مراجعة جماعية لماجستير حقوق الانسان - الصفحة 2 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > الحوار الأكاديمي والطلابي > قسم أرشيف منتديات الجامعة

قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها .....

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

مراجعة جماعية لماجستير حقوق الانسان

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-07-17, 15:20   رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
محمد تماسين
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

أرجو أن نعود الى الجد و نتوكل على الله و نبدأ ،
أولا : إعداد المراجع . و محاضرات الحريات و حقوق الأنسان المبرمجه
ثانيا : وضع خطة عمل









 


قديم 2012-07-18, 12:44   رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
nrdz
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

سلام عليكم
خلونا من المعريفة يالله نتكلو على ربي ونروحو لورقلة مسلحين وان شاء الله نكونو من الناجحين
ياجماعة مابقاش وقت كيما قال الاخ محمد تماسين
ندبرو في المراجع ح الانسان والحريات ع وممبعد نديريرو خطة عمل
انا اقترح خطة عمل انه نحتاجو
1- مراجع المقياسين
2-نحتاجو واحد يديرلنا كيفاش الاجابة النموذجية
3-كل واحد يقرا وحدو واذا مافهمش حاجة ولا عندو استفسار نتلاقاو هنا
ايااااااااااو نتكلو على ربي
انا نحاول نجيبلكم المراجع انتظروني ...










قديم 2012-07-18, 12:48   رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
abdouu789
عضو مجتهـد
 
إحصائية العضو










افتراضي

راني معاكم وقتاش يتم وضع الملف في ورقلة










قديم 2012-07-18, 13:00   رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
nrdz
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة abdouu789 مشاهدة المشاركة
راني معاكم وقتاش يتم وضع الملف في ورقلة
ياخويا الله اعلم في سبتمبر









قديم 2012-07-18, 17:43   رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
sengra
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية sengra
 

 

 
إحصائية العضو










M001

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة nrdz مشاهدة المشاركة
سلام عليكم
خلونا من المعريفة يالله نتكلو على ربي ونروحو لورقلة مسلحين وان شاء الله نكونو من الناجحين
ياجماعة مابقاش وقت كيما قال الاخ محمد تماسين
ندبرو في المراجع ح الانسان والحريات ع وممبعد نديريرو خطة عمل
انا اقترح خطة عمل انه نحتاجو
1- مراجع المقياسين
2-نحتاجو واحد يديرلنا كيفاش الاجابة النموذجية
3-كل واحد يقرا وحدو واذا مافهمش حاجة ولا عندو استفسار نتلاقاو هنا
ايااااااااااو نتكلو على ربي
انا نحاول نجيبلكم المراجع انتظروني ...
عندك الحق خويا فقط يكفينا لو أحد الطلبة من و رقلة أو درس الكابا عند بن محمد محمد يوافينا بمحاضراته في حقوق الانسان او القانون الدولي العام وشكراااااااااا









قديم 2012-07-18, 21:21   رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
aissa2008
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية aissa2008
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم

لي حاب يشارك في ورقلة هاهي مكونات الملف وتاريخ المسابقة

وربي يوفقكم ان شاء الله

https://www.ouargla-univ.dz/docs/magister2012.pdf

اخوكم علي










قديم 2012-07-18, 22:17   رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
طالب هشام
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

ابداو غدوا على الساعة 22 شكرا










قديم 2012-07-18, 22:51   رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
sengra
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية sengra
 

 

 
إحصائية العضو










M001

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة aissa2008 مشاهدة المشاركة
السلام عليكم

لي حاب يشارك في ورقلة هاهي مكونات الملف وتاريخ المسابقة

وربي يوفقكم ان شاء الله

https://www.ouargla-univ.dz/docs/magister2012.pdf

اخوكم علي

السلام عليكم أخي عيسى
بارك الله فيك على هذا الجهد و نتمنى التواصل معك للاستفادة من حيث المنهجية و المقاييس
وشكرا









قديم 2012-07-19, 20:59   رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
aissa2008
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية aissa2008
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم

ما هي المراحع التي اعتمدتم عليها

صراحة المقياس متشعب و المؤلفات تختلف مضامينها من استاذ الى اخر

فما هي المراجع التي اعتمدتموها خاصة في الحريات العامة ؟؟؟

بارك الله فيكم










قديم 2012-08-05, 11:25   رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
محمد تماسين
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

تعريف مفهوم الحرية
لا بد من الإشارة، منذ البداية بأن كلمة «حرية» تخرج عن إطار أي تحديد دقيق وجازم، لكونها على صراع دائم مع كل ما هو مقدّس، ولا شيء يحدّ من عمقها واتساعها سوى المقدسات، أو بالأحرى ما تمنعه الشرائع السماوية التي انزلها الله، عزّ وجلّ، لخير العباد.
فهل نستطيع، والحالة هذه، القول بأن «الحرية هي المقدرة المطلقة للسيطرة على الذات»، وكيف يمكننا فهم ذلك ؟.
إن نقل المناقشة، حول هذا التعبير، من الميدان الفلسفي إلى الميدان السياسي – الاجتماعي يعيدنا إلى موضوعية أكثر مادية وحسّية، ويقودنا إلى الأخذ بمحاولات التعريف المتعددة التي طرحت لها.
ففي قاموسه الضخم والهام «المفردات التقنية والنقدية في الفلسفة» يطرح علينا اندريه لالاند André LALANDE محاولة تعريف للحرية من عدة جوانب:
فبالمعنى البسيط: الإنسان الحر هو ذلك الذي لا يكون عبداً أو سجيناً. والحرية هنا هي تلك الحالة التي يستطيع فيها الإنسان القيام بما يريد، وليس بما يريده له الآخرون، أي أنها تعني عدم وجود أي إرغام خارجي.
وبالمعنى العام: هي حالة الإنسان الذي لا يتحمل أي قسر، والذي يتصرف وفقاً لإرادته وطبيعته.
وبالمعنى الاجتماعي: تعني المقدرة على القيام بكل ما لا يمنعه القانون، وبرفض ما يحرّمه هذا القانون.
وبالمعنى السياسي: تصبح الحرية مجموعة الحقوق المعترف بها للفرد، والتي تحدّ من سلطة الحكومة.
وبالمعنى السيكولوجي والأخلاقي: تكون الحرية حالة ذلك الإنسان الذي لا يقدم على أي عمل، خيراً كان أم شراً، إلا بعد تفكير عميق، وبإدراك كلي للأسباب والدوافع التي جعلته يقوم بهذا التصـرف([1]).
هذا التنوّع في تعريف الحرية، من جوانبها المختلفة، يعكس تباين آراء المفكرين والفلاسفة الذين حاولوا إيجاد تحديد دقيق لمضمون هذا التعبير. فأفلاطون([2]) مثلاً، يعلّق أهمية كبرى على الإرادة الذاتية في الاختيار، ويعتبر بأن «كل إنسان مسؤول عن خياره»، في حين يرى ديكارت([3]) أن « الحرية تتلخص بالمقدرة على القيام أو عدم القيام بشيء معين». أي أننا لا نكون أحراراً، بحسب هذا المفهوم، إلا إذا امتلكنا إمكانية معينة لتقرير مواقفنا. ويبقى السؤال المطروح هنا هو معرفة ما إذا كانت هذه الإمكانية ذاتية، أي متوفرة فطرياً لدى الإنسان، أم أنها خارجية، أي مكتسبة ؟.
أما كانت Kant([4]) فيقول في كتابه «نقد العقل العملي» critique de la raison pratique، بأن «الحرية هي خيار أخلاقي مع أو ضد الخير، مع أو ضد العقل، مع أو ضد الكونية». بينما يعتبر سبينوزا([5]) «إن الحرية الأخلاقية تعني الخضوع للعقل، وإن الإنسان الحر هو ذلك الذي يعيش وفقاً لتوجيهات العقل». ولا يبتعد برغسون([6]) كثيراً عن المفهوم الأفلاطوني أو الكانتي عندما يشدّد على حرية الاختيار لدى الفرد. فالحرية عنده هي واقعة «إن لم تكن أكثر الوقائع الملموسة وضوحاً وجلاءً، ولكن... عبثاً يحاول المرء أن يبرهن على وجود الحرية، فما الحرية بشيء يمكن تحديد وجوده، بل هي في الحقيقة إثبات للشخصية، وتقرير لوجود الإنسان. إنها ليست موضوعاً يعاين، بل هي حياة تعانى».
وهكذا نرى أنه، وبحسب الزاوية التي ننظر منها إلى فكرة الحرية، يمكن القيام بمحاولة لتحديدها انطلاقا من الاعتبارات الفكرية، أو المادية الضاغطة على العقل الذي يقوم بمناقشتها. ومما لا ريب فيه بأن فكرة الحرية عرفت مفاهيم متعددة عبر العصور التي مرت بها الإنسانية، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من قيمة مثالية وفلسفية كبرى.
فما هي أهم المراحل الإنسانية التي عولجت فيها قضية الحرية بشكل مباشر، وما هي المفاهيم التي أضيفت إليها ؟.
لكن وقبل التطرق إلى هذه المسائل، لا بد لنا من التوقف عند نقطتين هامتين: المعنى المطلق والنسبي للحرية، والحرية في مضمونها الاجتماعي، وشكلها البدائي.
ب. الحرية المطلقة والحرية النسبية.
إن من أبسط المرتكزات الفكرية للعقل الإنساني هي الإقرار بشمول مبدأ النسبية في الكون والطبيعة. فكل ما ندركه عن هذا الكون بتعقيداته الطبيعية، وبالقوانين التي تحكمه وتسيّره، هو إدراك نسبي إلى حد بعيد. ونحن لا نستطيع فهم حدود المطلق لأنه يعبّر عن اللامتناهي واللامحدود. والمطلق، كمبدأ كوني شامل بحد ذاته، لا يمكن أن ينجم إلا عن إرادة مطلقة تمتلك بدورها حرية مطلقة، وهذا لا يمكن وجوده إلا في الذات الإلهية. فالله، عزّ وجلّ، خالق ومدبر الكون الأعظم، هو وحده رمز الإرادة المطلقة، والحرية المطلقة، ولا شيء آخر سواه. وهذه الحرية المطلقة عبّرت عنها الديانات السماوية المقدسة بصورة واضحة. ولن ندخل هنا في إطار مناقشتها. ولسوف نشرح مفهوم هذه الديانات فقط من الزاوية الاجتماعية، أي من زاوية علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. لأن علاقة الإنسان بخالقه محدّدة عبر خضوع هذا الإنسان للنواميس والشرائع الإلهية التي تفرض عليه التعبير عنها بصيغ اجتماعية، وإنسانية، تتمثل في السلوك المتوجب عليه إتباعه على ضوء الخيار المطروح أمامه بين الخير والشر. ولذلك، فإننا سنقول بأن حركة الإنسان في الطبيعة والمجتمع هي حركة نسبية، وكل ما ينجم عنها هو نسبي أيضا. فهو لا يستطيع، مثلاً، التحرك أمام قانون الفناء أو الموت إلا عبر مرحلة زمنية معينة، ومحدّدة بجملة من العوامل والظروف الخارجية. ومقاومته لقانون الثورات الطبيعية، كالزلازل والفيضانات، هي شبه معدومة. ولذا، فإن حريته تكون نسبية تماماً، فيما يتعلق بوجوده الذاتي، أمام هذه الظواهر أو القوانين. فهو وإن استطاع الابتعاد عن مجاري المياه الكبرى التي تهدده بالفيضان، فإنه لا يستطيع إطلاقاً درء الفيضانات الأخرى التي يمكن أن تسبّبها السيول الناجمة عن الأمطار الغزيرة الخ... أي أن إرادته، وحريته، مقيدتان هنا بعوامل طبيعية تخرج كلياً عن سيطرته وتؤكد مبدأ نسبيتهما.
ج. الحرية في مضمونها الاجتماعي.
أما في الميدان الاجتماعي، فإن حرية الإنسان تتخذ شكلاً مختلفاً كلياً عن ذلك الذي ترتديه أمام الطبيعة. لأن الحرية الإنسانية لا تبرز، بشكل واضح، إلا بمضمونها الاجتماعي. والإنسان، يكتسب صفته الإنسانية أصلاً من خلال واقع اجتماعي معيّن. وبدون هذا الواقع الاجتماعي ليس ثمة وجود لهذا الإنسان. فنحن من خلال معرفتنا لتاريخ التطور البشري لم نستطع التعرف إطلاقاً على إنسان عاش لوحده معزولاً عن غيره من البشر. ولم نكتشف الصفة الإنسانية لهذا الكائن الحي، إلا من خلال صورته الاجتماعية الموسومة بوعي معيّن.
فالمجتمع هو الذي يمنح الصفة الكيانية للفرد، كمخلوق عاقل يتصف بخصائص معيّنة تتحدّد سلباً أو إيجاباً بالمقارنة مع القيم السائدة بين الجماعة. وبدون هذه القيم ليس هناك أي معنى للسلوك الاجتماعي، مهما كانت طبيعته. ولذلك، فان الحرية، كمفهوم، تنبع أساساً عبر وعي المجتمع لها في مرحلة محدّدة من مراحل وجوده.
وفي هذا الإطار يقول الفيلسوف والاقتصادي البريطاني جون ستيوارت ميل([7]): «إن النطاق المناسب للحرية الإنسانية هو حرية فيه.ر بأشمل معانيها، وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي والوجدان المطلقة في كل الموضوعات، سواء أكانت عملية، أم تأملية، أم علمية، أم أخلاقية، أم لاهوتية. وان أي مجتمع لا يكفل لأفراده كل هذه الحريات لا يمكن أن يكون مجتمعاً حراً بمعنى الكلمة أياً كان شكل الحكومة القائمة فيه. والحرية الوحيدة التي تعد جديرة بهذا الاسم إنما هي تلك التي تؤكد بمقتضاها مصلحتنا بالطريقة التي نؤثرها، طالما كنا لا نحاول أن نستلب الآخرين مصالحهم، أو أن نقف حجر عثرة في سبيل حصولهم على تلك المصالح، أو أن نعرقل جهودهم التي يبذلونها ابتغاء تحقيقها»([8]). أي أنه يحوّل العلاقة بين الفرد والمجتمع إلى علاقة جدلية تحدّد مستوى الحرية الذي بلغه هذا المجتمع عبر مسيرة تطوره. وبطريقة مشابهة يرى برونيسلاف مالينوفسكي بأن «الحرية هي تلك الأحوال الاجتماعية التي تتيح للإنسان أن يحدّد غاياته بالفكر، وان يحققها بالفعل وأن ينال حصيلة تحقيقها». أي أن الحرية بالنسبة له هي مفهوم اجتماعي بالدرجة الأولى، وليست شعوراً فردياً خاصاً، منفصلاً عن البيئة التي يعيش فيها هذا الإنسان، والأحوال الاجتماعية التي ترتبط بها حياته أشد الارتباط.
أما هارولد لاسكي، الفيلسوف العمالي البريطاني، فانه يحدّد في كتابه «الحرية في الدولة الحديثة»([9]) «الحرية بأنه تلك الأحوال الاجتماعية التي تنعدم فيها القيود التي تكبّل قدرة الإنسان على تحقيق سعادته». وهو، بالطبع، يجد في النظام الاقتصادي الاشتراكي شرطاً أساسياً من شروط توفر الحرية وضمانها. لأن الاستغلال الاقتصادي يكبح قدرة الإنسان على التحرر، ويمنعه من التفتح والتطور بسبب حالة الغبن، وبالتالي البؤس الذي يمكن أن يرميه فيها هذا الاستغلال.
وهكذا تكون الحرية مفهوماً حياً مرتبطاً بالمجتمع، وعلاقة من العلاقات التي يؤسسها هذا المجتمع، وليست شيئاًُ خارجاً عنه. وكلما تطور المجتمع بعلاقاته الداخلية، كلما تطور بالتالي مفهوم الحرية فيه. وفضلاً عن كونها علاقة اجتماعية، فإنها أيضاً قيمة فردية. ولذا، فإن كل فرد ينظر إلى صورة من الحرية تختلف باختلاف هذا الفرد عن سواه في نفسيته، وتربيته ووضعه الاقتصادي الخ.
وهي أخيراً قيمة مثالية عليا، والإنسان يبقى في نضال مستمر للقيم والمثل التي يؤمن بها. ومعركة الإنسان في وجوده كانت، ولا تزال، من أجل تحقيق قيمه ومثله. ولن تنتهي هذه المعركة حتى ينتهي الإنسان من الوجود.
فكيف تطورت الإنسانية عبر مراحلها الحضارية المختلفة حتى وصلت إلى ما نحن عليه من اعتراف قانوني بحريات الإنسان وحقوقه.
د. الحرية في شكلها البدائي.
قد يكون من الصعب جداً الكلام بدقة عن بداية نشوء المجتمعات الإنسانية، بسبب قلة المعلومات المتوفرة في هذا المجال. إلا أن معظم الباحثين يجمعون على اعتبار العصر الحجري الأول كأول مرحلة في مراحل التجمع البشري.
وبعكس التصور السائد لدى البعض، فإن هذه التجمعات الاجتماعية تعيش في حالة إنفلاشية مطلقة دون قيد أو وازع، بل كانت تخضع في تصرفاتها وعلاقاتها لنوع من القوانين غير المكتوبة التي ولدّتها الأساطير، ونقلها الأجداد، ونوع آخر من القوانين الوضعية أو الأعراف الموجودة في قلب العادات التي تحدّد أسلوب التصرف تجاه كل ظرف، والتي كانت تتغيّر طبقاً للأوضاع المستجدّة. لكن، وفي كل موقف كان الخضوع للعادات والتقاليد شبه إجماعي. ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن هذا الخضوع كان ناشئاً عن توافق ضمني بين أفراد الجماعة – حيث لم يكن هناك سلطة محددّة تقوم بفرضه بالقوة – الذين قرروا الالتزام به، بكل حرية، للتعبير عن وجودهم. فالمجتمع البدائي كان يعرف نوعاً من الحرية المنظمة التي سمحت له بالتطور. وكان لهذه الحرية وجهاها الإيجابي والسلبي: من الناحية الإيجابية كان بمقدور كل فرد المساهمة باتخاذ القرارات المتعلقة بمصير الجماعة، والتي كانت تتم عادة بالإجماع. ومن الناحية السلبية لم يكن احد يمتلك الحق بانتهاك الاستقلال الذاتي الفردي أو العائلي للآخرين. وإذا ما تصور فرد ما أو عائلة بأن ضغط الجماعة عليه أصبح كبيراً فإنه يستطيع تركها والرحيل إلى مكان آخر. فالفوضى غير مقبولة في إطار الجماعة لأنها مميتة.
وبقول آخر، كان المجتمع البدائي يطبق النظام الديمقراطي من حيث لا يدري. فأثناء توزيع المهام، في مناسبة معينة، مثل الذهاب لصيد الطرائد الكبرى، كان بعض الأفراد يأمر، وبعضهم الآخر يطيع. وكان الذين يطيعون يبررون ذلك بمقدرة أو أهلية أولئك الذين يأمرون. فالمهمة تتطلب التعاون الذي لا يمكن أن يتم إلا بالتشاور.
وتنتهي مدة هذه القيادة، أو الرئاسة، على الجماعة بانتهاء المهمة التي أنشئت من أجلها. فالسلطة ليست موجودة بصورة دائمة، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي. وكل ما في الأمر أن بعض الأفراد ممن تتوفر لديهم مقدرات الذكاء، والمعرفة، والتجربة، يستطيعون البروز في فترات معينة ليتحملوا مسؤولية القيادة في أمر محدد. إلا أن توفر هذه الميزات لدى شخص معين لا يمنحه أبداً سلطة إرغام الآخرين على القيام بعمل لا يريدونه. فهو ينصحهم، ويحاول إقناعهم بفائدة التصرف بطريقة معينة أثناء تأديتهم لمهمتهم لكنه لا يستطيع إجبارهم. وحتى في حالة قيام أحد أفراد المجموعة بقتل شخص آخر فإن المذنب لا يلمس، بل يترك لغضب الآلهة وعقابها، لأن الجريمة المرتكبة تندرج هنا في سياق الأعمال الخطرة جداً على مصلحة الجماعة، وتتجاوز أية عقوبة إنسانية.
لقد استطاع هذا المجتمع البدائي تنظيم أموره الذاتية بصورة عقلانية جداً أمنّت له حداً أدنى من التماسك، والتطور النسبي والازدهار. فالجماعة كانت تعرف أدق تفاصيل البيئة المحيطة بها مباشرة. وهذه البيئة كانت تكفي كل الحاجات الضرورية للبقاء. أو ليس الازدهار من الناحية الاقتصادية هو تلك العلاقة القائمة بين الحاجات والموارد ؟. على الصعيد الاجتماعي كان هناك نوع من تقسيم العمل.فالرجال يقومون بالأعمال التي تتطلب الحركة والقوة مثل الصيد. والنساء تقوم بالقطاف والاهتمام بالأطفال. إلا أن العائلة لم تكن قد اتخذت بعد، في تلك المرحلة، صيغة متقدمة من التماسك والتلاحم. فالزواج يمكن أن ينهار لأي سبب. وحالة الفراق بين الشريكين، أي الطلاق، كانت قاعدة سائدة. فالرجل يستطيع ترك شريكته نهائياً، والابتعاد عنها متى يشاء، مثلما يستطيع الخروج من الجماعة والرحيل عنها متى رأى أنها لم تعد تؤمن له الميزات، أو الضمانات التي يبحث عنها([10]) .

الحريات العامة وحقوق الإنسان في الحضارات القديمة
أ. التطور الاجتماعي في مصر القديمة.
عرف مجتمع الفراعنة في مصر تطوراً اجتماعيا ملحوظاً بالمقارنة مع ما سبقه من مجتمعات بدائية. فقد استطاع الفراعنة تنظيم مجتمعهم على أسس بسيطة تؤمن فرض سلطة مطلقة من جانب الفرعون على شعبه، مثلما تؤمن نوعاً من العدالة العامة لأفراد المجتمع. وكانت سلطة الفرعون ذات منشأ ديني، أي الهي. فالملكية جاءت بقرار من الآلهة نفسها.واختارت الملك مينس ليعبّر عن وجودها على الأرض. إذن الملك كان آلهاً في حياته وبعد مماته. وحياته تتصف بحياة الآلهة نفسها. ولذا يقوم بتعيين مراتب ودرجات الكهنة الذين يقومون على خدمة الآلهة في المعابد، ويتقبلون من الناس القرابين التي تقدم على مدار أيام السنة باسمه. وإضافة إلى هذه الوظيفة الدينية الأساسية، كان للفرعون وظيفة عسكرية تتلخص بحماية شعبه وبلاده من الأخطار الخارجية.
أما الوظيفة السياسية للملك فكانت ترتكز على مسألتين: استتباب الأمن والنظام في البلاد، وإشاعة العدل بين الرعية. فالفرعون صاحب السلطة المطلقة التي لا حدود لها، باعتباره آلهاً، مسؤول عن تأمين الإدارة المركزية الجيدة التي تتولى شؤون الدولة، وعن تطبيق العدالة بشكل دقيق وصارم.وبما أن الكلمات التي ينطق بها تصدر عن آله، فإن «كل ما يتفوّه به صاحب الجلالة يجب أن يتم، وأن يتحقق فوراً». وهو يتصرف بالشكل الذي يريد ويرغب، وليس هناك من قوة تستطيع إجباره على القيام بما لا يرضى به. وإرادته هي الشعب. القانون. وعلى المواطنين الخضوع لهذه الإرادة مهما كانت قاسية، لأن هذه الإرادة لا يمكن أن تتوخّى سوى سعادة الشعب. فالآلهة لا تتصرف إلا ضمن إطار الحق، ولتكريس هذا الحق، وإعلان شأنه في المجتمع.
ومما لا شك فيه بأن مصر الفرعونية عرفت إلى جانب الأعراف المحلية السائدة، والناجمة عن طبيعة المجتمع الزراعي في دلتا النيل، مجموعة من الشرائع والقوانين التي سنّها النظام الملكي المركزي. ويقال بأن الفرعون «بوخوروس» الذي تولى عرش مصر في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، أعطى البلاد دستوراً ينظم الحياة التجارية فيها. ومع أن الفرعون كان يسمح للمواطنين برفع شكاواهم ضد الولاة، أو حكام المناطق، مباشرة إليه، وكان يعاقب بقسوة أولئك الولاة الذين يقومون بممارسات تعسفية بحق الشعب، إلا أن هذا الأمر ما كان إلا ليزيد من سلطة الفرعون باعتباره الموجِّه الأول للحياة العامة في البلاد، ومن تكريس الخضوع الشعبي التام للأوامر والتعليمات التي يصدرها. فالفرعون هو ملك ومالك البلاد وما عليها من حجر وبشر.
وبموجب هذه السلطة المطلقة التي يمتلكها كان الفرعون يدير شؤون البلاد بصورة مباشرة، وبمعاونة وزراء يعيّنهم ويقيلهم على هواه.
وليس هناك من مجال لممارسة الحرية الفردية الاجتماعية أو الاقتصادية أمام الفرعون. فهو يحدّد دور الأفراد والفئات في المجتمع. ويعيّن لكل عامل نوعية العمل الذي عليه القيام به، والأجر الذي يجب أن يتقاضاه. وهو يفرض القيام بأعمال السخرة في مراقبة أقنية الري، وإنشاء السدود وغيرها. ومن واجب الطبقات الشعبية إن تتحمّل كل أنواع المشاق في سبيل الفرعون والبلاد.
والفرعون هو صاحب التجارة الخارجية. وليس من حق أحد سواه القيام بالمبادلات مع الخارج. فهو يصدّر ما يفيد من الإنتاج الزراعي، أو بعض المعادن، ويستورد بالمقابل الحاجات والسلع التي يحتاجها. وهو وحده يمتلك الوسائل لممارسة هذه التجارة، من أساطيل بحرية، أو قوات عسكرية تواكب القوافل التي تسافر عبر الصحراء.
المجتمع الفرعوني كان منظماً بشكل جيد ودقيق. فلأسرة ترتكز على المرأة «سيدة عراف وتقاليد تعطي دوراً مرموقاً للمرأة «سيدة البيت». ويبدو أنه كان لدى المصريين في ذلك العهد نوع من عقد الزواج الذي يحدّد مساهمة كل من الزوجين المادية، ويسمح لكل منهما بالاحتفاظ بملكية ما يقدمه. وعندما يتوفى الزوج، وليس هناك من بين أبنائه من بلغ سن الرشد، فإن السلطة العائلية تنتقل إلى الأم التي تدير شؤون الأسرة داخل البيت، وحتى خارجه أي في العلاقة مع السلطة والحكومة.
الاهتمام بالأطفال كان صفة مميّزة من صفات المجتمع الفرعوني. فالأطفال يحاطون بعناية خاصة وعطف كبير. وكان الابن عندما يبلغ سن الرشد يقوم، في حال وفاة والده، بدور ربّ الأسرة تجاه أمه وأخواته. ولعلّ الاهتمام بإنجاب الأولاد كان نابعاً من حرص الإنسان المصري على دوام أسرته، وعلى وجود أبناء يؤمنون لوالدهم دفناً لائقاً، حين وفاته، بما يتناسب والطقوس الدينية.
أما عناصر المجتمع الفرعوني الأخرى فكانت تتمثل بـ:
1ً. العمال: الذين كانوا يعيشون في أوضاع صعبة بسبب قيامهم بأشغال قاسية مثل العمل في المناجم والمقالع. وفقط الحرفيون كانوا في وضع اجتماعي جيد بسبب حاجة البلاط والطبقات الميسورة لخدماتهم.
2ً. الفلاحون: ويعملون لدى الإقطاعيين الذين كانوا يتقاسمون معهم المحاصيل، ويخضعونهم لأعمال السخرة في السدود وأفنية الري.
3ً. الجنود: وينقسمون إلى قسمين: جنود الصف الذين كانوا غالباً من المرتزقة، والذين كان الفرعون يعطيهم بعض الأراضي الصغيرة كإقطاعيات من اجل زراعتها واستثمارها، ويسمح لهم بتوارثها مع أبنائهم، حيث كان الولد يحل محل أبيه في الجندية والزراعة. والضباط الذين ينتسبون إلى الأسر العريقة التي كانت دائماً في خدمة الجيش والإدارة. وهؤلاء كانوا يتمتعون بوضع اجتماعي جيد يستفيدون فيه من الإقطاعيات الكبرى التي كان يمنحها لهم الفرعون، ومن الهدايا والموال التي كان يغدقها عليهم.
4ً. الكهنة: والكاتب في المجتمع الفرعوني يحتل مكانة مرموقة في الدولة والمجتمع، ويأتي غالباً من نفس الأوساط الاجتماعية التي يأتي منها الكهنة، وهو مؤهل لاحتلال أعلى المناصب الإدارية بحسب قربه من البلاط والفرعون على غرار الكهنة.
5ً. الكهنة: وهم أعلى طبقة في المجتمع. ويمارسون تأثيراً شديداً على الفرعون باعتبارهم القيّمين المباشرين على خدمة الآلهة، وعلى الشعب المتمسّك إلى درجة كبرى بعقائده الدينية المقدسة([1]).
ب. حضارة بلاد ما بين النهرين.
إن وجه الشبه بين الحضارتين الفرعونية والأشورية كبيراً. ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى العلاقات التجارية التي كانت قائمة بين المنطقتين، الأمر الذي أدّى إلى تفاعل فكري وثقافي واسع.
فعلى غرار النظام المصري، كان النظام الملكي في بلاد آشور يستند إلى القوة العسكرية وإلى الحق الإلهي. «لقد هبط النظام الملكي من السماء، والملوك هم نواب الإله آشور. والآلهة هي التي تعيّن الملك. فهي تلفظ اسمه، وتنظر إليه بعطف وحنان».
لكن، وفي حين نرى الفرعون المتحدر من صلب الآلهة يرتقي، حين اعتلائه العرش، إلى مصاف الآلهة، ليستمر كذلك حتى بعد وفاته، فإن الملك في بلاد ما بين النهرين هو ممثل الآلهة لدى البشر، ومندوب البشر لدى الآلهة. فحمورابي، مثلاً، عندما أعلن قانونه كان بذلك يريد إرضاء الاله شمش، الإله الشمس، آله العدل، «وان يؤمن الحق في البلاد، ويقضي على فاعل الشر والرذيلة، ويمنع القوي من إلحاق الأذى بالضعيف».
ويتمتع الملك بوظيفتين أساسيتين: دينية وعسكرية.
فمن الناحية الدينية يتبوأ الملك منصب الكاهن الأكبر للإله الوطني. ويسهر شخصياً على خدمته ويقدّم بنفسه طقوس العبادة، ويعيّن الكهنة الذين يتولون تدبير أملاك المعابد والهياكل وأمورها، ويقومون بواجبات الطقوس الدينية اليومية، وممارسات التوجيه.
ومن الناحية العسكرية، يكون الملك دائماً على رأس قيادة جيشه. وهو الذي يحقق النصر في الحرب لهذا الجيش.
وكما في مصر الفرعونية، يقوم الملك بالإشراف على الإدارة، ويجعل من قصره مركزاً لكبار موظفي الدولة الذين يقومون بتسيير الشؤون العامة. وهم في الحقيقة يخدمون الملك لأن ليس هناك تمييز بين أملاك العاهل الشخصية، وبين أملاك الدولة. كما يقوم الملك بتعيين الولاة أو الحكام في المناطق ويعزلهم عندما يشاء.
ويظهر تأثير الملك، بشكل بارز جداً في ميدان القضاء، لأن العدالة تتحد ذاتياً بإرادة الآلهة التي لا يحق للبشر مناقشتها أو الاعتراض عليها. هذا التماثل بين العدالة والإرادة الإلهية سيسمح لحمورابي، وهو الملك المشرع، باستغلال سلطاته القضائية من أجل توحيد وتوطيد سلطته المركزية.
1ً. شريعة حمورابي:
اكتشفت شريعة حمورابي في مدينة سوسة الفارسية، التي كانت مقراً للإمبراطور داريوس، في عام 1902 من قبل بعثة آثار فرنسية. وهي مكتوبة بالنقش المسماري على مسلّة، ذات رأس دائري، من حجر الديوريت الأسود، وبطول مترين وخمسة وعشرين سنتيمتراً. وعليها 3600 سطر يعالج 282 قضية تتعلق بمختلف المسائل القانونية التي تتراوح بين تأمين استمرار الأسرة بواسطة الولد، وتأمين الملكية مهما اتخذت من إشكال، والعقوبات الدقيقة بحق المذنبين بحسب طبقتهم الاجتماعية التي تقسمها هذه الشريعة إلى ثلاث طبقات: الأحرار، والطبقة الوسطى، والعبيد.
‌أ. الأحرار:
وهم الطبقة العليا في المجتمع، أو المواطنون الذين يتمتعون بحقوق كاملة تميّزهم عن طبقتي الوسط والعبيد، ولاسيّما لجهة التعويضات عن الأذى الذي يمكن أن يلحق بهم من جراء عمل معين. فمن يقتل ابن رجل حر يُقتل ابنه. ومن يكسر ذراع رجل حر تُكسر ذراعه. وهنا يطبق قانون العين بالعين والسنّ بالسنّ بدقة بالغة. أما إذا قام رجل بضرب ابنة رجل حر وسبّب لها إجهاضاً فإن عليه أن يدفع لها عشرة مثاقيل من الفضة، ويتدنّى هذا التعويض إلى النصف بالنسبة لابنة رجل من الطبقة الوسطى، وإلى مثقالين فقط إذا كانت ابنة عبد الخ...
ويظهر هذا التفاوت بين الأحرار والطبقات الأخرى في الأجر المستحق لقاء إحدى الخدمات، إذ يقبض الجراح الذي أجرى عملية ما لرجل حر عشرة مثاقيل، وخمسة من رجل وسط، ومثقالين من عبد.
‌ب. الطبقة الوسطى:
وهذه الطبقة ليست واضحة المعالم لجهة تكوينها. وليس هناك ما يدل على أصلها، أو التأكد من أنها حصرت بمهن محددة. ويبدو أن العبيد السابقين، أي أولئك الذين استطاعوا شراء حريتهم أو الحصول عليها بطريقة أو بأخرى، كانوا يؤلفون السواد الأعظم لهذه الطبقة. وامتيازاتها تساوي نصف امتيازات طبقة الأحرار، وأكثر من ضعفي امتيازات طبقة العبيد.
ج. العبيد:
كان العبد في الدولة البابلية يحتل منزلة وسطى بين المعادن الثمينة والحيوانات الأليفة الهامة في الحياة العائلية
. فثمنه، وهو عشرون مثقالاًَ، يساوي ثمن حمار، ويقل بكثير عن ثمن ثور. وهو مثل هذه الكائنات يباع، ويستبدل، ويرهن، ويودع. وتتم هذه الصفقات بموجب عقود مكتوبة.ويكفل البائع حقوق المشتري، إن وجدت عيوب مستورة في العبد، لمدة حدّدها القانون بشهر واحد.
وتتكون طبقة العبيد من أسرى الحرب، أو من عمليات الشراء القانونية لهم التي تتم خارج حدود البلاد. وهم يتوالدون كعبيد حتى فترة إعتاقهم، أو كأحرار أصبحوا عبيداً في حالة قيام رجل حر ببيع أولاده. لأن الرجل الحر، وبسبب قانون حمورابي، يتمتع بسلطة مطلقة على أولاده حتى زواجهم، ويعتبر الأولاد، الذي هم ثمرة زواج رجل حر مع خليلة عبده، عبيداً لا يعتقون إلا عند وفاة والدهم، علماً بأن والدتهم تصبح حرة منذ اليوم الأول لزواجها.
ويستطيع العبد أن ينال الحرية إذا ما قام سيده بوهبه إياها دون مقابل أو مقابل مبلغ ما. كما يمكن أن يحصل العبد على حريته عن طريق شرائها بالمال، الذي يمكن أن يقترضه من الهيكل، أو عن طريق خدمات استثنائية يقدمها لسيده.
2ً. الأسرة في شريعة حمورابي.
يعطي قانون حمورابي المرأة استقلالاً لشخصيتها القانونية، ولاسيّما في موضوع إدارة أملاكها. فللمرأة الحرية الكاملة بالتصرف كما تريد بكل أملاكها من أموال منقولة أو ثابتة.
والعقد هو شرط ضروري وأساسي في الزواج. والمرأة ليست مسؤولة عن ديون زوجها التي سبقت الزواج، ولكن ينفذّ عليها مبدأ التكافل والتضامن للديون التي تعقد بعد الزواج. وإذا كان الزوج جندياً وأستدعي للخدمة فيعود للزوجة آنذاك حق إدارة أملاكه إن لم يكن له ولد بلغ سن الرشد، وتصبح الزوجة في هذه الحالة مالكة لثلث الريع.
الزواج من امرأة واحدة هو القانون السائد. إلا أن عقم الزوجة ومرضها هما من أسباب الطلاق. ويسمح القانون للزوج، إن لم ينجب أولاداً من زوجته أو من خليلته، أن يدخل إلى بيته زوجة ثانية من أجل تأمين ذريته. كما يسمح له بالتبنّي إذا أراد. ويتم التبنّي بموجب عقد، وإذا تنكر المتبنى لأسرته الجديدة فإنه يباع كعبد.
ويمكن للمتبنّي، إن رزق بالأولاد لاحقاً، أن يفسخ العقد، ولكن شرط أن يعطي للمتبنى الذي يرد له ثلث الحصة الإرثية القانونية باستثناء الأملاك الثابتة. وتحدد النصوص القانونية كيفية توزيع الإرث بين الزوجة والأولاد، كما تحدد الهبات التي يقدمها الزوج لأولاده أو حتى للغرباء.
وتبقى قيمة شريعة حمورابي في كونها أول محاولة مكتوبة، تصل إلينا بصورتها الواضحة المباشرة، استطاعت أن تنقل الأعراف المتوارثة عبر العهود التاريخية السابقة لها، كالعهد السومري والأكادي، لتصيغها في قواعد قانونية إلزامية محددة بشكل دقيق.
ومن المدهش، أن هذه التنظيمات القانونية القانونية، ما خلا بعض الاستثناءات، يمكن أن تطبق على القواعد العامة في أي تشريع معاصر([2]).
ج. الشكل الديمقراطي للحرية في بلاد اليونان.
ترتكز الحضارة اليونانية في تطورها التاريخي على المدينة أو البولس Polis التي كانت تشكل وحدة سياسية مستقلة بحد ذاتها، أي دولة تتجمع فيها كافة النشاطات الأساسية من اقتصادية، وسياسية، وفكرية، ويمارس فيها الشعب سلطات الحياة الجماعية.
وكانت الدولة – المدينة تتمتع بسيادة مطلقة على الكائنات والأشياء. وتستمّد سيادتها من النواميس، والشرائع، والعادات التي تسمو، بالاحترام الذي توحيه والنفوذ الذي تفرضه، على كل الإرادات الفردية. وخاصية هذه المدينة اليونانية (أثينا - إسبارطة) هو أنها جمهورية، ترفض الملكية الوراثية، وتجهل معنى الحكم الفردي. فالجماعية في إدارة الشؤون العامة هي السمة السائدة.
وتقوم الدولة – المدينة في وجودها الوطني والسياسي على ثلاث مؤسسات:
1ً. الجمعية أو المؤتمر الشعبي العام:
وهي مفتوحة أمام كل المواطنين الأحرار البالغين سن الرشد. ويتمتع جميع الأعضاء فيها بحقوق متساوية، وخاصة حق إبداء الرأي. وعضوية الجمعية تعني حق الاشتراك.في حياة المدينة السياسية، وهو حق شخصي لا يمكن تفويضه لشخص آخر. ولعلّ سبب غياب النظام الانتخابي أو التمثيلي في الجمعية، يعود بالدرجة الأولى إلى حرص المواطنين على معالجة شؤونهم العامة بأنفسهم، دون أن يكون هناك وسيط بينهم وبين الدولة.



2ً. المجلس الحكومة:
وهو الجهاز السياسي الثاني في دولة المدينة. ودوره، يكون أحياناً، أهم من دور الجمعية. فهو يراقب نشاط القضاة المدنيين، ويؤمن الأعمال الإدارية الجارية، وتنفيذ مقررات الجمعية، ويقوم بتوجيه سياسة المدينة العامة. وهو يمارس صلاحياته لمدة سنة كاملة.
3ً. القضاة المدنيون:
ويختلف عددهم، وطريقة وشروط تعيينهم، وتوزيع الصلاحيات فيما بينهم من مدينة لأخرى. وهم مسؤولون عن أعمالهم أثناء ولايتهم، وبعد انتهائها. وغالباً ما اعتمدت القرعة في تعيين المستشارين والقضاة، باستثناء أولئك الذين تستلزم مهامهم معارف فنية محددة، كالرؤساء والقادة العسكريين مثلا. فالقاضي المدني كان بمقدوره تسلّم بعض المسؤوليات العسكرية.
هذه الممارسة المباشرة للديمقراطية كانت نتاجاً لترسّخ مبدأ أساسي في الفكر اليوناني، هو مبدأ مساواة المواطنين الأصيلين أمام النواميس أو الشرائع. في حين بقيت هذه المساواة بعيدة عن بعض الفئات الاجتماعية الأخرى([3]).
فكيف كان ترتيب المجتمع اليوناني في المدينة.
قد يكون من المفيد القول بأن التقسيم الطبقي أو الاجتماعي لم يكن واحداً في كل المدن اليونانية. ففي حين عرفت إسبارطة، مثلا، ثلاث طبقات ما خلا الأرقاء أو العبيد، فان أثينا عرفت طبقتين فقط. فمجتمع إسبارطة كان يتألف من المواطنين، والطبقة الوسطى، والفلاحين، ومجتمع أثينا كان يتألف من المواطنين والأجانب.
كان المواطنون في إسبارطة يخضعون، منذ بلوغهم سن السابعة وحتى سن الرشد، لنظام خاص من التربية والتدريب العسكريين. ويبقون في خدمة المدينة، كجنود، حتى سن الثلاثين. وبعد هذا العمر وحتى بلوغهم سن الستين كانوا يتحولون إلى فرقة الاحتياط التي تهب لحمل السلاح دفاعاً عن المدينة كلما تهددها خطر خارجي أو داخلي. وتعيش هذه الطبقة من ريع أراضيها التي يقوم العبيد بزراعتها. فهل كان هؤلاء المواطنون أحراراً في تصرفاتهم وحياتهم الخاصة ؟
إن الخضوع لرعاية دولة – المدينة منذ الصغر، وإدخال الأطفال إلى المدارس العسكرية الخاصة، وعدم ممارستهم لأي مهن أو أعمال أخرى كان يحولهم إلى مواطنين من نوع خاص يؤمنون بإطلاقية سلطة الدولة، وسمو إرادتها على أي اعتبار آخر، بما في ذلك الأفراد أنفسهم. فالمدينة أولاً، والفرد ثانياً([4]).
هذه الدولة- المدينة التي كانت تحرم مواطنيها من حريتهم الجسدية والفكرية وهم بعد أطفالاً، كانت تمنحهم من جهة أخرى امتيازات خاصة. فالوظائف الأساسية، التشريعية والسياسية، والاهتمام بالشؤون العامة هو من حقهم لوحدهم دون الطبقات الأخرى.
فالطبقة المتوسطة، التي كانت تنعم بالحرية الكاملة في ميدان النشاط الاقتصادي، لم يكن لها الحق في التعاطي بالشؤون السياسية العامة.
أما طبقة الفلاحين فكانت أقرب في وجودها إلى طبقة العبيد منها إلى طبقة المواطنين العاديين، وكل ما كان يفرّقها في وجودها عن الأرقاء هو اسمها وانتماؤها إلى مواطني المدينة من الناحية الحقوقية([5]).
في أثينا كان الوضع مختلفاً.
فالمواطنون الأصليون كانوا يتمتعون بكامل حقوقهم السياسية والمدنية ابتداء من سن الرشد حيث يسمح لهم بالمساهمة المباشرة في شؤون المدينة. وهم لا يخضعون في تربيتهم لأي توجيه مسبق. وليس هناك تمييز بين فرد وآخر في الحقوق. وجميعهم أعضاء أصليون في المجلس حيث يعبّرون عن آرائهم بحرية ومساواة.
أما الأجانب فيتألفون من الأحرار غير العبيد الذين استطاعوا إيجاد «كفيل» أثيني كي يسمح لهم بالعيش داخل المدينة. ومن لم يكن يتمتع بحماية مواطن أثيني كان يعرّض نفسه للامتلاك من قبل الآخرين، أو للبيع كرقيق. وكان يسمح لهؤلاء الأحرار بممارسة بعض المهن الحرة والتجارة وغيرها.
أثينا الديمقراطية لم تلغ الرق. ومثلها مثل إسبارطة كانت تجد فيه وسيلة لازدهار المجتمع. فالمواطنون الأصليون مهتمّون بالقضايا السياسية التي لا تسمح لهم بتعاطي الأعمال اليدوية. ولذا هم بحاجة للعبيد والأرقاء لتأدية هذه الأعمال. وكان بمقدور هؤلاء العبيد استرداد حريتهم بموجب وصية من أسيادهم، أو عن طريق شراء هذه الحرية، أو بقرار من الدولة لمكافأتهم على خدمات قدموها لها، أو لضمّهم إلى الجيش كجنود. إلا أنهم، وفي كل الأحوال، كان عليهم البقاء مرتبطين بأسيادهم حتى في مرحلة إعتاقهم من العبودية([6]).
د. الحريات في روما القديمة.
عرفت روما أنظمة سياسية متعددة([7]) خلال حقبتين تاريخيتين هامتين: الحقبة القديمة السابقة للميلاد، وتمتد على مدى سبعة قرون ونصف تقريباً، والحقبة المترافقة مع ظهور وانتشار الديانة المسيحية والتي استمرت حتى بداية القرن الخامس.
ويعود هذا التقلب في النظام السياسي إلى طبيعة تطور الدولة الرومانية نفسها التي انطلقت في غزوات محدودة إلى المناطق المجاورة، قبل أن تمتّد في فتوحات كبرى متشعّبة الاتجاهات، ولاسيمّا ناحية المشرق الذي كانت ثرواته في أساس قوتها وعظمتها. ومن الطبيعي أن يترافق هذا التطور السياسي مع تبدّل هام في المفاهيم والأنظمة الاجتماعية السائدة، لاسيمّا وأن روما أدخلت شعوباً متنوعة تحت سيطرتها، مما حتّم عليها مراعاة أوضاع هذه الشعوب، وإيجاد القواسم المشتركة معها.
التطور الذي شهدته روما شمل ميدانين أساسيين: المضمون الديني للسلطة، وتنظيم الأعراف والعادات التي كانت قائمة على التقليد الشفهي في إطار قوانين مكتوبة.
فالسلطة، التي كانت إبان الملكية تتسم بطابع ديني يوكل إلى العاهل مهمة الوسيط بين الشعب والآلهة إلى جانب دوره السياسي، شهدت في عهد الجمهورية فصلاً تاماً بين ما هو سياسي وما هو ديني، ووجهت الدولة باتجاه علماني. وأصبح القنصل، حاكم الجمهورية، يتعاطى فقط بالشؤون المدنية، باعتبار أن الشؤون الدينية لم تعد من اختصاصه.
أما على المستوى القانوني، فإن التقدم الذي شهدته روما في حقل التشريع إنما كان مردّه في الدرجة الأولى إلى الصراعات الطويلة بين طبقة النبلاء أو الأرستقراطيين Patriciens ، وبين طبقة العامة Plébéins. فبالإضافة إلى الرق الذي كان سائداً فيه، على غرار المجتمعات المجاورة، كان مجتمع روما ينقسم بشكل واضح إلى طبقتين: طبقة العائلات القديمة النبيلة التي احتكرت لنفسها السلطة في مجلس الشيوخ ومجلس الشعب، والتي لم تكن تمارس أي عمل آخر خارج إطار هذا الدور السياسي، وطبقة العامة (الشعبية) التي تتألف من المواطنين الأحرار الذين كانوا يقومون بأعباء الإنتاج الاقتصادي في ميادينه المختلفة، وبدور عسكري يتلخص بالدفاع عن الدولة، والمساهمة في حروبها الخارجية.
هذه الطبقة الشعبية ظلّت لفترة طويلة تشتكي من عدم وجود حقوق محدّدة لها، ومن جهلها القواعد القانونية المطبّقة من قبل القضاة الذين يمكن أن يتصرفوا، والحالة هذه، بصورة عشوائية. من هنا برزت ضرورة وجود نصوص واضحة تحدّد هذه الحقوق ويلتزم بها القضاة. إن أبرز مراحل كتابة القانون الروماني تمثّلت بقانون الألواح الاثني عشر في عام 451 ق.م ([8]) وقانون كركلا الصادر في عام 212 ق.م. ففي عام 451 ق.م. تمّت تسمية لجنة من عشرة أشخاص وضعت عشرة ألواح قوانين. ثم قامت لجنة ثانية بإضافة لوحين آخرين في عام 449 ق.م. ونحن لا نعرف، في الواقع، عن هذه الألواح إلا بعض الأمور عن طريق ذكرها، هنا وهناك، من قبل بعض رجال القانون واللغويين. فهي تتضمن قواعد موجزة تنظم بعض نقاط القانون، ولا تشكل قانوناً كاملاً. وتتناول المسائل الإجرائية في الدعاوى: الإجراءات الشكلية، والإثبات، واستدعاء الشهود، والاعتراف، والحكم وتنفيذه الخ. والقضايا العائلية: إجراءات عقد الزواج والطلاق، وقواعد تحدّد شرعية الأولاد، والوصاية عليهم وغيرها، وحقوق فعلية تعالج الملكية العقارية، وانتقالها ومرور الزمن.
ويركز اللوحان الحادي عشر والثاني عشر على ضمان بعض الحقوق الفردية، ولاسيما منع إعدام أي شخص لم يحاكم بصورة صحيحة، كما يقيمان تشريعاً دستورياً يؤكد على أن القانون الجديد يلغي القانون القديم الذي يعالج القضايا نفسها.
وتتمثّل قيمة هذه الألواح في كونها حقّقت علمنة القانون بصورة فعلية. ففي الوقت الذي كانت فيه الأعمال القانونية تستمّ‍د قيمتها من الإيمان، والسحر، والطقوس الدينية، جاء هذا القانون ليؤكد على انطلاق العمل القانوني من نص صريح يحدّد الحق ويعترف به.
أما قانون كركلا (212 ب.م) فقد أضاف حقاً جديداً لم يكن معترفاً به حتى هذه الفترة إلا لسكان روما نفسها، وهو حق المواطنية الكاملة لجميع الأفراد القاطنين على أراضي الإمبراطورية. ولم يبقَ خارج هذا الحق سوى العبيد الذين لن تختلف أوضاعهم عما هو متعارف عليه من اعتبار العبد سلعة يحق للسيد التصرف بها على هواه. ومع أن العبيد، يكونون كذلك بالولادة، أو بالأسر في الحروب، أو بالشراء، فإن سكان روما كانوا يتجاوزون هذه الأساليب المعتادة في الاسترقاق، وينطلقون من احتقارهم لغيرهم من الشعوب ليمارسوا حق الاستعباد عليها. فالمواطن الروماني الحر له الحق باستعباد أي غريب يصادفه في المدينة دون أن يكون ثمة ما يمنعه من ذلك.
ولذا، فإن قانون كركلا سيكون بمثابة دستور حقيقي للإمبراطورية يرسخ فكرة المواطنية على أساس المساواة بين الأعراق التي تتشكل منها. ولعلّ أصله السوري الفينيقي هو الذي دفعه لإصدار هذا القانون – الدستور الذي ترجم هذه المساواة بين سكان روما وبقية أراضي الإمبراطورية على شكل حقوق أساسية معترف بها لكل المواطنين، مثل الحقوق السياسية (الترشيح والانتخاب)، والحقوق العائلية (أي حقوق وواجبات الزوج والزوجة والأولاد)، والحقوق التجارية على مختلف أنواعها، والحقوق القضائية بما تعنيه من حق إقامة الدعاوى، وحق الدفاع أمام المحاكم([9]).





حقوق الإنسان في الفكر الديني والدين
أ. تطور الحريات في روما المسيحية.
لن يؤدي ظهور المسيحية إلى تلاشي الإمبراطورية الرومانية فوراً، بل سيتطلب الأمر ما يزيد على أربعة قرون. والواقع أن الديانة الجديدة لم تكن في جوهرها مختلفة عن اليهودية التي تمثلت بالتوراة، وبالوصايا العشر التي هبطت على النبي موسى (عليه السلام) لتضع أسس بناء المجتمع التوحيدي.
فالعهد القديم أظهر القانون الوارد فيه كتعبير عن إرادة الخالق، عزّ وجلّ، التي تفرض موجبات على اليهود، وتمنحهم حقوقاً. وليس تحريم السرقة والقتل الواردان في الوصايا العشر، سوى الوجه الآخر لاحترام حق الملكية، والحق بالحياة. لكن، وبالرغم من الحماية الممنوحة لكل فرد باعتباره كائناً إنسانياً (اليهود لا يمتلكون حق الحياة والموت على عبيدهم مثلاً)، وبالرغم أيضاً من إعلان مساواة الجميع أمام القانون والعدالة، فإن هذه الأمور لا تحظى باحترام كامل على صعيد التطبيق، نظراً لخاصية التمايز التي مُنحت للشعب المختار، بحسب التوراة، والتي جعلته يمارس، ولا يزال، أقسى وأبشع صنوف الممارسات على كل الشعوب الأخرى التي لا تدين باليهودية، والتي ينظر إليها اليهود بالتالي، نظرة دونية، تصل إلى حد الاحتقار إن لم يكن أكثر([1]).
وعلى أية حال، فإن الديانة المسيحية، ستحمل بذور تطورات اجتماعية هامة ستترك آثاراً بارزة على التحولات الكبرى التي ستشهدها الإمبراطورية في هذه المرحلة.
ومع أن القوانين والعادات بقيت خلال القرنين الميلاديين الأولين على ما كانت عليه سابقاً، ولاسيما لجهة إعادة اكتساب الإمبراطور صفة دينية إلى جانب صفته السياسية، فان المجتمع الروماني سيشهد بروز سلوكين اجتماعيين متضاربين: سلوك الوثنين الرومان المتمسكين بمعتقداتهم وأساطيرهم، وسلوك المسيحيين الجدد الطامحين إلى تغيير الواقع، ومنحه صفة إنسانية تتسم بالمحبة والمساواة.
فبرغم التغييرات الجذرية التي حملها قانون كركلا لجهة المساواة في المواطنية، فإن فئة العبيد، والبرابرة، بقيت محرومة من هذا الحق الطبيعي الذي يجسّد توازناَ ضرورياً في شخصية الفرد، وصقلها، وبلورتها.
وبما أشاعته من أفكار إنسانية، فإن الديانة الجديدة ستخلق حالة من اللاإستقرار السلوكي داخل المجتمع الإمبراطوري، بحيث ستستطيع تحويله، بصورة شبه جذرية، في مرحلة الإمبراطور قسطنطين الذي سيعلن المسيحية ديناً رسمياً للدولة ابتداء من عام 313 م. ومع أن قسطنطين نفسه لن يعتنق الدين الجديد إلا ابتداء من عام 324م، إلا أنه سيساهم بصورة فعّالة في القضاء على الطقوس الوثنية من خلال منعها، ومحاربتها بشدّة.
لقد كانت المبادئ التي رسختها المسيحية ثورة متقدمة في مجتمع يبني علاقاته على القوة والتمايز الطبقي. فهي دعت إلى المحبة والتسامح بأرقى أشكاله الإنسانية (أحبوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. من ضربك على خدك فأعرض له الآخر أيضا) ([2])، وقلّلت من قيمة مُلكية الأشياء، ورفضت النزاعات الناجمة عنها (من أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً) ([3]). ووعدت المضطهدين والمعذبين في الأرض، المؤمنين بقدسية العقيدة، بعالم من نوع آخر غير العالم الذي يعرفونه آنفاً (مملكتي ليست من هذا العالم. طوبا لكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله) ([4]) كما رسمت حدوداً فاصلة بين ما هو ديني، وما هو دنيوي من أجل تنظيم المجتمع الإنساني على أسس واضحة، وخاصة فيما يتعلق بالروابط بين الفرد والسلطة (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ([5]). هذا الإيمان بوجوب خلق مجتمع تسوده العدالة والمساواة بين البشر سيظهر جلياً في سلوك الكنيسة الذي سيترك انعكاسات أخلاقية واضحة.
وعلى المستوى العائلي ستؤيد الكنيسة، وبقوة، التشريعات العائلية (تشجيع الزواج، منع الزنا، تقوية الوحدة العائلية الخ).
وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي ستقيم الكنيسة على أراضيها محترفات مهنية لتشغيل العاطلين عن العمل، والمطرودين من أراضيهم، مثلما ستبني المستشفيات (المصحّات بالأحرى) للمرضى والعاجزين، ودوراً للأيتام والمشردين، كما ستقوم ببذل جهود جبارة لتحرير العبيد وعتقهم. فالكنيسة كانت تجمع المال من الأغنياء لشراء حرية الجنود الذين أسرهم البرابرة واستعبدوهم، كما كنت تشتري حرية السجناء البرابرة من الرومان، لأن العقيدة المسيحية تؤمن بإنسانية الإنسان دون أي اعتبار للونه، أو هويته، أو أصله الاجتماعي.
ولعل ما يميّز سلوك الكنيسة، في مرحلة التبشير هذه هو وقوفها بعنف ضد تعذيب الأرقاء، وضد عقوبة الإعدام. وأيضاً ضد تسلط رأس المال على صغار العمال والفلاحين الذين كانوا ضحية دائمة للفوائد الكبرى التي كان يفرضها عليهم الأغنياء في عمليات الاستقراض. فهي لا ترفض فقط الفائدة المضافة إلى القرض، وإنما تقوم بتقديم مبالغ مالية دون أية فائدة للمحتاجين في سبيل مساعدتهم على حل مشاكلهم([6])، ولذلك ستسعى بكل طاقاتها لوضع تشريعات قانونية تضمن حقوق الأفراد، ولاسيما الفقراء والمستضعفين منهم.
إن النجاح الذي حققته الكنيسة في ميدان التشريعات القانونية كان واضحاً، إذ طلب دستور صادر في عام 382 بإجراء تحقيق حول طاقة تشغيل الفقراء من أجل إيجاد عمل لهم. ووُضع تشريع آخر لحماية الفئات، ولم يعد يُسمح للموظفين العاملين بإهانتهم بأي شكل من الأشكال تحت طائلة العقوبة. كما قام رجال الدين بلعب دور المحامين للدفاع عن الضعفاء وتأمين حقوقهم ضد التعذيب أو سوء المعاملة.
أما التأثير الكبير الذي مارسته الكنيسة مباشرة، فكان تحويل الرأي العام الروماني الوثني تجاه قضية أساسية هي قضية العمل. فالوثنيون كانوا يرفضون القيام بأي عمل ويتركون ذلك لعبيدهم. لأن العمل، برأيهم، ليس من مهام المواطنين الأحرار، وإنما من واجبات العبيد. ومن يقوم بأي عمل ينظر إليه نظرة دونية. من هنا كان دور الكنيسة بأنها أعطت قيمة اجتماعية كبرى للعمل، وعملت على إصدار تشريع يجعل من مسألة العمل بحد ذاتها المدخل الأساسي للارتقاء إلى المناصب الأخرى (ولعل مسألة التراتبية الإدارية التي حلّت محل النبلاء في الدولة جاءت من هنا).
والعمل أصبح مأجوراً. والحوادث الناجمة عنه يجب أن العامل.رب العمل وليس العامل. أي، وبقول آخر، أن مجموعة هذه التشريعات والقواعد التي ترفع من شأن العمال وتحافظ على حقوقهم الأساسية ما كانت لتبصر النور لولا تأثير الكنيسة وضغطها المباشر([7]).
ب. تطور فكرة الحرية في المرحلة البيزنطية.
سيتواصل تأثير المسيحية الواضح على تطور فكرة حقوق الإنسان، منذ بداية الدعوة، وحتى العصور الوسطى، بأشكال وصيغ مختلفة. ففي مراحل التبشير الأولى، حيث لم يكن ممكناً احتواء السلطة القائمة وتحويلها، سيوجّه الرسل اهتمامهم لرسم حدود فاصلة للعلاقة التي يجب أن تقوم بين الفرد والنظام السياسي.
وبما أن الله، عزّ وجلّ، هو مصدر كل شيء في هذا الكون، فإن السلطة موجودة على الأرض تنفيذاً لمشيئة الله في عباده، ومن أجل إشاعة النظام ومنع الفوضى. ولذا فإن الخضوع لهذه السلطة إنما هو خضوع للإرادة الإلهية. وفي رسائله المختلفة سيحثّ بولس الرسول رعيته على الطاعة، وعلى تأدية الواجبات التي تتأتى عن الحياة في المجتمع، بكل إنصاف ومحبة. فالطاعة واجبة، ولذا «أطيعوا أيها العبيد في كل شيء سادتكم»([8]).
كما سيطالب بطرس الرسول رعاياه «بالخضوع لكل ترتيب بشري من اجل الرب. إن كان للملك فكمن هو فوق الكل» والقيام بفعل الخير «كأحرار، وليس كالذين عندهم الحرية سترة للشر»، وكونوا «خاضعين بكل هيبة للسادة، ليس للصالحين المترفقين فقط، بل للضعفاء أيضاً»([9]).
هذا المفهوم للسلطة سيستمرّ قائماً في كتابات المفكرين في تلك المرحلة، وخاصة أيسوب EUSEBE (260 – 337 م) الذي سيعتبر أن ما من سلطة إلا وتصدر عن الله، وأن الإمبراطور هو بالتالي كلمة الله ومحاميه أمام التاريخ الإنساني، وأن الخضوع لإرادته إنما هو خضوع لمشيئة الله.
أما القديس أوغسطين (354 – 430 م) الذي عاصر سقوط الإمبراطورية الرومانية، وبداية قيام الإمبراطورية البيزنطية فإنه يطرح الأمور على نفس المنوال تقريباً. ومع انه يضع المملكة السماوية – أي مملكة الله – فوق المملكة الأرضية، فانه مع ذلك يطالب بالخضوع للقوانين الوضعية حتى وان كانت غير عادية، لأن مصلحة الجماعة تتطلب احترام نوع من النظام([10]) وهو يفسّر ذلك بالقول بأن حُب الذات هو الذي بنى المدينة الأرضية أي المجتمع المدني والسياسي، ومحبة الله هي التي صنعت المدينة السماوية، أي دار الخلود، وبما أن الله هو المبدع لكل شيء، فإنه يستحيل أن يكون قد أراد ترك ممالك الأرض خارج قوانين عنايته التي تفرض علينا الأنظمة السياسية التي نستحقّها، عادلة كانت أم جائزة([11]).
الإمبراطور جوستينيان (527 – 565 م) سيمارس سلطة مقدسة. فهو سيّد ومالك الأشياء والناس، وملك العالم الأوحد، وهو القانون الحي، ولإرادته قيمة مطلقة. والعدالة تنبع من إرادته، وبحسب شرائعه، وتُنطق أحكامها باسمه.
وبما أن الإمبراطور يضع قوانين تعبّر عن العدالة والمساواة لخدمة المصلحة العامة، فإن جوستنيان سيصدر أوامره لتدوين القوانين، بشكل منظم، بعد تحديثها. وسيحرص على أن تكون نابعة من جوهر التعاليم المسيحية. ومن هنا سيحاول إقامة معادلة بين القانون الوضعي وبين العدالة السماوية أو القانون الطبيعي. فهذا الأخير هو القانون الذي كتبه الله في عقل وقلب كل إنسان وله صفة أخلاقية، وهو التعبير المباشر عن الأخلاق المسيحية. ولذا، فإن القانون الوضعي الإمبراطوري سيهدف بالدرجة الأولى إلى تطبيق مضمون القانون الطبيعي: تحقيق المساواة بين البشر لأنهم جميعاً أبناء الله. ضمان حرية وكرامة الإنسان لأن في ذلك تحقيقاً لإنسانيته.
النصوص التي تضمنتها مجموعة جوستينيان تركز على تحسين الأخلاق الاجتماعية عن طريق محاربة القمار والبغاء. أما في ما يختص بالعبودية، فإنها لم تلغِ الرق، ولكنها أدانته. ولم يعد للسيد تلك السلطة المطلقة على عبده. وهي محصورة فقط بالأمور المسلكية. إذ لا يسمح للسيد بممارسة الضرب أو التعذيب على عبده كما كانت الحال عليه سابقاً. عبده كما كانت الحال عليه سابقاً. فالحماية المعنوية والبدنية للعبد أصبحت مضمونة بقوة بموجب القانون الجديد. وهي تلحظ بصورة واضحة، ضرورة الدفاع عن الإنسان ضد قوة السلطة وتعسفها.
العائلة أيضاً مقدّسة لأنها تنجم عن زواج مقدس. والزنا هو انتهاك لهذه القدسية. والزواج أصبح معتبراً كمؤسسة مستقلة تتضمن نظاماً عضوياً وموحداً. وبإيجاز، كان قانون جوستينيان تدويناً لمجمل القوانين الرومانية السابقة. فهو مستوحى من الألواح الإثني عشر، ومتأثر مباشرة بمدرسة القانون المشرقية في بيروت. وهو قانون شامل يتناول تنظيم مختلف شؤون المجتمع بكل ما تحمله من تعقيدات وتشابكات.

ج. الإسلام وتطور مفهوم الحريات.
لم ينشأ الإسلام في ظل نظام سياسي معيّن، وإنما في إطار مجتمع تحكمه العادات والتقاليد القبلية الموروثة. فالحجاز لم يعرف، في الفترة السابقة لظهور الدعوة، بروز زعيم استطاع فرض سلطته على كامل المنطقة وتوحيدها تحت سيطرته، وإقامة نظام ملكي فيها على غرار الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية المجاورتين، بل عاش نوعاً من تعددية سلطة القبائل المنتشرة في الواحات، وبعض القرى والمدن. وكانت مكة المكرمة لجهة موقعها الجغرافي على مفترق الطرق التجارية، من أهم هذه المدن وأكثرها ازدهارا بسبب تمركز بعض الصناعات الخفيفة فيها، كالصياغة، والدباغة، والنسيج، وصهر الحديد الخ. في حين كانت الواحات الكبرى، التي أصبحت مدناً في ما بعد، مثل المدينة المنورة والطائف، تعتمد بصورة أساسية على الزراعة والري.
السمة الأولى لهذا المجتمع كانت المساواة التامة بين أفراده فقراء كانوا أم أغنياء. فالجميع، وعلى اختلاف مستوياتهم، كانوا أحراراً في إطار القبيلة الواحدة ويتمتعون بالحقوق نفسها.
أما السمة الثانية، فكانت تتمثل بشيوع مفهوم الملكية العامة أو الجماعية في مرافق الحياة الرئيسة للمجتمع الزراعي، كالمراعي وآبار المياه، حيث لا يستطيع أحد، مهما كان موقعه متقدماً من الناحية الاجتماعية، إدعاء إنفراده بها أو احتكارها لنفسه. ولسوف يكرّس الإسلام هذه المشاعية في الحديث الشريف حيث ورد بأن «الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار» و«من احتكر فهو خاطئ».
السلطة في القبيلة كانت ديمقراطية تقوم على مبدأ التشاور المباشر، من خلال مجلس القبيلة في كل القضايا والمسائل ذات الطابع الفردي الجماعي. وفي مكة، حيث تتجمع عدة قبائل تعود في جذورها إلى قريش كانت «الندوة»، التي تضم كل الأعضاء الذين بلغوا الأربعين من العمر، تشكل نوعاً من المجلس الأعلى الذي يمتلك باسم «الملأ» كل السلطات ويعالج كافة الشؤون العامة والخاصة([12]).
ولعل مقاومة أهل مكة للرسول، في بداية دعوته، ستنبع من اعتبار جماعة الندوة بأن فكرة الوحدانية التي ينادي بها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، تشكل خروجاً صارخاً على مبدأ التشاور، فضلاً عن كونها تتصدى لآلهة قريش، وتصيب إيمانها هذا في الصميم. الإسلام لم يقضِ على كل الأعراف والعادات التي كانت سائدة، وإنما سيعمل على تطوير قسم هام منها بحيث تتلاءم مع الأوضاع الإنسانية – الاجتماعية الجديدة، وإلغاء البعض الآخر ومنعه نهائياً حفاظاً على حقوق إنسانية طبيعية. ولذا، فإن تركيزه سيكون على عملية نقل هذا المجتمع القبلي من حالة التنازع والتقاتل إلى حالة الإخاء والتعايش في وحدة دينية تتجاوز إطار العداوات القبلية التاريخية. فالإسلام هو عقيدة شاملة غايتها تنظيم الحياة الإنسانية في مختلف نواحيها على أسس العدالة والمساواة. والسلطة التشريعية في الإسلام مصدرها القرآن. وهي سلطة تساوي بين المواطنين من حيث إنسانيتهم أولاً، وإيمانهم ثانياً، كما جاء في الحديث الشريف: « الناس كلهم سواسية كأسنان المشط» و«إنما المؤمنون أخوة» و«كونوا عباد الله إخواناً». وقد ذكّر الرسول، صلى الله عليه وسلم، مرة أخرى بهذه المساواة حين قال في خطبة الوداع (السنة العاشرة للهجرة 632 م) «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى». وكأنه كان يريد بذلك أن يجعل من المساواة، وأيضاً العدل، قاعدة جوهرية في سلوك من سيتولى شؤون المسلمين من بعده. من هنا نرى بأن مواقف الخلفاء الراشدين التزمت بهذه القاعدة في تسيير أمور الرعية وقضاياها.
ففي خطبته بعد البيعة سيقول الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق، رضي الله عنه،: «أيها الناس، فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة. والضعيف منكم قوي عندي حتى أريح عليه (أي أرد إليه) حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله... أيها الناس إنما أنا مثلكم... ف زغت فقوموني...»
وفي كتابه إلى أبي موسى الأشعري، يشدد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،: «.. آسِ (أي سوِ) بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين الناس، إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً. ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق لا يبطله شيء. واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».
ويكمل الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، نهج الرسول في «عهد الولاية» الذي حملّه إلى مالك بن الأشتر النخعي، بعد ما ولاّه على مصر، حيث يقول له: «... أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارباً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق... أنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم... وليكن أحب الأمور: أوسطها في الحق، وأعمها في العدل» ([13]).
ولا يقف التطور في الحقوق الإنسانية، كما أقرها الإسلام عند مسألة ا بين أفراد الرعية على اختلاف أجناسهم وألوانهم، بل يضم مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ففي الميدان الاجتماعي، ينصّ القرآن الكريم صراحة على قواعد سلوك جديدة تتمسّك بمكارم الأخلاق التي تقوم على التواضع، والزهد، والرحمة، والشفقة، والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مثلما سينص بوضوح على تحريم الموبقات والمفاسد التي تشكل خطراً على ديمومة الروابط الاجتماعية، واستمرارها كالزنا، والبغي، والجور، والتفاخر، والبطر، وشرب الخمر، ولعب الميسر وغيرها من الآفات الاجتماعية التي تتناقض والتعاليم السماوية التي يحملها الإسلام، والرامية إلى حماية حقوق المجتمع وعدم تعريضها للخرق والانتهاك من قبل الأفراد السيئين. (إنما بُعثت لأتممّ مكارم الأخلاق. حديث شريف).
ولكي يبنى المجتمع بناءً سليماً وقوياً، فإن الإسلام حضّ على علاقة إنسانية حميمة بين الآباء والأبناء. فقد أوصى الآباء خيراً بأبنائهم، وأوصى الأولاد براً وإحساناً بوالديهم (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) (سورة الإسراء الآية 23) (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً) (سورة الأحقاف الآية 15). كما شدّد على تحريم وأد النبات (وإذا الموؤدة سئلت. بأي ذنب قتلت) (سورة التكوير الآيات 8 و9)، وعلى منع قتل الأولاد بسبب الضيق المادي أو الفقر، وهي عادات كانت شائعة في الجاهلية (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (سورة الأنعام الآية 151)، ودافع عن الفقراء والمعوزين، وحرص على معاملة اليتامى والمساكين وأبناء السبيل تلك المعاملة الإنسانية التي تليق بهم كبشر، وكرّس حقوقهم في أكثر من سورة في القرآن الكريم.
وبما أن المرأة هي نصف المجتمع، فقد أولاها الإسلام اهتماما كبيرا. ومع أن القرآن الكريم يعطي أولوية للرجل على المرأة من ناحيتين هامتين هما الإرث والشهادة أمام القضاء، فإنه عمل في الوقت نفسه على تكريس حقوق المرأة كاملة في أموالها وتجارتها دون الوصاية عليها من أحد، كما منحها حرية أساسية في اختيار الزوج. فالشريعة الإسلامية تشترط موافقة المرأة وقبولها الصريح لعقد القران.
كذلك أولى الإسلام متعددة.ا للأرقاء والعبيد. والواقع أن مصادر الرقّ كانت متعددة. فالحروب القبلية مصدر من مصادر الاسترقاق، وأيضاُ الفقر الذي كان يدفع بالبعض إلى الاستدانة، وتراكم نسب مرتفعة من الفوائد عليهم بحيث كان يستحيل عليهم دفعها مما يحولهم إلى عبيد لدى صاحب رأس المال، وأخيراً عملية المتاجرة بالرقيق القادمين من مناطق أخرى مثل بلاد الروم، وفارس، والزنج ([14]).
أسرى القبائل هؤلاء كانوا يتحولون إذن إلى عبيد. ولم يكن يتم تحريرهم إلا بوسيلتين: بحرب مضادة تشنّها القبيلة التي ينتمي إليها الأسرى على القبيلة التي أسرتهم، وإما بتقديم الفدية التي كان معدلها العادي مائة رأس من الإبل أو أكثر من ذلك حسب منزلة الأسير في قومه ([15]).
وبسبب اتساع ظاهرة الرقّ وشيوعها لم يقم الإسلام بمنعها فوراً، بل عمد إلى محاربتها تدريجاً، وسخّر كل الإمكانيات المادية والمعنوية لتحرير الأرقاء، وفرض على المسلمين، في ما يقترفون من أخطاء، تحرير الرقاب ككفارة عن أخطائهم أو أعمالهم.
فكفارة قتل المؤمن تحرير رقبة مؤمنة (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة)(سورة النساء الآية 91).
والحنث باليمين يستوجب تحرير رقبة (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) (سورة المجادلة الآية 3)، وصدقات أموال المسلمين هي أيضاً، بجزء منها، لمساعدة العبيد على استرجاع حرياتهم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب) (سورة التوبة الآية 6).
كذلك ركزّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، في أحاديثه الشريفة على الأخوة بين البشر وعلى إنسانيتهم (كونوا عباد الله إخواناً) و(الإنسان أخ الإنسان أحب أم كره). وسار الخلفاء الراشدون على نهج النبي في محاربتهم للرق وتنديدهم به. فها هو الخليفة عمر بن الخطاب يصرخ بغضب في وجه من يمتلك رقيقاً قائلاً: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». ويدعو الإمام علي بن أبي طالب الأرقاء إلى الثورة على الحالة التي هم فيها قائلاً «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً».
وفي الميدان الاقتصادي، كان شعار الإسلام ذلك الحديث الشريف الذي يقول بأن «الدين هو المعاملة»، فالمعاملة الحسنة تقتضي التمسّك بالعهود والعقود واحترام حقوق الآخرين (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (سورة المائدة الآية 1) و(يا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم) (سورة هود الآية 85) و(أقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (سورة الرحمن الآية 9).
كما شدّد الإسلام على المعاملة الحسنة حفاظاً على حقوق الناس بين بعضهم البعض، كذلك أمر بوضوح التعامل، وقيامه على مبدأين أساسيين: عدم الغبن والغشّ في المعاملات، وإنشاء هذه المعاملات على أساس التراضي المتبادل بين الأطراف المتعاقدة (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) (سورة النساء الآية 28). مثلما أمر بمنع الربا منعاً باتاً، لاسيما وانه كان يؤدي في الماضي ليس فقط إلى إفقار الناس، وإنما أيضاً إلى استعبادهم. وقد ذكرت عدة آيات تحريم الربا بصورة جلية لا تقبل أي نقاش، إذ ورد في (سورة البقرة الآية 275 و276) (وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) و(يمحق الله الربا ويربى الصدقات)، وأيضاً في سورة آل عمران (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة) (الآية 130).
والشعب، بالنسبة للفاشية، هو كلٌ متجانس، موحّد، ومن هنا تبرز أهمية الاستعراضات، واللباس وتظاهرات الجماهير.










قديم 2012-08-05, 11:29   رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
محمد تماسين
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

ج. الإسلام وتطور مفهوم الحريات.
لم ينشأ الإسلام في ظل نظام سياسي معيّن، وإنما في إطار مجتمع تحكمه العادات والتقاليد القبلية الموروثة. فالحجاز لم يعرف، في الفترة السابقة لظهور الدعوة، بروز زعيم استطاع فرض سلطته على كامل المنطقة وتوحيدها تحت سيطرته، وإقامة نظام ملكي فيها على غرار الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية المجاورتين، بل عاش نوعاً من تعددية سلطة القبائل المنتشرة في الواحات، وبعض القرى والمدن. وكانت مكة المكرمة لجهة موقعها الجغرافي على مفترق الطرق التجارية، من أهم هذه المدن وأكثرها ازدهارا بسبب تمركز بعض الصناعات الخفيفة فيها، كالصياغة، والدباغة، والنسيج، وصهر الحديد الخ. في حين كانت الواحات الكبرى، التي أصبحت مدناً في ما بعد، مثل المدينة المنورة والطائف، تعتمد بصورة أساسية على الزراعة والري.
السمة الأولى لهذا المجتمع كانت المساواة التامة بين أفراده فقراء كانوا أم أغنياء. فالجميع، وعلى اختلاف مستوياتهم، كانوا أحراراً في إطار القبيلة الواحدة ويتمتعون بالحقوق نفسها.
أما السمة الثانية، فكانت تتمثل بشيوع مفهوم الملكية العامة أو الجماعية في مرافق الحياة الرئيسة للمجتمع الزراعي، كالمراعي وآبار المياه، حيث لا يستطيع أحد، مهما كان موقعه متقدماً من الناحية الاجتماعية، إدعاء إنفراده بها أو احتكارها لنفسه. ولسوف يكرّس الإسلام هذه المشاعية في الحديث الشريف حيث ورد بأن «الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار» و«من احتكر فهو خاطئ».
السلطة في القبيلة كانت ديمقراطية تقوم على مبدأ التشاور المباشر، من خلال مجلس القبيلة في كل القضايا والمسائل ذات الطابع الفردي الجماعي. وفي مكة، حيث تتجمع عدة قبائل تعود في جذورها إلى قريش كانت «الندوة»، التي تضم كل الأعضاء الذين بلغوا الأربعين من العمر، تشكل نوعاً من المجلس الأعلى الذي يمتلك باسم «الملأ» كل السلطات ويعالج كافة الشؤون العامة والخاصة([12]).
ولعل مقاومة أهل مكة للرسول، في بداية دعوته، ستنبع من اعتبار جماعة الندوة بأن فكرة الوحدانية التي ينادي بها النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، تشكل خروجاً صارخاً على مبدأ التشاور، فضلاً عن كونها تتصدى لآلهة قريش، وتصيب إيمانها هذا في الصميم. الإسلام لم يقضِ على كل الأعراف والعادات التي كانت سائدة، وإنما سيعمل على تطوير قسم هام منها بحيث تتلاءم مع الأوضاع الإنسانية – الاجتماعية الجديدة، وإلغاء البعض الآخر ومنعه نهائياً حفاظاً على حقوق إنسانية طبيعية. ولذا، فإن تركيزه سيكون على عملية نقل هذا المجتمع القبلي من حالة التنازع والتقاتل إلى حالة الإخاء والتعايش في وحدة دينية تتجاوز إطار العداوات القبلية التاريخية. فالإسلام هو عقيدة شاملة غايتها تنظيم الحياة الإنسانية في مختلف نواحيها على أسس العدالة والمساواة. والسلطة التشريعية في الإسلام مصدرها القرآن. وهي سلطة تساوي بين المواطنين من حيث إنسانيتهم أولاً، وإيمانهم ثانياً، كما جاء في الحديث الشريف: « الناس كلهم سواسية كأسنان المشط» و«إنما المؤمنون أخوة» و«كونوا عباد الله إخواناً». وقد ذكّر الرسول، صلى الله عليه وسلم، مرة أخرى بهذه المساواة حين قال في خطبة الوداع (السنة العاشرة للهجرة 632 م) «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى». وكأنه كان يريد بذلك أن يجعل من المساواة، وأيضاً العدل، قاعدة جوهرية في سلوك من سيتولى شؤون المسلمين من بعده. من هنا نرى بأن مواقف الخلفاء الراشدين التزمت بهذه القاعدة في تسيير أمور الرعية وقضاياها.
ففي خطبته بعد البيعة سيقول الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق، رضي الله عنه،: «أيها الناس، فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة. والضعيف منكم قوي عندي حتى أريح عليه (أي أرد إليه) حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله... أيها الناس إنما أنا مثلكم... ف زغت فقوموني...»
وفي كتابه إلى أبي موسى الأشعري، يشدد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،: «.. آسِ (أي سوِ) بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين الناس، إلا صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً. ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق لا يبطله شيء. واعلم أن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».
ويكمل الإمام علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، نهج الرسول في «عهد الولاية» الذي حملّه إلى مالك بن الأشتر النخعي، بعد ما ولاّه على مصر، حيث يقول له: «... أشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارباً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق... أنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم... وليكن أحب الأمور: أوسطها في الحق، وأعمها في العدل» ([13]).
ولا يقف التطور في الحقوق الإنسانية، كما أقرها الإسلام عند مسألة ا بين أفراد الرعية على اختلاف أجناسهم وألوانهم، بل يضم مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ففي الميدان الاجتماعي، ينصّ القرآن الكريم صراحة على قواعد سلوك جديدة تتمسّك بمكارم الأخلاق التي تقوم على التواضع، والزهد، والرحمة، والشفقة، والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مثلما سينص بوضوح على تحريم الموبقات والمفاسد التي تشكل خطراً على ديمومة الروابط الاجتماعية، واستمرارها كالزنا، والبغي، والجور، والتفاخر، والبطر، وشرب الخمر، ولعب الميسر وغيرها من الآفات الاجتماعية التي تتناقض والتعاليم السماوية التي يحملها الإسلام، والرامية إلى حماية حقوق المجتمع وعدم تعريضها للخرق والانتهاك من قبل الأفراد السيئين. (إنما بُعثت لأتممّ مكارم الأخلاق. حديث شريف).
ولكي يبنى المجتمع بناءً سليماً وقوياً، فإن الإسلام حضّ على علاقة إنسانية حميمة بين الآباء والأبناء. فقد أوصى الآباء خيراً بأبنائهم، وأوصى الأولاد براً وإحساناً بوالديهم (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) (سورة الإسراء الآية 23) (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً) (سورة الأحقاف الآية 15). كما شدّد على تحريم وأد النبات (وإذا الموؤدة سئلت. بأي ذنب قتلت) (سورة التكوير الآيات 8 و9)، وعلى منع قتل الأولاد بسبب الضيق المادي أو الفقر، وهي عادات كانت شائعة في الجاهلية (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (سورة الأنعام الآية 151)، ودافع عن الفقراء والمعوزين، وحرص على معاملة اليتامى والمساكين وأبناء السبيل تلك المعاملة الإنسانية التي تليق بهم كبشر، وكرّس حقوقهم في أكثر من سورة في القرآن الكريم.
وبما أن المرأة هي نصف المجتمع، فقد أولاها الإسلام اهتماما كبيرا. ومع أن القرآن الكريم يعطي أولوية للرجل على المرأة من ناحيتين هامتين هما الإرث والشهادة أمام القضاء، فإنه عمل في الوقت نفسه على تكريس حقوق المرأة كاملة في أموالها وتجارتها دون الوصاية عليها من أحد، كما منحها حرية أساسية في اختيار الزوج. فالشريعة الإسلامية تشترط موافقة المرأة وقبولها الصريح لعقد القران.
كذلك أولى الإسلام متعددة.ا للأرقاء والعبيد. والواقع أن مصادر الرقّ كانت متعددة. فالحروب القبلية مصدر من مصادر الاسترقاق، وأيضاُ الفقر الذي كان يدفع بالبعض إلى الاستدانة، وتراكم نسب مرتفعة من الفوائد عليهم بحيث كان يستحيل عليهم دفعها مما يحولهم إلى عبيد لدى صاحب رأس المال، وأخيراً عملية المتاجرة بالرقيق القادمين من مناطق أخرى مثل بلاد الروم، وفارس، والزنج ([14]).
أسرى القبائل هؤلاء كانوا يتحولون إذن إلى عبيد. ولم يكن يتم تحريرهم إلا بوسيلتين: بحرب مضادة تشنّها القبيلة التي ينتمي إليها الأسرى على القبيلة التي أسرتهم، وإما بتقديم الفدية التي كان معدلها العادي مائة رأس من الإبل أو أكثر من ذلك حسب منزلة الأسير في قومه ([15]).
وبسبب اتساع ظاهرة الرقّ وشيوعها لم يقم الإسلام بمنعها فوراً، بل عمد إلى محاربتها تدريجاً، وسخّر كل الإمكانيات المادية والمعنوية لتحرير الأرقاء، وفرض على المسلمين، في ما يقترفون من أخطاء، تحرير الرقاب ككفارة عن أخطائهم أو أعمالهم.
فكفارة قتل المؤمن تحرير رقبة مؤمنة (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة)(سورة النساء الآية 91).
والحنث باليمين يستوجب تحرير رقبة (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) (سورة المجادلة الآية 3)، وصدقات أموال المسلمين هي أيضاً، بجزء منها، لمساعدة العبيد على استرجاع حرياتهم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب) (سورة التوبة الآية 6).
كذلك ركزّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، في أحاديثه الشريفة على الأخوة بين البشر وعلى إنسانيتهم (كونوا عباد الله إخواناً) و(الإنسان أخ الإنسان أحب أم كره). وسار الخلفاء الراشدون على نهج النبي في محاربتهم للرق وتنديدهم به. فها هو الخليفة عمر بن الخطاب يصرخ بغضب في وجه من يمتلك رقيقاً قائلاً: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». ويدعو الإمام علي بن أبي طالب الأرقاء إلى الثورة على الحالة التي هم فيها قائلاً «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً».
وفي الميدان الاقتصادي، كان شعار الإسلام ذلك الحديث الشريف الذي يقول بأن «الدين هو المعاملة»، فالمعاملة الحسنة تقتضي التمسّك بالعهود والعقود واحترام حقوق الآخرين (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (سورة المائدة الآية 1) و(يا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم) (سورة هود الآية 85) و(أقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (سورة الرحمن الآية 9).
كما شدّد الإسلام على المعاملة الحسنة حفاظاً على حقوق الناس بين بعضهم البعض، كذلك أمر بوضوح التعامل، وقيامه على مبدأين أساسيين: عدم الغبن والغشّ في المعاملات، وإنشاء هذه المعاملات على أساس التراضي المتبادل بين الأطراف المتعاقدة (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) (سورة النساء الآية 28). مثلما أمر بمنع الربا منعاً باتاً، لاسيما وانه كان يؤدي في الماضي ليس فقط إلى إفقار الناس، وإنما أيضاً إلى استعبادهم. وقد ذكرت عدة آيات تحريم الربا بصورة جلية لا تقبل أي نقاش، إذ ورد في (سورة البقرة الآية 275 و276) (وأحلّ الله البيع وحرّم الربا) و(يمحق الله الربا ويربى الصدقات)، وأيضاً في سورة آل عمران (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة) (الآية 130).
وعلى المستوى السياسي استند الإسلام على مبدأ الديمقراطية المباشرة في إدارة شؤون الناس، وجعل الالتزام بها واجباً على الحاكم أو المسؤول، إذ أن الله عزّ وجلّ أمر الرسول بالتشاور مع جماعته وصحبه في أمورهم (وشاورهم في الأمر) (سورة آل عمران الآية 159). كما أمر المؤمنين بالالتزام بهذا المبدأ في كل شؤونهم (وأمرهم شورى بينهم) (سورة الشورى الآية 38). وهذا المبدأ يعني حق المشاركة المباشرة في الشؤون العامة من قبل كل فرد من المسلمين. ويشدّد الحديث الشريف (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) على المساواة في المسؤولية بين الحاكم والرعية. فهذه الأخيرة تخضع للحاكم طالما هو متقيّد بتعاليم الدين، وإلا فإن من واجب المسلمين التصدي للحاكم الجائر الذي يخالف تعاليم الله في كتابه الكريم. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف:«إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» و«ومن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»، لأن السكوت عن الجور والظلم هو مشاركة به. فالعدل في الرعية هم أساس الحكم والسلطة. وهذا العدل لا يتحقق بصورة سليمة إلا عندما يشارك كل الأفراد بتحمل مسؤولية الحكم إلى جانب الحاكم ومنعه من الانحراف عن طريق الصواب. وهذه المشاركة يجب 10).م على أساس احترام حقوق الآخرين وكرامتهم «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة». (سورة النور الآية 10). وعلى أصحاب السلطة احترام حقوق الآخرين في بيوتهم وحياتهم الخاصة. فحرمة المنزل مصانة في الإسلام ولا يجوز خرقها تحت أي ستار «يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أذكى لكم، والله بما تعملون عليم» (سورة النور الآية 27).
والحياة الخاصة لها حرمة، وهي حق من حقوق الإنسان لا يجب انتهاكه (ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً) (سورة الحجرات الآية 12)، (وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البرّ من اتقى واتوا البيوت من أبوابها) (سورة البقرة الآية 189).
وحرية التعبير عن الرأي والمعتقد هي حق أساسي من حقوق الإنسان. فالإسلام ينطلق من عدم الإكراه في الدين، أو إجبار الناس على الإيمان رغماً عنهم، وهو يترك لكل إنسان الحرية الكاملة بالاعتقاد بما يريد (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي) (سورة البقرة الآية 256)، ويأمر على التوجه للآخرين بأحسن الكلام وألطفه، احتراما لآرائهم ومواقفهم ومشاعرهم (وقولوا للناس حسناً) (سورة البقرة الآية 83)، ولاسيما إذا كانوا من أصحاب المبادئ أو العقائد الدينية الأخرى. فهنا الإسلام يفرض احترام عقائد هؤلاء، وحقهم في ما اختاروه لأنفسهم من مبادئ (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (سورة النحل الآية 125).
وقد قام الخلفاء الراشدون والذين أتوا من بعدهم على رأس الدولة الإسلامية في عهديها الأموي والعباسي، بتطبيق هذه التعاليم أسوة بما قام به الرسول، صلى الله عليه وسلم، عندما أعطى أهل نجران عهداً «بالأمان على أنفسهم وأموالهم وأرضهم ودينهم، وأنهم في جوار الله وذمة رسوله، لا يغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته».
وهكذا نرى بأن الإسلام حقّق تطوراً ملحوظاً في ترسيخ المبادئ القائمة على المساواة والعدل بين المواطنين، وحماية حرياتهم وحقوقهم. وهو، مع ما سبقه من سنن وشرائع دينية ودنيوية، سيكون المرتكز الأساسي الذي ستنطلق منه النظريات الفلسفية، والاجتماعية، والسياسية، والحقوقية، التي ستعالج موضوع الحريات الإنسانية في شكلها الفردي والجماعي.










قديم 2012-08-05, 11:31   رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
محمد تماسين
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

نظرية القانون الطبيعي
أ) في مفهوم القانون الطبيعي.
تنطلق نظرية القانون الطبيعي من فكرة بسيطة مؤداها أن ليس هناك نظام بدون قانون، لأن غياب النظام وبالتالي القانون الناجم عنه يعني وقوع الناس في تيه عميق، فلا يعودون يعرفون كيف يتصرفون، أو لماذا يتصرفون بشكل معين دون الآخر.
فالنظام، الذي يخلق بالضرورة علاقات منظمة، هو حاجة ملحّة للحياة الاجتماعية بمختلف أشكالها ومستوياتها. وعلى هذا الأساس يكون لكل مجموعة إنسانية ـ مهما كانت درجة بدائيتها ـ نظمها أو قوانينها الخاصة التي هي في أصل بقائها واستمرارها.
ويعتبر الإنسان البدائي قانونه مقدساً. وهذا القانون الذي لا يجوز لأحد أن ينتهكه أو يتحداه ليس من صنع الزعيم أو المشرع، أو القاضي، وإنما من صنع الأزل[1]. وإذا ما قام هذا الإنسان البدائي بانتهاك القانون، فإنه لا يمكن أن يصل إطلاقاً إلى درجة الشك بشرعيته، لأنه يعتبره قانون حياته، وقانون وجوده، والمعبِّر عما يجول في خاطره.
وتتمثل سمات هذا القانون، الذي هو هبة للإنسان مثل الأرض التي يعيش عليها، في عدة أمور:
1ً- أن ليس له شكل القانون المدوّن أو المكتوب.
2ً- أنه لا يمكن حصر أحكامه في أنماط واضحة.
3ً- أنه يمكن أن يتغيّر عن وسط اجتماعي لآخر.
4ً- أنه في أساس القواعد التي يتضمنها القانون الوضعي[2].
وبما أن هذا القانون الطبيعي يتمتع بحرية تصل إلى حدود القداسة، فإن من المتعارف عليه هو خضوع جميع الناس له حكاماً كانوا أم محكومين، لأنه قانون الجماعة، وليس قانون الحاكم[3].
وباعتبار أن القانون الطبيعي يعلو على الحاكم الذي لا يستطيع تغييره أو الخروج عليه، فإن كل أمر يخالفه يكون باطلاً[4]، لأن القوة التي يتمتّع بها هذا القانون مستمدّة من الله أو من الجماعة، ولها قداستها المطلقة، ولا سلطة للحاكم عليها مهما كان حكمه استبداديا[5].
بيد أن هذه الإطلاقية تخضع للواجبات العامة التي يفرضها النظام الأخلاقي، والتي يمكن الدلالة على بعض مكوِّناتها كما يلي:
1. أن القانون الأخلاقي يرفض رفضاً تاماً أي استخدام تعسفي للحياة، لأن هذه الحياة تعطى لنا من أجل هدف محدّد، ولذا يجب الحفاظ عليها لبلوغ هذا الهدف الذي هو في النهاية الخضوع لمجموع الواجبات.
2. أن الإنسان لا يكون كائناً أخلاقياً ولا يستطيع، بالتالي، تحقيق هدف وجوده إلا بشرط العمل، والعيش بذاته، وأن يكون الصانع الحقيقي والفعلي لأعماله، وعندها يصبح من واجبه الدفاع عن حريته الشخصية مثلما يدافع عن حياته، وأن يقاوم كل إرغام خارجي، وألا يخضع في النهاية إلا لصوت ضميره.
3. أنه لا يمكن وعي الحرية بدون العقل. فالفكر غير الواعي يمكن أن يؤدي إلى الكثير من الشطط والانحراف في سلوكنا. ولذا، فإن علينا محاسبة أنفسنا على المبادئ التي تحكم وتسيّر سلوكنا. فالعقل لم يعطَ لنا بدون سبب، وله غاية سامية كغاية الحياة نفسها.
إن هذه الواجبات البديهية والإجبارية تؤدي إلى حقوق مشتركة بين كل الناس. فواجب المحافظة على الذات، والاستخدام العام لوجودنا يؤدي إلى نتيجة ضرورية هي عدم انتهاك الحياة الإنسانية، وبالتالي إلى حرية التمتع بهذه الحياة كما يحلو لنا بشرط احترام القواعد العامة للنظام، أي للحرية الفردية.
وهذه الأخيرة تتضمن بدورها الحق بالتصرف بالأشياء التي امتلكناها عن طريق العمل بالشكل الذي نراه ملائماً. وهكذا يتكرّس حق الملكية الخاصة بنفس طريقة تكريس الحرية الفردية، واحترام الحياة الإنسانية.
كذلك فإن الواجب الذي يأمرنا بالحفاظ دائماً على حرية خيارنا، أي أن نكون أشخاصاً أخلاقيين لا يعملون إلا بحسب قناعاتهم، يعطينا حرية أساسية هي حرية الضمير.
وعلى حرية الضمير يرتكز وجودنا الأخلاقي الذي هو الشرط العام لكل حقوقنا وواجباتنا، وهي حرية تحمل في طياتها الاحترام لكرامة الآخرين، ومعتقداتهم، وآرائهم.
وأخيراً، فإن حرية التفكير تنبع من الواجب الذي يأمرنا بالبحث عن الحقيقة بكل طاقات ذكائنا. وبما أن التفكير، بحد ذاته، هو حر، وأن ليس هناك من قوة رادعة تمنع الإنسان من أن يفكر على هواه، فإن هذه الحرية مقدسة، مثل الحياة، ولا يمكن التنازل عنها.
هذه الحريات أو الحقوق هي شاملة كالواجبات طبيعياً. عنها، مما يعني بأن كل الناس متساوين أمام القانون الأخلاقي، بالرغم من عدم المساواة في طبيعتهم الجسدية وقواهم. وهي مجتمعة تشكل حقوقاً طبيعية أو قانوناً طبيعياً.
وإذا كان القانون الأخلاقي هو علم واجباتنا، فإن القانون الطبيعي هو علم حقوقنا الشخصية. وفكرة القانون الطبيعي ليست جديدة. فهي قد ظهرت في كتابات فلاسفة اليونان من أمثال أفلاطون، وأرسطو، وأبيقور. وتحدثت عنها مدارسهم الفكرية مثل المدرسة الأبيقورية، والرواقية. وهذه الفكرة تبدو أكثر وضوحاً في كتابات الرواقيين، ولاسيّما المتأخرين منهم من أمثال شيشرون، المفكر والخطيب الروماني المشهور (106 – 143 ق.م). وقد ركّز الرواقيون في أحاديثهم عن القانون الطبيعي على وجود «قانون عام للكون، وهو قانون عقلي مسيطر على الآلهة وعلى الناس جميعاً، وهو أعلى من المواصفات الاجتماعية ومن قوانين المدينة»[6]. واهتموا بالإنسان ورأوا أن أهم ما فيه «هو النفس، وأهم ما في النفس العقل الذي هو مصدر التصوّرات ومصدر الإرادة»[7]، وطالبوا بالحياة وفقاً «للطبيعة العاقلة» التي هي الخير المطلق. وعلى غرار المدرسة الرواقية، يتحدث شيشرون عن القانون الطبيعي الذي يعتبر أن مصدره هو العقل الكوني، ويرى بأن القانون الطبيعي «واحد، مطلق، وعام، وأبدي، وهو بديهي واضح بذاته، ولا يحتاج المرء من أجل إدراكه إلا أن يعمل ذهنه ليلقاه أمامه. والقانون الذي هو بهذه الصفات يعلو على كل تشريع آخر، وليس لأي تشريع آخر أن يعطّل أحكام القانون الطبيعي الأعلى، ولا لأي حاكم أن يناقضه. هذا القانون الطبيعي العام الإلهي يجعل من البشر متساوين في ما بينهم ويجعلهم مواطنين على نفس المستوى الواحد، وخاضعين جميعاً لنفس المثل الأخلاقية»[8].
هذه الأفكار التي طرحها شيشرون، والمدرسة الرواقية من قبله ستؤسس لظهور مدرسة القانون الطبيعي التي ستحتل مكانة كبرى في كتابات المفكرين، والمؤرخين، ورجال القانون، في عصري النهضة والأنوار.
في الواقع، أن البداية الفعلية لقيام مدرسة الحق الطبيعي ستكون مع عصر النهضة الذي سيشكل منعطفاً كبيراً في التاريخ الأوروبي، على عدة صعد.
فمن جهة، ستساعد الحركات الدينية الإصلاحية، وعلى رأسها البروتستانتية، في تكريس وجود الفرد كموضوع مستقل بحد ذاته.
ومن جهة ثانية، سوف يسمح الانفصال بين الكنيسة والدولة للفرد بالدفاع عن نفسه بوجه هيمنة رجال الدين، وتسلط النظام السياسي.
وسيلعب بعض علماء اللاهوت الأسبان كفيتوريا وسواريس دوراً مباشراً وفعالاً في تكريس نظرية الحقوق الذاتية الملازمة للطبيعة البشرية والتي لا يمكن فصلها عنها. كما سيقوم هذان المفكران بوضع المبادئ الأولى للقانون الدولي، ولعقيدة حقوق الإنسان.
ويعتبر فيتوريا (1480-1546) أن العقل هو ميزة الإنسان الأولى، وأن البشر مضطرون للتفاهم حول بعض مبادئ القانون التي يمليها العقل. وبما أن العقل هو الذي يفرض هذه المبادئ أو القواعد، فهذا يعني أنها كونية وغير قابلة للإلغاء.
وبطريقة مماثلة سيقول سواريس SUAREZ (1548 – 1617) أنه إذا كان الحق الطبيعي قد تكون عن طريق القوانين الطبيعية الناجمة عن إرادة الله، فإن هذه القوانين لا يمكن أن تدرك إلا عن طريق العقل الذي وضعه الله في الإنسان، والذي يشكل جزءاً أساسياً من الطبيعة البشرية.
كذلك سيحدث هذان المفكران شرخاً في اللاهوت الكاثوليكي السائد آنذاك، عندما سيعترفان بالمساواة في الحقوق بين المسيحيين وغير المسيحيين، وذلك في مرحلة اكتشاف القارة الأميركية أو العالم الجديد. وسيقوم فيتوريا VITORIA بالدفاع عن الحقوق الطبيعية للهنود بوجه المستعمرين الأسبان، وسيقول أنهم، بَشر، وبالرغم من وثنيتهم، يمتلكون نفس حقوق وكرامة الإنسان. أي أن القول بفكرة جماعة عالمية مؤسسة، ليس فقط على الإيمان، وإنما أيضاً على الانتماء إلى الطبيعة والكرامة الإنسانية، أعطت حقوق الإنسان طابعها الكوني الحقيقي.
إن محاولات التجديد اللاهوتي الإسباني هذه لن تذهب سدى، بل سيكون لها وقع كبير في هولندا، وفي الجامعات الألمانية من خلال مفكرين كبيرين هما غروتيوس وبوفندورف[9].
1. غروتيوس GROTIUS[10].
بدا غروتيوس، ومنذ مؤلفاته الأولى، كبرجوازي هولندي واعٍ لمصالح بلاده التجارية التي كانت قد بدأت تأخذ منذ مطلع القرن السابع عشر، شكلاً «عالمياً» يتميّز بالتطلع نحو أسواق الشرق البعيدة، وخاصة الهند، كمصدر للعديد من السلع الهامة للتجارة الأوروبية. فكي يبرّر للهولنديين، وخاصة لشركة الهند الشرقية تصرفاتها تجاه منافستها البرتغال، التي كانت تمتلك، أيضاً، أسطولاً تجارياً كبيراً، سيقوم غروتيوس،كمحام ورجل قانون، بوضع دراسات قانونية عن حرية الملاحة، والتجارة، وحق المصادرة، وغيرها من الدراسات التي ستلعب دوراً بارزاً في إرساء قواعد القانون الدولي العام.
إلا أن أهم مؤلفاته على الإطلاق يبقى «قانون الحرب والسلم» الذي سيضمّنه نظريته في القانون الطبيعي. وهذا الكتاب هو دراسة مفصّلة في القانون الدولي تتناول القضايا العامة التي كانت تطرحها آنذاك العلاقات المتزايدة، والمتشابكة أكثر فأكثر بين الدول، وذلك انطلاقا من نظريتين: نظرية القانون، ونظرية الدولة.
وتتلخص نظريته في القانون الطبيعي بتقسيم القانون، بشكل عام إلى قسمين: قانون مستقل عن أي إرادة، وتكمن قيمته في ذاته، هو القانون الطبيعي. وقانون آخر، مشتق من إرادة معينة، هو القانون الإرادي أو الوضعي.
ويحدّد لنا غروتيوس القانون الطبيعي بأنه «قرار للعقل الصائب يدلّ على أن فعلاً ما، حسب ملائمته أو عدم ملائمته للطبيعة العاقلة والاجتماعية، يوصف من الناحية الأخلاقية، بالضروري أو بالدنيء، وأن مثل هذا الفعل، بالتالي، هو مما أمر به أو حرّمه الله صانع هذه الطبيعة»[11].
ولكي يخفّف من تعقيد تعريفه هذا، يعدّد لنا غروتيوس بعض مبادئ القانون الطبيعي التي يحاول من خلالها توضيح أفكاره.
- بين هذه المبادئ أو القواعد للقانون الطبيعي يذكر غروتيوس، ومن الناحية الدينية، فضيلة احترام الوعود المقطوعة والبرّ بها، والتعويض عن الضرر الناجم عن خطأ معيّن، كما يذكر فضيلة الامتناع عن الاستيلاء على أملاك الغير، لاسيّما وأن القانون الطبيعي يضمن المُلكية: «إن المُلكية كما هي مستعملة حالياً قد أنشأتها الإرادة الإنسانية، لكن منذ أن أنشئت، فإن القانون الطبيعي يعلمني بأنني أقترف جريمة عندما أستولي على ما هو موضوع ملكيتك ضد مشيئتك»[12].
- القانون الطبيعي، وبعكس ما يقوله المنظّرون الدينيون، ليس هو الإرادة الإلهية، وإنما هو مشتقّ، برأي غروتيوس، بصورة غير مباشرة عن هذه الإرادة، لأن الله خالق الطبيعة لا يقبل بوجود شيء مخالف لقوانين هذه الطبيعة.
- القانون الطبيعي ثابت لا يتبدّل، لأن طبيعة الإنسان في عناصرها التكوينية هي نفسها دائماً في مختلف العهود، وفي كل الدول.
- إن مصدر القانون الطبيعي موجود في الطبيعة الاجتماعية للإنسان التي تجبره على الدخول في علاقة مع أقرانه بصورة ودّية. وهذا الإرغام على الارتباط مع الآخرين يؤدي إلى نتائج هامة تتعلق بالحقوق المتبادلة التي يجب أن يوافق عليها أعضاء المجتمعات المختلفة.
ويعمّم غروتيوس هذه المبادئ على الدول أيضاً. فالدولة تجد فوقها مجموعة من القواعد التي يتوجب عليها احترامها. وإذا ما حكمت الدولة رعاياها، خلافاً لأوامر الله والقانون الطبيعي، فإن هؤلاء الرعايا لا يعودون مجبرين على طاعتها[13].
2. بوفندورف PUFENDORF[14].
درس بوفندورف، منذ مطلع شبابه، وبحماس متناهٍ الفلسفة والقانون الطبيعي، وتأثر بشكل خاص، بغروتيوس الذي يعتبره أستاذاً له. وقد ترك عدة مؤلفات في التاريخ والقانون، من أشهرها كتاب «قانون الطبيعة والناس» الذي يشرح فيه نظريته في القانون الطبيعي.
يقول بوفندورف أن الله خلق الأفكار والعادات التي تحكم أفعال البشر وطباعهم من أجل إدخال النظام والجمال في الحياة الإنسانية، وأن الله ينظّم استخدام حرية الإنسان ويعيّن له الحدود. وأن الإنسان يجد نفسه خاضعاً للعلاقات الواجبات.ة بسبب الأوضاع العامة للمجتمع الإنساني الذي يصبح جزءاً منه بعد ولادته، وكذلك بفعل الشروط الخاصة التي يولد فيها مثل وضع عائلته الاجتماعية، والزواج، والأبوة، وواجبات الأبناء الخ... وهي حالات أخلاقية تنتج بعض الحقوق، وتولّد بعض الواجبات.
هذه الحالة الاجتماعية يسمّيها بوفندورف حالة الطبيعة. وهي تتضمّن حقوقاً وواجبات للناس تجاه بعضهم البعض. ومن نسيان، أو ممارسة هذه الحقوق ومن احترام أو احتقار هذه الحقوق تتولّد حالتان أخلاقيتان متعارضتان في المجتمع: السلم والحرب.
وكما أن العلاقات التي تؤلف القوانين الأخلاقية للكائنات لا توجد إلا بأمر الله، كذلك فإن القوانين التي تحكم الدول لا توجد إلا من خلال تشريعات الأشخاص المعنويين الذين يتمتّعون بهذا الحق، والذين يقع عليهم فرض بعض القواعد، وبعض الموجبات. وأن كل قانون إنما يقوم على أمر من سلطة عليا، سواء أكانت سلطة الله أم سلطة الإنسان.
وبما أن لقوانين الطبيعة سلطة تامة لإلزام الناس، حتى ولو أن الله لم يزدها تأييداً بكلامه المومعين.إن القواعد التي تنجم عنها ترتدي طابعاً أخلاقياً، ويصبح القانون، على هذا الأساس، صفة أخلاقية نحصل من خلالها على سلطة على الأشخاص، أو لامتلاك بعض الأشياء، ويكون لنا بفضلها حق معيّن. كما يتحول الإرغام إلى خاصية أخلاقية نكون بموجبها مجبرين على تلقّي، أو تحمّل، أو القيام بأمر معين.
هذا، ويعتبر بوفندورف المنظّر الحقوقي للقانون الطبيعي أو الحق، منظوراً إليه كحقٍ ضروري وثابت يستنتجه العقل من طبيعة الأشياء.

رواد نظرية العقد الاجتماعي
1. توماس هوبس Thomas HOBBES[1].
عاش توماس هوبس في فترة مليئة بالاضطرابات والفوضى السياسية والأهلية في إنكلترا، حيث كان الصراع على أشدّه بين الملكيين وبين خصومهم الجمهوريين بقيادة كرومويل. وعندما أنتصر هذا الأخير في عام 1640 على الملكية، أضطر هوبس للهرب إلى فرنسا، خوفاً من انتقام الجمهوريين منه، بسبب وقوفه علناً إلى جانب السلطة الملكية. وبعد إقامة استمرت أحد عشرة عاماً في فرنسا، عاد هوبس من جديد إلى إنكلترا، بعد نشر كتابه «لوفايتان» أو «الوحش الأسطوري»، لكن خوفاً هذه المرة من المهاجرين أنصار المَلَكية الذين رأوا في كتابه دعوة للشعب إلى الخضوع للغزاة، أو لمغتصبي السلطة ما داموا قادرين على فرض الأمن، والاستقرار، وحماية أرواح المواطنين.
فما هي الفكرة الأساسية في كتاب «اللوفايتان» أو الوحش الأسطوري.
يرسم لنا هوبس الدولة على هيئة وحش كبير كاسر «تمّ تصوره من أجل حماية الإنسان الطبيعي والدفاع عنه. السيادة هي روح مصطنعة تعطي الحياة والحركة للجسد كله. والثواب والعقاب هي أعصابه. وثروة وأموال جميع المواطنين هي قوته. وسلامة الشعب هي وظيفته والعدالة والقوانين هي عقله وإرادته المصطنعتين. الوفاق هو صحته، والتمرد هو مرضه، والحرب الأهلية هي موته»[2].
وهذا الوحش يمتلك سلطة سيدة فوق سلطة كل الأفراد الذين قبلوا بالتنازل عن كل حرياتهم وحقوقهم، والاتفاق في ما بينهم، بواسطة عقد اجتماعي، على الخضوع لسلطة مطلقة يوكلونها «لشخص ما».
أما الأسباب الداعية لقيام مثل هذا العقد الاجتماعي فهي ضرورة الانتقال من العصر الطبيعي إلى عصر المجتمع المدني المنظم. فما هو العصر الطبيعي في تفكير هوبس ؟
يحتل العصر الطبيعي، أو حالة الطبيعة، مكانة متميّزة في كتابات مفكري العقد الاجتماعي، كمقدمة لدراسة المجتمع المدني الذي تطلعوا إلى تحقيقه. وهو لا يعني الحالة البدائية التي كان الإنسان يعيش فيها في مراحل البشرية الأولى، بقدر ما يعني عدم تطبيق القانون بشدّة من أجل الحفاظ على المجتمع.
فإنسان العصر الطبيعي كان عدوانياً، وأنانياً، تحرّكه فقط غريزة البقاء، أي المحافظة على الذات، ودوافع المصالح الخاصة، دون الاهتمام بأمن الآخرين أو مصالحهم. وبما أن الناس في العصر الطبيعي كانوا يتمتعون بحقوق مطلقة، وحريات كاملة في ظل مساواة تامة في ما بينهم، فإن الصفات التي ذكرناها عن الإنسان أدّت لنشوب صراعات بين الأفراد.
فالعدوانية، والأنانية، وعدم الثقة بالآخرين، وغيرها من الصفات السلبية، لا تستطيع البروز إلا من خلال تحوّل الإنسان إلى ذئب لأخيه الإنسان، أي إلى سيطرة القوة. فالرغبة في القوة، مثلها مثل التطلّعات والانفعالات، غير محدودة.
وبسبب المساواة بين الجميع، وغياب السلطة، تصبح القوة والحيلة هما القضيتان الرئيسيتان في الحرب. وفي هذه الحرب لا توجد مُلكية. ولا يوجد ما هو لك، وما هو لي. بل فقط يكون لكل واحد ما يستطيع أن يأخذ طالما أنه يقدر على المحافظة عليه، لأنه حيث لا يوجد سلطان مشترك لا يوجد قانون، وحيث لا يوجد قانون لا يوجد ظلم[3].
وللخروج من حالة الطبيعة هذه، التي هي حرب الكل ضد الكل، وبدافع الخوف من الموت، وبحافز من العقل، قرّر الأفراد التوافق على التخلّي عن الحق المطلق في كل شيء، وعن حرياتهم الأساسية، وتفويض إدارة شؤونهم إلى شخص آخر. إلا أن هذا الاتفاق يتمّ بمعزل عن صاحب السيادة ولا يلزم أحداً سواهم. فالحاكم ليس طرفاً فيه. والعقد المتفق عليه هو عقد اجتماعي يتنازل بموجبه الأفراد عن كل حقوقهم، وحرياتهم الطبيعية مقابل توفير الأمن لهم.
ويؤدي نشوء هذه السلطة، في مرحلة الانتقال من العصر الطبيعي إلى المجتمع المدني، إلى قيام الدولة. ويجب أن ترتكز هذه الدولة على قاعدة أخلاقية يكون القانون ضمانتها لإشباع غريزة المحافظة على النفس، وحماية الناس من الموت. وكلما ازدادت قوة الدولة، كلما أصبحت أقدر على القيام بمهمتها بشكل صحيح.
هوبس، الذي كان من أنصار السلطة المركزية القوية، أعطى الحاكم سلطة مطلقة بموجب العقد الاجتماعي. فعندما يتمّ إبرام العقد تصبح كل الحقوق والحريات التي فوّضها الناس إلى السلطة المطلقة حقوقاً غير قابلة للنقل، ولا تنفصل عن السيادة. لأن ما يحفظ الدولة ويسمح لها بتأدية مهامها هو السلطة التي يجب أن تكون غير قابلة للقسمة أو التجزئة. ومع الإقرار بأن السلطة المطلقة تسلب الأفراد حقوقهم وحرياتهم، إلا أنها بالمقابل تمنحهم الحياة، والأمن، والاستقرار.
وعلى هذه السلطة واجبات تجاه رعاياها يمكن تلخيصها على الوجه التالي:
1. أن على الحاكم تأمين الأمن لرعاياه، لأن أمان الشعب هو القانون الأسمى. وأمن الشعب يعني المحافظة على حياة المواطنين ضد كل الأخطار، وإفساح المجال أمامهم للتمتع بالمسرّات المشروعة في هذه الحياة.
2. أن على الحاكم ضمان المساواة لرعاياه أمام القانون، وأمام الأعباء العامة.
3. أن الحريات التي يسمح بها الحاكم للأفراد لا تشكل قيوداً على سلطة السيادة، كحرية البيع، والشراء، واختيار المسكن الخ[4].
4. أن على الحاكم مراقبة الأفكار وانتشارها في نشرها.: «فسلطة السيادة تكون حَكَماً يحدّد أي الآراء والمذاهب تعتبر بغيضة، وأيها يؤدي إلى السلام.. وأي الرجال سيراقب الأفكار والمذاهب في كل الكتب قبل نشرها.. إن الحكم الجيّد هو الذي يمتلك سلطة قوية للسيطرة على الآراء».
2. جون لوك John LOCKE[5].
ولد جون لوك قبل ثورة كرومويل بثمانية أعوام، حيث سيقوم والده بالمشاركة في هذه الانتفاضة ضد الملك شارل الأول. وقد درس لوك الطب إلى جانب اهتمامه بالفلسفة والسياسة، وتأثّر كثيراً بفلسفة ديكارت، وبآراء هوبس في العقد الاجتماعي، والتي تبدو واضحة في كثير من جوانب فلسفته السياسية، ولاسيما في كتابه «بحث في الحكم المدني»، حيث سينطلق لوك من نفس افتراضات هوبس، أي من قبول وجود حالة فطرة يليها نشوء عقد اجتماعي، إلا أنه سيصل إلى نتائج مغايرة لتلك التي توصل إليها هوبس.
وهو يعتبر أنه حتى في حالة الفطرة أو الطبيعة، كان الإنسان يمتلك النضج العقلي أو الوعي، وتغمره مشاعر المساواة الطبيعية. وكان كل فرد يستطيع الحفاظ على حريته الشخصية، والتمتع بثمار عمله. ولم يكن ينقص آنذاك سوى وجود السلطة التي تستطيع ضمان مثل هذه الحقوق.
وهكذا، أتفق الأفراد على التنازل عن جزء من حقوقهم وإعطائها للدولة التي أصبحت تمتلك حق الإدانة والعقاب والدفاع عن حقوق الناس. وهذا التنازل عن جزء من الحقوق الفردية تمّ بموجب عقد. إلا أن هؤلاء الذين أصبحوا الآن يمتلكون السلطة العامة لا يستطيعون إساءة استخدامها، لأن هذه السلطة منحت لهم لحماية حقوق الأفراد. وإذا ما قامت الحكومة بإساءة استخدام هذه السلطة عن طريق خرقها لشروط العقد الاجتماعي، فإنه يصبح من حق الشعب عندئذٍ استعادة سلطته الأساسية، أو بالأحرى يصبح من حقّه الشرعي الانتفاض والثورة[6].
والمقاومة، برأي لوك، مشروعة في حالتين. الحالة الأولى، إذا كانت السلطة السياسية غير قانونية، وغير شرعية كما في حالة النظام المطلق الذي لا يجب وجوده في المجتمعات المدنية، أو إذا كانت السلطة تتناقض مع أهداف الحكومة والمجتمع وقانون الطبيعة.
والمقاومة هي حق وواجب على الأفراد الذين يُلزمهم قانون الطبيعة بحماية أنفسهم عن طريق وضع حد لتجاوز السلطة السياسية لصلاحياتها.
وقد رأى لوك بأن حرية الإنسان في المجتمع المدني تتمثّل في عدم خضوعه لأي سلطة تشريعية إلا تلك التي يتمّ اختيارها بالرضي، كما تتمثّل في عدم الخضوع لأي قانون ما لم يكن صادراً عن هذه السلطة.
والسلطة التشريعية تقوم عبر القانون. وهي السلطة العليا في الدولة لأنها تتجه إلى المحافظة على المجتمع، وهي أيضاً روح الهيئة السياسية التي يستمدّ منها أعضاء الدولة جميعاً كل ما هو ضروري لبقائهم وسعادتهم.
أما السلطة التنفيذية فإن دورها يقصر على تطبيق القانون، وتنفيذه، واحترامه.
وتقوم السلطة التامة التي يسمّيها لوك «السلطة الفدرالية» والتي ترتبط بالسلطة التنفيذية، بتولي قضايا العلاقات مع الخارج، والمعاهدات، والسلم والحرب وغيره[7].
وإذا ما كان لوك يصرّ على تقسيم الصلاحيات، ووضعها بين أيدي سلطات ثلاث، فذلك لأنه يرفض كلياً فكرة السلطة المطلقة. إذ لا يمكن، برأيه، إضفاء الشرعية على الطغيان.
إن لوك كان سبّاقاً على غيره، ولاسيّما على مونتسكيو، في موضوع الفصل بين السلطات الثلاث. ولعلّ الفضل يرجع إليه لوحده في هذه الفكرة الأساسية التي سيعمد مونتسكيو إلى شرحها وتفصيلها في كتابه روح الشرائع.
وبالمقارنة مع هوبس نرى بأن لوك أعتبر، على عكس هوبس، بأن الحاكم هو جزء من العقد الاجتماعي. لأن العقد يتمّ بين الأفراد من جهة والسلطة من جهة ثانية. ويبقى حق هؤلاء الأفراد ثابتاً في فسخ العقد عند قيام السلطة بالاعتداء على حقوقهم وحرياتهم. وللأفراد حق إبرام عقد جديد من أجل اختيار حاكم آخر، أو العودة إلى حالتهم الطبيعية الأولى في حالة قيام السلطة بالإخلال بتعهداتها.
3. جان جاك روسو Jean Jacques ROUSSEAU[8].
يعتبر روسو من أهم المفكرين السياسيين الذين تركت نظرياتهم آثاراً ملموسة في المجتمع الفرنسي والأوروبي. ولعلّ هذا التأثير يأتي من كون أن هذه المجتمعات كانت تنتظر آراء كتلك التي أتى بها هذا الفيلسوف. فما هي الخطوط العامة لنظرية روسو السياسية ؟.
يمكن تلخيص الأفكار الأساسية لروسو بما يلي:
- انتقد بقايا التقاليد الإقطاعية السائدة في المجتمع الفرنسي.
- هاجم الفساد وانقسام المجتمع إلى طبقات شديدة التفاوت في الثروة.
- رفض فلسفة الحق الإلهي التي أستند إليها نظام الحكم في فرنسا.
- رفض الإصلاحات المعتدلة التي نادى بها فولتير والاقتصاديون الطبيعيون بإنشاء نظام ملكي مطلق مستنير.
- عارض أفكار مونتسكيو عن النظام ذي السلطات المتوازنة المقتبس عن النظام الإنجليزي.
- نادى بإقرار حريات الإنسان على أن تشمل العمال والفلاحين والطبقة الوسطى.
- طالب بالمساواة وبنظام ديمقراطي مباشر[9].
- ويعالج روسو أفكاره هذه بكثير من التفاصيل في كتبه ومؤلفاته، ولاسيما كتاب «العقد الاجتماعي» وكتاب «أميل أو التربية» وفي «بحث حول اللامساواة بين البشر».
وينطلق في نظريته من اعتبار المجتمع كائناً حيّاً كأي كائن آخر. وبما أن الكائن الحي له إرادة خاصة به، فكذلك المجتمع له أيضاً إرادة خاصة به هي الإرادة العامة أو ضمير الجماعة.
وهذه الإرادة العامة هي التي تصنع المعايير الأخلاقية المناسبة لأعضائها. والقوانين العادلة تنبع منها. وهي السلطة العليا المطلقة والنهائية التي تُلزم كل أفراد المجتمع. وبما أنها الضامنة الوحيدة لحرية المواطنين، فإن على من يريد أن يكون حراً إطاعتها والخضوع لها. والسيادة هي المظهر الوحيد للإرادة العامة. وهذه السيادة لا تقبل التجزئة أو التنازل لأنها إرادة المجموع.
كذلك دافع روسو عن حقوق الفرد في الحياة، والمساواة، والحرية، والتملّك. وقال أن «أول قوانين الإنسان هو قانون المحافظة على الذات»، وهو حق طبيعي للفرد في حالة الحرب، إذ يمنع على المنتصر قتل المهزوم أو استرقاقه.
ولكي يوفّق روسو بين الحق المطلق للأفراد في الحرية، وبين السلطة المطلقة للسيادة كتعبير عن إرادة الشعب العامة، فقد عمد إلى تفسير موسّع لنظرية العقد الاجتماعي. إذ، برأيه، لم ينتقل الإنسان من العصر الطبيعي الذي كان فيه سعيداً إلى المجتمع المنظّم إلا بعد تزايد السكان وتضارب مصالحهم. لذا قام الفرد بإبرام عقد مع أقرانه الآخرين يتمّ بمقتضاه أن يتنازل عن حرياته الطبيعية لقاء التعويض عليه بحريات مدنية كما تنازل عن سلطته إلى الجماعة.
وقد ميّز روسو بين ثلاثة أنواع من الحريات:
- الحرية الطبيعية، وهي سلبية برأيه، لأن أقصى ما تحققه هو عدم خضوع فرد لإرادة فرد آخر في حالة الطبيعة.
- الحرية المدنية، ويحصل عليها الفرد بعد انتقاله إلى المجتمع المنظّم حيث يعيش في ظل قوانين يصوغها بنفسه.
- الحرية الأخلاقية أو الإيجابية، وتعني إلزام الفرد بواجبات المواطن، أي التصرف بمحض إرادته من أجل تحقيق الخير المشترك.
وبما أنه كان متأثراً بتجربة الديمقراطية المباشرة في مدينة جنيف، التي ولد وعاش فيها حتى السادسة عشرة من عمره، فقد وجد أن هذا النوع من الديمقراطية هو أفضل أنواع الحكم.
والديمقراطية المباشرة لا تصلح، كما يعترف، إلا للدول الصغيرة، لأنها تضمن اجتماع المواطنين كلهم، وصدور القوانين عن مجموع الشعب، وتأكيد الإرادة العامة لسلطاتها بشكل يضمن الحقوق والحريات.
أما الديمقراطية غير المباشرة فهي دليل على الفساد السياسي، وسوء استعمال الحكومة لسلطاتها، وتفضيل المصالح الخاصة على المصلحة العامة، وتحوّل النواب إلى سادة للشعب بدل أن يكونوا خدّاماً له. كما تؤدي إلى توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، وهذه كلها اعتبارات تنتقص من الحقوق والحريات العامة.
إن مهمة الدولة الأساسية هي إضفاء الشرعية على العلاقات بين المواطنين عن طريق الالتزام بالامتناع عن تقنين عدم المساواة المبنية على المُلكية، وتدعيم المساواة القائمة على السمة الإنسانية الكامنة في كل البشر. وأن واجب الحكومة هو تطبيق القوانين، والمحافظة على الحريات، وتدبير حاجات الدولة، وحماية الفقراء ضد طغيان الأغنياء، واتخاذ الإجراءات التنفيذية لمنع عدم المساواة الشديدة في الثروة.
وهذه القوانين يجب أن تعبّر عن الإرادة العامة. فالقانون لا يمكن أن يكون ظالماً لأنه من صنع مجموع الشعب. ودور الحكومة هو في تنفيذ هذه الإرادة الشعبية. فالموكلين «بالسلطة التنفيذية ليسوا أسياداً على الشعب، بل هم مأموروه، وهو يستطيع أن يعيّنهم، وأن يخلعهم حين يشاء»[10].
وأولى روسو اهتماما خاصاً، بالتربية، إذ طالب بنظام تربوي يكفل حق الجميع في التعليم سوياً وبنفس الأسلوب، بحكم أنهم جميعاً متساوون في ظل دستور الدولة.
ولتخفيف فوارق الثروة بين الأفراد، أقترح روسو إقامة قطاع من المُلكية العامة، ومشاركة الناس في المشروعات العامة، وتحقيق المساواة في فرض الضرائب مع مراعاة تناسبها مع المُلكية، وعدم فرضها على ضرورات الحياة، وزيادتها كلما زادت استفادة المواطن من خدمات الدولة.
وهكذا كان روسو يتطلع إلى إعادة بناء الفرد والمجتمع حتى لا يحدث صدام بين مصالحهما، وحتى تكون الغلبة لدوافع الطبيعة لدى الإنسان الذي نفى عنه صفة الشر الفطرية، وأعتبره خيّراً بطبيعته[11]. فالإنسان يولد حراً، ولكن المجتمع هو الذي يكبله بالأغلال. ولذا لا بد من إعادة تأسيس المجتمع القائم الفاسد، على قواعد جديدة. والعقد الاجتماعي، كما يقول، هو الذي يخلق المجتمع السياسي ويحوِّل الفرد إلى مواطن يستفيد من مساواة وحرية أعلى بكثير من المساواة والحرية الطبيعية.

ب. فلاسفة عصر الأنوار:
كان لبداية «الثورة الصناعية»، وما حملته من تطور في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تأثير على تطور النقاش الفكري، على المستويين السياسي والفلسفي، بحيث طغى هذا النقاش على مجمل الحياة الفكرية في القارة الأوروبية، وخاصة في فرنسا وإنكلترا. فقد حصل نوع من التفاعل الفكري بين هذين البلدين، وانتشر تبادل الآراء والمواقف انطلاقا من رؤية واحدة تركز على الإنسان ودوره. وتنوّعت مواضيع النقاش لتشمل ميادين مختلفة كالعلوم الإحيائية، والتاريخ الطبيعي، والفضيلة، والمنفعة، والتقدم، والسعادة، والحرية، وغيرها من القضايا التي تدور حول محور واحد هو الفرد باعتباره كائناً اجتماعياً. وكان من أبرز كتّاب عصر الأنوار، مونتسكيو وفولتير اللذان تناولا في مؤلفاتهما العديد من المسائل السياسية والقانونية التي تركّز على أفضل السبل الكفيلة بتطوير المجتمع من أجل تحقيق سعادة الإنسان.
1. مونتسكيو MONTESQUIEU[12].
بدأ مونتسكيو طريقه للشهرة الأدبية في الثانية والثلاثين من عمره، عندما نشر أول مؤلفاته «الرسائل الفارسية Lettres persanes» التي كانت تتناول مسائل إنسانية كالحب، والأخلاق، والسياسة، والدين.
ثم طرح بعد ذلك نظريته السياسية الكبرى في كتابه «روح الشرائع Esprit des lois» الذي تعرّض لانتقاد شديد من فولتير، بسبب افتقاره للترابط والتناسق على حد تعبيره. وسيبرّر مونتسكيو أسلوب كتابه هذا بوجود الرقابة الصارمة التي كان يمكن أن تعرّضه للملاحقة. ويؤكد بأن الفلسفة، عندما تعبّر عن نفسها بوضوح، يمكن أن تهدَّد القواعد الأخلاقية للمجتمع، لأن من واجبها إثارة ومناقشة وتطوير، مسائل صعبة، وأن لطريقته هذه في الكتابة وظيفة تربوية باعتبار أنها تعتمد أسلوب الاتصال غير المباشر.
يبدأ «روح الشرائع» بمناقشة حول القوانين بشكل عام، أو العلاقات الضرورية النابعة من طبيعة الأشياء. «فالقوانين الطبيعية للسلوك الإنساني هي التي تحدّد حاجات الإنسان الملحّة، وهي التي ترسم الحدود والأهداف، وكذلك المعايير الأساسية لوجودنا».
ويختلف النوع الإنساني عما هو الهي أو حيواني. ووجوده متروك لتأثير الذكاء وليس الغريزة. وبطبيعتها لا تستطيع الكائنات الإنسانية، غالباً، التمييز بين أفضل الوسائل للاستجابة لأوامر قوانينها الطبيعية. والقوانين الطبيعية، برأيه، هي نوعية. وعلاقات الإنصاف سابقة على القانون الطبيعي. لأن الإنصاف أو العدالة يسبق المجتمع والذكاء، والإنسانية تفتقر لكليهما. وهناك فردية حادّة في قلب كل إنسان، مملوءة بالقلق، وتفتّش، بيأس، عن السلام والأمن.
ومع أنه يرفض حالة الطبيعة كما يراها هوبس، فإنه يختلف مع روسو، ويتفق من جديد مع هوبس على القول بأن حالة الطبيعة أو الفطرة هي حالة رعب وبؤس.
إن حالة الطبيعة ليست ساكنة، والإنسانية ستدرك سريعاً قيمة الملذّات والامتيازات التي يمكن أن تحصل عليها من الحالة الاجتماعية. إلا أنه، وبكل أسف، ستكون النتيجة الأولى لهذه الحالة الاجتماعية هدّامة، لأنها ستقذف بالإنسانية إلى حالة الحرب. فبعد أن نفقد خشيتنا من الناس الآخرين، فإن حاجاتنا الإنسانية في الأمن والعيش المادي الرغيد، ستميل للسيطرة علينا، وستدفعنا لمحاولة استغلال أقراننا، أو على الأقل، للمحافظة على أنفسنا بوجه استغلالهم.
ولمواجهة مآسي حالة الحرب البدائية، أو الموجودة في حالة الفطرة، فإن العقل يكتشف أهمية بعض قواعد المعاملة بالمثل، الصالحة بشكل عام. وإذا ما طبقت هذه القواعد في القانون الوضعي، فإنها ستثبّت السلام، والأمن، ودرجة مرتفعة من العدالة داخل كل مجتمع مدني، وفي كل الظروف، ما عدا تلك الاستثنائية. لأن قوانين العقل تبرهن لنا بأن الطغيان، أو الحكومة القائمة على الإرهاب هي ضد الطبيعة. بيد أن مشكلة هذه القوانين هو أنها لا تؤكد لنا ما هي الحكومة الصالحة، بطبيعتها، لكل زمان ومكان، وهي لا تعطينا مبدأ شاملاً للشرعية قابلاً للتطبيق مثل العقد الاجتماعي، أو رضا المحكومين. وهذا يعني أن تكون الإنسانية في حالة المجتمع ليست فقط نتاجاً للطبيعة، وإنما أيضاً للبيئات التاريخية والطبيعية المختلفة جداً. لأن «الروح العامة» لكل أمة تعطي لشعبها مجموعة ثانية من الحاجات شبه الطبيعية، أو طريقة وحيدة للتعبير عن الحاجات المشتركة مع بقية البشر. إن ما يقصده مونتسكيو بروح الشرائع هو «تكييف وتعديل أهداف وتعاليم العقل على ضوء الروح العامة لكل أمة»، ولذلك يستمر في رؤية كل ما هو سياسي، وحق، وتشريع كعناصر أساسية في وجود كل مجتمع.
وبعد أن يصنّف شكل الحكومات، يتكلم مونتسكيو عن طبيعتها، أي توزيع السلطة بين المؤسسات، ومن ثم عن مبدئها. ويقول بأن أشكال الحكومات غير الطغيانية القائمة على مبدأ آخر غير الخوف لم تزدهر إلا في أوروبا الغربية تحت شكلين مختلفين: أولهما هو جمهورية المدينة، مثل البولس Polis الأثينية، وبعض الجمهوريات الحديثة كفينيسيا، وثانيهما هو المَلَكية الإقطاعية. وفي حين أن مبدأ الملكية هو الشرف، فإن مبدأ الجمهورية هو الفضيلة. وهي ليست الفضيلة الأخلاقية أو الدينية، بل فضيلة الوطنية المتحمّسة التي حثّت المواطنين على إخضاع طاقاتهم الأنانية لروح الأخوة الزاهدة، والعادلة. ويمتدح مونتسكيو، كثيراً، عظمة هذه الفضيلة، والحرية، والأمن، والمساواة الناجمة عنها.
ويستنتج بأن الدستور الإنكليزي، والنظام التجاري الإنكليزي، هما الوحيدان الصالحان. وأن إنكلترا هي الأمة الأولى والوحيدة في التاريخ المهيأة للحرية. وهي ليست حرية المشاركة في السلطة، بقدر ما هي توفير الأمن لكل مواطن، في حياته الشخصية والعائلية وبحثه عن الأملاك المادية، بمنأى عن كل استغلال أو تهديد. ويعتبر بأن «الروح التجارية» تحمل في طيّاتها الزهد، والاقتصاد، والاعتدال، والعمل، والحكمة، والهدوء، والنظام، وأنها تنتج لدى الناس شعوراً بالعدالة الحق.
ويحاول مونتسكيو من خلال دراسته للدستور الإنكليزي توضيح السياق الدستوري الذي ينتج حداً أقصى من الحرية. وهذه الحرية لا تتحقق إلا عندما يقوم النظام السياسي في الدولة على أساس الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. وإلا إذا ما تجمعت هذه السلطات كلها في إرادة واحدة، فردية أو جماعية، فإن مصير الحرية سيكون إلى التلاشي والزوال[13].
2. فولتير VOLTAIRE[14].
يعتبر فولتير من أهم مفكري عصر الأنوار، ومن أكثرهم شهرة عالمية. وهو يعكس في كتاباته تلك الحركة التحررية التي تميّز بها ذلك العصر، والتي حاولت، أساساً، تحرير العقل الإنساني من التطير، وبشكل خاص من الخرافات الدينية، واستخدام هذا العقل المتحرر في الإصلاحات السياسية والاجتماعية.
يعالج فولتير في كتاباته «الرسائل الفلسفية» و«المعجم الفلسفي» و «تعليقات على روح الشرائع»، مسائل أساسية تتناول الدين، والسلطة، والثروة، والملكية، والإصلاحات الهادفة لصيانة حقوق الإنسان.
وهو، بالنسبة للدين، يهاجم الخرافات والتعصّب. وعداؤه لرجال الدين شديد جداً. إلا أنه لا يصل إلى درجة الإلحاد الواضح. إذ أنه يقر بأنه «يجب أن يكون للمرء دين وأن لا يصدق الكهنة»، ويعترف بأن لديه أرضية دينية أصيلة تنطلق من الإيمان «بالله الذي يحسّ به الفكر لا القلب». ويعتبر فولتير بأن الكفاح الحقيقي هو ذلك الذي يكون من أجل الحسّ العام، إذ «يجب على الإنسان أن يريق دمه من أجل خدمة أصدقائه والانتقام من أعدائه، ومن غير ذلك لا يستحق المرء أن يسمّى إنساناً».
وبما أنه كان يعتبر إنكلترا مرآة للحرية، فإنه رأى بأن «الحرية والملكية هي صرخة الطبيعة»، وامتدح بقوة الدستور الإنكليزي، وطالب بسلطة قوية مركزية من أجل تأسيس الحرية. وأكّد فولتير بأن المظالم التي يتعرض لها الناس ليست من صنع الحكومة، وإنما من صنع الهيئات الحاكمة باسمها مثل القضاة والنبلاء وغيرهم.
وبسبب أصوله الغنية، امتدح فولتير الترف والثروة، وأعتبر أن المساواة هي في الوقت نفسه الأمر الأكثر طبيعية والأكثر وهمية. ولا بد، في رأيه، من وجود طبقات مختلفة، ومن توجيه العلم للبرجوازيين فقط، لأنه «عندما يخوض الرعاع في التفكير، فإن كل شيء مآله للضياع».
لكن هذا كله لم يمنع فولتير من المناداة بالإصلاحات بصوت عال. وهذه الإصلاحات يجب أن تكون إدارية ومدنية. وأن توجه لخدمة حقوق الإنسان، مثل منع التوقيف التعسفي، وإلغاء التعذيب، وعقوبة الإعدام، وضمان حرية الفكر والتعبير، ووحدة التشريع، وتناسب العقوبة مع الجريمة، وتحصيل أفضل للضرائب، وإلغاء بعض الحقوق الإقطاعية وغيرها[15].
إن حقوق الإنسان هي «حرية الإنسان الكاملة في شخصيته وأملاكه، ومخاطبة الأمة بواسطة قلمه، وألا يحاكم إلا من قبل هيئة قضائية مكوّنة من أشخاص مستقلين، وألا يصدر عليه أي حكم إلا بحسب النصوص الدقيقة للقانون، وأن يمارس، بسلام، الدين الذي يشاء».
فولتير الذي يربط بين الفكر والعمل يعتبر بأن مشكلة الحرية ليست فقط نظرية، وإنما هي قبل كل شيء عملية. فأن تكون حراً يعني أن تعرف حقوق الإنسان، وأن تعرف هذه الحقوق يعني أن تدافع عنها. من هنا، فإن حرية الفكر والكتابة، أي وسائل الدفاع عن هذه الحقوق، هي أولى هذه الحريات، وأن أول مرحلة في عملية تحرير الإنسان يجب أن تقتصر على اعتبار هذه الحقوق ثابتة وغير قابلة للتنازل[16].
ج. أنصار الحرية الاقتصادية.
شملت نظرية الحرية الاقتصادية القارتين الأوروبية والأميركية، وكانت بداية لبروز النظام الاقتصادي الليبرالي القائم على حرية المنافسة، والمبادرة الفردية، والخضوع لقوانين السوق المتمثلة في العرض والطلب.
ويمكن تقسيم القائلين بهذه النظرية إلى قسمين: أنصار المدرسة الفيزيوقراطية، وأتباع المدرسة التقليدية.
أولاً: الفيزيوقراطيون Les physiocrates.
يعتبر الفيزيوقراطيون من أوائل الاقتصاديين الذين اقترحوا نظرة شاملة للاقتصاد انطلاقا من إيمانهم بالطبيعة والقوانين الطبيعية. وقد احتل رواد هذه المدرسة من أمثال فرنسوا كيناي Quesnay (1694-1774)، وفيكتور ريكاتي Riquetti، والمركيز دو ميرابو (1715 – 1789) مكاناً متميزاً جعل كثير من الاقتصاديين اللاحقين يعتبرهم بأنهم قد فتحوا الطريق أمام المدرسة التقليدية أو الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي، وحتى أمام الماركسية، بفضل تحليلهم للإنتاج والتوزيع في الاقتصاد الرأسمالي، وتوضيحهم لمعنى فائض القيمة. وتحتل الأرض مركزاً أساسياً في تفكيرهم باعتبارها المصدر الوحيد للثروة. وهم ينكرون بأن تكون التجارة والصناعة مصدراً لإنتاج القيم الجديدة، لأن دور هذه القطاعات يقتصر فقط على تحويل القيم المنتجة زراعياً.
والعمل، برأيهم، لا ينتج أية قيمة لوحده. وحتى العمل الزراعي فإنه لا ينتج قيمة إلا بمقدار ما يطبق على الأرض.
ويهتم الفيزيوقراطيون بالحقوق الاقتصادية، وخاصة بحق المُلكية، لأن النظام الأساسي للمجتمعات لا يقوم إلا على الملكية. ولذا يجب أن تكون هذه الملكية حصرية، وإلا فإنها تفقد صفتها.
كذلك، فإن السوق، والفردية هما أساس الحياة الاقتصادية.
والمُلكية العقارية الخاصة، والمطلقة، هي الشكل الصحيح للملكية. وعلى الدولة أن يحكمها الملاكون العقاريون. ويتطلب نظام المُلكية الاقتصادية هذا تحرير الأرض من الضريبة، وكذلك تحرير العمل منها، إذ لا يجب أن تفرض هذه الضريبة إلا على فائض القيمة أو الربح الصافي. لأن كل ضريبة مفرطة على الثروة الزراعية تضعف الاقتصاد بمجموعه.
وبما أنهم يحلمون برأسمالية زراعية، فإن الشرط الأساسي لوجود هذه الرأسمالية هو الحرية. و«الاستبداد القانوني»، أو الحكومة المطلقة هي النموذج المطلوب لتحقيق هذه الرأسمالية على أن تكون حكومة لاتدخلية. وهذه النقطة تميّز الفيزيوقراطيون عن الاقتصاديين السياسيين التقليديين الذين يعتبرون بأن التنمية الاقتصادية، وحماية الملكية الخاصة يتطلبان نظاماً تمثيلياً يعكس ويطور حرية السوق.
وانطلاقا من لاتدخلية الحكومة طرح الفيزيوقراطيون شعارهم المعروف: «Laissez faire, Laissez passer دعه يعمل، دعه يمرّ. أطلقوا حرية العمل، أطلقوا حرية المرور والانتقال»[17].
وقبل اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى في عام 1789، سيناضل الفيزيوقراطيون من أجل حرية تجارة الحبوب، وإلغاء القيود على حرية السوق في عام 1760. كما أن عقيدتهم سوف تتطور بين 1770 و1780 إلى دفاع واسع عن الملكية الخاصة، والفردية الاقتصادية، والإصلاحات السياسية.
وقد كان «لهذه المدرسة تأثير كبير في أواخر القرن الثامن عشر، ومن نتائج هذه والنظرية إلغاء الحواجز الجمركية في داخل البلاد، والسماح بنقل الغلال بحرية، وإلغاء الجمعيات الحرفية، والأخذ بمبدأ حرية العمل. هذا، وقد أثّرت فكرة الناتج الصافي على التشريع الضرائبي في عهد الثورة الفرنسية ففرضت نصف أعباء الضريبة على الملكية العقارية»[18].
ثانياً: المدرسة التقليدية L'école classique.
عديدة هي، في الواقع، الأسماء اللامعة في هذه المدرسة الاقتصادية الكبرى التي وجدت أنصاراً لها في مختلف أنحاء القارة الأوروبية. لكن، وبما أن مؤسسيها ينتمون لإنكلترا، فإننا سنقصر دراستنا، هنا، على أفكار رائدين كبيرين من الذين أرسوا دعائمها في عالم التفكير الاقتصادي، وهما آدم سميث، وجون ستيوارت مِل.
1. آدم سميث Adam SMITH[19].
كغيره من أقطاب الفكر الاقتصادي في عصره، دخل سميث إلى هذا الميدان من باب الفلسفة. وقد حقّق له كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» ما يكفي من الشهرة لكي يصبح أستاذاً للمنطق، ومن ثم للفلسفة في جامعة غلاسكو. إذن، هو قبل كل شيء، فيلسوف يستخدم آراءه الأخلاقية والقانونية لمعالجة مسائل الاقتصاد السياسي. ولذا، سيحاول في كتابه «أبحاث في طبيعة وثروة الأمم» إيجاد نموذج معياري، وتفسيري للسلوك الإنساني في الميادين الاقتصادية انطلاقا من نظام «الحرية الطبيعية، والعدالة التامة، والبرهان على أن المنافسة، والبحث عن المنفعة الشخصية يمكن أن يسمحا بخلق نظام اجتماعي متناسق. فهناك انسجام تام بين مختلف المصالح الفردية وبين المصلحة العامة. ومع أن المنتج، كما يقول، لا ينظر إلا إلى ربحه الخاص، فإن يداً خفية تدفعه دفعاً، ومن حيث لا يعلم، إلى الهدف الأسمى الذي يتلاءم مع المصلحة العامة»[20].
وبرأيه، أن ثروة الأمم تدافع عن حرية التجارة والمنافسة على المستويين الوطني والدولي، وترفض بعنف القيود التجارية، والامتيازات الاقتصادية والاحتكارية.
وبالتعارض مع بعض الطروحات المتطرفة للفردية التي ستنمو لاحقاً، يلحّ سميث على الشروط المؤسساتية الضرورية كي يستطيع كامل المجتمع الاستفادة من التقدم الاقتصادي على مختلف الصعد الأخلاقية، والسياسية، والمادية.
سميث كان قد تأثر بآراء فلاسفة عصر الأنوار، ولاسيما بآراء صديقه دافيد هيوم. وهو، كهذا الأخير، يرفض الفكرة القائلة بأن العقد الاجتماعي يشكل أساس الدولة. فالدولة، بالنسبة له، ترتكز على استعدادات بسيكولوجية، واجتماعية، وخاصة عادة احترام السلطة القائمة، ونوع من حسّ المنفعة لأشكال الحكم الموجودة.
وبما أن سميث «يؤمن بالحرية الاقتصادية، فإنه لا يسمح بتدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، ويعتبر هذا التدخل ضاراً بالمصلحة العامة»[21].
والحرية عند سميث، كما عند هيوم، هي مفهوم قانوني يرتكز على الحق بالأمن الشخصي، وعلى حقوق المُلكية في دولة دستورية، حيث تقتصر العدالة على عدم الإضرار بحقوق الآخرين. ومهمة العاهل هي الدفاع عن المملكة، والعدالة، لأن ضغط المصالح الخاصة هو في أساس الإضرار بمبدأ العدالة. لكن، وبالرغم من حصر مهمة الدولة في تأمين العدالة بشكل صحيح، فإن سميث يعتبر بأن على الحكومة مسؤولية هامة في ما يختص بالتربية، وواجب التدخل في بعض ميادين النشاط الاقتصادي التي لا يمكن تركها للقطاع الخاص.
واهتمام الدولة بالتربية يجب أن يكون كبيراً لمواجهة الآثار السلبية الناجمة عن تقسيم العمل على أساس القدرات العقلية، والاجتماعية، والسياسة للناس. ويقدّر سميث أن على المؤسسات توجيه الطاقات، وفرض احترام المصلحة العامة لأن الطبيعة الإنسانية تنحو إلى الأنانية والسيطرة عندما تسنح لها الفرصة بذلك. من هنا، فإن على القانون مراقبة التصرفات الاجتماعية، وضمان التناغم بين المصالح الخاصة والعامة.
2. جون ستيوارت مِل Jhon Stuart – Mill[22].
يلتقي جون ستيوارت مِل مع آدم سميث في كونه، أيضاً، فيلسوفاً واقتصاديا في الآن نفسه.
ومنذ السادسة عشرة من عمره أقحم مِل نفسه في المناقشات الفلسفية، والسياسية، والاقتصادية، وأخذ في أحيان كثيرة مواقف متطرفة، كمثل توزيعه لمنشور يطالب بتحديد النسل في أحياء لندن العمالية، مما أدّى به إلى دخول السجن لليلة واحدة.
وبسبب خضوعه لنظام تربوي قاسٍ من قبل والده، الذي كان اقتصاديا، وجيرمي بنتام، صديق الوالد، حيث أجبر مِل على دراسة النظريات الاقتصادية والإلمام بقسط وافر من الثقافة العامة التي كانت سائدة في عصره، وهو لم يزل بعد في الثامنة عشرة من العمر، فقد انتقد بشدّة هذا النظام التربوي، وأعتبره بأنه يركز كثيراً على تنمية الفكر التحليلي، دون أخذ المواقف الانفعالية أو العاطفية بعين الاعتبار.
أفكار مِل الفلسفية توزعت في عدة مجالات. فهو، وتحت تأثير الكاتب الفرنسي الكسي دي توكفيل، توصّل للاقتناع بأنه يجب المحافظة على تعارض الأفكار والآراء في المجتمع.
وللحفاظ على حقوق الأقليات، فقد طالب مِل بوجود نظام تمثيل نسبي.
ودافع عن حقوق المرأة الاجتماعية والانتخابية، وأعتبر أن استبعاد النساء من المشاركة في الحياة السياسية هو بلا معنى، لأن كل الناس يجب أن يتمتعوا بحق التصويت من أجل تشجيعهم على المساهمة في الحياة الاجتماعية.
كما دافع عن استقلالية الموظفين في أعمالهم، وطالب بوجود برلمان لا تقتصر وظيفته، فقط، على وضع التشريعات أو تعديلها، بل أن يتضمّن هذا البرلمان لجان متخصصة تكون مهمتها تحضير كل ما هو ضروري من مشاريع القوانين.
ورأى أن الحياة السياسية السليمة تكون بالتوفيق بين أمرين: تحقيق أوسع مشاركة اجتماعية وقيام حكومة تقدمية من جهة، والاحتفاظ للنخبة الثقافية والأخلاقية بتأثير كبير على كامل المجتمع من جهة ثانية.
وفي كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي» رفض مِل الرأسمالية، وبدا مؤيداً للاشتراكية. ففي النظام الرأسمالي، كما يقول، لا يقوم العمال بحكم أنفسهم، فضلاً عن أن الانقسام بين الملاكين والعمال لا يسمح بقيام الديمقراطية السياسية. ولذا، فإنه يطالب بوجود اقتصاد تنافسي تكون فيه المصانع ملكاً للعمال.
وبانتظار تحقيق الاشتراكية، طالب مِل بجعل المُلكية أكثر قبولاً عن طريق إدخال حقوق على الميراث، ومنع الملاكين العقاريين من قطف ثمار جهد عمالهم.
مِل كان مأخوذاً بفكرة الدفاع عن الحرية في مجتمع ديمقراطي. وهو يعتبر الحرية بأنها الشرط الرئيس للسعادة، لأن السعادة تفترض تنمية الشخصية، الأمر الذي لا يمكن أن يتم بدون حرية: لأن الحرية هي وجه من وجوه السعادة، وهي شرط أساسي للبحث عن أشكال أخرى من السعادة.
ودافع مِل «عن مبدأ الحرية الفردية، وأعتبره الدعامة الأولى للنظام الاجتماعي».
كما دافع عن مبدأ المنافسة الحرة، وأخذ بقاعدة عدم التدخل وترك الأمور على سجيتها، ولكنه ترك، مع ذلك، مجالاً لبعض الاستثناءات التي لا بد منها، والتي لا بد من التسليم فيها، في الحالات التالية:
1. التعليم، وجعله إلزامياً على الآباء، دون الأخذ بمبدأ احتكار الدولة للتعليم.
2. حماية الأطفال، والشباب، وكل ما يتعلق بالأخلاق العامة.
3. مد يد المساعدة للضعفاء والفقراء.
4. الاستعمار وهو يتعلق، في نظره، بالحضارة الإنسانية.
5. قيام الدولة مباشرة ببعض المشاريع والأعمال التي يقصّر فيها الأفراد، أو يعرضون عنها إما لعدم ميلهم إليها، أو لعدم تأمينها للربح المادي المطلوب[23].










قديم 2012-08-05, 11:50   رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
نور الفجر02
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية نور الفجر02
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم اين يقام ماجستير حقوق الانسان ممكن تفيدوني بالولاية










قديم 2012-08-05, 18:42   رقم المشاركة : 29
معلومات العضو
شهد حنان
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية شهد حنان
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

في ولاية ورقلة اختي










قديم 2012-08-05, 18:52   رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
maouia
عضو نشيط
 
إحصائية العضو










افتراضي

كاش توقعات انتاع اسئلة في مجال حقوق الانسان و الحريات العامة ؟؟؟؟؟؟ظ










 

الكلمات الدلالية (Tags)
لماجستير, مراجعة, الانسان, جماعية, حقوق


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 12:22

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc