نظرية القانون الطبيعي
أ) في مفهوم القانون الطبيعي.
تنطلق نظرية القانون الطبيعي من فكرة بسيطة مؤداها أن ليس هناك نظام بدون قانون، لأن غياب النظام وبالتالي القانون الناجم عنه يعني وقوع الناس في تيه عميق، فلا يعودون يعرفون كيف يتصرفون، أو لماذا يتصرفون بشكل معين دون الآخر.
فالنظام، الذي يخلق بالضرورة علاقات منظمة، هو حاجة ملحّة للحياة الاجتماعية بمختلف أشكالها ومستوياتها. وعلى هذا الأساس يكون لكل مجموعة إنسانية ـ مهما كانت درجة بدائيتها ـ نظمها أو قوانينها الخاصة التي هي في أصل بقائها واستمرارها.
ويعتبر الإنسان البدائي قانونه مقدساً. وهذا القانون الذي لا يجوز لأحد أن ينتهكه أو يتحداه ليس من صنع الزعيم أو المشرع، أو القاضي، وإنما من صنع الأزل[1]. وإذا ما قام هذا الإنسان البدائي بانتهاك القانون، فإنه لا يمكن أن يصل إطلاقاً إلى درجة الشك بشرعيته، لأنه يعتبره قانون حياته، وقانون وجوده، والمعبِّر عما يجول في خاطره.
وتتمثل سمات هذا القانون، الذي هو هبة للإنسان مثل الأرض التي يعيش عليها، في عدة أمور:
1ً- أن ليس له شكل القانون المدوّن أو المكتوب.
2ً- أنه لا يمكن حصر أحكامه في أنماط واضحة.
3ً- أنه يمكن أن يتغيّر عن وسط اجتماعي لآخر.
4ً- أنه في أساس القواعد التي يتضمنها القانون الوضعي[2].
وبما أن هذا القانون الطبيعي يتمتع بحرية تصل إلى حدود القداسة، فإن من المتعارف عليه هو خضوع جميع الناس له حكاماً كانوا أم محكومين، لأنه قانون الجماعة، وليس قانون الحاكم[3].
وباعتبار أن القانون الطبيعي يعلو على الحاكم الذي لا يستطيع تغييره أو الخروج عليه، فإن كل أمر يخالفه يكون باطلاً[4]، لأن القوة التي يتمتّع بها هذا القانون مستمدّة من الله أو من الجماعة، ولها قداستها المطلقة، ولا سلطة للحاكم عليها مهما كان حكمه استبداديا[5].
بيد أن هذه الإطلاقية تخضع للواجبات العامة التي يفرضها النظام الأخلاقي، والتي يمكن الدلالة على بعض مكوِّناتها كما يلي:
1. أن القانون الأخلاقي يرفض رفضاً تاماً أي استخدام تعسفي للحياة، لأن هذه الحياة تعطى لنا من أجل هدف محدّد، ولذا يجب الحفاظ عليها لبلوغ هذا الهدف الذي هو في النهاية الخضوع لمجموع الواجبات.
2. أن الإنسان لا يكون كائناً أخلاقياً ولا يستطيع، بالتالي، تحقيق هدف وجوده إلا بشرط العمل، والعيش بذاته، وأن يكون الصانع الحقيقي والفعلي لأعماله، وعندها يصبح من واجبه الدفاع عن حريته الشخصية مثلما يدافع عن حياته، وأن يقاوم كل إرغام خارجي، وألا يخضع في النهاية إلا لصوت ضميره.
3. أنه لا يمكن وعي الحرية بدون العقل. فالفكر غير الواعي يمكن أن يؤدي إلى الكثير من الشطط والانحراف في سلوكنا. ولذا، فإن علينا محاسبة أنفسنا على المبادئ التي تحكم وتسيّر سلوكنا. فالعقل لم يعطَ لنا بدون سبب، وله غاية سامية كغاية الحياة نفسها.
إن هذه الواجبات البديهية والإجبارية تؤدي إلى حقوق مشتركة بين كل الناس. فواجب المحافظة على الذات، والاستخدام العام لوجودنا يؤدي إلى نتيجة ضرورية هي عدم انتهاك الحياة الإنسانية، وبالتالي إلى حرية التمتع بهذه الحياة كما يحلو لنا بشرط احترام القواعد العامة للنظام، أي للحرية الفردية.
وهذه الأخيرة تتضمن بدورها الحق بالتصرف بالأشياء التي امتلكناها عن طريق العمل بالشكل الذي نراه ملائماً. وهكذا يتكرّس حق الملكية الخاصة بنفس طريقة تكريس الحرية الفردية، واحترام الحياة الإنسانية.
كذلك فإن الواجب الذي يأمرنا بالحفاظ دائماً على حرية خيارنا، أي أن نكون أشخاصاً أخلاقيين لا يعملون إلا بحسب قناعاتهم، يعطينا حرية أساسية هي حرية الضمير.
وعلى حرية الضمير يرتكز وجودنا الأخلاقي الذي هو الشرط العام لكل حقوقنا وواجباتنا، وهي حرية تحمل في طياتها الاحترام لكرامة الآخرين، ومعتقداتهم، وآرائهم.
وأخيراً، فإن حرية التفكير تنبع من الواجب الذي يأمرنا بالبحث عن الحقيقة بكل طاقات ذكائنا. وبما أن التفكير، بحد ذاته، هو حر، وأن ليس هناك من قوة رادعة تمنع الإنسان من أن يفكر على هواه، فإن هذه الحرية مقدسة، مثل الحياة، ولا يمكن التنازل عنها.
هذه الحريات أو الحقوق هي شاملة كالواجبات طبيعياً. عنها، مما يعني بأن كل الناس متساوين أمام القانون الأخلاقي، بالرغم من عدم المساواة في طبيعتهم الجسدية وقواهم. وهي مجتمعة تشكل حقوقاً طبيعية أو قانوناً طبيعياً.
وإذا كان القانون الأخلاقي هو علم واجباتنا، فإن القانون الطبيعي هو علم حقوقنا الشخصية. وفكرة القانون الطبيعي ليست جديدة. فهي قد ظهرت في كتابات فلاسفة اليونان من أمثال أفلاطون، وأرسطو، وأبيقور. وتحدثت عنها مدارسهم الفكرية مثل المدرسة الأبيقورية، والرواقية. وهذه الفكرة تبدو أكثر وضوحاً في كتابات الرواقيين، ولاسيّما المتأخرين منهم من أمثال شيشرون، المفكر والخطيب الروماني المشهور (106 – 143 ق.م). وقد ركّز الرواقيون في أحاديثهم عن القانون الطبيعي على وجود «قانون عام للكون، وهو قانون عقلي مسيطر على الآلهة وعلى الناس جميعاً، وهو أعلى من المواصفات الاجتماعية ومن قوانين المدينة»[6]. واهتموا بالإنسان ورأوا أن أهم ما فيه «هو النفس، وأهم ما في النفس العقل الذي هو مصدر التصوّرات ومصدر الإرادة»[7]، وطالبوا بالحياة وفقاً «للطبيعة العاقلة» التي هي الخير المطلق. وعلى غرار المدرسة الرواقية، يتحدث شيشرون عن القانون الطبيعي الذي يعتبر أن مصدره هو العقل الكوني، ويرى بأن القانون الطبيعي «واحد، مطلق، وعام، وأبدي، وهو بديهي واضح بذاته، ولا يحتاج المرء من أجل إدراكه إلا أن يعمل ذهنه ليلقاه أمامه. والقانون الذي هو بهذه الصفات يعلو على كل تشريع آخر، وليس لأي تشريع آخر أن يعطّل أحكام القانون الطبيعي الأعلى، ولا لأي حاكم أن يناقضه. هذا القانون الطبيعي العام الإلهي يجعل من البشر متساوين في ما بينهم ويجعلهم مواطنين على نفس المستوى الواحد، وخاضعين جميعاً لنفس المثل الأخلاقية»[8].
هذه الأفكار التي طرحها شيشرون، والمدرسة الرواقية من قبله ستؤسس لظهور مدرسة القانون الطبيعي التي ستحتل مكانة كبرى في كتابات المفكرين، والمؤرخين، ورجال القانون، في عصري النهضة والأنوار.
في الواقع، أن البداية الفعلية لقيام مدرسة الحق الطبيعي ستكون مع عصر النهضة الذي سيشكل منعطفاً كبيراً في التاريخ الأوروبي، على عدة صعد.
فمن جهة، ستساعد الحركات الدينية الإصلاحية، وعلى رأسها البروتستانتية، في تكريس وجود الفرد كموضوع مستقل بحد ذاته.
ومن جهة ثانية، سوف يسمح الانفصال بين الكنيسة والدولة للفرد بالدفاع عن نفسه بوجه هيمنة رجال الدين، وتسلط النظام السياسي.
وسيلعب بعض علماء اللاهوت الأسبان كفيتوريا وسواريس دوراً مباشراً وفعالاً في تكريس نظرية الحقوق الذاتية الملازمة للطبيعة البشرية والتي لا يمكن فصلها عنها. كما سيقوم هذان المفكران بوضع المبادئ الأولى للقانون الدولي، ولعقيدة حقوق الإنسان.
ويعتبر فيتوريا (1480-1546) أن العقل هو ميزة الإنسان الأولى، وأن البشر مضطرون للتفاهم حول بعض مبادئ القانون التي يمليها العقل. وبما أن العقل هو الذي يفرض هذه المبادئ أو القواعد، فهذا يعني أنها كونية وغير قابلة للإلغاء.
وبطريقة مماثلة سيقول سواريس SUAREZ (1548 – 1617) أنه إذا كان الحق الطبيعي قد تكون عن طريق القوانين الطبيعية الناجمة عن إرادة الله، فإن هذه القوانين لا يمكن أن تدرك إلا عن طريق العقل الذي وضعه الله في الإنسان، والذي يشكل جزءاً أساسياً من الطبيعة البشرية.
كذلك سيحدث هذان المفكران شرخاً في اللاهوت الكاثوليكي السائد آنذاك، عندما سيعترفان بالمساواة في الحقوق بين المسيحيين وغير المسيحيين، وذلك في مرحلة اكتشاف القارة الأميركية أو العالم الجديد. وسيقوم فيتوريا VITORIA بالدفاع عن الحقوق الطبيعية للهنود بوجه المستعمرين الأسبان، وسيقول أنهم، بَشر، وبالرغم من وثنيتهم، يمتلكون نفس حقوق وكرامة الإنسان. أي أن القول بفكرة جماعة عالمية مؤسسة، ليس فقط على الإيمان، وإنما أيضاً على الانتماء إلى الطبيعة والكرامة الإنسانية، أعطت حقوق الإنسان طابعها الكوني الحقيقي.
إن محاولات التجديد اللاهوتي الإسباني هذه لن تذهب سدى، بل سيكون لها وقع كبير في هولندا، وفي الجامعات الألمانية من خلال مفكرين كبيرين هما غروتيوس وبوفندورف[9].
1. غروتيوس GROTIUS[10].
بدا غروتيوس، ومنذ مؤلفاته الأولى، كبرجوازي هولندي واعٍ لمصالح بلاده التجارية التي كانت قد بدأت تأخذ منذ مطلع القرن السابع عشر، شكلاً «عالمياً» يتميّز بالتطلع نحو أسواق الشرق البعيدة، وخاصة الهند، كمصدر للعديد من السلع الهامة للتجارة الأوروبية. فكي يبرّر للهولنديين، وخاصة لشركة الهند الشرقية تصرفاتها تجاه منافستها البرتغال، التي كانت تمتلك، أيضاً، أسطولاً تجارياً كبيراً، سيقوم غروتيوس،كمحام ورجل قانون، بوضع دراسات قانونية عن حرية الملاحة، والتجارة، وحق المصادرة، وغيرها من الدراسات التي ستلعب دوراً بارزاً في إرساء قواعد القانون الدولي العام.
إلا أن أهم مؤلفاته على الإطلاق يبقى «قانون الحرب والسلم» الذي سيضمّنه نظريته في القانون الطبيعي. وهذا الكتاب هو دراسة مفصّلة في القانون الدولي تتناول القضايا العامة التي كانت تطرحها آنذاك العلاقات المتزايدة، والمتشابكة أكثر فأكثر بين الدول، وذلك انطلاقا من نظريتين: نظرية القانون، ونظرية الدولة.
وتتلخص نظريته في القانون الطبيعي بتقسيم القانون، بشكل عام إلى قسمين: قانون مستقل عن أي إرادة، وتكمن قيمته في ذاته، هو القانون الطبيعي. وقانون آخر، مشتق من إرادة معينة، هو القانون الإرادي أو الوضعي.
ويحدّد لنا غروتيوس القانون الطبيعي بأنه «قرار للعقل الصائب يدلّ على أن فعلاً ما، حسب ملائمته أو عدم ملائمته للطبيعة العاقلة والاجتماعية، يوصف من الناحية الأخلاقية، بالضروري أو بالدنيء، وأن مثل هذا الفعل، بالتالي، هو مما أمر به أو حرّمه الله صانع هذه الطبيعة»[11].
ولكي يخفّف من تعقيد تعريفه هذا، يعدّد لنا غروتيوس بعض مبادئ القانون الطبيعي التي يحاول من خلالها توضيح أفكاره.
- بين هذه المبادئ أو القواعد للقانون الطبيعي يذكر غروتيوس، ومن الناحية الدينية، فضيلة احترام الوعود المقطوعة والبرّ بها، والتعويض عن الضرر الناجم عن خطأ معيّن، كما يذكر فضيلة الامتناع عن الاستيلاء على أملاك الغير، لاسيّما وأن القانون الطبيعي يضمن المُلكية: «إن المُلكية كما هي مستعملة حالياً قد أنشأتها الإرادة الإنسانية، لكن منذ أن أنشئت، فإن القانون الطبيعي يعلمني بأنني أقترف جريمة عندما أستولي على ما هو موضوع ملكيتك ضد مشيئتك»[12].
- القانون الطبيعي، وبعكس ما يقوله المنظّرون الدينيون، ليس هو الإرادة الإلهية، وإنما هو مشتقّ، برأي غروتيوس، بصورة غير مباشرة عن هذه الإرادة، لأن الله خالق الطبيعة لا يقبل بوجود شيء مخالف لقوانين هذه الطبيعة.
- القانون الطبيعي ثابت لا يتبدّل، لأن طبيعة الإنسان في عناصرها التكوينية هي نفسها دائماً في مختلف العهود، وفي كل الدول.
- إن مصدر القانون الطبيعي موجود في الطبيعة الاجتماعية للإنسان التي تجبره على الدخول في علاقة مع أقرانه بصورة ودّية. وهذا الإرغام على الارتباط مع الآخرين يؤدي إلى نتائج هامة تتعلق بالحقوق المتبادلة التي يجب أن يوافق عليها أعضاء المجتمعات المختلفة.
ويعمّم غروتيوس هذه المبادئ على الدول أيضاً. فالدولة تجد فوقها مجموعة من القواعد التي يتوجب عليها احترامها. وإذا ما حكمت الدولة رعاياها، خلافاً لأوامر الله والقانون الطبيعي، فإن هؤلاء الرعايا لا يعودون مجبرين على طاعتها[13].
2. بوفندورف PUFENDORF[14].
درس بوفندورف، منذ مطلع شبابه، وبحماس متناهٍ الفلسفة والقانون الطبيعي، وتأثر بشكل خاص، بغروتيوس الذي يعتبره أستاذاً له. وقد ترك عدة مؤلفات في التاريخ والقانون، من أشهرها كتاب «قانون الطبيعة والناس» الذي يشرح فيه نظريته في القانون الطبيعي.
يقول بوفندورف أن الله خلق الأفكار والعادات التي تحكم أفعال البشر وطباعهم من أجل إدخال النظام والجمال في الحياة الإنسانية، وأن الله ينظّم استخدام حرية الإنسان ويعيّن له الحدود. وأن الإنسان يجد نفسه خاضعاً للعلاقات الواجبات.ة بسبب الأوضاع العامة للمجتمع الإنساني الذي يصبح جزءاً منه بعد ولادته، وكذلك بفعل الشروط الخاصة التي يولد فيها مثل وضع عائلته الاجتماعية، والزواج، والأبوة، وواجبات الأبناء الخ... وهي حالات أخلاقية تنتج بعض الحقوق، وتولّد بعض الواجبات.
هذه الحالة الاجتماعية يسمّيها بوفندورف حالة الطبيعة. وهي تتضمّن حقوقاً وواجبات للناس تجاه بعضهم البعض. ومن نسيان، أو ممارسة هذه الحقوق ومن احترام أو احتقار هذه الحقوق تتولّد حالتان أخلاقيتان متعارضتان في المجتمع: السلم والحرب.
وكما أن العلاقات التي تؤلف القوانين الأخلاقية للكائنات لا توجد إلا بأمر الله، كذلك فإن القوانين التي تحكم الدول لا توجد إلا من خلال تشريعات الأشخاص المعنويين الذين يتمتّعون بهذا الحق، والذين يقع عليهم فرض بعض القواعد، وبعض الموجبات. وأن كل قانون إنما يقوم على أمر من سلطة عليا، سواء أكانت سلطة الله أم سلطة الإنسان.
وبما أن لقوانين الطبيعة سلطة تامة لإلزام الناس، حتى ولو أن الله لم يزدها تأييداً بكلامه المومعين.إن القواعد التي تنجم عنها ترتدي طابعاً أخلاقياً، ويصبح القانون، على هذا الأساس، صفة أخلاقية نحصل من خلالها على سلطة على الأشخاص، أو لامتلاك بعض الأشياء، ويكون لنا بفضلها حق معيّن. كما يتحول الإرغام إلى خاصية أخلاقية نكون بموجبها مجبرين على تلقّي، أو تحمّل، أو القيام بأمر معين.
هذا، ويعتبر بوفندورف المنظّر الحقوقي للقانون الطبيعي أو الحق، منظوراً إليه كحقٍ ضروري وثابت يستنتجه العقل من طبيعة الأشياء.
رواد نظرية العقد الاجتماعي
1. توماس هوبس Thomas HOBBES[1].
عاش توماس هوبس في فترة مليئة بالاضطرابات والفوضى السياسية والأهلية في إنكلترا، حيث كان الصراع على أشدّه بين الملكيين وبين خصومهم الجمهوريين بقيادة كرومويل. وعندما أنتصر هذا الأخير في عام 1640 على الملكية، أضطر هوبس للهرب إلى فرنسا، خوفاً من انتقام الجمهوريين منه، بسبب وقوفه علناً إلى جانب السلطة الملكية. وبعد إقامة استمرت أحد عشرة عاماً في فرنسا، عاد هوبس من جديد إلى إنكلترا، بعد نشر كتابه «لوفايتان» أو «الوحش الأسطوري»، لكن خوفاً هذه المرة من المهاجرين أنصار المَلَكية الذين رأوا في كتابه دعوة للشعب إلى الخضوع للغزاة، أو لمغتصبي السلطة ما داموا قادرين على فرض الأمن، والاستقرار، وحماية أرواح المواطنين.
فما هي الفكرة الأساسية في كتاب «اللوفايتان» أو الوحش الأسطوري.
يرسم لنا هوبس الدولة على هيئة وحش كبير كاسر «تمّ تصوره من أجل حماية الإنسان الطبيعي والدفاع عنه. السيادة هي روح مصطنعة تعطي الحياة والحركة للجسد كله. والثواب والعقاب هي أعصابه. وثروة وأموال جميع المواطنين هي قوته. وسلامة الشعب هي وظيفته والعدالة والقوانين هي عقله وإرادته المصطنعتين. الوفاق هو صحته، والتمرد هو مرضه، والحرب الأهلية هي موته»[2].
وهذا الوحش يمتلك سلطة سيدة فوق سلطة كل الأفراد الذين قبلوا بالتنازل عن كل حرياتهم وحقوقهم، والاتفاق في ما بينهم، بواسطة عقد اجتماعي، على الخضوع لسلطة مطلقة يوكلونها «لشخص ما».
أما الأسباب الداعية لقيام مثل هذا العقد الاجتماعي فهي ضرورة الانتقال من العصر الطبيعي إلى عصر المجتمع المدني المنظم. فما هو العصر الطبيعي في تفكير هوبس ؟
يحتل العصر الطبيعي، أو حالة الطبيعة، مكانة متميّزة في كتابات مفكري العقد الاجتماعي، كمقدمة لدراسة المجتمع المدني الذي تطلعوا إلى تحقيقه. وهو لا يعني الحالة البدائية التي كان الإنسان يعيش فيها في مراحل البشرية الأولى، بقدر ما يعني عدم تطبيق القانون بشدّة من أجل الحفاظ على المجتمع.
فإنسان العصر الطبيعي كان عدوانياً، وأنانياً، تحرّكه فقط غريزة البقاء، أي المحافظة على الذات، ودوافع المصالح الخاصة، دون الاهتمام بأمن الآخرين أو مصالحهم. وبما أن الناس في العصر الطبيعي كانوا يتمتعون بحقوق مطلقة، وحريات كاملة في ظل مساواة تامة في ما بينهم، فإن الصفات التي ذكرناها عن الإنسان أدّت لنشوب صراعات بين الأفراد.
فالعدوانية، والأنانية، وعدم الثقة بالآخرين، وغيرها من الصفات السلبية، لا تستطيع البروز إلا من خلال تحوّل الإنسان إلى ذئب لأخيه الإنسان، أي إلى سيطرة القوة. فالرغبة في القوة، مثلها مثل التطلّعات والانفعالات، غير محدودة.
وبسبب المساواة بين الجميع، وغياب السلطة، تصبح القوة والحيلة هما القضيتان الرئيسيتان في الحرب. وفي هذه الحرب لا توجد مُلكية. ولا يوجد ما هو لك، وما هو لي. بل فقط يكون لكل واحد ما يستطيع أن يأخذ طالما أنه يقدر على المحافظة عليه، لأنه حيث لا يوجد سلطان مشترك لا يوجد قانون، وحيث لا يوجد قانون لا يوجد ظلم[3].
وللخروج من حالة الطبيعة هذه، التي هي حرب الكل ضد الكل، وبدافع الخوف من الموت، وبحافز من العقل، قرّر الأفراد التوافق على التخلّي عن الحق المطلق في كل شيء، وعن حرياتهم الأساسية، وتفويض إدارة شؤونهم إلى شخص آخر. إلا أن هذا الاتفاق يتمّ بمعزل عن صاحب السيادة ولا يلزم أحداً سواهم. فالحاكم ليس طرفاً فيه. والعقد المتفق عليه هو عقد اجتماعي يتنازل بموجبه الأفراد عن كل حقوقهم، وحرياتهم الطبيعية مقابل توفير الأمن لهم.
ويؤدي نشوء هذه السلطة، في مرحلة الانتقال من العصر الطبيعي إلى المجتمع المدني، إلى قيام الدولة. ويجب أن ترتكز هذه الدولة على قاعدة أخلاقية يكون القانون ضمانتها لإشباع غريزة المحافظة على النفس، وحماية الناس من الموت. وكلما ازدادت قوة الدولة، كلما أصبحت أقدر على القيام بمهمتها بشكل صحيح.
هوبس، الذي كان من أنصار السلطة المركزية القوية، أعطى الحاكم سلطة مطلقة بموجب العقد الاجتماعي. فعندما يتمّ إبرام العقد تصبح كل الحقوق والحريات التي فوّضها الناس إلى السلطة المطلقة حقوقاً غير قابلة للنقل، ولا تنفصل عن السيادة. لأن ما يحفظ الدولة ويسمح لها بتأدية مهامها هو السلطة التي يجب أن تكون غير قابلة للقسمة أو التجزئة. ومع الإقرار بأن السلطة المطلقة تسلب الأفراد حقوقهم وحرياتهم، إلا أنها بالمقابل تمنحهم الحياة، والأمن، والاستقرار.
وعلى هذه السلطة واجبات تجاه رعاياها يمكن تلخيصها على الوجه التالي:
1. أن على الحاكم تأمين الأمن لرعاياه، لأن أمان الشعب هو القانون الأسمى. وأمن الشعب يعني المحافظة على حياة المواطنين ضد كل الأخطار، وإفساح المجال أمامهم للتمتع بالمسرّات المشروعة في هذه الحياة.
2. أن على الحاكم ضمان المساواة لرعاياه أمام القانون، وأمام الأعباء العامة.
3. أن الحريات التي يسمح بها الحاكم للأفراد لا تشكل قيوداً على سلطة السيادة، كحرية البيع، والشراء، واختيار المسكن الخ[4].
4. أن على الحاكم مراقبة الأفكار وانتشارها في نشرها.: «فسلطة السيادة تكون حَكَماً يحدّد أي الآراء والمذاهب تعتبر بغيضة، وأيها يؤدي إلى السلام.. وأي الرجال سيراقب الأفكار والمذاهب في كل الكتب قبل نشرها.. إن الحكم الجيّد هو الذي يمتلك سلطة قوية للسيطرة على الآراء».
2. جون لوك John LOCKE[5].
ولد جون لوك قبل ثورة كرومويل بثمانية أعوام، حيث سيقوم والده بالمشاركة في هذه الانتفاضة ضد الملك شارل الأول. وقد درس لوك الطب إلى جانب اهتمامه بالفلسفة والسياسة، وتأثّر كثيراً بفلسفة ديكارت، وبآراء هوبس في العقد الاجتماعي، والتي تبدو واضحة في كثير من جوانب فلسفته السياسية، ولاسيما في كتابه «بحث في الحكم المدني»، حيث سينطلق لوك من نفس افتراضات هوبس، أي من قبول وجود حالة فطرة يليها نشوء عقد اجتماعي، إلا أنه سيصل إلى نتائج مغايرة لتلك التي توصل إليها هوبس.
وهو يعتبر أنه حتى في حالة الفطرة أو الطبيعة، كان الإنسان يمتلك النضج العقلي أو الوعي، وتغمره مشاعر المساواة الطبيعية. وكان كل فرد يستطيع الحفاظ على حريته الشخصية، والتمتع بثمار عمله. ولم يكن ينقص آنذاك سوى وجود السلطة التي تستطيع ضمان مثل هذه الحقوق.
وهكذا، أتفق الأفراد على التنازل عن جزء من حقوقهم وإعطائها للدولة التي أصبحت تمتلك حق الإدانة والعقاب والدفاع عن حقوق الناس. وهذا التنازل عن جزء من الحقوق الفردية تمّ بموجب عقد. إلا أن هؤلاء الذين أصبحوا الآن يمتلكون السلطة العامة لا يستطيعون إساءة استخدامها، لأن هذه السلطة منحت لهم لحماية حقوق الأفراد. وإذا ما قامت الحكومة بإساءة استخدام هذه السلطة عن طريق خرقها لشروط العقد الاجتماعي، فإنه يصبح من حق الشعب عندئذٍ استعادة سلطته الأساسية، أو بالأحرى يصبح من حقّه الشرعي الانتفاض والثورة[6].
والمقاومة، برأي لوك، مشروعة في حالتين. الحالة الأولى، إذا كانت السلطة السياسية غير قانونية، وغير شرعية كما في حالة النظام المطلق الذي لا يجب وجوده في المجتمعات المدنية، أو إذا كانت السلطة تتناقض مع أهداف الحكومة والمجتمع وقانون الطبيعة.
والمقاومة هي حق وواجب على الأفراد الذين يُلزمهم قانون الطبيعة بحماية أنفسهم عن طريق وضع حد لتجاوز السلطة السياسية لصلاحياتها.
وقد رأى لوك بأن حرية الإنسان في المجتمع المدني تتمثّل في عدم خضوعه لأي سلطة تشريعية إلا تلك التي يتمّ اختيارها بالرضي، كما تتمثّل في عدم الخضوع لأي قانون ما لم يكن صادراً عن هذه السلطة.
والسلطة التشريعية تقوم عبر القانون. وهي السلطة العليا في الدولة لأنها تتجه إلى المحافظة على المجتمع، وهي أيضاً روح الهيئة السياسية التي يستمدّ منها أعضاء الدولة جميعاً كل ما هو ضروري لبقائهم وسعادتهم.
أما السلطة التنفيذية فإن دورها يقصر على تطبيق القانون، وتنفيذه، واحترامه.
وتقوم السلطة التامة التي يسمّيها لوك «السلطة الفدرالية» والتي ترتبط بالسلطة التنفيذية، بتولي قضايا العلاقات مع الخارج، والمعاهدات، والسلم والحرب وغيره[7].
وإذا ما كان لوك يصرّ على تقسيم الصلاحيات، ووضعها بين أيدي سلطات ثلاث، فذلك لأنه يرفض كلياً فكرة السلطة المطلقة. إذ لا يمكن، برأيه، إضفاء الشرعية على الطغيان.
إن لوك كان سبّاقاً على غيره، ولاسيّما على مونتسكيو، في موضوع الفصل بين السلطات الثلاث. ولعلّ الفضل يرجع إليه لوحده في هذه الفكرة الأساسية التي سيعمد مونتسكيو إلى شرحها وتفصيلها في كتابه روح الشرائع.
وبالمقارنة مع هوبس نرى بأن لوك أعتبر، على عكس هوبس، بأن الحاكم هو جزء من العقد الاجتماعي. لأن العقد يتمّ بين الأفراد من جهة والسلطة من جهة ثانية. ويبقى حق هؤلاء الأفراد ثابتاً في فسخ العقد عند قيام السلطة بالاعتداء على حقوقهم وحرياتهم. وللأفراد حق إبرام عقد جديد من أجل اختيار حاكم آخر، أو العودة إلى حالتهم الطبيعية الأولى في حالة قيام السلطة بالإخلال بتعهداتها.
3. جان جاك روسو Jean Jacques ROUSSEAU[8].
يعتبر روسو من أهم المفكرين السياسيين الذين تركت نظرياتهم آثاراً ملموسة في المجتمع الفرنسي والأوروبي. ولعلّ هذا التأثير يأتي من كون أن هذه المجتمعات كانت تنتظر آراء كتلك التي أتى بها هذا الفيلسوف. فما هي الخطوط العامة لنظرية روسو السياسية ؟.
يمكن تلخيص الأفكار الأساسية لروسو بما يلي:
- انتقد بقايا التقاليد الإقطاعية السائدة في المجتمع الفرنسي.
- هاجم الفساد وانقسام المجتمع إلى طبقات شديدة التفاوت في الثروة.
- رفض فلسفة الحق الإلهي التي أستند إليها نظام الحكم في فرنسا.
- رفض الإصلاحات المعتدلة التي نادى بها فولتير والاقتصاديون الطبيعيون بإنشاء نظام ملكي مطلق مستنير.
- عارض أفكار مونتسكيو عن النظام ذي السلطات المتوازنة المقتبس عن النظام الإنجليزي.
- نادى بإقرار حريات الإنسان على أن تشمل العمال والفلاحين والطبقة الوسطى.
- طالب بالمساواة وبنظام ديمقراطي مباشر[9].
- ويعالج روسو أفكاره هذه بكثير من التفاصيل في كتبه ومؤلفاته، ولاسيما كتاب «العقد الاجتماعي» وكتاب «أميل أو التربية» وفي «بحث حول اللامساواة بين البشر».
وينطلق في نظريته من اعتبار المجتمع كائناً حيّاً كأي كائن آخر. وبما أن الكائن الحي له إرادة خاصة به، فكذلك المجتمع له أيضاً إرادة خاصة به هي الإرادة العامة أو ضمير الجماعة.
وهذه الإرادة العامة هي التي تصنع المعايير الأخلاقية المناسبة لأعضائها. والقوانين العادلة تنبع منها. وهي السلطة العليا المطلقة والنهائية التي تُلزم كل أفراد المجتمع. وبما أنها الضامنة الوحيدة لحرية المواطنين، فإن على من يريد أن يكون حراً إطاعتها والخضوع لها. والسيادة هي المظهر الوحيد للإرادة العامة. وهذه السيادة لا تقبل التجزئة أو التنازل لأنها إرادة المجموع.
كذلك دافع روسو عن حقوق الفرد في الحياة، والمساواة، والحرية، والتملّك. وقال أن «أول قوانين الإنسان هو قانون المحافظة على الذات»، وهو حق طبيعي للفرد في حالة الحرب، إذ يمنع على المنتصر قتل المهزوم أو استرقاقه.
ولكي يوفّق روسو بين الحق المطلق للأفراد في الحرية، وبين السلطة المطلقة للسيادة كتعبير عن إرادة الشعب العامة، فقد عمد إلى تفسير موسّع لنظرية العقد الاجتماعي. إذ، برأيه، لم ينتقل الإنسان من العصر الطبيعي الذي كان فيه سعيداً إلى المجتمع المنظّم إلا بعد تزايد السكان وتضارب مصالحهم. لذا قام الفرد بإبرام عقد مع أقرانه الآخرين يتمّ بمقتضاه أن يتنازل عن حرياته الطبيعية لقاء التعويض عليه بحريات مدنية كما تنازل عن سلطته إلى الجماعة.
وقد ميّز روسو بين ثلاثة أنواع من الحريات:
- الحرية الطبيعية، وهي سلبية برأيه، لأن أقصى ما تحققه هو عدم خضوع فرد لإرادة فرد آخر في حالة الطبيعة.
- الحرية المدنية، ويحصل عليها الفرد بعد انتقاله إلى المجتمع المنظّم حيث يعيش في ظل قوانين يصوغها بنفسه.
- الحرية الأخلاقية أو الإيجابية، وتعني إلزام الفرد بواجبات المواطن، أي التصرف بمحض إرادته من أجل تحقيق الخير المشترك.
وبما أنه كان متأثراً بتجربة الديمقراطية المباشرة في مدينة جنيف، التي ولد وعاش فيها حتى السادسة عشرة من عمره، فقد وجد أن هذا النوع من الديمقراطية هو أفضل أنواع الحكم.
والديمقراطية المباشرة لا تصلح، كما يعترف، إلا للدول الصغيرة، لأنها تضمن اجتماع المواطنين كلهم، وصدور القوانين عن مجموع الشعب، وتأكيد الإرادة العامة لسلطاتها بشكل يضمن الحقوق والحريات.
أما الديمقراطية غير المباشرة فهي دليل على الفساد السياسي، وسوء استعمال الحكومة لسلطاتها، وتفضيل المصالح الخاصة على المصلحة العامة، وتحوّل النواب إلى سادة للشعب بدل أن يكونوا خدّاماً له. كما تؤدي إلى توسيع صلاحيات السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، وهذه كلها اعتبارات تنتقص من الحقوق والحريات العامة.
إن مهمة الدولة الأساسية هي إضفاء الشرعية على العلاقات بين المواطنين عن طريق الالتزام بالامتناع عن تقنين عدم المساواة المبنية على المُلكية، وتدعيم المساواة القائمة على السمة الإنسانية الكامنة في كل البشر. وأن واجب الحكومة هو تطبيق القوانين، والمحافظة على الحريات، وتدبير حاجات الدولة، وحماية الفقراء ضد طغيان الأغنياء، واتخاذ الإجراءات التنفيذية لمنع عدم المساواة الشديدة في الثروة.
وهذه القوانين يجب أن تعبّر عن الإرادة العامة. فالقانون لا يمكن أن يكون ظالماً لأنه من صنع مجموع الشعب. ودور الحكومة هو في تنفيذ هذه الإرادة الشعبية. فالموكلين «بالسلطة التنفيذية ليسوا أسياداً على الشعب، بل هم مأموروه، وهو يستطيع أن يعيّنهم، وأن يخلعهم حين يشاء»[10].
وأولى روسو اهتماما خاصاً، بالتربية، إذ طالب بنظام تربوي يكفل حق الجميع في التعليم سوياً وبنفس الأسلوب، بحكم أنهم جميعاً متساوون في ظل دستور الدولة.
ولتخفيف فوارق الثروة بين الأفراد، أقترح روسو إقامة قطاع من المُلكية العامة، ومشاركة الناس في المشروعات العامة، وتحقيق المساواة في فرض الضرائب مع مراعاة تناسبها مع المُلكية، وعدم فرضها على ضرورات الحياة، وزيادتها كلما زادت استفادة المواطن من خدمات الدولة.
وهكذا كان روسو يتطلع إلى إعادة بناء الفرد والمجتمع حتى لا يحدث صدام بين مصالحهما، وحتى تكون الغلبة لدوافع الطبيعة لدى الإنسان الذي نفى عنه صفة الشر الفطرية، وأعتبره خيّراً بطبيعته[11]. فالإنسان يولد حراً، ولكن المجتمع هو الذي يكبله بالأغلال. ولذا لا بد من إعادة تأسيس المجتمع القائم الفاسد، على قواعد جديدة. والعقد الاجتماعي، كما يقول، هو الذي يخلق المجتمع السياسي ويحوِّل الفرد إلى مواطن يستفيد من مساواة وحرية أعلى بكثير من المساواة والحرية الطبيعية.
ب. فلاسفة عصر الأنوار:
كان لبداية «الثورة الصناعية»، وما حملته من تطور في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تأثير على تطور النقاش الفكري، على المستويين السياسي والفلسفي، بحيث طغى هذا النقاش على مجمل الحياة الفكرية في القارة الأوروبية، وخاصة في فرنسا وإنكلترا. فقد حصل نوع من التفاعل الفكري بين هذين البلدين، وانتشر تبادل الآراء والمواقف انطلاقا من رؤية واحدة تركز على الإنسان ودوره. وتنوّعت مواضيع النقاش لتشمل ميادين مختلفة كالعلوم الإحيائية، والتاريخ الطبيعي، والفضيلة، والمنفعة، والتقدم، والسعادة، والحرية، وغيرها من القضايا التي تدور حول محور واحد هو الفرد باعتباره كائناً اجتماعياً. وكان من أبرز كتّاب عصر الأنوار، مونتسكيو وفولتير اللذان تناولا في مؤلفاتهما العديد من المسائل السياسية والقانونية التي تركّز على أفضل السبل الكفيلة بتطوير المجتمع من أجل تحقيق سعادة الإنسان.
1. مونتسكيو MONTESQUIEU[12].
بدأ مونتسكيو طريقه للشهرة الأدبية في الثانية والثلاثين من عمره، عندما نشر أول مؤلفاته «الرسائل الفارسية Lettres persanes» التي كانت تتناول مسائل إنسانية كالحب، والأخلاق، والسياسة، والدين.
ثم طرح بعد ذلك نظريته السياسية الكبرى في كتابه «روح الشرائع Esprit des lois» الذي تعرّض لانتقاد شديد من فولتير، بسبب افتقاره للترابط والتناسق على حد تعبيره. وسيبرّر مونتسكيو أسلوب كتابه هذا بوجود الرقابة الصارمة التي كان يمكن أن تعرّضه للملاحقة. ويؤكد بأن الفلسفة، عندما تعبّر عن نفسها بوضوح، يمكن أن تهدَّد القواعد الأخلاقية للمجتمع، لأن من واجبها إثارة ومناقشة وتطوير، مسائل صعبة، وأن لطريقته هذه في الكتابة وظيفة تربوية باعتبار أنها تعتمد أسلوب الاتصال غير المباشر.
يبدأ «روح الشرائع» بمناقشة حول القوانين بشكل عام، أو العلاقات الضرورية النابعة من طبيعة الأشياء. «فالقوانين الطبيعية للسلوك الإنساني هي التي تحدّد حاجات الإنسان الملحّة، وهي التي ترسم الحدود والأهداف، وكذلك المعايير الأساسية لوجودنا».
ويختلف النوع الإنساني عما هو الهي أو حيواني. ووجوده متروك لتأثير الذكاء وليس الغريزة. وبطبيعتها لا تستطيع الكائنات الإنسانية، غالباً، التمييز بين أفضل الوسائل للاستجابة لأوامر قوانينها الطبيعية. والقوانين الطبيعية، برأيه، هي نوعية. وعلاقات الإنصاف سابقة على القانون الطبيعي. لأن الإنصاف أو العدالة يسبق المجتمع والذكاء، والإنسانية تفتقر لكليهما. وهناك فردية حادّة في قلب كل إنسان، مملوءة بالقلق، وتفتّش، بيأس، عن السلام والأمن.
ومع أنه يرفض حالة الطبيعة كما يراها هوبس، فإنه يختلف مع روسو، ويتفق من جديد مع هوبس على القول بأن حالة الطبيعة أو الفطرة هي حالة رعب وبؤس.
إن حالة الطبيعة ليست ساكنة، والإنسانية ستدرك سريعاً قيمة الملذّات والامتيازات التي يمكن أن تحصل عليها من الحالة الاجتماعية. إلا أنه، وبكل أسف، ستكون النتيجة الأولى لهذه الحالة الاجتماعية هدّامة، لأنها ستقذف بالإنسانية إلى حالة الحرب. فبعد أن نفقد خشيتنا من الناس الآخرين، فإن حاجاتنا الإنسانية في الأمن والعيش المادي الرغيد، ستميل للسيطرة علينا، وستدفعنا لمحاولة استغلال أقراننا، أو على الأقل، للمحافظة على أنفسنا بوجه استغلالهم.
ولمواجهة مآسي حالة الحرب البدائية، أو الموجودة في حالة الفطرة، فإن العقل يكتشف أهمية بعض قواعد المعاملة بالمثل، الصالحة بشكل عام. وإذا ما طبقت هذه القواعد في القانون الوضعي، فإنها ستثبّت السلام، والأمن، ودرجة مرتفعة من العدالة داخل كل مجتمع مدني، وفي كل الظروف، ما عدا تلك الاستثنائية. لأن قوانين العقل تبرهن لنا بأن الطغيان، أو الحكومة القائمة على الإرهاب هي ضد الطبيعة. بيد أن مشكلة هذه القوانين هو أنها لا تؤكد لنا ما هي الحكومة الصالحة، بطبيعتها، لكل زمان ومكان، وهي لا تعطينا مبدأ شاملاً للشرعية قابلاً للتطبيق مثل العقد الاجتماعي، أو رضا المحكومين. وهذا يعني أن تكون الإنسانية في حالة المجتمع ليست فقط نتاجاً للطبيعة، وإنما أيضاً للبيئات التاريخية والطبيعية المختلفة جداً. لأن «الروح العامة» لكل أمة تعطي لشعبها مجموعة ثانية من الحاجات شبه الطبيعية، أو طريقة وحيدة للتعبير عن الحاجات المشتركة مع بقية البشر. إن ما يقصده مونتسكيو بروح الشرائع هو «تكييف وتعديل أهداف وتعاليم العقل على ضوء الروح العامة لكل أمة»، ولذلك يستمر في رؤية كل ما هو سياسي، وحق، وتشريع كعناصر أساسية في وجود كل مجتمع.
وبعد أن يصنّف شكل الحكومات، يتكلم مونتسكيو عن طبيعتها، أي توزيع السلطة بين المؤسسات، ومن ثم عن مبدئها. ويقول بأن أشكال الحكومات غير الطغيانية القائمة على مبدأ آخر غير الخوف لم تزدهر إلا في أوروبا الغربية تحت شكلين مختلفين: أولهما هو جمهورية المدينة، مثل البولس Polis الأثينية، وبعض الجمهوريات الحديثة كفينيسيا، وثانيهما هو المَلَكية الإقطاعية. وفي حين أن مبدأ الملكية هو الشرف، فإن مبدأ الجمهورية هو الفضيلة. وهي ليست الفضيلة الأخلاقية أو الدينية، بل فضيلة الوطنية المتحمّسة التي حثّت المواطنين على إخضاع طاقاتهم الأنانية لروح الأخوة الزاهدة، والعادلة. ويمتدح مونتسكيو، كثيراً، عظمة هذه الفضيلة، والحرية، والأمن، والمساواة الناجمة عنها.
ويستنتج بأن الدستور الإنكليزي، والنظام التجاري الإنكليزي، هما الوحيدان الصالحان. وأن إنكلترا هي الأمة الأولى والوحيدة في التاريخ المهيأة للحرية. وهي ليست حرية المشاركة في السلطة، بقدر ما هي توفير الأمن لكل مواطن، في حياته الشخصية والعائلية وبحثه عن الأملاك المادية، بمنأى عن كل استغلال أو تهديد. ويعتبر بأن «الروح التجارية» تحمل في طيّاتها الزهد، والاقتصاد، والاعتدال، والعمل، والحكمة، والهدوء، والنظام، وأنها تنتج لدى الناس شعوراً بالعدالة الحق.
ويحاول مونتسكيو من خلال دراسته للدستور الإنكليزي توضيح السياق الدستوري الذي ينتج حداً أقصى من الحرية. وهذه الحرية لا تتحقق إلا عندما يقوم النظام السياسي في الدولة على أساس الفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. وإلا إذا ما تجمعت هذه السلطات كلها في إرادة واحدة، فردية أو جماعية، فإن مصير الحرية سيكون إلى التلاشي والزوال[13].
2. فولتير VOLTAIRE[14].
يعتبر فولتير من أهم مفكري عصر الأنوار، ومن أكثرهم شهرة عالمية. وهو يعكس في كتاباته تلك الحركة التحررية التي تميّز بها ذلك العصر، والتي حاولت، أساساً، تحرير العقل الإنساني من التطير، وبشكل خاص من الخرافات الدينية، واستخدام هذا العقل المتحرر في الإصلاحات السياسية والاجتماعية.
يعالج فولتير في كتاباته «الرسائل الفلسفية» و«المعجم الفلسفي» و «تعليقات على روح الشرائع»، مسائل أساسية تتناول الدين، والسلطة، والثروة، والملكية، والإصلاحات الهادفة لصيانة حقوق الإنسان.
وهو، بالنسبة للدين، يهاجم الخرافات والتعصّب. وعداؤه لرجال الدين شديد جداً. إلا أنه لا يصل إلى درجة الإلحاد الواضح. إذ أنه يقر بأنه «يجب أن يكون للمرء دين وأن لا يصدق الكهنة»، ويعترف بأن لديه أرضية دينية أصيلة تنطلق من الإيمان «بالله الذي يحسّ به الفكر لا القلب». ويعتبر فولتير بأن الكفاح الحقيقي هو ذلك الذي يكون من أجل الحسّ العام، إذ «يجب على الإنسان أن يريق دمه من أجل خدمة أصدقائه والانتقام من أعدائه، ومن غير ذلك لا يستحق المرء أن يسمّى إنساناً».
وبما أنه كان يعتبر إنكلترا مرآة للحرية، فإنه رأى بأن «الحرية والملكية هي صرخة الطبيعة»، وامتدح بقوة الدستور الإنكليزي، وطالب بسلطة قوية مركزية من أجل تأسيس الحرية. وأكّد فولتير بأن المظالم التي يتعرض لها الناس ليست من صنع الحكومة، وإنما من صنع الهيئات الحاكمة باسمها مثل القضاة والنبلاء وغيرهم.
وبسبب أصوله الغنية، امتدح فولتير الترف والثروة، وأعتبر أن المساواة هي في الوقت نفسه الأمر الأكثر طبيعية والأكثر وهمية. ولا بد، في رأيه، من وجود طبقات مختلفة، ومن توجيه العلم للبرجوازيين فقط، لأنه «عندما يخوض الرعاع في التفكير، فإن كل شيء مآله للضياع».
لكن هذا كله لم يمنع فولتير من المناداة بالإصلاحات بصوت عال. وهذه الإصلاحات يجب أن تكون إدارية ومدنية. وأن توجه لخدمة حقوق الإنسان، مثل منع التوقيف التعسفي، وإلغاء التعذيب، وعقوبة الإعدام، وضمان حرية الفكر والتعبير، ووحدة التشريع، وتناسب العقوبة مع الجريمة، وتحصيل أفضل للضرائب، وإلغاء بعض الحقوق الإقطاعية وغيرها[15].
إن حقوق الإنسان هي «حرية الإنسان الكاملة في شخصيته وأملاكه، ومخاطبة الأمة بواسطة قلمه، وألا يحاكم إلا من قبل هيئة قضائية مكوّنة من أشخاص مستقلين، وألا يصدر عليه أي حكم إلا بحسب النصوص الدقيقة للقانون، وأن يمارس، بسلام، الدين الذي يشاء».
فولتير الذي يربط بين الفكر والعمل يعتبر بأن مشكلة الحرية ليست فقط نظرية، وإنما هي قبل كل شيء عملية. فأن تكون حراً يعني أن تعرف حقوق الإنسان، وأن تعرف هذه الحقوق يعني أن تدافع عنها. من هنا، فإن حرية الفكر والكتابة، أي وسائل الدفاع عن هذه الحقوق، هي أولى هذه الحريات، وأن أول مرحلة في عملية تحرير الإنسان يجب أن تقتصر على اعتبار هذه الحقوق ثابتة وغير قابلة للتنازل[16].
ج. أنصار الحرية الاقتصادية.
شملت نظرية الحرية الاقتصادية القارتين الأوروبية والأميركية، وكانت بداية لبروز النظام الاقتصادي الليبرالي القائم على حرية المنافسة، والمبادرة الفردية، والخضوع لقوانين السوق المتمثلة في العرض والطلب.
ويمكن تقسيم القائلين بهذه النظرية إلى قسمين: أنصار المدرسة الفيزيوقراطية، وأتباع المدرسة التقليدية.
أولاً: الفيزيوقراطيون Les physiocrates.
يعتبر الفيزيوقراطيون من أوائل الاقتصاديين الذين اقترحوا نظرة شاملة للاقتصاد انطلاقا من إيمانهم بالطبيعة والقوانين الطبيعية. وقد احتل رواد هذه المدرسة من أمثال فرنسوا كيناي Quesnay (1694-1774)، وفيكتور ريكاتي Riquetti، والمركيز دو ميرابو (1715 – 1789) مكاناً متميزاً جعل كثير من الاقتصاديين اللاحقين يعتبرهم بأنهم قد فتحوا الطريق أمام المدرسة التقليدية أو الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي، وحتى أمام الماركسية، بفضل تحليلهم للإنتاج والتوزيع في الاقتصاد الرأسمالي، وتوضيحهم لمعنى فائض القيمة. وتحتل الأرض مركزاً أساسياً في تفكيرهم باعتبارها المصدر الوحيد للثروة. وهم ينكرون بأن تكون التجارة والصناعة مصدراً لإنتاج القيم الجديدة، لأن دور هذه القطاعات يقتصر فقط على تحويل القيم المنتجة زراعياً.
والعمل، برأيهم، لا ينتج أية قيمة لوحده. وحتى العمل الزراعي فإنه لا ينتج قيمة إلا بمقدار ما يطبق على الأرض.
ويهتم الفيزيوقراطيون بالحقوق الاقتصادية، وخاصة بحق المُلكية، لأن النظام الأساسي للمجتمعات لا يقوم إلا على الملكية. ولذا يجب أن تكون هذه الملكية حصرية، وإلا فإنها تفقد صفتها.
كذلك، فإن السوق، والفردية هما أساس الحياة الاقتصادية.
والمُلكية العقارية الخاصة، والمطلقة، هي الشكل الصحيح للملكية. وعلى الدولة أن يحكمها الملاكون العقاريون. ويتطلب نظام المُلكية الاقتصادية هذا تحرير الأرض من الضريبة، وكذلك تحرير العمل منها، إذ لا يجب أن تفرض هذه الضريبة إلا على فائض القيمة أو الربح الصافي. لأن كل ضريبة مفرطة على الثروة الزراعية تضعف الاقتصاد بمجموعه.
وبما أنهم يحلمون برأسمالية زراعية، فإن الشرط الأساسي لوجود هذه الرأسمالية هو الحرية. و«الاستبداد القانوني»، أو الحكومة المطلقة هي النموذج المطلوب لتحقيق هذه الرأسمالية على أن تكون حكومة لاتدخلية. وهذه النقطة تميّز الفيزيوقراطيون عن الاقتصاديين السياسيين التقليديين الذين يعتبرون بأن التنمية الاقتصادية، وحماية الملكية الخاصة يتطلبان نظاماً تمثيلياً يعكس ويطور حرية السوق.
وانطلاقا من لاتدخلية الحكومة طرح الفيزيوقراطيون شعارهم المعروف: «Laissez faire, Laissez passer دعه يعمل، دعه يمرّ. أطلقوا حرية العمل، أطلقوا حرية المرور والانتقال»[17].
وقبل اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى في عام 1789، سيناضل الفيزيوقراطيون من أجل حرية تجارة الحبوب، وإلغاء القيود على حرية السوق في عام 1760. كما أن عقيدتهم سوف تتطور بين 1770 و1780 إلى دفاع واسع عن الملكية الخاصة، والفردية الاقتصادية، والإصلاحات السياسية.
وقد كان «لهذه المدرسة تأثير كبير في أواخر القرن الثامن عشر، ومن نتائج هذه والنظرية إلغاء الحواجز الجمركية في داخل البلاد، والسماح بنقل الغلال بحرية، وإلغاء الجمعيات الحرفية، والأخذ بمبدأ حرية العمل. هذا، وقد أثّرت فكرة الناتج الصافي على التشريع الضرائبي في عهد الثورة الفرنسية ففرضت نصف أعباء الضريبة على الملكية العقارية»[18].
ثانياً: المدرسة التقليدية L'école classique.
عديدة هي، في الواقع، الأسماء اللامعة في هذه المدرسة الاقتصادية الكبرى التي وجدت أنصاراً لها في مختلف أنحاء القارة الأوروبية. لكن، وبما أن مؤسسيها ينتمون لإنكلترا، فإننا سنقصر دراستنا، هنا، على أفكار رائدين كبيرين من الذين أرسوا دعائمها في عالم التفكير الاقتصادي، وهما آدم سميث، وجون ستيوارت مِل.
1. آدم سميث Adam SMITH[19].
كغيره من أقطاب الفكر الاقتصادي في عصره، دخل سميث إلى هذا الميدان من باب الفلسفة. وقد حقّق له كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» ما يكفي من الشهرة لكي يصبح أستاذاً للمنطق، ومن ثم للفلسفة في جامعة غلاسكو. إذن، هو قبل كل شيء، فيلسوف يستخدم آراءه الأخلاقية والقانونية لمعالجة مسائل الاقتصاد السياسي. ولذا، سيحاول في كتابه «أبحاث في طبيعة وثروة الأمم» إيجاد نموذج معياري، وتفسيري للسلوك الإنساني في الميادين الاقتصادية انطلاقا من نظام «الحرية الطبيعية، والعدالة التامة، والبرهان على أن المنافسة، والبحث عن المنفعة الشخصية يمكن أن يسمحا بخلق نظام اجتماعي متناسق. فهناك انسجام تام بين مختلف المصالح الفردية وبين المصلحة العامة. ومع أن المنتج، كما يقول، لا ينظر إلا إلى ربحه الخاص، فإن يداً خفية تدفعه دفعاً، ومن حيث لا يعلم، إلى الهدف الأسمى الذي يتلاءم مع المصلحة العامة»[20].
وبرأيه، أن ثروة الأمم تدافع عن حرية التجارة والمنافسة على المستويين الوطني والدولي، وترفض بعنف القيود التجارية، والامتيازات الاقتصادية والاحتكارية.
وبالتعارض مع بعض الطروحات المتطرفة للفردية التي ستنمو لاحقاً، يلحّ سميث على الشروط المؤسساتية الضرورية كي يستطيع كامل المجتمع الاستفادة من التقدم الاقتصادي على مختلف الصعد الأخلاقية، والسياسية، والمادية.
سميث كان قد تأثر بآراء فلاسفة عصر الأنوار، ولاسيما بآراء صديقه دافيد هيوم. وهو، كهذا الأخير، يرفض الفكرة القائلة بأن العقد الاجتماعي يشكل أساس الدولة. فالدولة، بالنسبة له، ترتكز على استعدادات بسيكولوجية، واجتماعية، وخاصة عادة احترام السلطة القائمة، ونوع من حسّ المنفعة لأشكال الحكم الموجودة.
وبما أن سميث «يؤمن بالحرية الاقتصادية، فإنه لا يسمح بتدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، ويعتبر هذا التدخل ضاراً بالمصلحة العامة»[21].
والحرية عند سميث، كما عند هيوم، هي مفهوم قانوني يرتكز على الحق بالأمن الشخصي، وعلى حقوق المُلكية في دولة دستورية، حيث تقتصر العدالة على عدم الإضرار بحقوق الآخرين. ومهمة العاهل هي الدفاع عن المملكة، والعدالة، لأن ضغط المصالح الخاصة هو في أساس الإضرار بمبدأ العدالة. لكن، وبالرغم من حصر مهمة الدولة في تأمين العدالة بشكل صحيح، فإن سميث يعتبر بأن على الحكومة مسؤولية هامة في ما يختص بالتربية، وواجب التدخل في بعض ميادين النشاط الاقتصادي التي لا يمكن تركها للقطاع الخاص.
واهتمام الدولة بالتربية يجب أن يكون كبيراً لمواجهة الآثار السلبية الناجمة عن تقسيم العمل على أساس القدرات العقلية، والاجتماعية، والسياسة للناس. ويقدّر سميث أن على المؤسسات توجيه الطاقات، وفرض احترام المصلحة العامة لأن الطبيعة الإنسانية تنحو إلى الأنانية والسيطرة عندما تسنح لها الفرصة بذلك. من هنا، فإن على القانون مراقبة التصرفات الاجتماعية، وضمان التناغم بين المصالح الخاصة والعامة.
2. جون ستيوارت مِل Jhon Stuart – Mill[22].
يلتقي جون ستيوارت مِل مع آدم سميث في كونه، أيضاً، فيلسوفاً واقتصاديا في الآن نفسه.
ومنذ السادسة عشرة من عمره أقحم مِل نفسه في المناقشات الفلسفية، والسياسية، والاقتصادية، وأخذ في أحيان كثيرة مواقف متطرفة، كمثل توزيعه لمنشور يطالب بتحديد النسل في أحياء لندن العمالية، مما أدّى به إلى دخول السجن لليلة واحدة.
وبسبب خضوعه لنظام تربوي قاسٍ من قبل والده، الذي كان اقتصاديا، وجيرمي بنتام، صديق الوالد، حيث أجبر مِل على دراسة النظريات الاقتصادية والإلمام بقسط وافر من الثقافة العامة التي كانت سائدة في عصره، وهو لم يزل بعد في الثامنة عشرة من العمر، فقد انتقد بشدّة هذا النظام التربوي، وأعتبره بأنه يركز كثيراً على تنمية الفكر التحليلي، دون أخذ المواقف الانفعالية أو العاطفية بعين الاعتبار.
أفكار مِل الفلسفية توزعت في عدة مجالات. فهو، وتحت تأثير الكاتب الفرنسي الكسي دي توكفيل، توصّل للاقتناع بأنه يجب المحافظة على تعارض الأفكار والآراء في المجتمع.
وللحفاظ على حقوق الأقليات، فقد طالب مِل بوجود نظام تمثيل نسبي.
ودافع عن حقوق المرأة الاجتماعية والانتخابية، وأعتبر أن استبعاد النساء من المشاركة في الحياة السياسية هو بلا معنى، لأن كل الناس يجب أن يتمتعوا بحق التصويت من أجل تشجيعهم على المساهمة في الحياة الاجتماعية.
كما دافع عن استقلالية الموظفين في أعمالهم، وطالب بوجود برلمان لا تقتصر وظيفته، فقط، على وضع التشريعات أو تعديلها، بل أن يتضمّن هذا البرلمان لجان متخصصة تكون مهمتها تحضير كل ما هو ضروري من مشاريع القوانين.
ورأى أن الحياة السياسية السليمة تكون بالتوفيق بين أمرين: تحقيق أوسع مشاركة اجتماعية وقيام حكومة تقدمية من جهة، والاحتفاظ للنخبة الثقافية والأخلاقية بتأثير كبير على كامل المجتمع من جهة ثانية.
وفي كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي» رفض مِل الرأسمالية، وبدا مؤيداً للاشتراكية. ففي النظام الرأسمالي، كما يقول، لا يقوم العمال بحكم أنفسهم، فضلاً عن أن الانقسام بين الملاكين والعمال لا يسمح بقيام الديمقراطية السياسية. ولذا، فإنه يطالب بوجود اقتصاد تنافسي تكون فيه المصانع ملكاً للعمال.
وبانتظار تحقيق الاشتراكية، طالب مِل بجعل المُلكية أكثر قبولاً عن طريق إدخال حقوق على الميراث، ومنع الملاكين العقاريين من قطف ثمار جهد عمالهم.
مِل كان مأخوذاً بفكرة الدفاع عن الحرية في مجتمع ديمقراطي. وهو يعتبر الحرية بأنها الشرط الرئيس للسعادة، لأن السعادة تفترض تنمية الشخصية، الأمر الذي لا يمكن أن يتم بدون حرية: لأن الحرية هي وجه من وجوه السعادة، وهي شرط أساسي للبحث عن أشكال أخرى من السعادة.
ودافع مِل «عن مبدأ الحرية الفردية، وأعتبره الدعامة الأولى للنظام الاجتماعي».
كما دافع عن مبدأ المنافسة الحرة، وأخذ بقاعدة عدم التدخل وترك الأمور على سجيتها، ولكنه ترك، مع ذلك، مجالاً لبعض الاستثناءات التي لا بد منها، والتي لا بد من التسليم فيها، في الحالات التالية:
1. التعليم، وجعله إلزامياً على الآباء، دون الأخذ بمبدأ احتكار الدولة للتعليم.
2. حماية الأطفال، والشباب، وكل ما يتعلق بالأخلاق العامة.
3. مد يد المساعدة للضعفاء والفقراء.
4. الاستعمار وهو يتعلق، في نظره، بالحضارة الإنسانية.
5. قيام الدولة مباشرة ببعض المشاريع والأعمال التي يقصّر فيها الأفراد، أو يعرضون عنها إما لعدم ميلهم إليها، أو لعدم تأمينها للربح المادي المطلوب[23].