تفسير قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)
السؤال :
هل عاقب النبي من أجبر الجارية على البغاء ؟ ولماذا لم تأت الآية بالتهديد والوعيد له وبنص يوضح عقاب من يرتكب هذا ؟!
الجواب :
الحمد لله
أولًا:
الآية المقصودة هي قوله تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 33].
وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه الإمام مسلم (3029)، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: " كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ يَقُولُ لِجَارِيَةٍ لَهُ: اذْهَبِي فَابْغِينَا شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} [النور: 33] لَهُنَّ {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] "
قال الإمام الطبري: " يقول تعالى ذكره: زوجوا الصالحين من عبادكم وإمائكم ، ولا تكرهوا إماءكم على البغاء، وهو الزنا؛ (إن أردن تحصنا) [النور: 33] ، يقول: إن أردن تعففا عن الزنا. (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) [النور: 33] ، يقول: لتلتمسوا بإكراهكم إياهن على الزنا: عرض الحياة، وذلك ما تعرض لهم إليه الحاجة ، من رِياشها وزينتها، وأموالها. (ومن يكرههن) [النور: 33] يقول: ومن يكره فتياته على البغاء، فإن الله من بعد إكراهه إياهن على ذلك، لهُن (غفور رحيم) ، ووزر ما كان من ذلك عليهم ، دونهن.
وذُكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ، حين أكره أمته مسيكة على الزنا ". انتهى ، تفسير الطبري: (17/ 290).
وقال الإمام ابن كثير: " وقوله: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) الآية: كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت. فلما جاء الإسلام، نهى الله المسلمين عن ذلك.
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحد من المفسرين، من السلف والخلف -في شأن عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ، فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البغاء ، طلبا لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورئاسة منه ، فيما يزعم ، قبحه الله ولعنه "، تفسير ابن كثير: (6/ 54).
ثانيا :
وأما عقاب النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكره أمته على الزنا ، فيقال فيه :
إنه لم يثبت ، بعد نزول هذه الآيات ، عن أحد من أهل المدينة : أنه أكره أمته على الزنا ، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى يسأل عن عقاب النبي صلى الله عليه وسلم له ، وإنما ثبت التحريم بهذه الآيات ، ودلت عليه .
وفي الآية إشارة لحال من أكره أمته ، وإيماء إلى وعيده ، وسوء منزلته .
قال الطيبي رحمه الله :
".. وعيدٌ شديد، وتهديدٌ عظيمٌ للمكرِه .
وذلك الغفران والرحمة تعريضٌ ...
يعني : انتبهوا أيها المكرهون، أنهن مع كونهن مكرَهاتٍ بنحو القتل وإتلاف العضو، يؤاخذن على ما أُكْرهن ؛ لولا أن الله غفورٌ رحيمٌ ، فيتجاوز عنهن ؛ فكيف بمن يكرههن ". انتهى، من "حاشية الطيبي على الكشاف" (11/84) .
وقال ابن عجيبة ، رحمه الله :
يقول الحق جل جلاله : (ولا تُكْرهُوا فتياتكم) أي : إِمَاءَكُمْ ، يقال للعبد : فتى ، وللأمة : فتاة. والجمع : فتيات .
(على البغاء) أي : الزنا ، وهو خاص بزنا النساء.
كان لابن أُبيِّ ست جوار : مُعَاذَة، ومُسَيْكَة ، وأميمة، وعَمْرَة ، وأَرْوَى ، وقُتَيْلَة ، وكان يكرههن ، ويضرب عليهن الضرائب لذلك ، فشكتِ ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية.
وقوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) أي : تعففاً ؛ ليس قيداً في النهي عن الإكراه ، بل جرى على سبب النزول .
فالإكراه : إنما يُتَصَوَّرُ مع إرادة التَّحَصُّنِ ؛ لأن المطيعة لا تسمى مكرهة .
ثم خصوص السبب ، لا يُوجب تخصيص الحُكم على صورة السبب ؛ فلا يختص النهي عن الإكراه بإرادة التعفف ، وكذلك الأمر بالزنا ، والإذن فيه : لا يُبَاحُ ، ولا يجوز شيء من ذلك للسيد ، وما يقبض من تلك الناحية سُحْتٌ وربا.
وفيه توبيخ للموالي ؛ لأن الإماء إذا رغبن في التحصن ؛ فأنتم أولى بذلك .
ثم علل الإكراه بقوله : (لتبتغوا عَرَض الحياةِ الدنيا) أي : لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن ، وأولادهن ؛ جيءَ به ؛ تشنيعاً لهم ، على ما هم عليه من احتمال الوزر الكبير ، لأجل النزر الحقير ؛ أي : لا تفعلوا ذلك لطلب المتاع السريع الزوال ، الوشيك الاضمحلال.
(ومن يُكْرِههُنَّ) ؛ على ما ذُكِرَ من البغاء ، (فإن الله من بعد إكرَاهِهِنَّ غفورٌ) لهن (رحيمٌ) بهن . وفي مصحف ابن مسعود كذلك. وكان الحسن يقول : لهن والله.
وقيل : للسيد إذا تاب.
واحتياجهن إلى المغفرة ، المنبئة عن سابقة الإثم : إما اعتبار أنهن - وإن كن مُكْرَهَاتٍ - لا يخلون في تضاعيف الزنا من شائبة مطاوعة ما ، بحكم الجِبِلَّةِ البشرية .
وإما لغاية تهويل أمر الزنا ، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه .
والتشديد في تحذير المكرِهِينَ ، ببيان أنهن حَيْثُ كُنَّ عُرْضَةً للعقوبة ، لولا أن تداركهن المغفرة ، الرحمة ، مع قيام العذر في حقهن ، فما بالك بحال من يكرههن في استحقاق العقاب ؟" .
"البحر المديد" لابن عجيبة (5/116) .
وقال الإمام أبو أحمد الكرجي ، رحمه الله :
"وقوله: ( وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) :
دليل على أن، إثم الزنا مدفوع عن المكرهة، وَلاَحَد عليها فيه...
فمن فعل هذا بجاريته ، فهو في سخط الله ولعنته حتى تنزع عنه ...
وعلى الجارية أن تقاتل من أراد ذلك منها ، وتفرغ مجهودها في المنع عنها، ولا تسلم فرجها قبل بذل المجهود في الدفع عن نفسها ، بسلاحها ويدها، وأسنانها ، واضطرابها ، حتى تنقطع حيلها، وتُغلب ، ثم تكون حينئذِ مكرهة ، مستوجبة ما وُعدت من الغفران والرحمة .
بل عليها أن تكره مَا لا تملكه من لحُوقِ الحلاوة بالبشر عند الوقاع ؛ لتستكمل اسم الإكراه . .
"النكت الدالة على البيان" للقصاب (2/471-472) .
والله أعلم .