شرح حديث (إن لله ما أخذ وله ما أعطى..)من رياض الصالحين للعثيمين رحمه الله
===============================================
عن أبي زيد اسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه وابن حبه، رضي الله عنهما ، قال: أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم : إن ابني قد احتضر فاشهدنا، فأرسل يقري السلام ويقول: (( إن الله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب)) فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتيها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فرفع إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم الصبي فأقعده في حجره ونفسه تقعقع، ففاضت عيناهن فقال سعد: يا رسول الله ما هذا ؟ فقال: (( هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده)) وفي رواية: في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء))(115) ( متفق عليه).
ومعنى: (( تقعقع)) تتحرك وتضطرب.
الشــــرح
قال المؤلف - رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي زيد اسامة بن زيد بن حارثة- رضي الله عنهما_، وزيد بن حارثة كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عبداً، فأهدته إليه خديجة- رضي الله عنها- فأعتقه ، فصار مولى له، وكان يلقب بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي حبيبيه، وابنه أيضاً حب، فأسامة حبه وابن حبه رضي الله عنهما، ذكر أن إحدي بنات الرسول صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه رسولا، تقول له إن ابنها قد احتضر، أي: حضره الموت. وأنها تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر، فبلغ الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (( مرها فلتصبر ولتحتسب ،فإن لله ما أخذ وله ما أعطي، وكل شيء عنده بأجل مسمي)).
أمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي أرسلته ابنته أن يأمر ابنته- أم هذا الصبي- بهذه الكلمات:
قال: (( فلتصبر))أي: تحتسب الأجر على الله بصبرها؛ لأن من الناس من يصبر ولا يحتسب، يصبر على المعصية ولا يتضجر ، لكنه ما يؤمل أجرها على الله فيفوته بذلك خير كثير ، لكن إذا صبر واحتسب الأجر على الله، يعني: أراد بصبره أن يثيبه الله ويأجره، فهذا هو الاحتساب (( مرها فلتصبر)) يعني على هذه المصيبة (( ولتحتسب)) أجرها على الله عز وجل. قوله: (( فإن لله ما أخذ وله ما أعطي)) هذه الجملة عظيمة؛ إذا كان الشيء كله لله، إن أخذ منك شيئاً فهو ملكه، وإن اعطاك شيئاً فهو ملكه ، فكيف تسخط إذا أخذ منك ما يملكه هو؟
عليك إذا أخذ لله منك شيئا محبوباً لك؛ أن تقول : هذا لله، له أن يأخذ ما شاء الله، وله أن يعطي ما شاء.
ولهذا يسن للإنسان إذا أصيب بمصيبة أن يقول (( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) يعني: نحن ملك لله يفعل بنا ما يشاء ، وكذلك ما نحبه إذا أخذه من بين أيدينا فهو له- عز وجل- له ما أخذ وله أعطي ، حتى الذي يعطيك أنت لا تملكه، هو لله، ولهذا لا يمكن أن تتصرف فيما أعطاك الله إلا على الوجه الذي أذن لك فيه؛ وهذا دليل على أن ملكنا لما يعطينا الله ملك قاصر، ما نتصرف فيه تصرفا مطلقاً، فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ماله تصرفاً مطلقا على وجه لم يأذن به الشرع قلنا له أمسك، لا يمكن ؛ لأن المال مال الله، فلا تتصرف فيه إلا على الوجه الذي أذن لك فيه.
ولهذا قال: (( ولله ما أخذ وله ما أعطى)) فإذا كان لله ما أخذ، فكيف نجزع؟ كيف نتسخط أن يأخذ المالك ما ملك سبحانه وتعالى؟ هذا خلاف المعقول وخلاف المنقول!
قال: (( وكل شيء عنده بأجل مسمى)) كل شيء عنده بمقدار ، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم ( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) الرعد: الآية. بمقدار في زمانه ، ومكانه، وذاته، وصفاته، وكل ما يتعلق به فهو عند الله مقدر.
(( بأجل مسمى)) أي: معين ، فإذا أيقنت بهذا؛ إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ اقتنعت . وهذه الجملة الأخيرة تعني أن الإنسان لا يمكن أن يغير المكتوب المؤجل لا بتقديم ولا بتأخير ، كما قال الله ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) يونس: الآية49.، فإذا كان الشيء مقدراً لا يتقدم ولا يتأخر ؛ فلا فائدة من الجزع والتسخط؛ لأنه وإن جزعت أو تسخطت لن تغير شيئاً من المقدور.
ثم إن الرسول أبلغ بنت النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يبلغه إياها ، ولكنها أرسلت إليه تطلب أن يحضر، فقام عليه الصلاة والسلام هو وجماعة من أصحابه ، فوصل إليها ، فرفع إليه الصبي ونفسه تتقعقع؛ أي تضطرب، تصعد وتنزل، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام ودمعت عيناه. فقال سعد بن عباده وكان معه- هو سيد الحرج- ما هذا ؟ ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم بكى جزعاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (( هذه رحمة)) أي بكت رحمة بالصبي لا جوعاً بالمقدور.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (( إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) ففي هذا دليل على جواز البكاء رحمة بالمصاب.
إذا رأيت مصاباً في عقله أو بدنه، فبكت رحمة به، فهذا دليل على أن الله تعالى جعل في قلبك رحمة، وإذا جعل الله في قلب الإنسان رحمه كان من الرحماء الذين رحمهم الله عز وجل.نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته.
ففي هذا الحديث دليل على وجوب الصبر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (( مرها فلتصبر ولتحتسب)).
وفيه دليل أيضاً على أن هذه الصيغة من العزاء أفضل صيغة، أفضل من قوله بعض الناس: (( أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك ، وغفر لميتك)) هذه صيغة أختارها بعض العلماء، لكن الصيغة التي اختارها الرسول عليه الصلاة والسلام(( اصبر واحتسب ، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)) أفضل؛ لأن المصاب إذا سمعها اقتنع أكثر.
والتعزية في الحقيقة ليست تهنئه كما ظنها بعض العوام، يحتفل بها، وتوضع لها الكراسي، وتوقد لها الشموع، ويحضر لها القراء والأطعمة، بل هي تسلية وتقوية للمصاب أن يصبر ، ولهذا لو أن أحداً لم يصب بالمصيبة، كما لو مات له ابن عم ولم يهتم به؛ فإنه لا يعزي، ولهذا قال العلماء رحمهم الله (( تسن تعزية المصاب)) ولم يقولوا تسن تعزية القريب، لأن القريب ربما لا يصاب بموت قريبه، والبعيد يصاب لقوة صداقة بينهما مثلاً.
فالتعزية للمصاب لا للقريب. أما الآن- مع الأسف- انقلبت الموازين وصارت التعزية للقريب، حتى وإن كان قد فرح وضرب الطبول لموت قريبه فإنه يعزي ،ربما يكون بعض الناس فقيراً، وبينه وبين ابن عمه في هذه الحال أو يصاب؟ غالبا يفرح، ويقول: الحمد لله الذي خلصني من مشاكلة ورثني ماله! فهذا لا يعزي، هذا يهنأ لو أردنا أن نقول شيئاً.
والمهم أنه يجب أن نعلم أن التعازي إنما هي لتقوية المصاب على الصبر وتسليته، فيختار لها من الكلمات أفضل ما يكون وأقرب ما يكون للتعزية، ولا أحسن من الكلمات التي صاغها نبينا صلى الله عليه وسلم . والله الموفق.
___________________
من كتاب شرح رياض الصالحين للشيخ العثيمين رحمه الله.