة وزهير، ولكن في الجدال والمساءلة والاحتكام إلى العقل.
والذي يعنينا في كلّ ذلك، أنّ همزيّة الحارث بن حلّزة تدرج في أحداث قبيلته، وتاريخها، وعلاقاتها العامة مع القبائل الأخراة من وجهة، ومع ملك الحيرة من وجهة أخراة: تذوب فيها، وتنطلق منها، لتعود فتنتهي إليها.
وترتبط معلّقة عنترة بحياته، وسيرته، ولونه، ارتباطاً وثيقاً إذ تزعم الرواة أنه تسابّ مع رجل من بني عبس (25) (ويفهم من هذه الرواية أنّ عنترة لم يكن يقول الشعر قبلها، لأنّ ذلك العبسيّ عيّره بسواد لونه، وعبوديّة أمّه، وأنه لم يكن يقول الشعر)، فردّ عليه عنترة في كلمة" (....).وأمّا الشعر، فسترى!" (62).
فموضوع معلّقة عنترة شديد الشبه بموضوع امرئ القيس الذي كان سجّل في معلّقته بعض سيرته، ومغامراته، وهواه، ولذّاته: ولم يكد يأتي عنترة إلاّ شيئاً من ذلك حين سجّل مواقفه في الحرب، وحسن بلائه في ساح الهيجاء، وإخلاصه في حبّ عبلة، ومحاورته لفرسه، ووصفه لمشاهد الأبطال الذين كان يجند لهم فيتهاوون في ساحة الوغى...
وترتبط حكاية معلّقة عنترة بسيرته وهي الفروسيّة النادرة، والشجاعة الخارقة من وجهة، ومعاناته من مأساة العبوديّة التي ورثها بحكم عبوديّة أمّه زبيبة حيث كان النظام القبليّ لدى أهل الجاهليّة، إذا كان الابن من أَمَتِه استعبده، ولم يُلْحِقْه بنسبه.
ولا شيءَ أجمل للشعر من الدفاع عن الهويّة، وإثبات الذات، والبرهنة على سمّو النفس، ونبل الخلاق، لإقناع الناس بأنّ السواد لا صلة له بالشخصية إذا عَظُمَتْ، وبالنفسْ إذا كرمت، وبالعزيمة إذا كبرت. فكان لا مناص لعنترة لكي يصبح شخصية مرموقة أن يقول الشعر، ويحبّ فتاة، ويبلي في ساحة الحرب؛ لكي يدافع عن القبيلة التي لولا تدخّله لكانت تعرضت للفناء والعار، كما تزعمه الأخبار (27).
وأمّا معلّقة طرفة بن العبد فإنها ترتبط، هي أيضاً، بأحداث مَهُولَةٍ حيث لم يكن الفتى يرعوى عن إطلاق لسانه في عمرو بن هند، ملك الحيرة، الذي دبّر له مكيدة خسيسة حين أرسله إلى عامله بالبحرين، ليقتله فقتله (28). فمعلّقته ترتبط، هي أيضاً، بحكاية مأساة ذاتيّة عاشها الشاعر الفتى. فهي شبيهة، من هذا الوجه، بمعلّقتي امرئ القيس وعنترة.
وتبقى معلّقة لبيد التي لا ترتبط بحادثة معينّة، كما أنه لم يفخر فيها بنفسه، ولا بقبيلته؛ ولكنّ موضوعها لمّا ارتبط بوصف البقرة الوحشية، وبالطبيعة، وعلى الجبلّة الأولى، فإنه صار مرتعاً خصيباً لكلّ تحليل أنتروبولوجيّ.
ونلاحظ أنّ ثلاثة من المعلّقاتيين ماتوا مقتولين: وهم امرؤ القيس (الحلّة المسمومة، المشؤومة)، وعنترة الذي قتله، في بعض الروايات الأسد الرهيص، بعد أن بلغ من العمر أرذله، وهو من عبس أيضاَ (29)، وطرفة بن العبد الذي يقال إنه قتله رجل عامّيّ مغمور، ويبدو أنّه كان سيّاف المعلّى بن حنش العبدي(30). كما أن طرفة نشأ يتيماً (واليتم يشبه العبوديّة...) حيث تُوفِّي أبوه وهو لايبرح صبيّاً؛ على حين أنّ امرأ القيس قضى طفولته مشرّداً منبوذاً حيث أنكر أبوه أمره والفتى لا يبرح غضّ الإهاب؛ بينما عاش عنترة طفولة العبد الذليل الذي يرعى الإبل، وينهض بأشقّ الأشغال، ويتجرع، أثناء ذلك، كثيراً من العُقَدِ في نفسه.
ثانياً: المعلّقات وتاريخ بلا أرقام:
متى كان يعيش المعلّقاتيون؟ وكم عُمِّرَ كلٌّ منهم؟ ولِمَ سكت المؤرخون عن أعمارهم، إلاّ ما كان من أمرَيْ طرفة ولَبيدٍ؟ وما أغفل الرواة عن هذه المسألة مع أنها ذات شأن بالقياس إلى كبار الرجال؟ أم أنّ هناك حلقاتٍ مفقودةً من التاريخ العربيّ قبل الإسلام؟ أم أنّ الرواة لم يكونوا يُولونَ لأَسْنانِ الرجال الكبار ما كانوا له أهلاً من العناية والاهتمام؟....

إنّ من حقّنا أن نثير أكثر من سؤال حَوالَ هذه المسألة وقد عرضنا لها في هذه الفقرة من البحث. ذلك بأنّ كلّ ما نعرف، هو أنّ امرأ القيس كان أوّل المعلّقاتيّين وأسبقهم زمناً. ونعرف ذلك، في الحقيقة، مضموناً لا منطوقاً. ولكن يبدو أنّ كلّ ما يباعد بين المعلّقاتيّ الأول، وهو امرؤ القيس، والأخير وهو لبيد لا يكاد يجاوز قرناً واحداً، وبعض قرن.
ولعلّ أوّل المؤرخين العرب تساؤلاً عن عهد امرئ القيس كان ابن قتيبة الذي قرّر أنْ ذا القروح كان يعيش على عهد أنو شروان، ملك الفرس (31) الذي ملك ما بين 531 و 579 ميلاديّة. وقل إن شئت، لمّا كان امرؤ القيس يعيش على عهد قيصر الأوّل الأكبر، ملك الروم، الذي كان يعيش بين
482 و 565 ميلادية؛ فإنّنا نتبنّى موقف الموسوعة العالميّة التي ذهبت إلى أن امرأ القيس توفّى زهاء سنة 550 ميلاديّة، أي قبيل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلّم بزهاء إحدى وعشرين سنةً؛ أي بزهاء إحدى وستين سنة قبل البعثة المحمديّة (32).
ونحن نفترض، بناء على الأخبار المتضاربة والمتناقضة التي كتبت حول سيرة امرئ القيس (جمهرة أشعار العرب -الشعر والشعراء- الموشّح- الأغاني- خزانة الأدب، ولبّ لباب لسان العرب....) أنه لمّا قَتَلت بنو أسد أباه حجراً لم يكن شيخاً، وربما لم يكن كهلاً أيضاً، ولعله لم يكن جاوز الثلاثين من عمره، وأنه كان أصغر إخوته (33). ونفترض أيضاً أنّ حروبه مع بني أسد لم تدم، انطلاقاً من التحضير لها بالاستنجاد بقبيلتي بكر وتغلب، وفيهما أخواله، أكثر من سنة أو سنتين اثنتين على أبعد تقدير. كما أنّ الحملة الثانية التي قادها على بني أسد في جمع من أهل حمير، وشذّاذ من العرب (34): لا ينبغي لها أن تكون قد جاوزت أكثر من سنتين اثنتين أيضاً. كما أنّ تشرّده في جبلي طيئ، من بعد ذلك، وذهابه إلى أنقرة للاستنجاد بالقيصر جوستينان (482-565) (35) لا نعتقد أنّ ذلك كلّه جاوز ثلاث سنوات... فيكون تقدير عمر امرئ القيس، بناء على هذه الاستناجات التقريبيّة، لدى تسمّمه بحلّة جوستينان المشؤومة، أقلّ من خمسين سنة غالباً.
ولدى تتبّعنا لوفيات الشعراء الستّة الآخرين- وهم العدنانيّون- لاحظنا أنهم كانوا يعيشون، في معظمهم، في مدى زمنيّ متقارب: إمّا متعاصر، وإما سابقٍ أو لاحقٍ بقليل. وقد ذكر البغدادي أنّ زهيراً توفي بسنة واحدة قبل البعثة الشريفة (36). وحتى لبيد بن أبي ربيعة، وهو آخر المعلّقاتيّين وفاة (توفي في بداية خلافة معاوية) (في رأي ابن قتيبة، وفي أواخر خلافته في رأي أبي الفرج الأصبهاني (38). وإذا سلّمنا بما كاد المؤرخون يتفقون عليه) وهو أنه معدوداً في المُعَمَّريْنَ، وأنه توفيّ وسِنُّه مائةٌ وبِضعةٌ وأربعون عاماً في قول (39)، ومائةٌ وسبعٌ وخمسون سنةً في قولٍ آخرَ (40)؛ فإنّ ذلك لا يعني إلاّ أنّ لبيداً عاصر امرأ القيس على وجه اليقين.
ولمّا كان ضبط عمر لبيد يترواح بين مائة وسبعة وأربعين عاماً ومائة وسبعة وخمسين عاماً فإننا نجعل موقفنا بين ذلك وسطاً، ونقيمه على التقريب فنقول: إنه عاش قرناً ونصف قرن تقريباً، وأنه توفّي وسط عهد معاوية.
وإذا علمنا أنّ امرأ القيس توفّي قبل البعثة الشريفة بزهاء إحدى وستين سنة فإنّ لبيداً يكون قد عاش في الجاهليّة قريباً من قرن واحد. وأنه عاش في عهد الإسلام قريباً من نصف قرن. والذي يعنينا في كلّ ذلك خصوصاً: أنّ لبيداً، حسب هذه المعلومات التاريخيّة التي بنينا عليها استنتاجاتنا، عاصر امرأَ القيس يقيناً، وأنه حين توفّي الملك الضلّيل كان عمر لبيد زهاء أربعين عاماً....
وينشأ عن ذلك أنّ الزمن الذي عاش فيه المعلّقاتيّون السبعة كلّه (وذلك بإدخال بداية عمر امرئ القيس الذي نفترض أنه توفّي في سنّ الخمسين تقريباً، وكان ذلك زهاءً خمسمائة وخمسين ميلاديّة، أو قل كان ذلك سنة إحدى وستّين قبل البعثة المحمّديّة) لا يجاوز زهاء قرن وعشر سنوات قبل البعثة، وزهاء نصف قرن بعدها...
ولعلّ ذلك هو الذي حملنا على اعتبار نصوص المعلّقات وحدة واحدة، ومدرسة فنّيّة مندمجة، وأنه من العسير فهمُ نصِّ معلّقةٍ معزولاً عن نصوص المعلّقات الأخراة...
لكنّنا لا نستطيع، بكلّ حزن، تحديد أعمار جميع المعلّقاتيّين، حتّى على وجه الافتراض أو الاحتمال، كما كنّا جئنا ذلك بالقياس إلى امرئ القيس. وكلّ ما في الأمر أنّ عمرو بن كلثوم توفّي فبل سنة ثلاثين وستمائة ميلاديّة (41)، وأنّ زهيراً توفّي بسنة واحدة قبل البعثة النبويّة، بينما عنترة وطرفة توفيا في أواخر القرن السادس الميلادّي. على حين أنّ الحارث بن حلّزة كان يعاصر عمرو بن كلثوم، ولعّله هو أيضاً توفّي في أوائل القرن السابع الميلادّي.
إنّ ذلك كلَّ ما نستطيع قوله حول هذه المسألة التي لم يحقّق في شأنها، على هذا النحو، أحدٌ قبلنا، فيما بلغْناه من الاطلاع.
ثالثاً: المعلّقات وقِدَمِيُّةُ الشعر العربيّ
إنّ كلّ من يبحث في أمر الشعر الجاهليّ، قد يصاب بالحيرة والذهول، وهو يقرأ، هذه الأشعار الراقية التي ظلّت على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً: نموذجاً يُحتذى، ومثالاً يقتدى، وكيف ورِثْنا القصيدة العربية ببنيتها الطللية المعروفة، وبإيقاعاتها المَسْكوكَة، وبتقاليدها الجماليّة المرسومة: من حاد عنها لا يكون شاعراً، ومن حاكاها عُدَّ في الشعراء...؟ وكيف أنّ امرأ القيس يتحدّث عن تاريخ لا يعرفه التاريخ، وهو وجود شعراء قبله كانوا يبكون الديار، ويقفون على الأطلال، ولا نعرف عنه شيئاً إلاّ أسماءهم، منهم ابن حمام..؟ وأين ذهب ذلك الشعر؟ وكيف أغفل التاريخ الشفويُّ سير أولئك الشعراء العماليق، كما نفترض بعضهم؟ فقد كانوا من الفحولة والشاعريّة ما جعل أعراب كلْب يزعمون أنّ الأبيات الخمسة الأولى من معلّقة امرئ القيس هي لأمرئ القيس الحمّام بن مالك بن عبيدة بن هبل "وهو ابن حمام الشاعر القديم، الذي يقول فيه بعض الناس: ابن خذام. وقد قيل أنه من بكر بن وائل، وهو الذي قال فيه امرؤ القيس:

*نبكي الديار كما بكى ابن حمام* _(42)؟
أم مثل ذلك الشعر العُذريّ البديع مما كان يهون على الناس فزهُدوا فيه، وعزفوا عنه؟ أم أن الفتن والحروب هي التي أودت بذلك الشعر كما أودت بأصحابه؟ أم أنّ اشتغال العرب بالجهاد، وفناء كثير منهم في حروب الردّة، يوم صفيّن، ويوم الجمل، وأيّام الفتن الأخراة المبكّرة التي حصدت كثيراً من أرواح الرجال هي التي عجّلت بدفن تاريخ الشعر العربي، وطمس معالمه الأولى الحقيقيّة إلى الأبد؟
ونعود لنتساءل، ولا نملك أكثر من هذا التساؤل الحيران: كيف ولد الشعر العربيّ راقياً كاملاً، وناضجاً رائعاً؟ وكيف نشأت القصيدة العربيّة- الجاهليّة- مكتملة البناء، محكمة النسج، بديعة السبك، على هذا النحو، ثمّ كيف لا نعرف قبل هؤلاء الشعراء العماليق شعراء أوساطاً قَبْلهم، ولا شعراء عماليق أمثالهم...؟ وكيف لانكاد نجد الرواة القدماء يوردون إلاّ أبياتاً قليلة، ممّا صحّ لديهم، قد لا تزيد عن العشرين بيتاً، في مجموعها؟ وكيف يمكن للمؤرخ فكُّ هذا اللّغز، وللباحث فهم هذا السّر؟
لقد اتفق قدماء مؤرّخي الأدب، على أنه "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلاّ الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنّما قُصِّدَت القصائدُ وطُوِّلَ الشعرُ على عهد عبد المطّلب، وهاشم بن عبد مناف" (43).
ونلاحظ أنّ أيّاً من مؤرّخي الأدب العربيّ القدامى (ابن سلاّم (44)، وابن قتيبة (45)، والشريف المرتضى (46)، والآمدي (47)....) لم يذكر مصدر خبره والظاهر أنّ مصدر هذه المصادر كلّها هو ابن سلاّم الجمحّي الذي لم يذكر هو، أيضاً من روى عنهم؛ ولا كيف صحّ لديه تلك الأبيات القديمة التي أثبتها، ولا كيف لم تصحّ لديه الأبيات الأخراة؟ (48).
وأنّا لا ندري كيف يمكن أن نقتنع بقدم تلك الأبيات التي أثبتها ابن سلاّم، وجاراه آخرون في إثباتها، على غيرها، وصحّتها من بين سَوائِها؛ في غياب التصريح باسماء الرواة، وانعدام اتّصال السَّنَدِ؟ ثمّ ماذا يعني هذا القِدَمُ الذي لم يكن أوائل المؤرخين يضبطونه بالأرقام؟ وناهيك أنّهم لا يكادرون يؤرّخون لموت أيّ من الشعراء الكبار، والشخصيّات العظام؛ ممّا يجعلنا نعمد، هنا، إلى فرض الفروض لتفسير مقولة ابن سلام المنصرفة إلى زمن تقصيد القصائد الذي ربط بعهدي هاشم بن عبد مناف، وابنه عبد المطّلب. وإذا كان ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلّم أَرَّخَتْ له كتب السيرة بحادثة غزو أبرهة مكّة، وهي الحادثة التي عرفت في القرآن الكريم بـ "أصحاب الفيل"؛ فإنّ عام الفيل حين نحاول ترجمته إلى الأرقام سيعني سنة 570 أو 571 ميلاديّة. ولقد نعلم أنّ عبد المطلّب بن هاشم، جدّ رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ توفّي وعُمْرُ محمّد ثماني سنوات (49): فيكون عهدُ عبد المطلب هو القرن السادس الميلادّي، وعهدُ هاشم ابن عبد مناف هو نهايّة القرن الخامس، وأوائل السادس الميلاديّ.
وقد كنّا رأينا، من قبل، أنّ امرأ القيس توفيّ زهاء سنة 550م. ممّا يجعل من عهد عبد المطلب عهداً لامرئ القيس أيضاً؛ ومن عهد هاشم بن عبد مناف عهداً لمهلهل بن ربيعة التغلبيّ الذي يزعم المرزبانيّ أنه هو "أوّل من قصّد القصائد، وذكر الوقائع" (50).
ويتفق القدماء على أنّ أوائل الأبيات الصحيحة رُوِيَتْ لدرُيد بن يزيد الذي ينتهي بنسبه الشريف المرتضى إلى حمير (51)، وابن كثير إلى قحطان (52). فكأن الشعر العربيّ قحطانيّ الميلاد، حميريّ النشأة، ثمّ عمّ، من بعد ذلك، في بني عدنان بالشمال.
ويذهب الجاحظ إلى أن الشعر العربيّ حديث الميلاد، صغير السنّ: "أوّل من نهج سبيله، وسهّل الطريق، إليه: امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة (....).
ويدلّ على حداثة قول الشعر، قولُ امرِئِ القيس بن حجر:


إِنَّ بني عوف ابْتَنَوْا حَسَناً




ضَيَّعَهُ الدُّخلولُ إَذْ غَدَرُوا



أَدَّواْ إلى جارهم خفَارَتَه




ولم يَضِعْ بالمغيب من نَصَروا



لا حِمْيَريٌّ ولا عَدَسٌ




و آَسْتُ عيرٍ يَحُكُّها الثَّفَرُ



لكنْ عويرٌ وفى بِذِمّته




لا قِصَرٌ عابه ولا عوَرُ



فانظر كم كان عمر زرارة (بن عدس). وكم كان بين موت زرارة ومولد النبيّ عليه الصلاة والسلام. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له إِلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام" (53).
هذا هو النصّ الجاحظيّ الشهير الذي تداوله الدارسون منذ اثني عشر قرناً.
ونحن بعد أن تأمّلنا تعليق الجاحظ على أبيات امرئ القيس وجدنا هذا التعليق كأنه مقطوع عن كلام ساقط، ونص غائب، وإلا فما معنى تعجب أبي عثمان:" فأنظركم كان عمر زرارة، وكم كان بين موت زرارة ومولد النبيّ عليه الصلاة والسلام". ونحن نفترض أنّ ذكر زرارة كان ورد في شعر امرئ القيس مربوطاً بمناسبة تاريخيّة ذكر فيها زرارة بن عدس، أبو لقيط بن زرارة، فسقط من شعر امرئ القيس، إِن لم يكن ما افترضناه أَوّلاً من سقوط بعض كلام أبي عثمان.. ولم نر أحداً من الدارسين الذي استشهدوا بنصّ الجاحظ تنبّهوا إلى هذا البَتْر، أو إلى هذا الغموض على الأقلّ، ومنهم البهبيتي (54)، وشوقي ضيف(55): إذ هم يهملون الجملة التي استشهدنا بها نحن، ولا يأتون الشعر الذي استنبط منه الجاحظ حكمه حول عمر الشعر العربي قبل الإسلام؛ ويستأنفون؛ وقل أنهم يقطعونه قطعاً، ويبترونه بتراً، من قوله: "فإذا استظهرنا" مع أنّ هذا الاستظهار لم يكن إلا‍ّ نتيجة لمقدّمة، وحكماً مستنبطاً من نصّ...
ثمّ أين الدليل الخِرِّيتُ الذي يوجد في شعر امرئ القيس المستشهد به...؟ إنّ كلام أبي عثمان يفتقر إلى نقاش، ولا يمكن أن نجاريه عليه؛ إذ كان امرئ القيس نفسه يعترف بوجود شعراء قبل عهده، كما يدلّ على ذلك بيته الشهير:


عوجا على الطلَل المُحيل لعّلنا




نبكي الديار كما بكى ابن حمام



وإذ كان من المستحيل التصديقُ بأنّ معلقة امرئ القيس هي مطلع الشعر العربيّ؛ وإذ كان، إذن، من المستحيل إنكار أنّ الشعر العربيّ مرّ بمرحلة طويلة تطوّر فيها إلى أن أصبح الشاعر يقول القصيدة على ذلك النحو البديع المكتمل الذي بلغتنا عليه القصائد الجاهليّة الناضجة الأدوات الفنيّة.... كما يلاحظ ذلك أستاذنا الدكتور البهبيتي ممّا كان قرّره أبو عثمان، إذ: "النموّ الطبيعيّ للقصيدة العربيّة، أوزانها وموضوعاتها، واللغة ونحوها وأساليبها، وإيجازها، يستدعي أن تكون مرّت، قبل زمن امرئ القيس، بأطوار كثيرة، وتعثّرت تعثّرات جمّة حتّى اكتمل لها هذا الشكل الذي نجدها عليه في شعر امرئ القيس، ومن سبقه، أو جاء بعده "56).
وبينما يذهب الجاحظ إلى أنّ عمر الشعر العربيّ كلّه لا ينبغي له أن يرجع إلى أقدم من عهد امرئ القيس الذي يعدّ، في رأيه، "أوّل من نهج سبيله، وسهّل الطريق إليه" -مع مهلهل بن ربيعة- فأنه يقرر، بجانب ذلك- وهذا رأي عامّ أجمع عليه كلّ الذين تحدّثوا عن قدماء العرب -أن العرب كانت تحتال في تخليد مآثرها "بأن، تَعُمِدَ على الشعر الموزون، والكلام المقفّى، وكان ذلك هو ديوانها"(57).
فهل تعود فترة التخليد إلى قرن ونصف فقط، قبل ظهور الإسلام؟ وهل يمكن أن تخلّد حضارة، وتكرّس تقاليد جماليّة، وتؤصّل أصول هذا الشعر في رقيّه، وجماله، وكماله، وسَعَة ما فيه من خيال، وإبداع ما فيه من فنّ القول، وزخرف الكلام؛ كلّ ذلك في مثل الفترة القصيرة؟ وما ذهب إليه عليّ البطل من أنّ عمر الشعر العربيّ قد يعود إلى ألف عام قبل الإسلام (58) ليس مبالغاً فيه.
رابعاً: هل عمر الشعر العربيّ خمسة وعشرون قرناً قبل الإسلام؟
كثيراً ما كان المؤرخون القدماء يقعون في المحظور بتقريرهم الأخبار المستحيلة، وروايتهم الأشعار المنحولة، فمن ذلك اتفاقهم على أنّ عمرو بن الحارث بن مُضاض هو الذي قال تلك القصيدة الرائيّة البديعة التي لاندري ما منع حمّاداً الراوية من تصنيفها في المعلّقات، إلاّ إذا منعه من ذلك، حجمها القصيرُ، وهي التي يقول ابن مضاض، فيما تزعم كثير من الكتب التي تناولت المجتمع المكّيّ القديم، في بعضها:


وقائلةٍ والدمع سَكْبٌ مُبادر




وقد شرقَتْ بالدمع منّا المحاجرً



كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصَّفا




أنيسٌ، ولم يَسْمُرْ بمكّة سامِرُ



بلى نحن كُنَّا أهلَها فأبادَنا




صروفُ اللّيالي والجُدودُ العواثِرُ(59)



فإن كان صاحب هذه القصيدة التي أثبتنا منها هذه الثلاثةَ الأبيات، هو عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهميّ، حقّاً؛ وأنّ هذه القصيدة وُجِدَتْ مكتوبة، فيما يزعم بعض الرواة الذين لم يسمّوا لابن هشام مَنْ رَووا عنهم، هم، على حَجَرٍ باليمن (60): فذلك يعني أنّ عمر الشعر العربيّ، بناء على المستوى الفنيّ الذي نصادفه في هذه القصيدة العجيبة، قد يكون جاوز ثلاثين قرناً قبل الإسلام؛ وذلك لأنّ هذا الجرهميّ كان يعيش قبيل زمن إبراهيم عليه السلام بزهاء قرن على الأقلّ، ولمّا كان إبراهيم كان يعيش في القرن التاسع عشر، أو الثامن عشر، قبل الميلاد (61): فإنّ عمر الشعر العربيّ قد يبلغ خمسة وعشرين قرناً على الأقلّ قبل الإسلام. ومن العجب العجيب أنّ جميع مُؤَرخي السيرة، وكلّ قدماء المؤرخين للحياة العربيّة قبل الإسلام، كانوا يتحدثون في ثقة تشبه اليقين عما يمكن أن نطلق عليه الدولة الجرهميّة التي حكمت مكّة وضواحيها بعد ولد اسماعيل عليه السلام: طوالَ زهاءِ خمسةِ قرونٍ ونصفٍ (62). فهل يصحّ تاريخ هذه الدولة، أو الأسرة الحاكمة (جرهم) دون صحّة شعر شاعرها، وهو أحد حكّامها غير المتوّجين؟ وهل يمكن تكذيب كلّ تلك الروايات التي رواها قدماء المؤرخين، والحال أنّ ابن هشام، وهو ثقة، يتحدّث عن وجود تلك القصيدة مكتوبةً على حَجَرِ باليمن؟ وكأنّ الشيخ كان واعياً بتساؤل الذي يأتون بعده فحسم هذه المسألة بعدم نسبتها إلى مجرّد الرواية الشفويّة الطائرة، ولكن إلى كتابه مرقومة على حجر؟ وإذا ذهب ذاهب إلى أنّ هذا الكلام الذي جاء عليه كلّ المؤرخين العرب القدماء هو مجرّد رجم بالغيب، وأسطورة في الأساطير، فما القول فيما جاؤوا به من بقيّة الأخبار الأخراة؟ وهل يمكن أن يكونوا سذّجاً يروون كلّ ما كان يقع لهم من أخبار، فنسلّم برفض كلّ ما جاؤوا به ونستريح!؟ أم أنّنا نرفض الرواية فقط، ونقول لابن هشام: لا ، إنّ ما تزعمه من أنّ تلك القصيدة وجدت مكتوبةً على الحجر باليمن، ليس صحيحاً؟ وإنما هو ليس صحيحاً لأنّنا ننفيه بدون إثباتاً. وحجج لهذا النفي، وإنما ننفيه، لأننا نستقدم العهد الذي قيلت فيه هذه القصيدة، وأنّ مضاض كان يعيش حقاً في مكة، بل كان يحكمها حقاً، ونتفق على أنه عربيّ قحّ، ونتفق على أن حكم أسرته لم يدم إلاّ زهاء خمسة قرون ونصف، ثم أطيح بحكمهم، وأُجْلُوا عن مكّة: ولكننا -وعلى الرغم من تسليمنا بكلّ ذلك؛ فإننا نرفض أن يكون بن مضاض قال ذلك الشعر؛ لأنّ الشعر العربي عمره قرن ونصف، أوقرنان اثنان على الأكثر، قبل الإسلام، فيما زعم أبو عثمان الجاحظ؟ مع أنّ المقولة التي تعزى إلى عمر بن الخطاب، والتي أومأ إليها ابن سلاّم إيماءً، وجاء بها ابن جنّي كاملة، تثبت أن الشعر العربي:
1- كثير.
2- قديم.
3- ضاع.
لكن الضياع لا يعني الإطلاقيّة التي لم يبق معها شيء. ويضاف إلى ذلك أن عمر بن الخطاب يعلّل ذهاب الشعر بذهاب الرجال وفنائهم في الحروب، والحال أنّ قصيدة ابن مضاض تزعم الرواة والكتب القديمة أنها كانت مدوّنة على حجر... فلقد ذهب، إذن، عمر إلى أنّ الشعر العربيّ كان: "علم القوم. ولم يكن لهم علم أصحّ منه. فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد، وغزو فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلمّا كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنّت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقلّ ذلك، وذهب عنهم كثيره (63).

إنّ عمر، رضي الله عنه، إنما يتحدث عن انعدام التدوين، وتعويل العرب في حفظ شعرها على الرواية الشفويّة، فما القول في الشعر الذي دوّن، إن كان قد وقع تدوينه حقاً؟.
ويدلّ على ثبوت وجود كثير من الشعر العربيّ، وقدمه قبل الإسلام قول أبي عمرو بن العلاء الشهير: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلاّ أقلّه، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم، وشعر كثير" (64).
وإنّا لنعلم أنّ أمماً عربيّة قديمة كثيرة انقرضت منها طسم وجديس وعاد وثمود، ولكنّ جرهما لم تنقرض كلّها، ولكنها عادت إلى بلاد اليمن (65) بعد أن غلبتهم على حكم مكّة قضاعة (66)، كما كانت جرهم غلبت، قبل ذلك، بني إسماعيل فانتزعت منهم السقاية وخدمة البيت...
ونعود إلى أمر هذه القصيدة المحيِّرِ، وهي القصيدة التي يزعم ابن هشام أنها وجدت مكتوبة على حجر باليمن: هل كانت مكتوبة باللغة الحِمْيَريَّة؟ إنّا لا نعتقد ذلك. لأنّ كلّ التواريخ القديمة تزعم أنّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، إنما تعلّم العربية من جرهم، والحال أن العربيّة الإسماعيليّة هي العربيّة العدنانية التي نزل بها القرآن، وقيلت بها المعلّقات والوجه لدينا في حلّ هذا اللغر العجيب:
1- إنّ قبيلة جرهم حين وافت البيت من اليمن تطورت لغتها من الحميريّة إلى العربية الحديثة، بفعل الاحتكاك الذي كان يقع بين الذين يقصدون البيت العتيق. ولكن قد ينشأ عن هذا المذهب أنّ جرهماً قد تكون أقامت بمكّة أكثر من خمسة قرون ونصف، وهو الذي تزعمه أخبار التاريخ، كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
2- إنّ القصيدة الرائيّة البديعة المنسوبة إلى ابن مضاض، وهو أحد ملوك جرهم، قد يكون تدوينها على الحجر وقع بعد اضطرار جرهم إلى العودة إلى اليمن.
3- ونلاحظ أنّ ابن هشام يورد أبياتاً ثلاثة أخراة معزوة إلى الشاعر نفسه، ويزعم أنها صحّت لديه، كما يؤكّد أنها وجدت مكتوبة على حجر باليمن (57). فكأنّ الأقدمين يريدون أن يثبتوا هذه الأبيات، ويؤكّدوا صحّتها بحكم أنها وجدت مدوّنة على الحجر، فيزعمون: "أنّ هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب" (56).
ولكن المشكلة المعرفيّة المركزيّة في هذه المسألة أن هذا الشعر قديم جداً، وإننا لا نجد شعراً آخر يُرْوى، إلاّ ماكان من عهدي مهلهل بن ربيعة وامرئ القيس.... ولكنّنا كنّا زعمنا أن القصيدة المضاضية التي ذكرت، ذُكِرَ أنها وُجِدَتْ مكتوبةً على الحجر؛ فأمْرُها إذن مختلف. لكنّ الذي يبعد ذلك، أنّ لغتها راقية جداً، وأنّ الأسلوب أنيق، وأنّ النحو مستقيم، وأن الإيقاع مستقيم، وأنّ كلّ ما فيها يوحي بخضوعها للتهذيب والتشذيب، والتغيير والتبديل، إلاّ أن يكون عمر الشعر العربيّ أكثر بكثير ممّا يتصور أي متصور، وهذا أمر مستحيل. إذ ينشأ عن تقبّل نصّ هذه القصيدة كما روتها كتب الأخبار والسيرة، أنّ الشعر العربيّ كان عظيم الأزدهار على عهد جرهم، وأنّ اسماعيل عليه السلام حين تعلّم العربيّة لم يتعلّم مجرد لغة بدائيّة قصاراها أداءُ الحاجة الدنيا مما في النفس، ولكنها كانت لغة أدب رفيع... وهذا أمر محيّر...

إنّ الذي أردتُ أن أنبّه إليه في نقاش هذه الإشكاليّة هو أنّ القصيدة الجرهميّة لم تثبت على أنها رويت أصاغر عن أكابر، (وذلك مرفوض لبعد الزمن، وكثرة الفتن، وانعدام التدوين....)، ولكنها أثبتت على أساس أنها الفيت مكتوبةً على حجر باليمن.... وببعض ذلك تضيق شقّة المشكلة بحيث تغتدي مقتصرة على: هل وجدت مكتوبة، أو لم توجد مكتوبة؟ فإن كانت الإجابة بنعم- ولا أحد يمتلك في الحقيقة الإجابة لا بنعم، ولا بلا-: فما شأنُ اللغة التي كتبت بها ؟ وما بال الأسلوب الأنيق التي نسجت به؟ وينشأ عن التصديق أنّ الشعر العربيّ أقدم ممّا يظنّ الظانّون، والأقدمون أنفسهم يعترفون بقدميّة الشعر العربي- أقصد المتشددين في الرواية، والمحترزين في إثبات الأخبار أمثال ابن سلام- وحينئذ ننتهي إلى الميل إلى تقبّل نصّ هذه القصيدة إذا كانت وجدت، حقاً، مكتوبةً، مع ميلنا إلى أنه قد يكون وقع عليها بعض التهذيب لدى إثباتها كما رواها ابن اسحاق في القرن الأوّل الهجري (58-150؟ هـ).
والحقّ أن ابن سلاّم لَمَّا رفض الشعر إذا عاد إلى أكثر من عهد عدنان، فإنما كان مبدؤه قائماً على أساس الشعر المروّى (69)، لا على أساس الشعر المدوّن على الحجر.
والذي يعنينا في كل، هذا، وهنا والآن (وعلى أننا لم نرد أن نذهب، في بحث هذه المسألة المُعْتاصَةِ، مذهباً مُسْرِفاً في استقراء الآراء التي لا تكاد تخرج عما ذكرنا، ومناقشتها باستفاضة؛ إذ لو جئنا شيئاً لاستحالت هذه المقالة إلى كتاب....) أنّ المعلّقات نشأت على عهد مقصّد القصائد وهو المهلهل بن ربيعة التغلبيّ، خال امرئ القيس، وأنّ ذلك العهد، في أقصى التقديرات، لا يرجع إلى أكثر من قرن ونصف قبل البعثة النبويّة، وأنّ الشعر العربيّ ضاع باهمال أهله إيّاه، أو اشتغالهم بالجهاد، وسقوطهم بالآلاف في المعارك في ظرف قصير من الزمان أثناء الفتوح الأولى....
ولكن يستحيل علينا أن نصدّق أنّ الشعر العربي نشأ طفرة، ونبغ صبيّاً..... فعلينا أن نكون سذجاً باديِّ السذاجة إذا ما اعتقدنا بذلك... إلا لا يمكن أن يكون ذلك المستوى الفنيّ الرفيع الذي جاءت عليه تلك المعلّقات والأشعار الأخراة التي عاصرتها إلاّ بعد أن يكون الشعر العربيّ مرّ بمراحل طويلة تطوّر خلالها إلى أن بلغ تلك الدرجة العالية من الجودة والنضج والرصانة.... يجب أن تكون المعلّقات نشأت في بيئة شعريّة راقية، وفي جوّ أدبيّ خصب بحيث كان كلّ عربيّ يستطيع أن يقول البيت والأبيات يؤدّي بها حاجته. كما كانت القبائل تحتفل بنبوغ شعرائها فكانت "القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر، كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان، لأنّه حماية لأعراضهم، وذبّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم. وكانوا لا يهنّئون إلاّ بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"(70).
وكانت النساء يروين الشعر كما يرويه الرجال، فكان الشعر بالقياس إلى العرب هو الثقافة الأولى، والعبقريّة الأولى ، والغاية الأولى.
ومع كلّ ذلك فإننا نميل إلى أنّ الشعر العربيّ، في الحقيقة، ضاع قبل مجيء الإسلام، فإشارة امرئ القيس إلى ابن حمام، وإشارة عنترة إلى أنّ الشعراء لم يكونوا غادروا شيئاً ممّا يقال إلاّ نسجوا من حوله الشعر... من الأمور التي تجعلنا نذهب إلى أنّ لعنة الضياع لم تأت على الشعر العربيّ بسبب الحروب والفتن التي وقعت بعد ظهور الإسلام: حروب الردّة، وصفيّن، والجمل، والنهروان، والحروب الطاحنة التي استمرت بين الأموّيين والخوارج، والأموّيين وابن الزبير... كلّ أولئك فتن مُدْلَهِمَّة أتت على من كان باقياً من حفظة القرآن، وحملة الشعر، ورواة الأخبار... ولم يكن الناس، في القرن الأوّل الهجرّي يدوّنون شيئاً من مآثرهم؛ فضاع علم كثير، وأخبار ذات شأن..
وإذن فالشعر العربيّ القديم اجتاحته الجوائح قبل الإسلام بالصواعق والطوافين والأعاصير التي أذهب الله بها أمماً عربيّة قديمةً مثل طسم وجديس وعاد وثمود....، كما اجتاحته جوائح أخراة تمثّلت في الفتن التي وقعت بين العرب المسلمينأثناء القرن الأول الهجري؛ فلما جاء الناس يدوّنون بعض تلك الأخبار، انطلاقاً من القرن الثاني للهجرة، لم يجدوا منها إلاّ بقايا ضحلة، فكثر الوضع، وقلّ الخير...
خامساً: معلّقات العرب هل علّقت حقاً...؟
لقد سال كثير من الحبر حول إشكاليّة تعليق المعلّقات: أين علّقت؟ وأيّان علّقت؟ وما الكيفيّة التي علّقت بها؟ ولِمَ علّقت؟....

إنّ كثيراً من النقاد العرب القدامى، (ابن رشيق، وابن عبد ربه، وابن خلدون وغيرهم....) كانوا يذهبون إلى أنّها علّقت على أركان الكعبة... لكن هل يقتضي التعليق، حتماً، أن يكون على جدران الكعبة؟ أو لا يكون ذلك التعليق إنما كان في مكتبات قصور بعض الملوك، أمثال المناذرة؟ أم أنها لم تعلّق أصلاً، ولكن حكاية التعليق اختلقها، لبعض التعبير، بعض الرواة المحترفين، غير الموثوقين، أمثال حماد الراوية، أو بعض رواة القبائل غير المحترفين لإرضاء النزعة العصبيّة، والحميّة القبليّة، والعنجهيّة الجاهليّة: فابتدأ الأمر بمعلقة واحدة هي معلّقة امرئ القيس؛ فلمّا رأت العدنانيّة ذلك كبر عليها أن لا يكون لها بعض ذلك فوسّعت فكرة دائرة التعليق إلى طائفة من القبائل العدنانيّة الماجدة حيث توزّعت المعلّقات الأخراة على بكر وتغلب (القبيلتين المتنافستين المتعاديتين اللتين دارت بينهما حروب طاحنة) وقيس، وغطفان....
ولقد جاهد الأستاذ طلال حرب نفسه أَعْنَتَ الجهاد وأشقَّه في سبيل رفض فكرة المعلّقات من أصلها (71)، متأثّراً في ذلك بما كان ذهب إليه الأستاذ مصطفى صادق الرافعيّ الذي أنكر فكرة المعلّقات من أساسها، وعدّها مجرّد أسطورة في الأساطير (72). وقد كان سبق إلى رفض هذه الفكرة أبو جعفر النحاس (73).
والحقّ أنّ كثيراً من قدماء المؤرخين العرب اصطنعوا مصطلح "معلّقة"، ولم يشكّوا، كما لم يشكّكوا في أمر تسميتها. ولقد وقعنا، فيما أتيح لنا الاطلاع عليه من مصادر قديمة، على زهاء ثمانية مصادر ورد فيها ذكر اصطلاح المعلّقة، أو المعلّقات، إمّا مرة واحدة، وإمّا مرات متعددة -كما هو الشأن بالقياس إلى البغدادي في خزانة الأدب- صراحة، منها نصوص قديمة يعود العهد بها إلى القرن الثاني الهجريّ. والنصوص التي وردت في تلك المصادر هي لأبي زيد القرشي (74)، وأبي الفرج الأصبهاني (75)، وابن عبد ربه الأندلسيّ(76)، وابن رشيق المَسَليّ القيرواني(77)، وياقوت الحموي (78)، وابن كثير (79)، وابن خلدون (80)، والبغدادي (81)... فهل يجب أن نعدّ هؤلاء جميعاً سُذَّجاً وغَفَلَةً عن العلم ففاتهم أن يعرفوا اللُّغْزَ في هذه المسألة؟ إننا نعتقد أنه لايمكن أو يوجد دخان بلا نار، ولا نار بلا مادّة قابلة للاحتراق. وأنّ الأخبار الكبيرة، أو ما نودّ أن نطلق عليه نحن كذلك، يمكن أن يُتَزَيَّدَ فيها، ويمكن أن تُنْحَلَ مُتونَها، وتُحَرَّفُ رواياتُها؛ لكننا لا نعتقد أنّها تُختلق من عدم، وتنشأ من هباء.... ففكرة المعلّقات، في تقديرنا، غالباً ما تكون قد وقعت بالفعل على نحو ما، ولقصائد ما، نرجّح أن تكون القصائد السبع نفسها التي شرحها الزوزني، لأنها فعلاً من روائع الشعر الإنسانيّ على الإطلاق...
والذين لم يذكروا المعلّقات باسمها صراحة أمثال ابن قتيبة، وابن سلام الجحمي، والمرزيانيّ، والجاحظ -من مؤرّخي الأدب القدماء- فإنهم، في الحقيقة، ذكروها ضمناً حيث وقع اختيارهم على كثير من الأشعار المعلّقاتيّة، أساساً، كما وقع ذلك خصوصاً بالقياس إلى معلّقة امرئ القيس التي كلف بها القدماء كلفاً شديداً: فلهجوا برواية أبياتها والتعليق عليها، وإبداء الإعجاب بها طوراً، وانتقادها طوراً آخر. ولكنّ الإعجاب كان هو الأغلب الأطفح...
ثمّ إن المصطلح النقديّ العربيّ ظلّ طول الدهر، وفي كثير من أطوار حياته، يعاني الاضطراب والتساهل والتسامح في الاستعمال؛ فإذا كان طه حسين حين كان يتحدث عن إحدى روايات نجيب محفوظ الشهيرة ألفيناه يصطنع اصطلاح "قصّة" (وهو يريد مصطلح) "رواية"، وكان ذلك في الأعوام الخمسين من هذا القرن: فما القول في النقاد القدماء الذين كثيراً ما كانوا يعبّرون عن المعلّقة بالطويلة لأنها طويلة فعلاً، ومذهبة، لأنها مذهبة فعلاً، او واحدة، لأنّ بعض المعلّقاتيين لم يشتهر إلاّ بها مثل عمر بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وعنترة بن شداد.... وقل إن شئتَ كلّ المعلّقاتيين ما عدا امرأ القيس الذي اشتهر بمطوّلته الأخراة، العجيبة، أيضاً.
وإذن، فلقد كان في أذهان من لم يذكروا المعلّقات السبع، تحت هذا المصطلح، أنها آثر القصائد لدى العرب، وأنّ وصفها بالتعليق لم يكن إلاّ ثمرة من ثمرات تلك العناية الفائقة بها، وترويتها للناشئة، وتَسْيير الرُّكبان بها... فقد ألفيناهم يذكرونها بعدّة أسماء أمثال السمط.. وبينما يذهب ابن عبد ربه إلى أنّه كان يقال للمعلّقات أيضاً "المذهبات"، فيقال: "مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، وقد يقال لها المعلّقات" (83)، ويجاريه في ذلك ابن رشيق فيقرر أنه كان "يقال: مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء" (84)؛ نلفي أبازيد القرشي يميّز بين المذهبات والمعلّقات والمجمهرات(85)، بعد أن كان أطلق على المعلّقات في بداية الأمر مصطلح "السبع الطوال" نقلاً عن المفضّل، وليس عن أبي عبيدة كما زعم كثير من الناس(86) حيث إنّ النص المروّى عن أبي عبيدة ينتهي، ثم يورد بين قوسين نصّ المفضّل. فليس الخلاف إذن في الجوهر، ولكنه في الشكل؛ إذا يلاعُ كلّ القدماء بهذه السبع، لم يك إلاّ دليلاً خِرِّيتاً على اتفاقهم على روعتها وجودتها، بغضّ الطرف عن الأشكال التي اتخذتها في أذهان الناس...
وعلى أنّ ابن رشيق كان أورد في بداية كلامه أنّ الذي يقرره إنما هو نقلاً عن أبي زيد القرشي حيث قال: "وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إنّ أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمّى السمط(87)" (88).... بينما أبو عبيدة، بناء على ما بين يدينا في كتاب "جمهرة أشعار العرب"، لم يقل شيئاً من هذا؛ ولكن الذي قال هو المفضّل حيث ذكر أبو الخطاب ذلك معزوّاً إلى المفضل إذ كتب: "وقال المفضّل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط...." (89).
ونجد أبا الخطاب القرشي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو أقدم هؤلاء المؤرخين جميعاً (توفي سنة 170هـ) يطلق مصطلح "المذهبات" على غير "المعلّقات" حيث قال: "وأمّا المذهبّات فللأوس والخزرج خاصّة: وهنّ لحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس ابن الخطيم، وأحيحة بن الجلاّح، وأبي قيس بن الأسلت، وعمرو بنو امرئ القيس" (90).
فما هذا الخلط، وما هذا الغُثاء من الآراء؟
فالأولى: إنّ ابن رشيق يجعل رواية القرشي عن أبي عبيدة، بينما الرواية في النصّ المستشهد به، هي في الحقيقة، عن المفضّل.
والثانية: لعلّ المصدر الأوّل المكتوب الذي تحدّث عن المعلّقات ضمناً: تحت مصطلح "السبع الطوال" طوراً، و"السموط" طوراً آخر، وصراحة حين قال: "تمّت المعلّقات، ويليها المجمهرات" (91) إنماهي "جمهرة أشعار العرب".
والثالثة: فات الأستاذ طلال حرب أن يطّلع على أن القرشيّ هو أيضاً ذكر مصطلح المعلّقات صراحة في صلب كتابه، فأخرجه من طبقة من ذكروا المعلّقات، كما فاته الاطلاع على ما ورد من معلومات ذات شأن حول المعلّقات -بذكر هذا المصطلح صراحة- في السيرة النبويّة لابن كثير(92).
والرابعة: إنّ ما حيّر الأستاذ طلال حرب بناء، على نصّ أو رده الرافعيّ، غير موثَّقٍ، معزوّاً لابن الكلبي (93) لا يحتاج إلى كُلِّ هذا العناء ما دام الرافعي لم يكن يلتزم بالمنهج الجامعيّ الصارم في توثيق النصوص التي يستشهد بها، وهو على كلّ حال، في بعض ذلك غير مُليم، لأنه لم يضع النص الذي نقله منسوباً إلى ابن الكلبي بين علامات التنصيص، ممّا يوحي، منهجيّاً، بأنّه متصرّفٌ فيه....
والخامسة: إنّ ما حيّر طلال حرب حين لم يتمكّن من الاطلاع على المصدر الذي استقى منه الرافعي، مرفوعاً إلى ابن الكلبيّ، والذي كان الرافعيّ أو رده: فإننا نميل إلى أنّ ذلك النص، قد يكون منقولاً من ابن كثير (94). ولكن لمّا كان الرافعي لا يلتزم باصطناع علامات التنصيص الأكاديميّة فإنه كان لايتحرّج في التصرّف في الكلام، وربما سها فعزا ما كان قاله ابن قتيبة حَوالَ عمرو بن كلثوم، كما سنرى، إلى ما قاله عن الحارث بن حلّزة (95). فقد كان ابن كثير، لدى تعرّضه للمعلّقات السبع، كثيراً ما يذكر ابن الكلبي. بيد أنّ النص الذي ذكره الرافعي متصرفٌ فيه غالباً، ونفترض أنه مركب من جملة نصوص (من ابن كثير، وابن رشيق، والبغدادي...)...
والسادسة: إنّ الأستاذ الرافعيّ وقع في خلط عجيب، ولبس مشين... ولا يمكن التعويل عليه فيما أورد في كتابه "تاريخ آداب العرب" حول هذه المسألة؛ إذ لم يتّبع أصول التوثيق الأكاديميّ المعمول به بين الباحثين، لأنه، مثلاً،:
1- يقول: "وقال ابن قتيبة في ترجمة طرفة: وهو أجودهم طويلة" (96). بينما لم يقل ابن قتيبة، في الأصل، شيئاً من هذا، ولكنّ القول مرويّ أولاً عن أبي عبيدة، والمقولة في أصلها، آخراً" أجودهم واحدة" (97)؛ وليست: "أجودهم طويلة" -إلاّ أن تكون طبعة الشيخ غير طبعتنا، فمعذرة.

2- ويخلط الرافعيّ بين النص الواردعن عمرو بن كلثوم فيجعله وارداً حول الحارث بن حلّزة، وذلك حين يقول:
"قال (ابن قتيبة) في ترجمة الحارث بن حلّزة عند ذكر قصيدته، وهي من جيّد شعر العرب، وإحدى السبع المعلّقات" (98).
والحق أنّ ذلك النص كان ورد عن شأن عمرو بن كلثوم، لا عن الحارث بن حلّزة؛ إذ يقول ابن قتيبة عن معلقة ابن كلثوم: "وهي من جيّد الشعر العربيّ القديم. وإحدى السبع" (99).
وقدسها الرافعي مرتين اثنتين: حين نقل النص من ابن قتيبة، ثم حين نقله من البغداديّ الذي يقرر هو أيضاً، نقلاً عن ابن قتيبة: "قصيدة عمرو بن كلثوم من جيّد شعر العرب، وإحدى السبع" (100). فالأمر إذن ينصرف إلى عمرو بن كلثوم لا إلى ابن حلّزة...
إنه لا أحد يستطيع القطع، أمام هذه الاختلافات بين المؤرخين، بعدم تعليقيّة المعلّقات السبع، وإلا فعلينا أن نرفض تاريخ الأدب العربيّ كلّه ونستريح.
سادساً: استبعاد فكرة التعليق:
ولكن هل هذا ممكن؟ وكيف نذهب مذهبين اثنين، متناقضين، في مقام واحدٍ، وكيف يمكن الجمع بين الاستنتاجين؟ وهلا اجتزأنا بموقف واحد صريح، وحكم واحد صارم واسترحنا؟ أو لا يكون هذا ضرباً من التردد، وجنساً من الاضطراب، في الموقف؟

وإنّا لانرى شيئاً من ذلك. وإنّا لا نجد أيّ حرج في وقوف الموقفين، وقيام المقامين معاً... ذلك بأنّنا، لا نؤمن بإصدار الأحكام القطعيّة حول القضايا المشكلة... ونحن إذ نفتح الباب لاستبعاد فكرة التعليق، بعد أن كنّا ملنا إلى استبعاد فكرة عدم التعليق؛ فلأننا نؤمن بحرية الفكر؛ ولأننا نعتقد أن أتّرَاكَ باب البحث مفتوحاً هو الأسلم والأرصن..
ونحن إذ كنّا نؤمن بفكرة التعليق؛ فإنما نصرفه إلى غير التعليق على أركان الكعبة....وهذا ما نودّ بحثه في هذه الفقرة...
وإذن، فأَنْ تكونَ القصائدُ السبع الطوال، أو المعلّقات السبع، علّقت على جدران الكعبة كما زعمت بعض المصادر القديمة، وثلاثة منها مغاربيّة (ابن رشيق، وابن عبد ربه، وابن خلدون) فذاك أمر نرتاب فيه؛ و لانميل إليه. وإنما نرتاب فيه لبعض هذه الأسباب:
1- إنّ الكعبة كانت تعرضت للنهب، وللسيول الجارفة (101)، وللتهدّم والتساقط(102).
2- إنّ المؤرخين القدامى من اتّفقوا على أنّ الكعبة لم تكن مسقوفة (103). وإذا لم تكن كذلك، فكيف يمكن تعليق جلود مكتوبة عليها، بَلَهْ ورق القباطيّ الشديد الحساسية للعوامل الجويّة (وذلك مجاراة لأقوال بعض الأقدمين مثل ابن رشيق الذي قرر بأنها كانت مكتوبة على القباطيّ) والحال إنّ أيّ كتابة لايمكن أن تبقى متوهّجة مقروءة، لزمن طويل، تحت تأثير العوامل الطبيعيّة مثل الرياح، وأشعّة الشمس، ورطوبة الليل، وبلّ المطر؟
3- اتّفق المؤرخين العرب القدامى أيضاً على أنّ الكعبة لم تكن مَمْلوطَة، ولكنّ بناءها كان عبارة عن رَضْم، أي رصْفِ حجرٍ على حجر من غير مِلاَطِ(104).
4-إنّ المؤرخين القدماء أمثال ابن هشام، وابن كثير، والمسعودي، وياقوت الحموي اتفقوا على أنّ الكعبة لم تسقف إلاّ حين جدّدت قريش بناءها الذي كان قبل البعثة بزهاء خمس سنوات فحسب. والذين يذهبون إلى تعليق تلك القصائد على أستار الكعبة إنما يذهبون، ضمناً، إلى أنّ ذلك كان على عهد الجاهليّة.
5- إنّ موادّ الكتابة، على تلك العهود، كانت من البدائيّة والبساطة بحيث لم يكن ممكناً، عقلاً، أن يكتب كاتب نصّاً طويلاً يقترب من ثمانين بيتاً، تزيد قليلاً، أو تنقص قليلاً، على جلد غزال، أو على قباطيّ.
6- إنّ هذه النصوص الشعريّة السبعة لطولها، لو جئنا نكتبها اليوم على جدران الكعبة، أو على جدران أيّ بناء آخر في حجم بنائها، على مواصفات العهود الأولى- وعلى ما نمتلك اليوم من وسائل متطورة للكتابة- للاقينا العناء والعنت في كتابتها كلها على تلك الجدران.
وعلى أننا كنا أثبتنا في الحيثيّة الثالثة، من هذا التحليل، أنّ جدران الكعبة لم تكن مملوطة بالملاط، ولكنّ حَجَرها كان عارياً، ويبدو أنّه كان مبنياً على الطريقة اليمنيّة التي تقوم على البناء بالحجر بدون ملاطٍ للربط بين الحجر والآخر. ولعلّ جدران الكعبة لم تملط إلا حين أعاد بناءها عبد الله بن الزبير، بعد أن تعرضت لقذفات المنجنيق التي قذفها بها الحجاج من أبي قبيس، وذلك حين احتمى بها ابن الزبير الذي كان أعاد بناءها بعد أن سمع من خالته عائشة رضي الله عنها حديثاً يرغّب في تجديد بنائها، وتغيير هندسة هيكلها (105).
7- كان في أهل الجاهليّة حنيفيّون، ولم يكن ممكناً أن يرضوا بأن تعلّق على جدران أقدس بيت وضع للناس أشعار تتحدث عن المضاجعة والمباضعة، وسيقان النساء وأثدائهن، وشعورهن وثغورهن...
فعلّ هذه العوامل، مجتمعةً، أن تَحْمِلنا على الذهاب إلى استبعاد فكرة تعليق تلك القصائد على جدران الكعبة، في أي عهد من العهود؛ وذلك على الرغم مما يروى عن معاوية بن أبي سفيان أنّه قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب، كانتا معلّقتين بالكعبة" (106).

وهذه رواية غريبة، ولا ندري من أين استقاها البغدادي. وهي على كلّ حال تدلّ على أنّ فكرة التعليق كانت، فعلاً، واردة لدى الناس. وأنّ هناك إلحاحاً على التعليق الذي نصرفه نحن، بناء على هذه المقولة وغيرها، إلى أنّ العرب ربما كانت تعلّق هذه القصائد على الكعبة أثناء موسم الحج فقط، وذلك بعد أن تكون قد أُنْشِدَتْ في سوق عكاظ.. وأعتقد أن هذا المذهب قد يحل المشكلة من أساسها فيثبت التعليق فعلاً، ولكن يحدد من زمنه بحيث لايجاوز موسم حجّ واحد.. ومن الآيات على ذلك أن معاوية هنا، إن ثبتت رواية مقولته، يقرن بين قصيدتين متكاملتين على تناقضهما وهما القصيدتان اللتان تتحدثان عن العداوة التي كانت بين بكر وتغلب. فكأن تينك القصيدتين علّقتا على الكعبة معاً في موسم واحد. ونحن لم نهتد إلى هذا الرأي إلا من خلال مقولة معاوية الذي لا يتحدث عن معلقات، ولكنه يتحدث عن معلقتين اثنتين، كما رأينا.
فذلك،إذن، ذلك.
وأما فكرة القبول بالتعليق فيمكن أن تؤوّل على أساس أنها لم تكن على جدران الكعبة، إذ لا يمكن، من الوجهة المادية، ومن الوجهة التقنية أيضاً، تعليق كلّ هذه النصوص على جدران البيت، ولكنها عُلِّقَتْ في مكتبات ما. ويؤيد ذلك ما يعزى إلى بعض الملوك حيث "كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته" (107).
وربما أتت فكرة التعليق أيضاً مما يُعْزَى إلى عبد الملك بن مروان من أنه طرح شعر أربعة معلقاتيين، وأثبت مكانهم أربعة (108) آخرين.
بل ربما أتت من "أنّ بعض أمراء بني أمية أمر من اختار له سبعة أشعارٍ فسماها المعلقات" (109). لكنّ البغدادي الذي يبدو أنه تفرّد بهذه الإشارة، على الأقلّ فيما اطلعنا عليه نحن من مصادر، لم يذكر المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة، ولا كيف سمّاها المعلقات، وهي لم تعلق (وذلك ما يفهم من قول البغدادي)؟
إننا نعتقد أن ذكر أربع ملابسات تاريخية، وهي:
1- ورود ذكر اسم عبد الملك بن مروان، وأنه قرر طرح أربعة أسماء، وإثبات أربعة آخرين، من المعلقاتيين، ولم يكن ذلك ليحدث إلا بعد الاستئناس برأي نقّاد الشعر على عهده؛
2- ورود ذكر "بعض أمراء بني أمية"؛
3- ورود ذكر حماد الراوية المتوفّى سنة خمس وخمسين ومائة من الهجرة، وقد سلخ معظم عمره في عهد دولة بني أمية؛ وأنّه هو الذي جمع المعلقات فيما يزعم أبو جعفر النحاس (110)، وهو ذاك؛ فإنّ ابن سلام الجمحيّ كان أومأ إلى هذا حين ذكر "أنّ أوّل من جمع أشعار العرب، وساق أحاديثها، حمّاد الراوية. وكان غير موثوق به. وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار" (111).
(وإنما جئنا بما هو ذو صلة بعدم ثقة حمّاد الراوية لكي نربط بينه وبين ما سيقوله أبو جعفر النحاس الذي قرر أنّه لمّا رأى حماد الراوية "زهد الناس في حفظ الشعر، جمع هذه السبع وحضّهم عليها، وقال لهم: هذه المشهورات"(112).
4- كان سبق لنا، منذ قليل أن أوردنا قولاً لمعاوية يقرر فيه أنّ قصيدتي عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة من مفاخر العرب، وأنهما "كانتا معلقتين بالكعبة دهراً" (113). ومعاوية هو مؤسس الدولة الأموية...
ولقد ينشأ عن هذه الملابسات التاريخية الأربع:

1- إنّ فكرة التعليق، وحدوثها الاحتماليّ، لم تظهر إلاّ في العهد الأمويّ، لارتباطها بذكر أربع سِمَاتٍ تاريخيةً أمويّة: لا جاهليّة، ولا إسلامية، ولا عباسية.
2- إنّ إشارة أبي جعفر النحاس إلى زهد الناس في الشعر هو الذي حمل حماد الراوية، ليس على جمع القصائد السبع الطوال فحسب، ولكن على التهويل من شأنها، وربطها بمقدسات وطقوس دينيّة تتمثل في أركان الكعبة حتى يقبل الناس على حفظها، وروايتها، وتَرْويَتها، وترويجها، في الآفاق، وقد أفلح حماد، حقاً، فيما أراد إليه. ونحن ندين بالفضل في حفظنا المعلقات، وعنايتنا الشديدة بها إلى هذا العهد، من حيث هي أجود، أو من أجود الشعر العربي القديم على الإطلاق، وذلك على الرغم من احتمال زيادة حماد في نصوص هذه المعلقات ما لم يكن فيها.
3- إننا نميل إلى أنّ فكرة المعلقات ليست مجرد أسطورة في الأساطير، ولكن قد يكون لها أساس من التاريخ والواقع، بشرط ربطها بأمرين اثنين:
1- إنّ التعليق هو التعليق في خزانة بعض أمراء بني أمية أو ملوكها.
2- إنّ التعليق إذا انصرف إلى الكعبة إمّا أن يكون شكل الخطّ، حينئذ، على غير القباطيّ، ولا هو من مادة الذهب، ولا من شيء مما يزعم ابن رشيق، وابن عبد ربه. ولكنّ الكتابة ربما كانت بمداد الوَذْح المحرق، وعلى لوح من الألواح التي كانوا يكتبون عليها أشعارهم أول ما تُمْلَى.
وكانت تلك السيرة قائمةً إلى عهد جرير (114). وقد ظلّت في الحقيقة قائمة في كتاتيب القرآن ببلاد المغرب إلى يومنا هذا... وإمّا أنّ التعليق لم يكن يستمرّ لأكثر من أيام موسم الحج، أو لفترة معينّة، كأنها تشبه شكل المعارض على عهدنا هذا.. وقد يدل على ذلك قول معاوية:
"كانتا (يريد إلى معلقتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة) معلقتين بالكعبة دهراً" (115). فكأنّ معنى الدهر في كلام معاوية ينصرف إلى فترة محدّدة، ثم ينقطع. وهو أمر واضح.
4- إننا نستبعد أن تكون القصائد السبع الطوال كلها علقت على أركان الكعبة مجتمعة، وظلّ التعليق متتالياً فيها، وذلك للأسباب السبعة التي جئنا عليها ذكراً، في بعض هذا التحليل.
وإذن؟

وإذن، فنحن نميل إلى قبول فكرة التعليق بشرط ربطها بما قدمنا منذ حين من احترازات. على حين أنّ فكرة رفض التعليق يمكن الذهاب إليها إذا أصرّ المصرون على أنّ المعلقات علقت على أركان الكعبة، في وقت واحدً، وظلّت معلقة هناك، وأنها كتبت في القباطيّ، وأنّ حبرها كان ذهباً.
ولعلنا ببعض ذلك تعمدنا أن نذر الباب مفتوحاً للنقاش والجدال من حول هذه المسألة اللطيفة التي يلذّ حولها البحث، ويحلو عنها الحديث.... فليظل باب البحث مفتوحاً للمجتهدين..










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
*«•¨*•.¸¸.»منتدى, اللغة, العربية, «•¨*•.¸¸.»*, طلبة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 01:30

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc