*«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»* - الصفحة 16 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > منتدى العلوم الإجتماعية و الانسانية > قسم الآدب و اللغات

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

*«•¨*•.¸¸.»منتدى طلبة اللغة العربية و آدابها «•¨*•.¸¸.»*

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2013-02-26, 22:02   رقم المشاركة : 226
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

من روائع لغتنا الجميلة

من بلاغة الإمام أبو بكر الشبلي رحمه الله عندما سئل :
أي شئ أعجب ؟ قال : قلب عرف ربه ثم عصاه .
وقال : ( مكر الله بك يا ابن آدم ) في إحسانه فتناسيت ,
وأمهلك في غيك فتماديت ,
وأسقطك من عينه , فما دريت ولا باليت .
وقال : إذا وجدت قلبك مع الله فاحذر من نفسك ,
وإذا وجدت قلبك مع نفسك فاحذر من الله .

وفي اللغة العربية من الروائع والجمال مايغني عن الوصف .
قيل للمبرد : إن في كلام العرب حشوا فأنهم يقولون :
عبد الله قائم, ثم يقولون, إن عبد الله قائم , ثم يقولون إن عبد الله لقائم, والمعنى واحد.
فقال لهم : عبد الله قائم إخبارا عن قيامه ,
وقولهم : إن عبد الله قائم :
جواب عن سؤال سائل ,
وقولهم إن عبد الله لقائم ردا على منكر قيام عبد الله

ومن روائع اللغة العربية أيضاً :
في تَرْتيب حُسْـنِ المـرأَة :
إذا رأيت جمالها من قريب و بعيد فهي حسناء
إذا رأيت جمالها من بعيد فقط في جميلة.
إذا كانت بهـا مسـحةٌ من جمال فهي : وضيئةٌ وجميلةٌ .
إذا أشـبهَ بعضُها بعضاً في الحُسـنِ فهي : حُسـَّـانةٌ .
إذا اسْـتَغنتْ بجمـالها عن الزِّيـنةِ فهي : غـانيــةٌ .
إذا كانت لا تُبالي أنْ لا تَلْبسَ ثوباً حسناً فهي: مِعْطـَالٌ .
إذا كان حُسْنُها ثابتاً كأنه قد وُسِمَ فهي : وَســيمةٌ .
إذا قُسـِمَ لها حظٌ وافرٌ من الحسـنِ فهي : قسـيمةٌ .
إذا كان النظـرُ إليها يسُـــرُّ الرُّوعَ فهي : رائعـة .
إذا غَلبتِ النســــاءَ بحُسْــنِها فهي : باهِـرَةٌ

************************************************** *

من بلاغة العرب

قال معاوية بن أبي سفيان لصعصعة بن صوحان: صف لي عمر بن الخطاب!
فقال: كان عالماً برعيته، عادلاً في قضيَّته، عارياً من الكبر، قَبولاً للعذر، سهل الحجاب، مَصون الباب، متحرِّياً للصواب، رفيقاً بالضعيف، غير مُحاب للقريب، ولا جاف للغريب.
وقال معاوية -أيضاً- لضرار الصدائي: يا ضرار، صف لي علياً!
قال: اعفني يا أمير المؤمنين.
قال: لَتصفنَّه!
قال: أما إذ لابد من وصفه؛ فكان -والله- بعيد المدى، شديد القُوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجَّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته.
وكان والله غزير العَبرة، طويل الفكرة، يقلِّب كفَّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن.
وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن، مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، يعظِّم أهل الدين، ويحب المساكين،ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.
وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول:
يا دنيا، إليك عني، غُرِّي غيري! ألي تعرَّضْتِ؟ أم إليَّ تشوقتِ؟ هيهات! هيهات! لقد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها؛ فعمرك قصير، وخطرك حقير، وخطبك يسير. آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فبكى معاوية حتى أخضلت دموعه لحيته، وقال: رحم الله أبا الحسن، فلقد كان كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال حزن من ذُبِحَ وحيدُها في حجرها.









 


رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 18:20   رقم المشاركة : 227
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

النص الشعري القديم والنقد الحديث
مقاربة في نقد النقد
الدكتور حسين فيلالي

لا شك أن المناهج النقدية الحديثة قد أولت اهتماما بالغا لدراسة النص الأدبي، وزودت الدارس بآليات وأدوات إجرائية تساعده – إن هو أحسن استغلالها – على اكتشاف طاقات النص الإبداعية المحجبة، وجعلت النص الأدبي يتجدد بتجدد القراءة. القراءة التي تضيء أمكنة الشك، وتوسع من دائرة أمكنة اليقين حسب تعبير "مشال أوتون".
غير أن أول ما يواجه الدارس العربي هو اختيار المنهج النقدي وتطبيقه ومدى القدرة على التحكم في آلياته ذلك أننا وجدنا بعض الدارسين يأتي بمنهج جاهز أفرزته ظروف ثقافية واجتماعية مغايرة للظروف التي أفرزت النص الأدبي العربي،يسقطه بحذافيره عليه يمطط النص متى احتاج إلى ذلك أو يقص منه أجزاء ليستقيم مع التأويل الذي يقترحه فيقتل طاقاته ويشوه جماليته بدلا من أن يحييه، و يزينه.
إن المنهجية السليمة – حسب رأينا – تفترض أن يأتي الدارس إلى النص يحاوره، يستدره، بل يشاكسه حتى إذا ما عثر على إشارات تفضح أسراره أو أمارات يهتدي بها إلى سراديبه، وخباياه راح يكيف منهجه مع معطيات النص الإبداعي العربي مراعيا خصوصياته الجمالية والدّلاليّة. إن ما يجب أن نحذر منه هو الالتزام بالمنهج التزاما صارما إلى حد الإعلاء من صوته، والتعصب له حتى ولو أدى ذلك إلى خنق النص، وكتم صوته.
على الدّارس أن يراعي طبيعة النّص العربي القديم وألا يجعل المعنى الحرفي للدوال حكما على إبداعيته.
إن عليه أن يتساءل مثلا عن التشابه والاختلاف في توظيف موضوعة الطلل. لماذا نجد زهير يفصل في عناصر الطلل (النؤي ... الأثافي) ؟ في حين نجد امريء القيس في طلليته يقوم برسم جغرافية مرابع الحبيبة، ويحولها إلى مشاهد ماثلة أمام المتلقي تحركها خيوط الذاكرة.
إن البحث عن الدلالة في النص الشعري القديم معناه اللجوء إلى التأويل الذي يعتبره كوربان " مفتاح المعنى المتواري، والخفي وراء أو تحت العبارات الظاهرة المرئية".
إن فعل التأويل يعني الإنفراد بالنص في غياب مؤلفه، ودون إذنه ذلك أن الناص عندما يضع نقطة النهاية،فإنما هو يوقع ميثاق استقلالية النص،ويصبح مجرد قارئ كباقي القراء الآخرين،( وبعبارة أخرى عندما يتم إنتاج نص ما لا لكي يقرأه قارئ بعينه بل لكي يتناوله مجموعة كبيرة من القراء،فإن المؤلف يدرك أن هذا النص لن يؤول وفق رغباته هو بل وفق إستراتيجية معقدة من التفاعلات التي تستوعب داخلها القراء بمؤهلاتهم اللسانية باعتبارها موروثا اجتماعيا) .
فالنص هنا حسب إيكو أمبرطو إذ يستقل عن كاتبه، فإنه يؤول حسب رغبة ما ليست هي بالضرورة رغبة المؤلف، لأن هناك عوامل عديدة ذاتية وثقافية تتحكم في فعل القراءة.
إن رغبة التأويل يجب أن تخضع لمنهجية واضحة تأخذ بعين الاعتبار إستراتيجية تكوين النص المدروس وإلا تحولت إلى تهويل.

إن استقلالية النص عن صاحبه يجب ألا تفهم بالمعنى الذي يعني الانفصال التام ذلك أن روح المؤلف تظل تسري في أعماله، لا تفارقها حتى ولو فارقت الروح الجسد.إن استقلالية النص هنا هو انفصال في اتصال، فالنص مهما اكتسب شخصيته المادية بعد وضع المؤلف نقطة النهاية يظل ينتسب إلى صاحبه، يحمل جيناته الوراثية،الثقافية،والاجتماعية،والنفسية الواعية،واللاواعية والتي ستظل تسري في أنسجته وإلى الأبد.
إن التأويل هو توليد لمعنى النص وفق رؤية خاصة، تنطلق من خلفية ثقافة معينة،وتتسلح بمنهج ما غير أن هذا الفعل الممتع والخطير في الآن نفسه لا بد له من مولد يصبر على حمل النص حتى يبلغ تمامه، و لا يتعجل مخاضه ووضعه و إلا تسبب في إجهاضه، أو تشويه مولوده.
إن المكان / الطلل في الشعر الجاهلي دال، والصورة الشعرية دالة والطبيعة الحيّة، والصامتة دالتان، والزمن دال، واللغة في النظم الشعري قد تكون لها خلفية ميثية يوحي ظاهرها بما لا يضمر باطنها،و لها خطاب صريح وآخر مضمر.
وهذه الدوال الكبرى تتفرع إلى دوال صغرى ( الأثافي – النؤي - ألأواري – الجبل، الغزال، الناقة، الثور، الجبل-الزمن النفسي، الاجتماعي ...) ومن ثمة قد يجر تأويل دال من هذه الدوال إلى الوقوع في غواية النص، والافتتان به والميل نحوه، وتضخيمه، وحصر كل أبعاد القصيدة فيه أو إلى النفور من النص، والتقليل من شأنه ووصفه بالشفاف الذي يمكن لأي قارئ أن يتمكن من ولوجه وكشف معانيه.
وفي كلتا الحالتين نقع فيما يمكن أن نسميه التقول على النص، والتحدث نيابة عنه، وبالتالي ننتج خطابنا الخاص ونغيب خطاب النص، ونخنق صوته فيأتي متقطعا لا يبين عن حقيقة رسالته.
إن الافتتان بالنص في جوهره اتصال، والنفور منه انفصال، وقد يتحول الافتتان إلى انفصال عن النص، والنفور إلى اتصال بالنص، ذلك أننا قد نعجب بنصّ ونفتتن به ونكتب عنه، وننطقه بما هو ليس فيه إرضاء للنص أو للناص فيكون ذلك انفصالا عن النص، أي الكتابة خارج إستراتيجيته، أو تكون الكتابة رجعا لصوتنا.
وقد ننفر من نص ما لأنه يخالف رؤيتنا ولا يستجيب لذوقنا، فنحاول الكتابة ضده فنخلق اتصالا معه – دون وعي منا – ونجد أنفسنا مرغمين على الاستماع إلى صوته فننتج خطابا قد لا يعلو فوق خطاب النص، ويعجز عن التعمية على جماليته.
إن الثقافة هي التي تفرز المنهج، وتنتج المصطلح، والمنهج إذ يترعرع داخل ثقافة ما، فإنه يتجذر فيها، ويتشرب عناصر التربة التي غرس ونما فيها.
وحتى وإن بدا لنا ظاهريا أن المنهج مجرد من رواسب هذه التربة، ومتكيف مع كل المناخات الثقافية، فإن التحليل العميق يكشف خلاف ذلك.
ولذا لا يمكن نقل المنهج من تربة غريبة، وتطبيقه على أدب نما،وترعرع في بيئة ثقافية، ووجدانية مخالفة له دون نقل بعض رواسب هذه التربة، مهما بلغنا من جهد ومهما أوتينا من علم، وصدق النية، ولذا علينا أن نعمل – إن أفلحنا – على تكييف المنهج المستورد قدر المستطاع(تبيئته)، وألا نرغم النص الشعري القديم على البوح بما هو ليس فيه، أو الاعتراف القصري بسلطة المنهج المطلقة على النص تحيزا للمنهج، وإعلاء لصوته على صوت النص، فنغرب النص عن بيئته الثقافية، ونباعد بيننا وبينه.
ونعتقد أنه من الصعب أن نعقد ائتلافا ينصف النص الأصلي، ويرضي المنهج المستورد دون الميل مرغمين إلى أحدهما.
والمحصلة حسب رأينا لا تخرج عن أمرين :
1- إما أن يتنازل المنهج عن بعض خصائصه، ويخفف من صرامته ويذعن لشروط إنتاج النص: شرط الثقافة، والبيئة، والرؤية الجمالية، لأن النص حسب رأينا يعرّف بالثقافة التي نبت فيها.
2- وإما أن يتنازل النص، ويسلم أمره لمبضع المنهج يقص منه ما يشاء، ويرغمه على البوح بما لا يشاء. وفي اعتقادنا، فإن على المنهج أن يتنازل للنص عن شيء من صرامته حتى يستفيد من خدماته، وألا يأتيه من منطلق متعال، و يخاطبه من مكان بعيد.
إن على المنهج أن يستمع إلى صوت النص، ويحسن الإنصات، لأن المنهج متحول والنص ثابت، والنص مستغن بذاته، والمنهج تابع، متعلق بالنصوص لإثبات شرعيته.
والخلاصة، أن هذا الطرح قد يبدو في ظاهره مثبطا للعزائم، وداعيا إلى التقوقع على الذات، ورافضا لكل اقتراض من الثقافات الأخرى، ومعاد لكل دخيل على الثقافة الأم، ولكن من يتأمله في جوهره يجده دعوة إلى المصالحة مع النصوص العربية النقدية والشعرية -خاصة القديمة -التي ما فتئ بعض النقاد العرب يتلذذون بجلدها، وتقزيمها وإرغامها على لبس لباسا غريبا عنها، لا يواري سوءة، ولا يحمي جسدا، فكان هذا الفعل أشبه بالطبيب الذي يداوي قرحة المعدة بالأسبرين، فلا مرضا أشفى، ولا جسما عليلا أبقى.
إن النقد في جوهره تعريف للمنكر، واكتشاف للمضمر، وإبداع على إبداع وحرف الجر هنا يدل على الارتقاء، أي الارتقاء في سلم درجات النص الفكرية،و الجمالية.
وقد يعترض معترض علينا بالقول : إن المنهج لا يقبل التجزئة فهو سلسلة من الآليات والإجراءات المتوالية التي لا يمكن التفريق بينها أو الاستغناء عن حلقة من حلقاتها، وإلا اختل ميزان المنهج.
إن هذا التوالي المزعوم قد يكون مشروعا في العلوم المجردة كالرياضيات مثلا، لأن جدول التغيرات في الدوال، له علاقة بمجال التعريف، والنهايات لها علاقة بالرسم البياني...، ويفقد هذا الزعم مبرراته في العلوم الإنسانية، لأننا يمكن أن نجمع بين عناصر أكثر من منهج واحد في الممارسات التطبيقية، فنكون بنيويين وسيميائيين في الآن نفسه أو نأخذ بمنهج تكاملي، بحيث نستفيد من آليات أكثر من منهج وهو ما يقع بالفعل حتى عندما نتعصب لمنهج واحد، لأن الحدود بين المناهج تبقى افتراضات نظرية يستحيل احترامها في واقع التطبيق.
لكن المؤسف عندنا أن تتحول تطبيقات بعض نقادنا على النصوص العربية القديمة إلى تنكير لها، وتعمية عليها، وتقبيحا لجمالياتها، وتمزيقا لنسيجها، وبهذا يحتاج المتلقي العربي في الكثير من الأحيان إلى وسيط ثان يترجم له من لغة مكتوبة بأحرف عربية، صيروها غريبة عنه إلى لغة عربية مألوفة.
وقد يحتاج المتلقي إلى نساج يرتق ما مزقه النقد من أعضاء النص حتى يتمكن من التعرف على صورته الأصلية.
وهكذا أضحت اللغة النقدية على أيدي بعض الدارسين المحدثين عاجزة حتى عن القيام بوظيفة التواصل مع القارئ العربي، و صار النقد التطبيقي عند بعض المحدثين يتكلم بلغة تستعمل حروفنا لكنها لا تنتج أساليبنا ولا تراكيبنا، لغة ميتة لا أحاسيس فيها، فغدت غريبة عنا، وغدونا في أمس الحاجة إلى من يترجم بيننا، وبين ما يكتب هؤلاء النقاد، وهم من بني جلدتنا ويتكلمون لغتنا.
على المنهج أن يحاور النص، دون استعلاء، أو وصاية، فالنص ليس قاصرا حتى يحجر عليه الكلام، لخدمة المنهج النقدي، وعلى المنهج ألا يسعى إلى تجريد النص من خصوصياته بحجة علمنته.
لا يمكن أن يتحول النص الأدبي إلى علم مجرد من الأحاسيس، أو إلى رموز صماء، أو معادلات أو متراجحات رياضية خالية من الانفعالات، و المرجعيات الأيديولوجية مهما أوهمنا أنفسنا بذلك، وصدقنا أوهام النقاد، وبذلك يصبح النص الأدبي حسب اعتقادنا خارج دائرة العلم، وخارج قوانينه الصارمة فهو يتموقع خارج التقنين الجامد. لذا، لا أحد يدعي التفرد بمعرفة كامل أسرار النص حتى وإن كان كاتبه.
إن العلامة النصية على عكس العلامة المعجمية تخضع لمجموعة من الشروط، والقواعد النّصية، والتي تجعل بعضها يتعلق ببعض كما يقول الجرجاني، ويجر بعضها بعضا، ويؤثر بعضها في بعض، ويصبح للفظة أسرة نصية جديدة تحكمها القرابة النّصية.
ففي هذا الوضع الجديد تصبح العلامة وكأنها نقلت من بيتها القاموسي إلى بيت النص لتحيا حياة جديدة دون أن تقطع الصلة الكاملة مع مناخ بيتها القديم.
إن العلامة اللغوية حين يتم نقلها من بيت القاموس إلى بيت النص تصبح لها حياة ثانية تكتسبها من وضعها في التركيب الجديدة ذلك "أن الدلالة تمر فقط عبر النصوص التي هي الموضوع الذي يتولد منه المعنى، ويولد فيه (الممارسة الدلالية).
وفي هذا النسيج النصي لا يمكن علامات القاموس من حيث هي مرادفات مقنّنة أن تطفو على السطح إلا في حالة تصلب المعنى، وموته" .
وحسب إيكو، فإن المعنى النصي يمر عبر نسيج النص، و لا يمكن أن يطلب في علامات منفردة.
والعلامة النصية بهذا المفهوم تستمد روحها من روح النص،ولهذا يحذر الدارس أن يتسبب في إعلال النص كما يقول إيكو أمبرطو (تصلبه)، أو موته، وذلك بمحاولته عزل المفردة عن نسيج النص وتأويلها خارج السياق النصي.
إن مهمة دارس النص الإبداعي الأدبي هي- في الأصل- السعي إلى تحقيق شيئا من حياة النص، وبعثه ليحيا في زمن ليس هو بالضرورة زمن إنتاجه.
غير أن محاولة بعث النص فعل ممتع، وخطير، ممتع لأن النص إذا ما أحسنا محاورته فتح أمامنا عوالمه الثقافية، والحضارية، والجمالية. عوالم كانت مجهولة لدينا ، أو صورتها كانت تأتينا مشوشة بفعل بعد الزمن، أو بفعل بعض القراءات المتسرعة التي ترى النص الشعري الجاهلي –خاصة- على أنه نص شفاف ترى معانيه – حتى لقصار النظر- من مكان بعيد وهذا مكمن الخطر.
ولعل مثال القراءة المتسرعة، المبتسرة التي تقطع أوصال النص، وتتسبب في إعلاله، بل موته، وتتقول عليه، وتقرر النتائج قبل ولوج النص ما نجده في دراسة الدكتور أنور أبو سويلم المعنونة: قراءة جديدة في معلقة عنترة ابن شداد.
يقول أبوسويلم معلقا على مطلع معلقة عنترة وفي مطلع المعلقة إشارة واضحة تأتي من الأعماق المظلمة في نفسية عنترة تكشف عن إحساس مبهم قابع في نفس تحس الذل والمهانة من الهجنة والعجمة:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
أعياك رسم الدار لم يتكلم
حتى تكلم كالأصم الأعجم

ولقد حبست بها طويلا ناقتي
أشكو إلى سفع رواكد جثم)
وقد بحثت في مطلع المعلقة عن الإشارة الواضحة الدالة على الأوصاف التي ألصقها أبوسويلم بعنترة فلم أجد إلا سوء فهم للنص، وتأويلا يحمل النص ما لم يحتمل، و يفرض على النص خطابا غريبا عنه.
ويتابع أبو سويلم قوله( ...لذلك كان رسم الدار صامتا لا يستجيب لهذا الحب لأن العاشق غريب أعجمي...) .
ولا ندري لماذا تجاهل أبو سويلم كلام رسم الدار، والضمير العائد عليه في شطر البيت الثاني (حتى تكلم كالأصم الأعجم).؟
إن رسم الدار لم يبق صامتا كما اعتقد أبو سويلم،وإنما تكلم بلغته الخاصة لغة الأصم، الأعجم•، ( فالأجسام الخرس الصامتة ناطقة من جهة الدلالة ومعربة من جهة صحة الشهادة على أن الذي فيها من التدبير والحكمة مخبر لمن استخبره وناطق لمن استنطقه...).
وينتقل أبو سويلم من تحريف معاني النص إلى التقول عليه، وتمزيق نسيجه وذلك بعزل الألفاظ عن سياقاتها، وإعطائها دلالات مستجلبة من القواميس: <أن المشكلة التي بدأت من الرق والعبودية تتبلور في اختلاف الطبقة الاجتماعية بين العبيد والفقراء والأسياد و الأغنياء دار عبلة" بالجواء" وهذه إشارة إلى الخصب والغنى لأن" الجواء المنخفض من الأرض وبطن الوادي" وهذه المفارقة بين غنى عبلة وفقر عنترة نلحظها في البيت التالي:
وتحل عبلة بالجواء وأهلنا
بالحزن فالصمان فالمتثلم
ونتعجب من هذا الاستنتاج، إذ لا ندري أين تتجلى المفارقة في البيت المستشهد به على غنى عبلة وفقر عنترة؟
وهل يكفي في" القراءة الجديدة" ورود لفظة الجواء في البيت حتى يبني عليها الدارس كل هذه الأحكام، ويحملها كل هذه الدلالات دون مراعاة للجو العام للقصيدة؟
ألا يمكن أن يكون هذا الوادي جافا خاصة ونحن نعرف طبيعة أودية الصحراء؟
إن من يعود إلى شرح القدماء للمعلقات يجدهم أدق منهجية من أبي سويلم فهم لا يعزلون هذه اللفظة عن السياق الذي وردت فيه، ولم يحرفوا معناها النصي كما فعل أبو سويلم، فقد ذهب الزوزني في شرحه للمعلقات السبع إلى أن <الجو: الوادي، والجمع الجواء، والجواء في البيت موضع بعينه).
ولم يخرج الخطيب التبريزي في شرحه للمعلقات العشر عن هذه المعنى فالجو عنده ( بلد يسميه أهل نجد جواء عدنة، والجواء أيضا جمع جو وهو البطن من الأرض الواسع في انخفاض)
وقال أبو جعفر النحاس في شرحه للمعلقات: ( الجواء: بنجد والحزن لبني يربوع والصمان لبني تميم).
والجواء عند الأعلم الشنتمري هو موضع بعينه أو هو جمع جو، وهو المطمئن من الأرض المتسع.
وقد وجدنا فوزي عطوي- وهو من المحدثين - لا يخالف مذهب القدماء "فالجو عنده بفتح الجيم أو بكسرها: جمع الجو أي الوادي،وهنا بمعنى اسم مكان معين".
إن الجو العام للقصيدة لا يبرر النحو الذي نحاه أبو سويلم في قراءته "الجديدة "ذلك أن القصيدة –وخاصة البيت المستشهد به - لا يهدف إلى تجسيد الفارق الطبقي بين العبيد، والشرفاء كما حاول أبو سويلم أن ينطقه به قسرا وإنما أراد الشاعر- حسب فهمنا - أن يعبر عن نأي الحبيبة، وبعد مضاربها، ولعل في سياقات الأبيات التالية ما يدعم رأينا :

1"- وتحل عبلة بالجواء وأهلنا
بالحزن فالصمان فالمتثلم
2- شطت مزار العاشقين فأصبحت
عسرا علي طلابك ابنة مخرم
3-كيف المزار وقد تربع أهلها
بعنيزتين وأهلنا بالغيلم"
ويتابع أبو سويلم تعليقه على البيت رقم واحد: (من الضلال الأعمى تفسير هذا البيت وفق المفاهيم الجغرافية، لاستحالة أن يحل أهل عنترة في أماكن جغرافية متباعدة على نحو ما في البيت) .
وما فات أبو سويلم هو أن ما فعله الشاعر في البيت لم يعد كونه عدد مضارب أهل الحبيبة وهو فعل شائع في الشعر الجاهلي•، و لا ندري كيف لم ينتبه الدارس إلى حرف الباء،والفاء، فالباء تفيد الحلول بالمكان (بالحزن) غير أن الفاء تفيد التعاقب (فالصمان،فالمتثلم).
ويبلغ التقول على النص ذروته حين يتابع أبو سويلم تعليقه (..وتعميم الجغرافيا على الأدب يؤدي إلى التبسيط الساذج لأن اختيار الأماكن له ارتباط وثيق بالفكرة التي انتهى إليها في البيت السابق وهي المفارقة بين الأسياد، و الأغنياء، والعبيد، والفقراء فأهل عبلة أثرياء مخصبون و أهله فقراء مجدبون،أهل عبلة لهم نعم، وشاء، وفيهم ثراء، و أهله لا يملكون شيئا فهم يقطنون أماكن صخرية،جرداء ولفظ الجواء يوحي بالسعة والرحابة و ألفاظ الحزن والصمان والمتثلم تفيد القسوة والسغب والشظف. واستخدام التضاد الجغرافي هنا مشحون بإحساس عميق بالفارق الطبقي بين العرب الصرحاء والعبيد الهجناء....)
إن قراءة أبو سويلم تجعلنا نتساءل عن التضاد الجغرافي المزعوم الذي انتهى إليه البيت المذكور؟ وعن القرائن النصية التي تبين المفارقة المزعومة في البيت بين الأسياد، والأغنياء، والعبيد، والفقراء، وبين أهل عبلة الأثرياء،المخصبون، و أهل عنترة الفقراء، المجدبون،وبين أهل عبلة الذين لهم نعم، وشاء، وفيهم ثراء، وأهل عنترة الذين لا يملكون شيئا.؟
إن ما قام به أبو سويلم هنا يمكن أن نسميه بالقراءة الخارجة عن النص المتحدثة -من دون تفويض- نيابة عنه، المنطقة له بما تريد، المتغاضية عن سياق النص.
ويبلغ هوس البحث عن الصراع الطبقي بالدارس إلى حد الإساءة إلى النص والتقول عليه وذلك حين يشرع في التعليق على بعض الأبيات• (وقد نلحظ السخط من ذالك النظام الاجتماعي المثقوب في الكنية"ابنة مخرم" وقد نحس تهكما أليما من ثقوب المجتمع وعيوبه،والذي يساوي بين المرأة"الخرماء التي تثقب أذنيها لتزينها بالشنف" وبين أبناء القبيلة من الإماء"المخرومي الشفاه، والأذان والأنوف" رمزا للعبودية والرق.ويشير في البيت الأخير إلى صعوبة التقارب بين مستويين مختلفين متناقضين :أهلها في ربيع وخصب وغنى وأهله في جدب وقحل ومحل،أهلها سادة شيوخ وأهله أرقاء مستعبدون، أهلها بعنيزتين في ربوة عالية وأهله بالغيلم في ظلمات بئر سحيقة...)
ونعجب لهذا التناقض الذي سقط فيه الباحث ذلك أن عبارة " ابنة مخرم"في البيت التي بنى عليها الدارس كل تعليلاته هي كنية، أوصفة لوالد عبلة مما يجوز لنا - حسب منطق الباحث – أن ندخل والد عبلة في زمرة العبيد المخرومي الشفاه، وننفي عنه صفة السيد،الشريف الذي سبق للباحث أن وصفه بها .
ولعل التناقض الصريح، وسوء الفهم الواضح يتجلى في تأويل الباحث لدلالات الأبيات التالية:

إن كنت أزمعت الفراق فإنما
زمت ركابكم بليل مظلم
ما راعني إلا حمولة أهلها
وسط الديار تسف حب الخمخم
فيها اثنتان و أربعون حلوبة
سودا كخافية الغراب الأسحم

فهو يذهب إلى أن (الذين يرحلون ليلا لا يكونون إلا خائفين أو مهزومين والإبل تسف حب الخمخم لأن القوم مذعورون فزعون يحثون الإبل على السرعة فتلتقط الأوراق اليابسة سفا.)
ولعل وجه التناقض وسوء الفهم يكمن في:
- أن الباحث قد سبق له و أن وصف أهل عبلة بأنهم أسياد شرفاء، أغنياء، ومن كان هذا هو حالهم لا نخالهم يرحلون كما زعم الدارس ليلا خائفين مهزومين مذعورين.
ثم أن من أخبر الصحراء يعلم أن البدو يرحلون ليلا أو على الأقل في الصباح الباكر لأن طبيعة الصحراء الحارة ترغمهم على ذلك.
- أن الباحث لم يفهم الأبيات فحرف معناها ذلك أن الشاعر يصور في الأبيات المذكورة لحظة التأهب للرحيل وليس كما فهم هو –خطأ - من أن القوم كانوا خائفين، فزعين يحثون الإبل على المسير وهي تلتقط حب الخمخم.

ودليلنا على ذلك هو أن لفظة وسط الواردة في البيت:
ما راعني إلا حمولة أهلها
وسط الديار تسف حب الخمخم.
فالإبل ما تزال وسط الديار تسف حب الخمخم وهي إشارة إلى قرب الرحيل وهو ما ذهب إليه الزوزني حين علق على البيت بقوله: ( ما أفزعني إلا استفاف إبلها حب الخمخم وسط الديار أي ما أنذرني بارتحالها إلا انقضاء مدة الانتجاع والكلإ فإذا انقضت مدة الانتجاع علمت أنها ترحل إلى دار حييها)
ولعل إخضاع النص الشعري لفرضيات مسبقة خارجة عن سياقه ومحاولة البحث لها عن تبريرات في النص هي التي أدت بالباحث إلى التعسف في تأويل الأبيات التالية:
إذ تستبيك بأصلتي ناعم
عذب مقبله لذيذ المطعم
وكأنما نظرت بعيني شادن
رشإ من الغزلان ليس بتوأم
وكأن فارة تاجر بقسيمة
سبقت عوارضها إليك من الفم
أو روضة أنفا تضمن نبتها
غيث قليل الدمن ليس بمعلم
جادت عليه كل بكر حرة
فتركن كل حديقة كالدرهم
سحا وتسكابا فكل عشية
يجري عليها الماء لم يتصرم
فترى الذباب بها يغني وحده
هزجا كفعل الشارب المترنم
غردا يسن ذراعه بذراعه
فعل المكب على الزناد الأجذم.)
نقرأ في تعليق أبو سويلم على هذه الأبيات ما يلي: " لا تستطيع وأنت تقرأ وصف الروضة أن تلغي من ذهنك صورة عبلة المرأة الحرة الصريحة النسب التي تبحث عن السيادة والشرف وقد أرادها الشاعر أنفا لم يطأها رجل، ولم تخطر على قلب بشر، غمرها المطر الجود فاكسبها طهرا ونقاء وصفاء...وفي نعت السحابة ب"بكر"، و"حرة" رغبة مكينة في أن تكون عذراء طاهرة ولكن المشكلة تكمن في "الدرهم" والثروة والغنى الذي تسعى له المرأة ومن أين للعبيد في المجتمع الجاهلي المال والذهب؟ المال القليل لا يرضيها، لأنها تريده "سحا وتسكابا" لا حدود لهن ولا تجده إلا عند العربي الصريح الشريف النسب،الواسع الثروة لذلك لم يمتلكها إلا الغني الذي تفرد بها فرحا طربا نشوانا بوحدته وانفراده على الرغم من نقائصه الخلقية وعدم مروءته وخبث سجاياه وإلحاحه الكريه فهو بمثابة الذباب في البحث عن المتع وعدم العفة وهو المكب على الزناد الأجذم يشعل النار في الحطب أو هو الذي يسعى لإشعال الحرب أو على اقل تقدير في قلب الشاعر الملتهب وجعله أجذم رمزا لعجزه وخرقه.)

إننا فعلا أمام مشكلة أساسها إسقاطات لا يبررها السياق النصي و لا تتحملها الصور الشعرية، وليست المشكلة( في "الدرهم" والثروة والغنى الذي تسعى له المرأة ومن أين للعبيد في المجتمع الجاهلي المال والذهب؟ المال القليل لا يرضيها، لأنها تريده "سحا وتسكابا" لا حدود لهن ولا تجده إلا عند العربي الصريح الشريف النسب،الواسع الثروة لذلك لم يمتلكها إلا الغني الذي تفرد بها فرحا طربا نشوانا بوحدته وانفراده..).
إن المنهجية السليمة تدعونا ألا نطلق الأحكام دون قرائن نصية، وإلا أصبح فعلنا تقولا على الناص. إن قراءة النص ليست هي مجرد وصف له، وإنما هي كشف للمنكر من النص ولذلك لا بد لنا أن نستند على قرائن نصية تجعل فعلنا يأخذ شرعية القراءة الممنهجة.
إن الممنهجة السليمة تفترض على الدارس أن يقف عند حدود النص الدلالية وإلا أصبح فعله إخلالا بالميثاق المعنوي الموجود بين القراء والنص. إن ميثاق القراءة يفرض على القاري أن يحاور النص وأن يحصر فعله ضمن احتمالات دلالات النص الممكنة وإلا أصبح ما يقوم به اعتداء على النص ومساسا بحرمته.
ولكن كيف نضبط حدود النص الدلالية؟
ومن هو المؤهل للقيام بهذه العملية؟
إننا ندرك صعوبة الإجابة عن هذين السؤالين، ذلك أن لا أحدا يدعي التفرد بمعرفة رسم حدود ثابتة لدلالة العمل الأدبي حتى وإن كان كاتبه، لأن النص دائم الحركة، وحركته دليل حياته.
تحرك القراءة النص، وتنتقل به- في بعض الأحيان مرغما - من اتجاه إلى آخر قد لا يكون دائما وجهته السليمة، ولكن ما يمكن أن نحدده هو أن هذا الاتجاه، أو ذاك هو من الاتجاهات المنحرفة عن النص المحرفة لدلالته.
ولعل تحريف وجهة النص هي العبارة التي يمكن أن نصف بها عمل أبا سويلم .
إن التحكم في آليات المنهج النقدي تبقى من ألأمور المساعدة لدارس النص ما لم يتعصب للمنهج وينساق وراءه فيتسبب في خلق علاقة تنافر بين النص والمنهج.
إن الجمع بين المنهج والنص يدفعنا:
1 - إما أن نجعل النص يتكلم والمنهج يصغي لصوت النص فننتج خطاب النص وقليلا من خطاب المنهج،و إما أن نجعل المنهج متكلما والنص مستمعا فننتج خطاب المنهج وقليلا من خطاب النص كما هو الحال في دراسة أبو سويلم فلقد بحثنا عن احتمال معنى ما ذهب إليه الدارس في الأبيات المذكورة فلم نجد قرينة نصية واحدة تبرر ما ذهب إليه الباحث من أن عبلة تبحث عن المال والثروة، والغنى وتريده سحا وتسكابا بل وجدنا لفظ الدرهم الذي بنى عليه الباحث تعليلاته قد عزل من سياقه وافرد كما لو هو لفظ منبت الصلة مع ما يسبقه من الألفاظ في الجملة وما يتبعه.
إن اللفظ يتحرك هنا وفق أسلوب يقيده الاستعمال الخاص فهو في البيت يبقى صفة للحديقة ولا يفهم إلا في هذا الإطار:
جادت عليه كل بكر حرة
فتركن كل حديقة كالدرهم
فالزوزني، وغيره يذهب إلى أن معنى البيت هو أنه (مطرت على هذه الروضة كل سحابة سابقة المطر لا برد معها أو كل مطر يدوم أياما ويكثر ماؤه حتى تركت كل حفرة كالدرهم لاستداراتها بالماء وبياض مائها وصفائه. ..أصابها المطر صبا وسكبا فكل عشية يجري عليها ماء السحاب ولم ينقطع...)
2 - وإما أن نجعل النص يتحاور مع المنهج فيتقبل النص من المنهج ما يقع في حدود دلالته ويتم بذلك إنتاج حوار النص والمنهج.
إن أبا سويلم في دراسته الجديدة هذه لم يحترم الحدود الدلالية للنص وأظهر تحيزا سافرا للمنهج فأنتج خطاب المنهج، وغيب خطاب النص.إن ما يمكن لنا أن نستنتجه من هذه القراءة هو رغبة الدارس في توظيف المنهج الاجتماعي -وهو من حقه- لكن ما هو ليس من حقه أن يتكلم نيابة عن النص فلا يحسن الكلام فيصور عبلة مرة على أنها تلك المرأة التي تبحث عن الثروة والمال بل تريد المال كما يقول أبو سويلم سحا وتسكابا ومرة على أن لها ذيلا تشيل به كالناقة، وأنها ماسو كية تتلذذ بتعذيب الآخر وذلك حين يشرح الأبيات التالية:
هل تبلغني دارها شدنية
لعنت بمحروم الشراب مصرم
خطارة غب السرى زيافة
تقص الإكام بكل خف ميثم
وكأنما تقص الإكام عشية
بقريب بين المنسمين مصلم
يأوي إلى حزق النعام كما أوت
حزق يمانية لعجم طمطم
يتبعن قلة رأسه وكأنه
زوج على حرج لهن مخيم
صعل يعود بذي العشيرة بيضه
كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
زوراء تنفر عن حياض الديلم)
"فعبلة تشعر بالكبرياء والعجرفية فهي لذلك (خطارة وزيافة) تبحث عن الغنى والجاه لا تلتفت وراءها تندفع اندفاعا أعمى نحو المجد والذكر، لا تبالي الآلام، تستعذب الجرح في سبيل هواها وغرائزها وتقاليد مجتمعها....).
إن المتلقي لقراءة أبي سويلم" الجديدة " يجد نفسه أمام نصين متوازيين نص القاري أبو سويلم، ونص الشاعر عنترة.
إن مثل هذه القراءة المتعسفة لا تسهم في إحياء النص المدروس ولا تضمن له الاستمرار في الزمن بل توقف حياته وتحوله إلى جثة.
إن النص الجثة هو نتيجة القراءة المتسرعة غير الواعية بالمسؤولية، القراءة التي لا تحترم شروط إنتاج وحركيه النص، فتحول النص إلى أنقاض متوهمة أنها تعيد بناءه وهي لا تدري أنها تمارس اغتياله.
إن اغتيال النص معناه إجباره على أخذ الوجهة التي لا يحتملها، وتقويض أساسه فيتحول من نص ينبض بالحياة التي أودعها فيه كاتبه إلى جثة نصية.






هوامش الدراسة:


- 1 -لقد فصلنا في هذه المسالة في كتابنا-السمة والنص السردي- مقاربة سيميائية في شفرة اللغة-سلسلة بصمات4- منشورات رابطة أهل القلم-سطيف
-2 - محمد شوقي الزين –تأويلات وتفكيكات – فصول في الفكر الغربي المعاصر- المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب-ط1 /2002 / ص 27
3 - إيكو أمبرطو-التأويل بين السيميائية والتفكيكية- ترجمة سعيد بنكراد- المركز الثقافي الدار البيضاء-ط1/2000/ص:85/86

4 - إيكو أمبرتو، السيميائيات وفلسفة اللغة- ترجمة أحمد الصمعي-مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت-ط1/2005/ص:66 ،
- - 4م،س، ن، ص,
-5- أنور أبوسويلم –دراسات في الشعر الجاهلي –دار الجيل – بيروت ط1 - 1987 ص 13
-6- م، ن ، ن ، ص .
• الأصم الأعجم: الأطرش الأخرس – المتردم: ما يصلح، على ما فيه من الوهن.والمعنى:هل ترك الشعراء قبلي شيئا يقال الشعر فيه،دون أن يقولوه؟ رسم الدار:ماتبقى من آثاره. الرواكد: الأثافي ،شرح المعلقات العشر-تحقيق فوزي عطوي –الشركة اللبنانية للكتاب – بيروت – ب.ط. 1969
- 7-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ –كتاب الحيوان،ص :34
- - 9 أنور أبو سويلم م، س،ص: 14
10- - - عبد الله الحسن بن أحمد الزوزني –شرح المعلقات السبع –تحقيق محمد الفاضلي –المكتبة العصرية بيروت –ط. 1/ 1998 ,وفي شرح الخطيب التبريزي حل:يحل فهو حال إدا نزل.وحل يحل إدا وجب فهو حال,وحل من إحرامه يحل فهو حلال،ولا يقال حال,والصوان و"الصمان": موضع.ويقال جبل, والصمان والصوان في الأصل: الحجارة,والصوان يستعمل لحجارة النار خاصة,وكانت العرب تدبح بها.
- 11 - الخطيب التبريزي - شرح المعلقات العشر –تحقيق فخر الدين قباوة – دار الفكر- دمشق سوريا –ط,1/1997
- -12م، ن، ص: 211
13- - الأعلم الشنتمري، يوسف بن سليمان بن عيسى-أشعار الشعراء الستة الجاهليين- ج1 -دار الفكر بيروت – لبنان- ب,ط/1990 ,
-14شرح المعلقات العشر،تحقيق فوزي عطوي ، م ، س ، ص: 137
-15 أنور أبو سويلم – م ، س ص: 14/15
- 16 م، ن، ص: 15
• ينظر على سبيل المثال مطلعي معلقتي امريء القيس وعبيد ابن الأبرص .
-17أنور أبوسويلم ، م، س -ن ،ص.
• الأبيات المقصودة هي:
شطت مزار العاشقين فأصبحت
عسرا علي طلابك ابنة مخرم
علقتها عرضا واقتل قومها
زعما ورب البيت ليس بمزعم
ولقد نزلت فلا تظني غيره
مني بمنزلة المحب المكرم
كيف المزار وقد تربع أهلها
بعنيزتين وأهلنا بالغيلم
- -18 أنور أبو سويلم، م ، س، ص 16
-19وفي شرح الخطيب التبريزي ،م،س،شرح معلقة عنترة: يقال :أزمعت،وأجمعت،فأنا مزمع.والركاب لا يستعمل إلا في الإبل خاصة, والركب : الجماعة الدين يركبون الإبل, وقوله: زمت ركابكم أي شدت بالأزمة. راعني الشيء إدا أفزعني, والحمولة :الإبل التي يحمل عليها. وسط ظرف, وإذا لم يكن ظرفا حركت السين فقلت وسط الدار واسع، وتسف:تأكل, الخمخم:بقلة لها حب أسود إدا أكلته الغنم قلت ألبانها وتغيرت. ويروى :خلية في موضع حلوبة،والخلية: أن يعطف على الحوار ثلاث من النوق ثم يتخلى الراعي بواحدة منهن ، فتلك الخلية. والحلوبة:المحلوبة.الخوافي: أواخر ريش الجناح مما يلي الظهر. الأسحم :الأسود.
20 - - أنور أبو سويلم م، س، ص 17
- -21-الزوزني م،س، ص :200
22أنو أبوسويلم م، س، ص 17/18.وفي رواية الخطيب التبريزي،م،س:إذ تستبيك بذي غروب واضح. وتستبيك:تذهب بعقلك.وقولهم :سباه الله،أي:غربه الله.وغرب كل شيء:حده. وأراد بثغر دي غروب.وغروب السنان :حدها. والواضح:الأبيض.ويريد بالعذب:أن رائحته طيبة،فقد عذب،لدلك.ويريد بالمطعم:المقبل.وكأن فارة مسك.والتاجر هنا:العطار. وفارة المسك:وعاؤه.وقال الأصمعي :العوارض:منابت الأضراس.واحدها عارض.الروضة:المكان المطمئن، يجتمع إليه الماء،فيكثر نبته.ولا يقال في الشجر:روضة.الروضة في النبت والحديقة في الشجر.والأنف: التام من كل شيء.وقيل هو أول كل شيء،ومنه استأنفت الأمر.والغيث:المطر.والمعلم والعلم والعلامة واحد.
23 م، س ، ص 19
24 م، ن ،ن،ص
-25للمزيد ينظر الزوزني – المرجع السابق. ص 2002/ وما بعدها – وكذا التبريزي، ص:159- والأعلم الشنتمرى، ص:465
-26- أنور أبو سويلم ،م، س.
-27خطر البعير بذنبه يخطر خطرا و خطرانا إذا شال به. – شرح الزوزني،م،س، ص :204
- 28 أنور أبوسويلم، م،س، ص 22










رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:05   رقم المشاركة : 228
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

''إشكالية الغمـوض في الشعرالجزائري المعاصر''



بقلم: سعيد شيبان


لقد أولع شعراؤنا بالغموض، إذ كانوا يرون في الإبهام جمالا لا يتحقق في
الوضوح والظهور، وكان بول فرلين (Paul Verlaine) أحد رواد الرمزية يقول: ((
المعاني الخفية كالعينين الجميلتين تلمعان من وراء النقاب ))(1) .
وللرموز والأساطير التي أولع بها شعراؤنا مند السبعينات دخل كبير في غموض
القصائد الشعرية، الشيء الذي طرح إشكال التوصيل وصعوبته أحيانا، نتيجة ما
وراء هذا الغموض من فلسفة فنية وحياتية يشوبها الاغتراب والتعالي عن الواقع.



فالغموض في الفن ليس معضلة تأويلية جديدة، إذ أن طبيعة أي عمل فني يفترض
على من يتعامل معه أن يجد معاني متعددة ومتضاربة، وقديما أشار القاضي
الجرجاني إلى أن الغموض خاصية في التعبير الشعري (( وليس في الأرض بيت من
أبيات المعاني لقديم أو محدث إلا ومعناه غامض ومستتر، ولولا ذلك لم تكن إلا
كغيرها من الشعر، ولم تفرد فيها الكتب المصنفة، وتشغل باستخراجهما الأفكار
الفارغة )) (2) . أما حازم القرطاجني فهو يركز في تعريفه للشعر على عنصر
الغرابة قائلا: (( فإن الاستغراب والتعجب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها
الخيالية قوي انفعالها وتأثرها... فأفضل الشعر ما حسنت محاكاة هيئته
...وقامت غرابته ))(3) .

فمن حق الشاعر إذن أن يحلق في سماء المعاني الخفية ما شاء تلافيا للوقوع في
أسر الابتذال والتقريرية فالشعر يتطلب الرؤيا، والشعر نافذة تطل على
المطلق، وحالة لا يمكن إخضاعها للنظر البارد.

فالغموض– إذن– يلازم اللغة الشعرية الخيالية القائمة على المجاز والمفارقة
للغة العقل والمنطق والسهولة، فهو أنسب المسالك للتعبير عن الأغوار الذاتية
للنفس، لأن جوهر الشعر الذي يعبر عن عمق التجربة لا يبدو لنا على نحو واضح
ومحدد المعالم.

ويرى محمد بنيس أن ظاهرة الغموض مشروعة في الشعر الحديث كونها ناتجة عن
((انفجار النص وخروجه عن القوانين المقيدة للغة اليومية))(4) . ومنه فإن
لغة الشعر الفنية، يجب أن تختلف عن لغة التواصل العادية القائمة على المنطق
والوضوح، فالغموض عند بنيس ناتج عن انتقال نوعي من قوانين اللغة المعجمية
المتداولة والاستهلاكية إلى قوانين اللغة الشعرية التي تنحو نحو الحداثة
وما تقتضيه من شروط معقدة.

ونفس المنحي أكده إيليـا حـاوي الذي صرح أن التجربة الشعريـة تحمل قابليـة
الإبداع مادامت في حالتهـا الغامضـة (( أما إذا تحولـت إلـى أفكـار تفهم
ومعانـي تتضح، فإنها تكون قد نزحت عن الحالة الشعرية وسقطت إلى الحالة
النثرية))(5) .

فالغموض إذن صفة مشروعة من صفات الحداثة حين يصدر من أعماق التجربة التي
تحافظ على عمق الرؤية الفنية، وترفض السقوط في براثن النثرية والاستدلال
الذي يحول الخطاب الشعري إلى الكلام العادي أو النثر الذي قوامه العقل
والمنطق والوضوح.

ومن النقاد من يفرقون بين الغموض الفني المنشود وبين الإبهام والإلغاز
المرفوض من الناحية الفنية، فهذا أدونيس يصرح بأن (( الشعر نقيض الوضوح
الذي يجعل القصيدة سطحا بلا عمق، الشعر كذلك نقيض الإبهام الذي يجعل من
القصيدة كهفا مغلقا ))(6) . وفي موضع آخر يرفض أدونيس الحديث عن فكرة
الغموض والوضوح إذ ليس لهما على حد تعبيره قيمة فنية فيقول: (( وفي مجال
الشعر يتعلق الأمر أولا وأخيرا بدرجة الشعرية، لا بدرجة الوضوح والغموض في
ذاتهما ولذاتهما، والفرق بين مستويات التعبير إذن هو الفرق في اتساع الرؤيا
وعمق التعبير، وعلى هذا الأساس ينبغي دراسة الشعر ))(7) .

وقد يتجلى الغموض وتتضح صعوبته حين يكون موجودا في النص بصفة غير موضوعية،
فتزداد درجة الإبهام والإلغاز في ذهن المتلقي الذي يجد نفسه حائرا أمام حشد
من الرموز والأساطير.

وتصادفنا هذه الظاهرة لدى بعض الشعراء الشباب في الجزائر، فقد نتساءل عن
ماهية الرمز الأسطوري في هذا المقطع للشاعر مولود خيزر:

وفي "غازوز" "نواس"
رأى طفلة وهران
تلاشى في الصور
أذن المغرب... من وقت قريب
صاحت الحامل
"في بطني حجر"،
كان "سيزيف" على مرمى حجر،
يشغل الناس،
يسوي آخر الصيف (8)


فرمز "سيزيف" في هذا المقطع لم يحقق غايته الفنية، طالما لم تكن الحاجة
إليه نابعة من داخل البنية الشعرية ذاتها، وفي هذه الحالة يبلغ التعقيد
والغموض ذروتهما لأن الشاعر لم يقصد إلى الرمز قصد تفجير طاقته الشعرية
وإنما حبا في الظهور أمام القارئ بمظهر المثقف العارف بكل شيء، وهذا ما
أكده الباحث محمد حسين الأعرجي حين قال: (( ولا أكاد أشك في أن طائفة من
الشعراء ينحون هذا النحو، وآية ذلك أنك تقرأ قصائدهم ولا تجد للرمز الذي
استعمله من صدى في القصيدة))(9) .

فحين لا يتمثل الشعراء رموزهم من عمق التجربة الشعرية، تتحول قصائدهم إلى
مجرد طلاسم تحول دون تحقيق التواصل بينهم وبين القراء.

ومن المؤكد أن إعراض شرائح هائلة من الجمهور عندنا عن الاهتمام بالشعر،
مرده في الكثير من الأحيان إلى مشكلة التوصيل، خاصة أن الغموض أصبح المبتغى
الأسمى لدى الكثير من شعرائنا الشباب، فنراهم يندفعون نحو الإفراط في
الضبابية والتعقيد الذي لا يخدم العملية الشعرية بقدر ما يسئ إليها. والسبب
في رأينا أن الذاكرة الجماعية عندنا ظلت متمسكة ببنيات القصيدة التراثية
شكلا ومضمونا، ماعدا أهل الاختصاص الذين تمرسوا على القراءة ومسايرة المسار
الحداثي الذي شقته القصيدة الجزائرية لنفسها منذ أمد بعيد. فحين نقرأ قصيدة
"حوارية الرجل الميت" للشاعر نجيب حماش، نلاحظ أن طابع الغموض الذي يكسي
القصيدة، يحول دون النفوذ إلى ضلالها وفهمها عند المتلقي. يقول نجيب حماش :

يتعفر بالورد والفلسفات
الحصى وقته انزياح المعاني
غامضا أبدا في فيوضات أنساقه
لايحد ولا ينتهي،
لاتفاجئه الأزمنة
لا يقال له أنت أو هو
(ياملك المفردات)
ويقال له ما يشاء
الندى وقته والنساء (10)

إن الشاعر في هذا المقطع يعبر عن مواقف يصعب فهمها حتى على القارئ المتمرس

في قراءة الشعر، والمستوعب لأوهاج الحداثة الشعرية، فإضافة إلى الغموض
الدلالي الذي يشوب كلمات النص، فهناك غموض آخر ناشئ من غموض مرجعية الضمائر
الواردة في النص، الشيء الذي أضفى عليه غلالة من الإبهام حالت دون إيصال
الرؤية. فإذا كانت ظاهرة التجريب حقا مشروعا لكل نصّ شعري يريد أن يحقق
فرادته، ويؤكد أصالته ضمن منطق الاختلاف على حدّ تعبير الباحث أحمد يوسف ((
فلا ينبغي أن يتحول إلى حذلقة تنطلق من الفراغ، وتبني صرحا هشا يذهب في مهب
الريح وتلبس الغموض الذي يتجاوز الإيحاء إلى الألغاز دون معرفة أبسط
أبجديات لغة الشعر ))(11) .

وكثيرا ما يفك الغموض بقدرة المتلقي على فهم دلالات الرموز من خلال القراءة
الواعية والاستكشافية، فحداثة النص تفترض حداثة في التلقي، ومن ثمة فإن
درجات الغموض ترتبط إلى حد كبير بذاتية المتلقي. فقد يبدو نص ما غامضا، بل
مبهما بالنسبة إلى متلق ذي وعي تقليدي، وقد يبدو غير ذلك عند متلق ذي وعي
حداثي. تقول يمنى العيد : (( وهذا التواصل قد يكون أحيانا ممكنا وسهلا، لا
بحكم بساطة النظام الترميزي، ووضوح المرسلة فيه، ونمط التعبير الحي، بل
بحكم التكرار والألفة لهذا النظام الترميزي ونمطه التعبيري بحيث أن القارئ
يعتاد مثل هذا النمط من التركيب ))(12) .

فإشكالية الغموض إذن لا تتعلق فحسب بما يريد الشاعر بثه من خلال الرمز،
وإنما تتوقف كذلك - على حساسيته وثقافته بوجه عام. يقول الشاعر أزراج عمر :

إن تفهموني، تبصروا دمنا جسورا
إن الغموض حديقتي
والسطح كرمتهم جميعا
شيء يمضي هكذا ...
فكوا الرموز تروا وضوحي صارخا .(13)


إن جمالية تلقي الأثر الأدبي تكمن في تعدد تأويلاته، وفي قلق البحث عن
معانيه اللامتناهية الدلالات، فقارئ القصيدة الحداثية لا يقتصر على التلقي
السلبي لها، وإنما ينعم بألوانها، ويعيش في الجو الحالم الذي خلقه الشاعر
وهو في ذلك يواكب معنى غامضا، يحاول أن يجلوه فيمنحه تفسيرا ويضفي عليه ظلا
تجريديا جديدا .

فالغموض الفني المنشود إذن هو الذي يشوبه هاجس البحث عن الطريف والجديد
والرؤية، وهذا أمر طبيعي لدى كل فنان، ولا يمكن لهذا النوع من الغموض أن
ينال من شاعرية الشعراء، وقديما اتهم أبو تمام بالغموض كونه يقول مالا يفهم
من الشعر، إلا أن هذا لم ينقص من شاعريته شيئا، وقد أكد القاضي الجرجاني
على هذا الجانب في شعره قائلا: (( لو كان التعقيد والغموض في المعنى يسقطان
شاعرا لوجب أن لا يرى لأبي تمام بيت واحد، فإنا لا نعلم له قصيدة تسلم من
بيت قد وفر من التعقيد حظهما، وأفسد به لفظهما، ولذلك كثر الاختلاف في
معانيه ... )) (14).

وهناك من ربط ظاهرة الغموض بطبيعة الرؤية الجديدة التي طبعت ولازمت القصيدة
المعاصرة، الشيء الذي جعل النص الشعري المعاصر متفتحا على كل الاحتمالات
المعرفية والحدسية التي تجمع بين تناقضات الرؤية وحطام اللغة وتعدد الرموز.

فالشاعر المعاصر عبّر عن حساسية حضارية قوامها القلق والبحث عن اللانهائي
واللامحدود، فاصطبغت الرؤية المأساوية لديه بلهجة شديدة الغموض والتعقيد،
ومن ثمة كان الشاعر المعاصر على حد قول أدونيس: (( هو شاعر الانقطاع عما هو
سائد ومقبول ومعمّم، وهو شاعر المفاجأة والرفض، الشاعر الـذي يهـدم كـل حـد،
بحيـث لا يـبقـى أمامه غير حركة الإبداع وتفجرها في جميع الاتجاهات ))(15) .

فإذا كان للحداثة نسق جمالي محدد في التلقي الفني، فإن أي تعامل معه من
منظور التلقي التقليدي لن يؤدي بأي حال إلى استيعاب النصوص استيعابا نقديا
وافيا، ولذلك اعتاد بعض النقاد والقراء الشكوى من النصوص المعاصرة بدعوى
أنها مبهمة ومستغلقة في الحين أن بعضا منها يدخل في إطار الغموض الفني المقبول.

فإذا كان الشاعر يجنح إلى منح سمة الفرادة والإغراب لرؤيته الفنية من خلال
الترميز الإبداعي، فعلى القارئ القيام بالعملية المعاكسة، أي فك الرموز
واستكشاف ما توحي به من معان حتى ينفذ إلى أعماق النص فتحقق عملية التواصل
الشعري.

ويمكن أن نمثل للتفاعل الموجود بين مكونات الرمز وثقافة المتلقي بما يلي:


نلاحظ في الشكل " أ " تباعدًا بين المتلقي والرمز، بسبب ضيق الرصيد المعرفي
والحس الرؤيوي لدى المتلقي، مما يجعله عاجزا عن فك الغموض ومواكبة الحركة
الشعرية الجديدة.


نلاحظ في الشكلين "ب" و "ج" قدرا مشتركا بين المتلقي ومعطيات الرمز، مما
يؤدي إلى إدراك القيمة الجمالية للرمز ضمن التجربة.


--------------
* أستاذ مساعد مكلف بالدروس بجامعة بجاية- الجزائر

*الهوامش:*

1- ياسين الأيوبي، مذاهب الأدب الكبرى، الرمزية، ص 34.
2- القاضي علي عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تر محمد
أبو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1966، ص 417.
3- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن
خوجة، دار الكتب الشرقية، تونس، 1966، ص 71.
4- محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في الغرب، ط 1، دار العودة، بيرو،
لبنان، 1984، ص 23.
5-إيليا حاوي، الرمزية والسريالية في الشعر الغربي والعربي، ص 118.
6- أدونيس، مقدمة للشعر العربي، ط 3، دار العودة، بيروت، لبنان، 1979، ص 142.
7- محمد آمين العالم وآخرون، قضايا الشعر العربي المعاصر، د ط، المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1988، ص 195.
8- مولود خيزر، قصيدة "قصيدتان"، ديوان الحداثة، ص 209.
9- محمد حسين الأعرجي، مقالات في الشعر العربي المعاصر، مقالات في الشعر
العربي المعاصر، منشورات دار وهران للنشر، نقوسيا، قبرص، 1985، ص 63.

10- نجيب حماش، قصيدة "حوارية الرجل الميت" ، نقلا عن ديوان الحداثة
لواسيني الأعرج، ص 158.
11- أحمد يوسف، يتم النص، ط1، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2002، ص 282.
12- يمنى العيد، في القول الشعري، ط 1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،
المغرب، 1987، ص 25
13- أزراج عمر ، الجميلة تقتل الوحش، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،
1986، ص110.
14- القاضي علي عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتبني وخصومه، ص 417.
15- أدونيس، الثابت والمتحول، ج 3، دار العودة، بيروت، لبنان، 1982، ص 117.










رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:09   رقم المشاركة : 229
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

النقد الأدبي في الجزائر

في الحديث عن النقدالأدبي في الجزائر قضايا متعددة لعل أبرزها قضية تلج منها سائر القضايا الهامة في حياتنا الأدبية هي قضية الوعي النقدي ومدى تمثله وتجسده في الممارسة.
ـ وإن هذا الموضوع الذي نحن بصدد معالجته يقتضي منا إزالة ما يمكن ان يحيط به من لبس أو غموض وبالتالي لا بد لنا أولاً من تحديد دقيق لحدود الإشكالية النقدية في
الجزائر وثانياً إبراز الترابط المنطقي بين الوعي الفكري والأدبي بين الممارسة النقدية ومسألة النص الإبداعي على ضوء المناهج النقدية المتعارف عليها على المساحة الأدبية.
ـ وإن إلقاء الضوء على طبيعة الممارسة النقدية في
الجزائر يقودنا إلى الشكف عن الوعي الأدبي وتأرجحه بين الذاتية والموضوعية، وذلك يخضع لتباين مستوى الفكري والثقافي عند النقاد، ولعل من الطريف ان نشير إلى أن التباين بين الممارسات النقدية يقود إلى تباين في مستوى الوعي المصاحب لكل عمل نقدي.
ـ طبعاً لا تعوزنا الأمثلة للبرهان على الطابع اللاعقلاني للتفاوت بين الأعمال النقدية، وأن هذا التفاوت يبدو لا موضوعياً في الشكل الظاهري فقط أما من حيث المضمون فإن الموضوعية العلمية تتجلى لنا في بعض الممارسات النقدية.
ـ إن منطق موقف النقدي هنا، لا يتوقف على طبيعة العمل النقدي المبذول بل على أسلوب أداء هذه الممارسة وعلى جملة من المعطيات الفكرية المتصلة بالقيم الجمالية والإبعاد الفنية الكاملة في الوعي النقدي وهذا ما يفسر تفاوت الوعي عند النقاد.
ولا مندوحة بالإعتراف بان الطرح الموضوعي لهذه الإشكالية النقدية طرق شاق تعترضه الإنزلاقات الفكرية الآتية التي تحكم بوعي وبغير وعي منهج البحث في الممارسة النقدية، ومناقشتنا هنا، تهتم بمجالات وإشكاليات
النقد بين الوعي والممارسة.
ـ فمن الأسباب التي حدت بي إلى دراسة هذه القضية ما لا حضناه من تفاوت بين
النقد في المشرق العربي وفي المغرب سواء على مستوى الوعي الأدبي والفكري أو على مستوى الممارسة النقدية التي لم تكن مبنية في معظمها على الفكر النقدي قادر على التمثل والإستيعاب وهذا مصدره هو انعدام نظريات نقدية الفلسفية تستند إلى مدارس النقدية الحديثة فرغم الدراسات التي كتبت بقصد توضيح اصول أزمة النقدالأدبي في الجزائر، فإن الحاجة ما زالت ماسة لإعادة النظر في المسلمات والأسس التي ترتكز عليها مفاهيمنا الثقافية ومنطلقاتنا الفكرية المسؤولة عن هذا المأزق الذي نستشعره فيكل المجالات الإبداعية والممارسات النقدية انه لامر صعب ان نقدم في هذه العجالة تعريفاً شاملاً ومفصلاً بالمذاهب النقدية وتياراته ومناهجه التي تشعبت فيها الآراء وكثر فيها النقاش واحتدام حولهما الجدال، حتى أضحى الناقد لا يدري كيف الخروج من وسط هذه التيارات العديدة من النظريات والمناهج، التي تضاربت في أصلها الأفكار النقدية بغية الخروج من هذه المتاهات النقدية إلى فضاء نقدي فسيح وموحد واضح المعالم.
ـ ونجد مثل هذا التنوع في المناهج النقدية خلال الممارسة النقدية التطبيقية إن هذا التنوع التعددي في شموليته يتضمن عدة مناهج وتيارات قد تتداخل فيما بينها خلال العملية النقدية منها المنهج التحليلي، المنهج اللغوي، المنهج النفسي، المنهج الجمالي، المنهج التاريخي، المنهج الاجتماعي، المنهج العلمي والموضوعي وغيرها من المناهج المتاصرعة فيما بينها.
ـ ونظراً لاتساع مفاهيم
النقد المنهجي نشير وبصورة سريعة إلى أربعة مناهج عرفتها الممارسة النقدية في الجزائر: هي المنهج العلمي الموضوعي، المنهج التاريخي، المنهج الجمالي ثم المنهج النفسي.
ـ ويمثل المنهج العلمي الموضوعي كل من الدكتور محمد مصايف والدكتور عبد الله الركيبي والدكتور عثمان سعدي والناقد واسيني الأعرج، ويحمل هذا المنهج في اتجاهه ومعناه عند هؤلاء النقاد منهجاً أكاديمياً علمياً وإخلاصاً لبحث النقدي، فهو منهج يجمع المادة الأدبية من مختلف مضامينها، ويقوم بتفسيرها وتحليلها وتتبع جزئيتها وأبراز أفكارها الأساسية ومتابعة تأثيرها وتبين جذورها والناقد في هذا المنهج يصدر أحكامه التقيمية والتقويمية من خلال مسألة النص، فتكون بعيدة عن الانطباعية أو الذاتية والتحيز.
ـ إن الاستقرار لمناهج النقاد الأكاديميين يعكس الاهتمام الذي أولاه هؤلاء الكتاب المتحفظين الجادين ودورهم في بلورة وخدمة
النقدالأدبي الجزائري فكتباتهم النقدية المتنوعة تدل على ثراء هذا المنهج وتحقيقه لكثير من النتائج الموضوعية المدروسة في مجال الشعر نذكر الدكتور صالح خرفي وعبد الله الركيبي وعثمان سعدي وأبو القاسم سعد الله وعبد الله شريط وفي مجال الرواية والقصة نذكر جهود محمد مصايف واسيني الأعرج وعمر بن قينة والدكتور أبو العيد دودو وغيرهم من الأكاديمين الذين استطاعوا استقراء الأدب الجزائري وتشريحه للكشف عن الجوانب المضيئة فيه لربطها بالحاضر الإبداعي والمستقبل الفكري والحضاري.
إن الناقد محمد مصايف (رحمه الله) صاحب عدة دراسات وأبحاث أكاديمية في مجال الأدب الجزائري منها (فصول في
النقدالأدبي في الجزائر) (الرواية العربية الجزائرية الحديثة بين الواقعية والالتزام) (النقد الأدبي الحديث في المغرب) (النثر الجزائري الحديث). فهو ناقد ذو ثقافة عميقة ومعرفة أدبية متنوعة وأصيلة لم يكن حديثه عن الأدب الجزائري مجرد تحصيل قراءة بل كان يعايش النصوص ويحسها ومفسراً لها بتوظيف المنهج العلمي الموضوعي فكان يسائل النصوص الأدبية يتحدث من خلالها ومعالجتها من خلال التفكير الاستقرائي والتفكير الاستنتاجي ثم النقد التقيمي الذي كان يصدر عن نظرة جمالية وموضوعية التي تبحث عن جماليات النص التي تقتضي قدراً من الواقعية والإلتزام النقدي والموقف الأدبي الواضح.
أم الدكتور مرتاض عبد المالك صاحب كتاب تحت عنوان (نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر) وهو بحث نقدي حاول الكاتب رصد الإرهاصات الأولى لنهضة الأدب في
الجزائر فاتخذ من التسلسل التاريخي منهاجاً لعرض أفكاره حتى وصل بها إلى غايته من الفكرة ان نظراته النقدية والتاريخية كانت تقوده إلى الدراسة التي تنهج أسلوب الأدب، كموقف يشف عن ثقافة عالية وتذوق أدبي ونقدي، فهذا الكتاب من الدراسات النقدية الجادة التي وضعت
أسس الأدب الجزائري ولقد تجلت لنا ثقافة عالية وتذوق أدبي وتقدي.
فهذا الكتاب من الدراسات النقدية الجادة التي وضعت أسس الأدب الجزائري، ولقد تجلت لنا ثقافة مرتاض من خلال هذا البحث، فكانت عميقة وواسعة والمنهج النقدي الذي اتبعه الدكتور هو المنهج التاريخي الموضوعي لأنه وضع الأدب الجزائري موضعه من تاريخ النهضة الفكرية والثقافية في
الجزائر فوصله بسابقيه ليبين لنا عوامل نشأة هذا الأدب والمؤثرات التي أثرت في حركة تطوره ونموه ومسايرته للأدب العربي في المشرق، فكان يتناول خطوة خطوة ومسالة بعد مسالة يناقش مناقشة علمية موضوعية ويقيم تقيما عادلا ومنصفا دون إجحاف.
وعن الناقد عثمان سعدي، فقد غلب في نقده النظرة الاجتماعية والثورية بحيث جعل من المنهج التاريخي المقياس الأول في تحليل الشعر ونقده مما حجب عنه الجوانب الفنية الأخرى وأوقعه في أحكام هي أقرب إلى الجانب السياسي منها إلى جانب الفني الإبداعي.
_ أما الدكتور صالح خرفي فعند ما تقرأ كتاباته تحس في نقده ابداعا لا يقل عن إبداع العمل الفني نفسه أنه يطرح بصفة دائمة النظريات العملية ليكتشف في لغة متزنة هادئة وأسلوب علم متأدب، ليبحث عن جماليات النص فيحلل النص
الأدبي في قدر من الحرية تتجاوز المقالات السياسية والعواطف الوطنية.
ولكن الناقد بختي بن عودة ذو شخصية أدبية نقدية لا تخضع لقوالب أو تقع تحت طائلة من النظريات أنه ناقد متعدد الثقافة عرف الثقافة العربية قرأ القديم الجديد، ولم تكن معرفته مجرد تحصيل قراءة بل كان يعايش الأفكار ويحسها وينقدها ويكتشف قيمتها الإنسانية والجمالية ولكن بختي بن عودة ذلك الناقد الفيلسوف الذي ننقده والذي يكون قد توصل إلى أفكاره الخاصة والنابعة من ثرائه والمتعانقة مع عصره يدعو إلى التصالح بين الأصالة والمعاصرة في مجال
النقدالأدبي لتلقيح وتطعيم النقدالأدبي الجزائري بالمصطلحات والأفكار النيرة بغية تطوير حركتنا النقدية وجعلها مسايرة لروح العصر.










رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:21   رقم المشاركة : 230
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الأسلوبية .. دراسة موجزة نظرية تطبيقية
أسماء السقيلي


لقد تقدمت المناهج النقدية في عالمنا العربي تقدماً ملحوظاً وإن لم تكن قد وصلت إلى المستوى الذي وصلت إليه أوروبا بيد أن النقاد العرب قد شغفوا بها وأخذوا بلجامها في دراسة وتحليل وتقويم النص الأدبي..
ومن هذه المناهج التي خدمت النصوص الأدبية وبلورت جمالياتها هي (الأسلوبية)..

فماذا يقصد بالمنهج الأسلوبي أو "الأسلوبية"؟

المنهج
كما عرفه الجيلالي: (طريقة موضوعية يسلكها الباحث في تتبع ظاهرة، أو استقصاء خبايا مشكلة ما لوصفها أو لمعرفة حقيقتها وأبعادها ليسهل التعرف على أسبابها وتفسير العلاقات التي تربط بين أجزائها ومراحلها وصلتها بغيرها من القضايا، والهدف من وراء ذلك هو الوصول إلى نتائج محددة يمكن تطبيقها وتعميمها في شكل أحكام أو ضوابط وقوانين للإفادة منها فكرياً وفنياً) (1).

أما الأسلوب:
ففي لسان العرب يقال للسطر من النخيل أسلوب، وكل طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب الفن يقال أخذ فلان في أساليب من القول: أي أفانين منه.(2)
وعرف "ريافتير" الأسلوب بأنه: "كل شيء مكتوب وفردي قصد به أن يكون أدباً".(3)
ويعتبر شارل بالي الفرنسي النمساوي تلميذ دي سوسير "مؤسس المنهج البنيوي" من أوائل المؤسسين لهذا المنهج وتبعه جاكبسون الذي عرف الأسلوبية بأنها "البحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً، وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً".(4)

وقد ألمح عبد القاهر الجرجاني إلى الأسلوب في نظرية النظم، فالنظم عند الجرجاني هو الأسلوب، ومن هذه النظرية بنى الأسلوبيون منهجهم الحديث "الأسلوبية" فأضحت بفضل الكثير من الملاحظات المتراكمة علماً خاصاً بدراسة جماليات الشعر والنثر.
ولم يعد المنهج الأسلوبي يعتمد على الألفاظ وعلاقاتها بالجمل والتراكيب والقواعد النحوية فحسب بل " توسع مفهوم علم الأسلوب ليشمل كل ما يتعلق باللغة من أصوات و صيغ و كلمات وتراكيب فتداخل مع علم الأصوات و الصرف و الدلالة و التراكيب لتوضيح الغاية منه, و الكشف عن الخواطر و الانفعالات و الصور , وبلوغ أقصى درجة من التأثير الفني , بل توسع أكثر من ذلك أخيرا (5) و اشتمل على علم النفس و الاجتماع و الفلسفة وعلوم أخرى شهدت دقة مناهجها ومدى صلاحيتها في إغناء المنهج الأسلوبي.
يقول غزوان " وقد أدى الاهتمام بدراسة الأسلوب وتحليله لغويا على وفق معايير لغته أو فنياً على وفق المعايير الفنية , إلى ظهور ما يسمى بالأسلوبية اللغوية التي ترى أن الأسلوب قد يكون انزياخا أو انحرافا, أو عدولا عن السياق اللغوي المألوف في هذه اللغة أو تلك , أو قد يكون تكرارا للمثال , أو النموذج النصي الذي يهتم به الذوق العام أو قد يكون كشفا خاصا لبعض أصول اللغة ومرجعياتها ولا سيما في الوجه الجمالي للتعبير أو ما يسمى بالوجه البلاغي أو البياني"(6)

ومن هنا نستخلص بأن الأسلوبية إنما تعتمد اعتمادا كبيرا على الدراسات اللغوية التي تمهد لدراسة النص الأدبي , لأن الناقد الأدبي -على حد تعبير غزوان- قبل كل شيء يجب أن يكون لغويا جيدا لأنه" لا وجود لأي نص أدبي خارج حدود لغته"(7) وهذا يدفعنا إلى أن الأسلوبية لا تكتفي البتة ببنية النص كما هي البنيوية بل تنظر إلى ما يحيط بها نظرة شمولية تهدف من ورائها إلى خلق جماليات النص الأدبي و تنويره للقارئ.
هذا بالإضافة إلى علاقتها بالبلاغة العربية وما يعرف بالانزياح والتكرار والإيحاءات التي يستشفها الناقد من السياقات المختلفة.
ويتحدد المنهج الأسلوبي وفق خمسة اتجاهات(8) :

1- الأسلوبية الصوتية:
وهي التي تهتم بالأصوات والإيقاع والعلاقة بين الصوت والمعنى.

2-الأسلوبية الوظيفية:
وتهتم بدراسة العدول أو ما يسمى بالانحراف أو الانزياح.
وتقوم على مبدأين:
أ‌-ـ دراسة نصوص كثيرة تمثل أنواعاً أدبية مختلفة وأجناسا متعددة وعصورا بغية الكشف عن الآليات التي تتحكم في تكوين الأسلوب الشعري.
ب‌- ـ الإفادة من نتائج علم النفس ..فدراسة العمل الأدبي أسلوبياً يتطلب التحرك بمرونة قصوى بين الأطراف والمركز الباطني للنص , والوصول إلى تلك النتائج يتطلب إعادة قراءة النص مرارا.

3-الأسلوبية التعبيرية:
وكان رائدها بالي الذي شق الطريق للتفريق بين أسلوبين أحدهما ينشد التأثير في القارئ والآخر لا يعنيه إلا إيصال الأفكار بدقة . وطور تلاميذه هذا الاتجاه عن طريق التوسع في دراسة التعبير الأدبي , فالكاتب لا يفصح عن إحساسه الخاص إلا إذا أتيحت له أدوات ملائمة , وما على الأسلوبي إلا البحث عن هذه الأدوات.

4-الأسلوبية الإحصائية:

تقوم على دراسة ذات طرفين , أولهما: هو التعبير بالحدث , والثاني هو التعبير بالوصف , ويعني بالأول الكلمات أو الجمل التي تعبر عن حدث و بالتالي الكلمات التي تعبر عن صفة , ويتم احتساب عدد التراكيب والقيمة العددية الحاصلة تزيد أو تنقص تبعاً لزيادة أو نقص عدد الكلمات الموجودة في هذه التراكيب , وتستخدم هذه القيمة في الدلالة على أدبية الأسلوب والتفريق بين أسلوب كاتب وكاتب .
فمثلاً كتاب " الأيام" لطه حسين تبين مثلاً أن نسبة الجمل الفعلية إلى الوصفية 39% في حين أن نسبة تكرار هذه الجمل في كتاب " حياة قلم" للعقاد لا تتعدى 18% , ومعنى ذلك أن كتاب الأيام أقرب إلى الأسلوب الانفعالي والحركي من كتاب العقاد الذي يميل فيه إلى الطابع الذهني العقلاني.


5-الأسلوبية النحوية:
تهتم بدراسة العلاقات والترابط والانسجام الداخلي في النص وتماسكه عن طريق الروابط التركيبية المختلفة , ومن هذه العلاقات : استخدام الضمائر والعطف والتعميم بعد التخصيص... وهذه العلاقات يلجأ إليها الكاتب لتنظيم جملة بعضها إلى جانب بعض مما يؤدي إلى تماسكها و ترابطها ..

وعلى هذا فإن الأسلوبية تواصل تأملها لعالم النص عن طريق القراءة متعددة الوجوه , وتتحدد هذه الاتجاهات بعضها مع بعض في كيان عضوي يجذب القارئ و يستثير تساؤلاته.
ولعلي أقف قليلا مع هذه الدراسة الموجزة على نص أدبي اعتمده الشاعر وفقاً للمنهج الأسلوبي...










رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:23   رقم المشاركة : 231
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي


استقبال القمر

إبراهيم ناجي




أقبل بموكبك الأغرّ *** ما أظمأ الأبصار لك!



العين بعدك يا قمر *** عمياء! والدنيا حلك!





تمضي وراء سحابةٍ *** تحنو عليك وتلثمك!



وأنا رهين كآبةٍ *** بخواطري أتوهمك!





كن حيث شئت فما أنا *** إلا معنىً بالمحال



أغدو لقدسك بالمنى *** وأزور عرشك بالخيال





وأقول صبراً كلما *** عزّ الفكاك على الأسير



روحي وروحك ربما *** طابا عناقاً في الأثير





مهما تسامى موضعك *** وعلا مكانك في الوجود



فأنا خيالك أتبعك ***



قمر الأماني يا قمر *** إني بهم مسقمِ



أنت الشفاء المدَّخر *** فاسكب ضياءك في دمي





أفرغ خلودك في الشباب *** واخلع على قلبي الصفاء



أسفاً لعمر كالحبابِ *** والكأس فائضة شقاء





خذني إليك ونجِّني *** مما أعاني في الثرى



قدحي ترنِّق اسقني *** قدح الشعاع مطهرا





واهاً لأحلام طوال *** وأنا وأنت بمعزلِ



نعلو على قمم الجبال *** ونرى العوالم من علِى









رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:23   رقم المشاركة : 232
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

يحلل شكري عيّاد هذه القصيدة فيقول:

(يوحي عنوان هذه القصيدة بنوع من التفاؤل أو الفرح، فالاستقبال يكون لضيف عزيز نسعد بقدومه، أو لشخص عظيم نحتفل بلقائه، والوزن القصير المرن (مجزوء الكامل الذي تتعادل فيه المقاطع القصيرة والمتوسطة الطول) يزيد القصيدة إشراقاً.
ومناجاة القمر تستمر مع الشاعر من أول القصيدة إلى آخرها.
ولعلنا وقد استرعى نظرنا امتداد الحوار بين الشاعر والقمر على طول القصيدة، نجد من الأوفق أن نبدأ تحليلنا الأسلوبي لها بملاحظة طريقة خطاب الشاعر للقمر.
والسمة المميزة لخطاب القمر هنا هي كثرة أفعال الأمر التي يراد بها الدعاء أو الرجاء أو التمني، وفعل الأمر هنا يقوم بترقيم القصيدة أو بتحديد بدايات الفصول، فالمقطع الأول يبدأ بفعل أمر (أقبل)، والمقطع الثاني يبدأ بفعل أمر كذلك (كن)، وبعد ثلاثة مقاطع تأتي بداية مختلفة ولكنها تؤدي وظيفة "الترقيم" كفعل الأمر أو أقوى منه، وهي النداء المكرر "قمر الأماني يا قمر" ويمكننا أن نلاحظ هنا ما في إضافة القمر إلى الأماني من حذف حرف النداء ثم كرر النداء بـ (يا) في ذات البيت، وفي الفصل الأخير تتعاقب ستة أفعال أمر في ثلاثة مقاطع وهم "اسكب، أفرغ، اخلع، خذني، نجني، اسقني" أما المقطع الختامي فيبدو أنه مميز عن الفصل السابق إذ بدأ باسم فعل مضارع يدل على التعجب "واهاً" وخلا من أي فعل أمر.
ويبدو لنا أن تركز أفعال الأمر الدعائي في المقاطع الثلاثة التي سبقت المقطع الأخير يعبر عن تصاعد انفعال الشاعر، في حين أن خلو المقطع الأخير منها يدل على الوصول إلى نقطة إشباع. ويؤكد ذلك استعمال اسم الفعل الذي يدل على التعجب، والعطف بين ضمير المتكلم وضمير المخاطب.
ويستوقف نظرنا من بين هذه الأفعال قوله في ابتداء المقطع الثالث "كن حيث شئت" فهذا الأمر يختلف عن فعل الأمر السابق "أقبل"، وعن الأفعال التالية "اسكب...وأفرغ.." التي تدل على التضرع والدعاء.
إن الذي يقول كن حيث شئت يريد بها نوعاً من التحدي، وكأنه يقول "لا يهمني من أنت، ولا ابن من تكون" وبهذا يشعر خصمه أنه أعد له اللقاء المناسب، ولكن انظر إلى ما أعده الشاعر هنا "ما أنا إلا معنىً بالمحال" إن شجاعته هي شجاعة من استعد لأن يضرب حتى الموت وكأنه يقول "عظمتك لا تخيفني، لأني أعلم أني لا شيء".

أما إذا نظرنا إلى الصور فمخاطبة الشاعر للقمر كما لو كان إنساناً عاقلاً أمر غير مستغرب في لغة الشعر... فتلك الصور التي رسمها الشاعر تعبر عن شوقه إلى الانعتاق من هموم الدنيا، وقد عرف بسخطه على الحياة والأحياء، ناعياً سوء حظه وضياع عمره، ولكن لا بد أن نتوقف عند سلبية الصور التي يرسمها لنفسه، فهو لا يخوض صراعاً من أي نوع كان، وإنما هو فريسة الهم والسقم والشقاء، ولذلك فإن "القمر" يجب أن يصنع له كل شيء، ويجب أن يشفيه من همه المسقم، وأن يجعله خالداً مثله، ويأخذه بعيداً عن عالم المعاناة هذا، وربما خيل إلينا قوله "واخلع على قلبي الصفاء" أنه يعاني نوعاً من الصراع الداخلي، لكننا لابد أن نستبعد هذا الفهم حيث نجده يقول: قدحي ترنَّق فاسقني *** قدح الشعاع مطهرا
فهو (مستقبل) فحسب، الحياة تسقيه كدرا، وهو يريد شراباً صافياً، مع أنه لم يفعل شيئاً يستحق هذه النعمة إلا الصبر والتمني.
ولابد أن نلاحظ أيضاً أن تمثيل الشاعر للنعمة التي يرجوها من القمر قد غلبت عليها صورة "الشراب": "ما أظمأ الأبصار لك"، "ظمآن أرشف ما تجود"، "اسكب ضياءك في دمي"، "أفرغ خلودك في الشباب"، وإن كانت هناك صورة لمسية وهي صورة العناق "طابا عناقاً في الأثير"، وصورة بصرية "العين بعدك عمياء"، وثالثة مستعارة من اللبس "اخلع على قلبي الصفاء"... وغلبة صورة الشراب تجعلنا نميل إلى الظن بأن في القصيدة حزمة انفعالية ترجع في منشئها إلى المرحلة الفمية في حياة الطفل... فعلماء التحليل النفسي يقولون: ترتكز حياة الطفل النفسية في أشهره الأولى حول فمه، فالفم هو مصدر المعرفة ومصدر الوجدان والنزوع جميعاً، فهو يرضع بفمه، يحب بفمه، يناغي بفمه، ويميز الأشياء بفمه، والدليل على أن هذا الفم هو مصدر الأحاسيس الوجدانية لدى الإنسان في مراحل حياته الأولى هو أننا ربما لاحظنا أن الطفل عندما ينتهي من الرضاعة يتصبب عرقاً، وهذا يدل على الاندماج الكامل بين الأم والطفل، وعندما تنزع الأم طفلها قبل إتمام الرضاعة فإن إمارات الفزع والغضب تبدو واضحة عليه تماماً.
فالشاعر يريد أن يشعر بالاندماج الكامل بينه وبين القمر فيخلع عليه صفات الأم من العناق في قوله "طابا عناقاً في الأثير" فهو تعبير دقيق عن عناق الأم لطفلها، ومن الحنان في قوله "تحنو عليك وتلثمك"، أما في قوله "العين بعدك عمياء" فهي تطابق المعروف عن اكتمال الإحساسات البصرية لدى الرضيع وأنها أول ما تتركز على أمه.
فالصور تغوص في أعماق العقل الباطني وإن تشربت كثيراً من التجارب الواعية، فهو –الشاعر- يعيش وسط أحلام وأماني وأوهام يحاول أن يصل إلى السعادة المفتقدة من خلال مناجاته مع القمر وكأنه طفل يحاول أن يتشبث بتلابيب أمه الغائبة.
فرؤيا الشاعر المفتقدة التي يختم بها قصيدته رؤيا التوحد مع الأم، في وجود لا مكان فيه لغيرهما، وقد شعر بأنه مع ذلك الكائن العجيب القادر يحلق في الأعالي وهذا ما يقوله اللاوعي واللاشعور... أما وعي الشاعر فيقول إنه حلم مستحيل ولكنه وقد أعد نفسه له لا يملك إلا أن يسترسل فيه).(9)


*
*
*


إن قراءة نقدية كقراءة شكري عياد تعد من القراءات النقدية الحديثة التي خدمت القصيدة وبلورت معالمها، فلا تعد قراءة في –مجال النقد الأدبي- خاطئة وصائبة، ولكنها إما قاصرة أو كاملة... فالمجال النقدي مجال مرن يتقبل وجهات النظر المبنية على أسس ومناهج علمية مدروسة.

لقد أجاد الناقد في تحليله من حيث ترسمه للاتجاهات الأسلوبية الصوتية والتعبيرية والوظيفية والإحصائية والنحوية...
تلك الاتجاهات التي اتضحت جليةً في تحليله، فالمستوى الصوتي اتضح في بيانه للوزن والقافية ومدى أثرهما على النص، والتعبيري في بيانه استخدام الشاعر لخطابه الخاص الموحي بالحرمان والشوق إلى الانعتاق من هموم الدنيا، أما على المستوى الوظيفي ففي مدى أثر هذا النص على المتلقي، والصورة التي بُلورت في نفس المتلقي فتراءت له معان جديدة... كصورة الأم والطفل، بالإضافة إلى اعتماده على التحليل النفسي لمراد الشاعر في إيحائه للأم من خلال حديث الشاعر للقمر.

أما المستوى الإحصائي فتراءى من خلال بيانه لأفعال الأمر التي استخدمت في القصيدة وكيف أثرت فيها، وكذلك على المستوى النحوي في عرضه لأثر العطف على الجمل الذي أدى بها إلى التماسك والترابط.


بيد أن الناقد قد غض طرفه عن أمر مهم تهتم به الأسلوبية وهي مسألة (الانحراف أو العدول) فالقصيدة مليئة بالانحرافات في مثل قوله "سحابة تحنو عليك"، "اسكب ضياءك"، "أفرغ خلودك"، "قدح الشعاع" فهذه الانحرافات من المصادر الجمالية في النص الأدبي تعطيه مزيداً من التوهج والإثارة وتمارس سلطة على القارئ من خلال ما تحمله من عنصر المفاجأة والغرابة... فهي توسع دلالات اللغة وتولد أساليب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة في الاستعمال.

وكذلك ما أحدثه التكرار لكلمة (قمر)، فقد تكررت في القصيدة أربع مرات، في العنوان وفي المقطعين الأول والسادس... ولا يخفى م لهذا التكرار الصوتي في النص من قيمة إيحائية ودلالية. فقد ارتبط القمر في عنوان القصيدة بالمصدر (استقبال) فإضافة القمر للمصدر أوضح أن ثمة لقاء سيأتي، وأن هذا اللقاء إلا لشخص بعيد عزيز لديه... لكن هل حدث هذا اللقاء أم لم يحدث لا ندري؟!.. فما إن ندلف إلى القصيدة حتى تخبرنا بأن هذا اللقاء لم يكن إلا أمانٍ وأوهام وأحلام تجلب الحسرات.. فارتباط القمر في المقطع الأول (بالعين العمياء) ليدل على استيائه ويأسه من حلول هذا اللقاء بأس شكل من الأشكال، كما هو الإنسان الأعمى الذي لن يستطيع يوماً أن تلتقي عينيه بالدنيا.
ثم يكشف الستار عن حقيقة مجلجلة في نفسه في المقطع السادس بأن هذا اللقاء الذي ينتظره –حقاً- ما هو إلا أحلام وأماني... وقد تكررت كلمة (قمر) في هذا المقطع مرتين لتدل على قيمة وجدانية علية، وأن الشاعر قد بلغ ذروة انفعاله!

يقول غريماس:"ثمة ما يبرر للتكرار وجوده، أنه يسهل استقبال الرسالة".(10)
ويقول عياشي:"غير أن وظيفة التكرار لا تقف عند هذا الحد، ذلك لأنها تخدم النظام الداخلي للنص، وتشارك فيه، وهذه قضية هامة لأن الشاعر يستطيع بتكرار بعض الكلمات أن يعيد صياغة بعض الصور من جهته كما يستطيع أن يكشف الدلالة الإيحائية للنص من جهة أخرى".(11)

فكلمة (قمر) في سياقها النصي هي الكلمة المحورية والجوهرية التي سلطت أضواءها على فضاءات النص وبلورت جمالياته


هذا بالنسبة إلى ذات النقد، أما بالنسبة إلى المنهج المتبع وهو المنهج الأسلوبي فإنه يعيد لنا نشوة التراث حيث "نظرية النظم" عند عبد القاهر الجرجاني، فقد دعا إلى النظرة الشمولية التي تمكن القارئ من الوقوف على جماليات النص الأدبي، فلا يستطيع القارئ الحكم على النص من قراءة بيت أو عدة أبيات، وإنما يقتضيه النظر والتأمل في القطعة الأدبية بكاملها.. ومن هنا يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله يقف على ما في النص من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير. فلا مزية للألفاظ –عند الجرجاني- من غير سياق ولا تفاضل بينها، وإنما تأتي مزيتها وأهميتها من خلال علاقة اللفظة بما سبقها من ألفاظ وما يليها من ألفاظ... فاللفظة لا يمكن أن توصف إلا باعتبار مكانها في النظم. وهذه من الأدلة التي يستند عليها الأسلوبيون في منهجهم النقدي.

وبنظرة أكثر شمولية ينفرد "حازم القرطاجنّي" بتميزه عن غيره من أهل النظر في علوم البيان والبديع.
فهو أول من قسم القصيدة العربية إلى "فصول"، وأول من أدرك الصلة الرابطة بين مطلع القصيدة وآخرها الذي يحمل في ثناياه الانطباع الأخير والنهائي عن القصيدة.
وبناؤه لهذه النظرة على الاستهلال والخاتمة قائم على أسس نفسية تراعي شعور القارئ ونمو التأثير العاطفي والوجداني فيه، فمن طبيعة القارئ الإحساس والتجاوب مع المشاعر المتجانسة التي تفيض في جوٍ أو مناخ خال من التقلبات العاطفية".(12)
وتلتقي نظرة القرطاجني في تقسيمه للقصيدة إلى "فصول" مع نظرة الأسلوبيين المعاصرين في تقسيمهم النص الأدبي –بغض النظر عن جنسه- إلى "أبنية"، فما "البنية" إلا مصطلح مقابل لما أسماه القرطاجني بالفصل حين قصد به: التقاء أبيات القصيدة وترابطها مؤلفة وحدة معنوية.


لذا من الرائع بل من الأروع أن نجمع بين تلك المناهج النقدية قديمها وحديثها، ونأخذ منها ما نراه من نظرةٍ فاحصة أنها ستخدم النص الأدبي وتكسيه حلة جديدة، وتعطي كل ذي حق حقه سواء كان من جهة المبدع أو النص أو المتلقي أي (المرسل، والرسالة، والمرسل إليه).
-----
(1) مجلة الموقف الأدبي , العدد 404
(2)انظر لسان العرب مادة (سلب)
(3)اتجاهات البحث الأسلوبي , لشكري عياد
(4) النقد الأدبي الحديث أسسه الجمالية , للدكتور: سعد أبو الرضا
(5) المرجع السابق.
(6) أصداء دراسات أدبية نقدية , للدكتور: عناد غزوان.
(7) المرجع السابق.
(8) في النقد و النقد الألسني: للدكتور: إبراهيم خليل.
(9)مدخل إلى علم الأسلوب: للدكتور: شكري عياد.. "بتصرف"
(10)الأسلوبية وتحليل الخطاب: للدكتور: منذر عياشي.
(11)المرجع السابق.
(12)الأسلوبية ونظرية النص..للدكتور: إبراهيم خليل.

**


منقووووووووووول










رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:36   رقم المشاركة : 233
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

النقد الثقافي
لسنا نعني بالنقد الثقافي نقد الثقافة، وإنما نعني به قراءة الثقافة للبحث عن الأنماط المضمرة،التي تختبئ تحت عباءة الجمالي في النقد الأدبي، فالنقد الثقافي يعتمد على أدوات النقد الأدبي المعدلة تعديلاً ثقافيًا.
لذلك لابد أن نتحرك وراء مفهوم الثقافة، وكيفية ارتباطه بالنقد، حيث إن"الثقافة تنشأ عن روح الشعب وعن عبقريته، والأمة الثقافية تسبق الأمة السياسية وتستدعيها.وتبدو الثقافة كمجموعة من الفتوحات الفنية والفكرية والأخلاقية التي تشكل ميراث أمة ما ،وتعتبر هذا الميراث متحققًا بشكل نهائي وهو يؤسس وحدتها"([1]).وهي كلمة فضفاضة، لكنها غالبًا ما استخدمت بمعنى معياري.وخلع عليها مؤسسو علم الإناسة مضمونًا وصفيًا بحتًا. ولم يعد الأمر يتعلق،بالنسبة لهم، كما هو بالنسبة للفلاسفة، بقول ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة، بل بوصف واقعها كما تبدو في المجتمعات البشرية([2]).
وتعددت مفاهيم الثقافة، بين العلماء، كلٍ حسب رؤيته لها، من خلال الفكر الذي يبحث فيه، وفيما يلي آراء العلماء في تعريف الثقافة:
تايلور
"الثقافة هي ذلك الكل المتكامل الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفنون، والأخلاقيات، والقوانين، والأعراف، و القدرات الأخرى، وعادات الإنسان المكتسبة؛ بوصفه عضوا في المجتمع"([3]). هذا التعريف الواضح والبسيط يستدعي بعض التعليقات.فهوكما نرى: تعريف وصفي، وموضوعي، وليس تعريفاً معياريًا.ومن جانب آخر، فهو يختلف عن التعاريف الأخرى الحصرية والفردانية للثقافة.يرى تايلور أن الثقافة تعبير عن شمولية الحياة الاجتماعية للإنسان،وتتميز ببعدها الجماعي. والثقافة،في نهاية الأمر،مكتسبة،وبالتالي فهي لا تنشأ عن الوراثة البيولوجية. ومع أنها مكتسبة فإن أصلها وطابعها غير واعيين إلى حد كبير([4]).
ت . س . اليوت
تختلف ارتباطات كلمة الثقافة بحسب ما نعنيه من نمو فرد، أو نمو فئة أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره. وجزء من دعواي أن ثقافة الفرد تتوقف على ثقافة فئة أو طبقة، وأن ثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقة. وبناء على ذلك فإن ثقافة المجتمع هي الأساسية... "([5]) يبدو أن (ت. س. اليوت) حذر في إبداء آرائه في هذه القضية. ولكنه يرى أن الثقافة ليست نتاجاً حتميا لقوى أو عوامل محددة.
د/حسين الصديق
" الثقافة هي مجموع المعطيات التي تميل إلى الظهور بشكل منظم فيما بينها مشكّلة مجموعة من الأنساق المعرفية الاجتماعية المتعددة؛ التي تنظم حياة الأفراد ضمن جماعة تشترك فيما بينها في الزمان والمكان. فالثقافة ما هي إلا التمثيل الفكري للمجتمع، والذي ينطلق منه العقل الإنساني في تطوير عمله وخلق إبداعاته، فهي بهذا المعنى تختلط بالمجتمع فلا يمكن التفريق بينهما إلا في مستوى التمثيل، فهي بالتالي تحدّد هوية المجتمع في كافة أبعاده المادية والمعنوية"([6]). إن ثقافة مجتمع ما هي مصدر كلّ القيم والأفعال وردود الفعل التي تصدر عن الأفراد المنتمين إلى ذلك المجتمع، وهي بالتالي مقياس كل شيء فيه، ومن خلالها يجب أن يُفهم أو يُدرس ([7]).
مالك بن نبي
الثقافة " هي مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لاشعوريًا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه"([8]).وعن المعنى التاريخي للثقافة، يقول:"هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطى الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون، وروحانية الغزالي، أو عقلية (ديكارت) وروحانية (جان دارك)، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ"([9]).
د/محمد عبد المطلب
الثقافة " الإضافة البشرية للطبيعة التي تحيط بها، سواء أكانت إضافة خارجية في إعادة تشكيل الطبيعة، أم تعديل ما فيها، إلى آخر هذه الإضافات التي لا تكاد تتوقف، بل إن هذه الإضافة الخارجية تضمن قائمة العادات والتقاليد والمهارات والإبداعات. أم كانت إضافة داخلية، بمعنى أنها تتعلق بما هو غريزي وفطري وبيولوجي في الكائن البشري، وهذا المفهوم الموسع للثقافة لم ينل رضا جمهرة المفكرين، ومن ثم حاول البعض حصره في (الإنتاج الفكري) والمعرفي، وما يتصل بهما من العقيدة والأخلاق والقانون والفن، أي ما يمكن أن يندرج في السلوك البشري سمعًا ورؤية وحسًا وصناعة([10]).
من خلال عرض الآراء السابقة عن تصورات المفكرين العرب والغربيين لمفهوم الثقافة، يمكن استنتاج الآتي:
• الثقافة هي المعرفة، المعتقدات، الفنون والأخلاقيات، القوانين، الأعراف، القدرات الأخرى، والعادات والتقاليد الخاصة بمجموعة معينة من الناس.
• الثقافة داخل المجتمع حصن حصين، وقوة فعالة، وقانون القوانين، لا يستطيع أحد المساس بها لأنها تشتمل على المعتقدات الدينية.
• الإغراق في الثقافة المحلية، يؤدي إلى العالمية. فكتابات نجيب محفوظ المغرقة في الثقافة المصرية، أدت به إلى الوصول للعالمية. وتقدُّم الشعوب يؤدي إلى انتشار ثقافتها، فيما يعرف بالعولمة.
• لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تختلف بالطبع عن ثقافات المجتمعات الأخرى، وقد يوجد في المجتمع الواحد ثقافات متعددة، قد تكون متجانسة،وقد تكون متباينة.

• نشأت الدراسات الثقافية في حِجْر علماء الاجتماع ـ لذا فالثقافة تنحو دائمًا منحى الاتجاه الاجتماعي، وتصطبغ الدراسات الثقافية بالصبغة الاجتماعية ـ وانتقلت فيما بعد إلى علوم مختلفة (الأنثروبولوجيا، علم النفس، اللغويات، النقد الأدبي، نظرية الفن، الفلسفة، العلوم السياسية ).
• الدراسات الثقافية من أغنى الدراسات بالدلالات المضمرة، والأنساق المختفية، والتي تحمل تفسيرا لأشياء كثيرة، لا يمكن فهمها إلا بالعودة لدراسة الثقافة.
سمات الثقافة
ومن أهم تلك السمات أنها (إنسانية، مكتسبة، تطورية، تكاملية، استمرارية، انتقالية، تنبؤية).
ـ إنسانية بمعنى أنها من صنع الإنسان ولا تنقل إلا بوساطته.
ـ مكتسبة لأن الإنسان يكتسب ثقافته ممن يعيشون حوله منذ ولادته، سواء في ذلك الأسرة والحي والمجتمع والمدرسة، أي أن اكتسابه للثقافة ليس إراديًا، وإنما يتم بمساعدة الآخرين.
ـ تطورية لا تبقى على حالها بل تتغير وتتطور، ولكن هذا التطور والتغير لا يتم في جوهر الثقافة بل في الممارسة والتطبيق، ويكون ذلك نتيجة لحاجات الإنسان الجديد الذي يعيش في المجتمعات الحديثة.
ـ تكاملية بمعنى أنها تشبع حاجات الإنسان وتريح نفسه، لأنها تقدم له حلولاً وتصورات جاهزة تجمع بين كل المسائل والجوانب الدينية والسياسية والاجتماعية و"البيولوجية".
ـ استمرارية لأنها تنبع من وجود الجماعة ورضاهم عنها وتمسكهم بها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، فهي بذلك تراث جماعي ووعي مشترك يرثه جميع أفراد المجتمع، ويسهمون في نقله إلى الأجيال التالية. وعلى ذلك فإنه لا يمكن القضاء على ثقافة مجتمع ما إلا بالقضاء على كل أفراده، أو تذويبهم في جماعة أكبر منهم وأقوى.
ـ انتقالية لأنها تنتقل من جيل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فهي قابلة للتأثر والتأثير والانتشار بين الأمم الأخرى وخاصة عند توفر وسائل الاتصال الملائمة.
ـ ولعل السمة الأخيرة التنبؤية هي أهم سمات الثقافة عمومًا، فبما أن الثقافة تحدد أسلوب الأفراد وسلوكهم في المجتمع، فإنه بالإمكان التنبؤ بما يمكن أن يتصرف به فرد ما ينتمي إلى ثقافة معينة، لأن ثقافته تحتّم عليه أسلوبًا معينًا تجاه كل مشكلة من المشاكل التي تقابله في حياته اليومية ([11]).



تعريف النقد الثقافي
النقد الثقافي يبين الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لنص معين، ومدى تفاعله مع الثقافة،
كما يربط بين البنية اللفظية والوضع الاجتماعي والفكري والثقافي فهو" فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية مَعْنِىٌ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي. وهو لذا مَعْنِىٌ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة (البلاغي/الجمالي)، وكما أن لدينا نظريات في الجماليات، فإن المطلوب إيجاد نظريات في (القبحيات) لا بمعنى البحث عن جماليات القبح، مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغى في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي والحس النقدي"([12]).
وحتى تقترب نظرية النقد الثقافي من الأفهام، يقارب د/ الغذامي مفهومها بمفهوم (علم العلل) عند (أهل الحديث)، لتشابه الغرض بين العلمين، فيقول:"هو إذن نوع من علم العلل كما عند أهل مصطلح الحديث، وهو عندهم العلم الذي يبحث في عيوب الخطاب ويكشف عن سقطات في المتن أوفي السند، مما يجعله ممارسة نقدية متطورة ودقيقة وصارمة. ولا شك أن البحث في علل الخطاب يتطلب منهجًا قادرًا على تشريح النصوص، واستخراج الأنساق المضمرة، ورصد حركتها. وكما هي الدلالة اللغوية المزدوجة لكلمة (جميل) التي تعنى الشحم مثلما تعنى (الجمال) فإن في الثقافة أيضًا جمالاً من تحته شحم، وكما أن الشحم لذيذ وجذاب إلا أنه ضار وفتاك بالصحة البدنية، وكأنما لذته هي الواسطة والقناع لمضاره، وكذا هي الجماليات البلاغية تضمر أضرارها و قبحياتها، والحاجة إلى كشف ذلك تصبح همًا نقديًا مشروعًا وضروريًا"([13]).
ويرى د/عبد المطلب أن الرمزية من أهم مقومات النقد الثقافي، فواقعة الزواج تصبح رمزا على العائلة ثم القبيلة ثم المجتمع، "فالنقد الثقافي يتعامل مع النص بوصفه نسقا من الرموز والأفكار، بدءا من مادة النص المحسوسة، وصولا إلى طبيعته التكوينية، ثم أثره التنفيذي، دون فصل بين هذه الثلاثية، مع ربطها بالواقع الخارجي وحركته الدائمة التي تحكمها ظواهر الاندفاع حينًا، والانفعال حينًا، والتذكر حينًا ثالثًا"([14]).

نظرية النقد الثقافي عند الغذامي



نظرية النقد الثقافي عند الغذامي
ينبني النقد الثقافي على نظرية (النسق المضمر) ـ أضاف الغذّامي عنصرًا سابعًا إلى عناصر النموذج اللغوي عند ياكبسون(المرسل، المرسل إليه، الرسالة، السياق، الشفرة، أداة الاتصال) وهو: (النسق) فتكون وظيفة الخطاب في هذه الحالة (نسقية) ـ وهو نسق ثقافي، وتاريخي، يتكون عبر البنية الثقافية والحضارية، ويتقن الاختفاء من تحت عباءة النصوص، ويكون له دور سحري في توجيه عقلية الثقافة، وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية. وعليه فإن النقد الثقافي هو مشروع في نقد الأنساق، وهذا تحول جذري ونوعي يفترق فيه النقد الثقافي عن النقد الأدبي، بما أن الأخير معني بنقد النصوص، وهو بحث في جماليات اللغة وتوظيف للمجاز للكشف عن تلك الجماليات.
إن المجاز الكلي هو المفهوم البديل عن المجاز البلاغي، وفي المجاز الكلي تنشأ الجملة الثقافية وتنشأ الدلالة النسقية، والجملة الثقافية هي رديف مصطلحي للجملتين النحوية والأدبية، والفرق بين الجملة الثقافية وهاتين الجملتين يماثل - بل يفوق - الفرق بين الجملة الأدبية والجملة النحوية، وإن كانت النظرية البلاغية والنظريات النقدية قد ميزت تمييزا كبيرا بين الجملة النحوية والجملة الأدبية، وبين المعنى والدلالة، وبين الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، فإن النقد الثقافي يميز بين ذلك كله وبين الجملة الثقافية ومعها الدلالة النسقية ومفهوم المجاز الكلي كتطور نظري ومفاهيمي باتجاه نقد الأنساق لا نقد النصوص، وباتجاه التأسيس لوعي نظري ونقدي مختلف نوعيا وإجرائيا.
إن النقد الثقافي ـ عند الغذامي ـ نظرية نقدية/ألسنية الأدوات ومعرفية القيمة وثقافية المضمون وهي نقد للأنساق آخذة بالمجاز الكلي والتورية الثقافية والنسق المضمر والدلالة النسقية. ونقول إنه بديل عن النقد الأدبي بعد أن فقد هذا النقد وظيفته، حينما بلغ حد التشبع من جهة ولم يعد قادرا على كشف الأنساق، وقد كان همه منصبا على جماليات النصوص وليس على ما وراء ذلك من أنساق مضمرة([15]).

خصائص الدراسات الثقافية([16])عند زيودين ساردار وبورين فان لون
ـ تهدف الدراسات الثقافية إلى تناول موضوعات تتعلق بالممارسات الثقافية وعلاقتها بالسلطة، وتهدف من ذلك إلى اختيار مدى تأثير تلك العلاقات على شكل الممارسات الثقافية.
ـ على الرغم من كونها كينونة منفصلة عن السياق الاجتماعي والسياسي، فإن الدراسات الثقافية ليست مجرد دراسة للثقافة. فالهدف الرئيسي لها هو فهم الثقافة بجميع أشكالها المركبة والمعقدة وتحليل السياق الاجتماعي و السياسي في إطار ما هو جلي في حد ذاته.
ـ في الدراسات الثقافية تؤدى الثقافة دورين أساسين: فهي هدف الدراسة. ومناط الفعل والنقد السياسي على حد سواء. وتهدف الدراسات الثقافية لأن تكون التزاما فكريا وبرجماتيا في آن واحد.
ـ تحاول الدراسات الثقافية أن تظهر انقسام المعرفة، وتروضه من أجل تجنب الانقسام بين نمطين للمعرفة؛ أولهما:الضمني وهو المعرفة البديهية المبنية على الثقافات المحلية،وآخرهما: الأشكال الموضوعية للمعرفة التي يطلق عليها العالمية.
ـ تلتزم الدراسات الثقافية بالارتقاء بأخلاقيات المجتمع الحديث، وأيضا بالخط الجوهري للعمل السياسي. والدراسات الثقافية ليست مجالا للدراسة عديمة الجدوى؛ لكنها التزام تجاه إعادة هيكلة البناء الاجتماعي من خلال الانهماك في السياسات الحرجة، لذلك فالدراسات الثقافية تهدف إلى فهم شكل الهيمنة في كل مكان وتغييره وخاصة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ([17]).
خصائص النقد الثقافي عند ليتش
ـ لا يؤطر النقد الثقافي فعله تحت إطار التصنيف المؤسساتي للنص الجمالي، بل ينفتح على مجال عريض من الاهتمامات إلى ما هو غير محسوب في حساب المؤسسة، وإلى ما هو غير جمالي في عرف المؤسسة، سواء كان خطابا أمظاهرة.
ـ من سنن هذا النقد أن يستفيد من مناهج التحليل العرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة الخلفية التاريخية، إضافة إلى إفادته من الموقف الثقافي النقدي والتحليل المؤسساتي.
ـ إن الذي يميز النقد الثقافي المابعد بنيوي هو تركيزه الجوهري على أنظمة الخطاب وأنظمة الإفصاح النصوصي، كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو، خاصة في مقولة دريدا أن لا شيء خارج النص، وهي مقولة يصفها ليتش بأنها بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي المابعد بنيوي، ومعها مفاتيح التشريح النصوصي كما عند بارت، وحفريات فوكو ([18]).
ومما سبق يمكن استخلاص أهم خصائص النقد الثقافي في الآتي:
• إبعاد الانتقائية المتعالية التي تفصل بين الإنتاج النخبوي والإنتاج الشعبي؛ فيقوم بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.
• كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفَت إليها من قبل .
• يعتمد النقد الثقافي على النقد الأدبي، ولا يقوم بدونه، فالنقد الثقافي مكمل للنقد الأدبي، لذا أضاف د/ الغذامي مستحدثات جديدة على النقد الأدبي، تطور منه لتجعل منه نقدا ثقافيا فعالا، ولم يبتر النقد الأدبي, وذلك عكس ما دعى إليه من موت النقد الأدبي ليحل مكانه النقد الثقافي.
• الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحية.
• كشف القيم الفضلى والحقيقية للنص.
• تذوّق النص بوصفه قيمة ثقافية، لا مجرّد قيمة جمالية، وذلك من خلال الكشف عن الأنساق المضمرة في الخطاب الثقافي.
• الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله، من معرفة الخلفية التاريخية للنص وقائله، وأهم المقومات التي أثرت في شخصية القائل.
• ربط العلوم الإنسانية بالأدب ( علم الاجتماع ـ علم النفس ـ التاريخ ) ممّا يساهم في إثراء النص والساحة الثقافية.
• يرتبط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.
•كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمّشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتمّ هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.
• يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحلية، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالمية.
مهمة النقد الثقافي
إن الذي نصبو إليه أن تكون مهمة النقد الثقافي الوقوف ضد هيمنة النموذج الوافد، لا ضد النموذج في ذاته. وأن يعطي للنموذج العربي الصحيح الأصيل احترامه، وأن يتيح له الفرصة ليؤدي وظيفته الاجتماعية والأدبية، ولا نقصد هنا الوظيفة المغلوطة التي جلبتها أزمة الركود والجمود العربي، كما لا نقصد الوظائف المزيفة التي جلبتها أزمنة تفريغ الذاكرة العربية من هويتها وملئها بالثقافة المضادة التي تسعى جاهدة لتحميل الماضي كل أوزار الحاضر، وتسقط على هذا الماضي كل العور الذي أصاب الواقع العربي الحاضر من تسلط وقهر وإرهاب، ظنا أن هذا هو السبيل لدخول العولمة"([19]).
المنهج الثقافي عند العرب
لو انتقلنا إلى الوعي العربي بمفهوم الثقافة. فسوف نجد تقاربًا في هذا المفهوم مع الوافد الحداثي، وعلى مستوى الوعي اللغوي، تحتاج الثقافة إلى نوع من الفطنة ودقة الفهم، والمثقف ضابط محتوياته، وقائم بها، وهذا المحتوى يمثل جملة المعارف من ناحية، وجملة الاحتياجات من ناحية أخرى([20]).
فقد حمل المصطلح عند ابن سلام الجمحي معنى الإتقان، حيث يقول:" وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها ما تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان"([21]).معنى هذا أن الشعر معطى ثقافي يوازى الثقافة في عمومها، ومن ثم نلحظ أن الوعي التراثي يلازم بين العروبة والشعر. بوصف الشعر مخزون الشخصية العربية([22]).
كما أن الثقافة ضرورة ملحة، أوجب ابن رشيق على الشاعر الإلمام بها وبمعطياتها، حيث يقول:" والشاعر مأخوذ بكل علم، مطلوب بكل مكرمة؛ لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل: من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة، واحتياج أكثر هذه العلوم إلى شهادته، وهو مكتف بذاته، مستغن عما سواه؛ ولأنه قيد للأخبار، وتجديد للآثار...وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب، وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعض أنفاسهم ويقوى بقوة طباعهم، فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار..."([23]).فهذا تأكيد لدعوى النقد الثقافي، وشموله لجميع الدراسات الإنسانية داخل الشعر ليصبح بذلك موسوعة شعرية ديوانية.

[1] دوني كوش، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، ترجمة /قاسم المقداد، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002، ص: 19.

[2] المصدر السابق : 22.

[3] زيودين ساردار و بورين فان لون، الدراسات الثقافية، ترجمة /وفاء عبد القادر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص: 8، و مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 23.

[4] مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية: 22.

[5] ت. س. اليوت، ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة د/ شكري عياد، ضمن كتاب دراسات في الأدب والثقافة، المجلس
ملاحظات نحو تعريف الثقافة، ترجمة د/ شكري عياد، ضمن كتاب دراسات في الأدب والثقافة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص: 379.

[6] د/ حسين الصديق، الإنسان والسلطة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص: 18،17.

[7] المصدر السابق: 18.

[8] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر ببيروت ودمشق، 2000، ص: 74.

[9] المصدر السابق: 77.

[10] د/محمد عبد المطلب ،النقد الأدبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، سلسة الشباب، العدد رقم 5.ص:90.

[11] الإنسان والسلطة: 19.

[12] د/عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء وبيروت، ط/2، 2001.ص: 84،83.

[13] المصدر السابق: 84.

[14] النقد الأدبي: 93.

[15] النقد الثقافي: 89:55 .

[16] النقد الثقافي فرع من فروع الدراسات الثقافية.

[17] الدراسات الثقافية: 13.

[18] النقد الثقافي: 32.

[19] النقد الأدبي: 94.

[20] المصدر السابق: 91.

[21] ابن سلام الجمحي ، طبقات فحول الشعراء، تحقيق/ محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، (د.ت). ص: 5.

[22] النقد الأدبي: 91.

[23] ابن رشيق القيرواني ،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت (د.ت).ص: 1/197،196.










رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:43   رقم المشاركة : 234
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

النقد الانطباعي أو التأثري

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم :

إن أقدمَ منهجٍ للنقدِ ظهرَ في التاريخ قدْ كانَ المنهج الانطباعي أو التأثري , لكن هذا المنهج لم يختفِ قط بل ظل قائمًا وضروريًا حتى اليوم . والنقد الانطباعي له ارتباط وثيق بالقيمة , لذلك فهذا النوع من النقدِ غيرَ مستقلٍ عنِ المدح أو الذم . وهذا النقد يقومُ به أناس اعتادوا بحكم طول مزاولتهم لقراءة الأدب وفنونه أن يتذوقوا ما يقرؤون ثم يحكموا له بالجودة أو الرداءة .1

ويقصد بالنقد التأثري : هو النقد الذي تكون الدوافع الذاتية هي التي تتحكم فيه , بمعنى أن يكون تقويم الناقد للعمل الأدبي مبنياً على أساس ما يبعثه في نفسه , ومدى ما يستثير من ذكرياته وعواطفه الكامنة في ذاته . فهو يعتمد إلى حد كبير على الخلفية الاجتماعية والثقافية , والعوامل المؤثرة في تكوين شخصية الناقد وحده .وهذا الأسلوب في النقد هو الذي نشأ مع الإنسان , وغلب على حياته الأولى , فإذا نظر الناظر في رسم أو قرأ عملاً أدبياً , انفعلتْ نفسه بما أثارت لوحة الرسام , أو صوت المنشد , أو قصيدة الشاعر فيبدي رأيه غيرَ ناظرٍ إلى رأي غيره , ولا إلى طبيعة هذا الشيء الذي أثاره أو أثر فيه , وإنما يعبر في هذا الرأي عن عواطفِه ومشاعره الخاصة تجاه هذا الشيء.2

وقد كان يؤمن الدكتور محمد مندور (1907م ـ 1965م) بالانطباعية , ويرى أنها الثابت النقدي الكبير في التحولات المنهجية المختلفة ( اللغوية ـ التاريخية ـ الايدلوجية ....) وذلك لاعتقاده أن (( المنهج التأثري الذي يسخر منه اليوم بعض الجهلاء , ويظنونه منهجا بدائيا عتيقا باليا لا يزال قائما وضروريا وبديهيا في كل نقد أدبي سليم , مادام الأدب كله لا يمكن أن يتحول إلى معادلات رياضية أو إلى أحجام تقاس بالمتر والسنتي أو توزن بالغرام والدرهم ))
والنقد التأثري هو الأساس الذي يجب أن يقومَ عليه كل نقد سليم وذلك لأننا لا يمكن أن ندرك القيم الجمالية في الأدب بأي تحليل موضوعي ولا بتطبيق أية أصول أو قواعد تطبيقا آليا , وإنما تٌدرك الطعوم بالتذوق المباشر ثم نستعين بعد ذلك بالتحليل والقواعد والأصول في محاولة تفسير هذه الطعوم وتعليل حلاوتها أو مرارتها . 3

وهذا النوع من النقد له مدارسه في القديم والحديث فمن أولئك [ لانسون الفرنسي ] الذي يتبنى هذا النقد ويذود عنه في كتابه : [ منهج البحث في الأدب ] فهو يقول : لا نستطيع أن نتطلعَ إلى تعريف أو تقدير لصفات عمل أدبي أو قوته مالم نعرض أنفسنا قبل كل شيء لتأثيره , تعريضاً مباشراً .
وهذا الكلام قريب جداً من كلام واحد من كبار نقادنا القدماء وهو عبدالقادر الجرجاني الذي يُقِرُ بتأثير المشاعر في الأحكام الأدبية في قوله [ إذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ , فيقول حلو رشيق , وحسن أنيق , وعذب سائغ , وخلوب رائع , فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف , وإلى ظاهر الوضع اللغوي , بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده , وفضل يقتدحه العقل من زناده .. انتهى كلامه من كتابه : أسرار البلاغة .
و يقول القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في قوله في الشعر((: وهو باب يضيق مجال الحجة فيه , ويصعب وصول البرهان إليه.))
ثم يقول : (( والشعر لا يحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة , ولا يحلى في الصدور بالجدال والمقايسة , وإنما بعطفها عليه بالقبول والطلاوة , ويقربه منها الرونق والحلاوة , وقد يكون الشيء متقناً محكماً , ولا يكون حلواً مقبولاً , ويكون جيداً وثيقاً , وإن لم يكن لطيفاً رشيقاً . انتهى كلامه من كتابه : الوساطة بين المتنبي وخصومه ))
قال الدكتور بدوي طبانة : (( ومثل هذه الآراء في أدبنا العربي وفي الآداب الإنسانية كثير , وكلها يدل على الاعتراف بهذا ( النقد التأثري (الذي تكون ذات الناقد فيه , واستجاباته الخاصة هي الأساس الذي يبنى عليه تقدير الأعمال الأدبية والحكم عليها بالجودة أو بالرداءة(( ويقول في موضع آخر : (( ومن هذا يتضح أن النقد التأثري يعبر دائماً عن الرأي الذاتي لصاحبه , ومدى استجابته للعمل الأدبي , وانفعاله به ,وفي هذا النقد كثيراً ما تتعارض الآراء بتعارض الميول والنزعات, واختلاف العواطف والانفعالات .(( هنا انتهى ما نقلته من كتاب الدكتور بدوي طبانة. 4

ولعلنا نرى أحيانا بعض النقاد (الأكاديميين) الذين يعتمدون المقياس الموضوعي فقط , قد أنتجوا لنا نقدا باردا لا حياة فيه حين يتناولون نصوصا يتم معالجتها وفق مقاييسهم المعروفة، ولكن ذلك يكون لسببين: أولهما عدم الاعتماد بشكل أو بآخر على الذائقة الشخصية أو إهمالها تماما، وثانيهما أن الناقد المعني لا يمتلك موهبة النقد, والنقطة الأخيرة تشبه إلى حد بعيد من يحمل شهادة راقية في الشعر العربي مثلا , وهو ليس بشاعر ولكنه قد يكون ناظما للشعر, وذلك لا يعني أنه شاعر حقا أو الذي يحمل شهادة عالية في الترجمة , ولكنه لا يستطيع ترجمة نص إبداعي ترجمة مبدعة. وقد جرى استعمال اصطلاح (النقد الأكاديمي) على كل نقد يحمل سمات التعالي على نتاجات المبدعين ويؤطرها في قوالب جامدة لا روح فيها ولا حياة. لكن الاعتماد على النقد الذي يأتي بوحي الذائقة لوحدها له مخاطر الانزلاق في مطب الذاتية والتقويم المنحاز. وهذا معناه الركون إلى الانطباعية ومالها من مخاطر لا تعطي العمل الأدبي حقه من التقويم الذي يستحقه. 5

المقياس الأوحد الذي تقوم عليه هذه المدرسة هو مقياس التأثير , فلا يُقال إن هذه القصيدة قصيدة كلاسيكية أو قصيدة رومانتيكية , بل يُقال إنها قصيدة جميلة أو رديئة , المهم هو شعور القارئ والناقد وليس إلا قارئا مرهف الحس , سليم الذوق , المهم هو التأثير الذي يجده المتلقي من النص .
والذي يُقال في الأدب يُقال في سائر الفنون , ليس الفن تصويرًا للحقيقة , فمن ذا الذي يعرف حقائق الأشياء ؟ ليس الفن التزاما بالواقع , فكل منا يرى الواقع من زاويته الخاصة .6


.................................................. ...

المراجع :

1ـ النقد الانطباعي في النقد المغربي الحديث , د: محمد يحي قاسمي , كاتب وأكاديمي مغربي, مقالة صدرت 2009م, موقع ديوان العرب . بتصرف.

2ـ من أنواع النقد الأدبي , الأستاذ خالد المحيميد , نوفمبر2009م ,( بتصرف )

3ـ المنهج الانطباعي النشأة التاريخية للانطباعية ( مفاهيمها وأسسها)
وعد العسكري )الحوار المتمدن - العدد: 2022 - 2007 / 8 / 29 ) ( بتصرف)


4ـ من أنواع النقد الأدبي , الأستاذ خالد المحيميد , نوفمبر2009م , ( بتصرف )

5ـ فيصل عبد الوهاب ـ شاعر وناقد , ( بتصرف ) مقال نقدي .



6ـ من ( كتاب قضايا النقد الأدبي الأستاذ الدكتور بدوي طبانة عام 1404هـ , دار المريخ للنشر , الرياض , ص56 بتصرف).


.......

آمل لكم الفائدة .
تحياتي
منقوووووووووول












رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:55   رقم المشاركة : 235
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ....أما بعد :

هذه إطلالة على :

التحليل النصي التداولي للخطاب الشعري !
دراسة تطبيقية في قصائد نموذجية!

الفصل الثالث :

توطئة :


يقوم هذا الفصل على محاولة مقاربة نموذجين شعريين من زاوية لسانية نصية ، وفي ضوء وصف مقولتي الاتساق والانسجام في الخطاب الشعري ، وآلية توازي الأنساق الدالة مع المقام العام الذي تكشف عنه المهيمنات النصية ، وقد وقع اختيارنا على قصيدتي الشاعرين أبي القاسم الشابي وعبد الله الصيخان الموسومتين بفلسفة الثعبان المقدس و كيف صعد ابن الصحراء إلى الشمس؟ على الترتيب[1]..

تفاعل البنية والدلالة في فلسفة الثعبان المقدس

الشاعر والقصيدة

الشابي (أبو القاسم ) شاعر عربي تونسي المولد والنشأة ،ولد سنة1909 وتوفي سنة 1934 ،عرف بشعره الثوري التحرري الذي ألبسه حلة رومانسية ورمزية ،يستعير فيها الصور الطبيعية كدلالات موحية بقيم العدالة والحرية والأمل والإنسانية ،وفي الآن نفسه يستحضر من الطبيعة ذاتها كل الصور المضادة المنسجمة مع قيم اللاعدل والسيطرة والشر،وهذه القصيدة نموذج من نماذج شعره المعبر عن الصراع الأزلي بين الخير والشر بين القوة الظالمة والشعوب المستضعفة من ديوانه أغاني الحياة ،والذي يعده النقاد بحق نموذجا للتجربة الفنية الراقية شكلا ومضمونا
[2]، وحديث الشاعر في القصيدة تعبير عن فلسفة القوة المثقفة في كل مكان ،والتي يمثلها الثعبان المقدس في حواره مع الشحرور بلغة متصوفة تزين الهلاك وتعطيه صورة التضحية والفداء من أجل غاية سامية ومقدسة هي الخلود الأبدي،والقصيدة من هذا البعد تختزل الصراع بين القوى المهيمنة على العالم والكيانات الضعيفة ، ومحاولة إقناعها بعدم جدوى المطالبة بالحقوق إلا ماتقرره هذه القوى المهيمنة ،والتي تفرض نمطا من حياة الاحتواء والتبعية والعيش في كنف الآخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ



[1] - أغاني الحياة ،منشورات دار الكتب الشرقية ،تونس ،1955، المقدمة
2 -المرجع نفسه ،المقدمة.



* * *

تكملة :

درجت الدراسات في تحليل الخطاب على أن تنطلق من فضاءات إستراتيجية ناتئة في البنية النصية كالعنوان والمقدمة والخاتمة والمواضع الداخلية السميكة،مستنجدة بمعطيات جزئية في وصف المعطيات الكلية ،والتي يسمح إدراكها بالإحاطة بعالم النص في صفته الكلية ، ثم تأكيد ترابطه من خلال وصف العلاقات بين الأجزاء وتحديد نوعها في مستويي السطح والعمق ،مما يؤكد ضرورة الانتقال بالوصف النحوي من مجال الجملة الضيق إلى مجال أرحب يمثله الخطاب في صورته النصية والتي هي قادرة على الإفصاح والتأثير والفعل
[1]،ويرتكز بناء النص وانسجامه على جملة من العناصر النصية[2] ، تحقق تكامله وتلاحم أبنيته الجزئية ، بالإضافة إلى تضافر جملة من القرائن الحالية من طبيعة ثقافية واجتماعية متعددة الأبعاد تسهم بدورها في تحقيق الانسجام ، وتُحدث حوارية نصية بين بنية الخطاب وعالمه،فإذا انتقلنا إلى عناصر الربط المسْهمة في اتساق النصوص فمنها البسيط ومنها المركب ؛ فمن الأولى حروف العطف ،ومن الثانية أسماء الإشارة والأسماء الموصولة ، والضمائر الإحالية ،والمركبات الحرفية والظرفية،وقد بات من المعلوم أهمية هذه الروابط في تحقيق تداولية البنى النصية في السياقات المحيلة إليها .إن التحليل اللساني النصي يجمع بالضرورة بين القواعد التركيبية والدلالية والتداولية ،ذلك أن تحليل النصوص يتجاوز الوصف النحوي الجملي القائم على مبدأ التجزئة إلى المكونات المباشرة دونما نظر وعناية بالجوانب الدلالية والسياقية التي تضبط مقاصد المتكلم وغايات الخطاب المنجز علما أن السمة الدينامية للنصوص تعطي لها السلطة المطلقة في فرض نموذج من المعايير التحليلية التي ينطلق منها المحلل في توصيفه ،بعكس النحو الجملي الذي ينطلق من قواعد جاهزة معطاة سلفا لدراسة مكونات الكلام في أشكاله الجملية،ونأخذ الآن في الاقتراب من عالم القصيدة من خلال معرفة تكوينها المقطعي الذي يؤسس بنيتها الظاهرة،و يقوم وصفنا للبنية النصية على رصد تحولات الضمير كمفتاح سهل المنال للوقوف على تقطعات النفس الشعري المصاحب لهذه التجربة الشعرية ، فهذا النص شبيه بنصوص كثيرة للشابي اختارت القالب العمودي الذي يتجرد من تعمد القسمة الظاهرة ، تاركا للقارئ هذه المهمة، ولعل تحولات الضمائر تقلل نوعا ما من ذلك التكثيف الدلالي الذي يجعل من القصيدة لحمة واحدة يصعب فصلها،والجدول التالي يبين ذلك :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - سعد مصلوح ، نحو أجرومية للنص الشعري ، دراسة في قصيدة جاهلية فصول ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، مجلد 16 ، عدد1، 1997، ص153 .معلوم أن الاهتمام الأول بإرساء قواعد وصف نحوي نصي كانت مع ايوالد لانغ في دراسته quand une grammaire de texte est elle plus adequate q uene grammaire de phrase ,langage,p26 .

[2] - بخصوص مفاهيم الاتساق والانسجام والتناص انظر دي بوجراند ، النص والخطاب والإجراء ، ترجمة تمام حسان ،، عالم الكتب ، القاهرة، ط1 ،1998، ص103 ومابعدها .

هناك جدول :


لم أستطع إدراجه فيمكن مشاهدته من البحث في الرابط الذي سوف أضعه!

تعليق :


إن معمار القصيدة قائم على المقاطع الخطابية التالية :

1-وصف2-سردٌ شعري3-وصفٌ وخطاب (خطابمدمج )4-سردٌ شعري5-وصفٌ وخطاب ( خطابمدمج)6-خطاب 7-وصفٌ وسرد ( خطابمدمج) والظاهر أن هناك توازيا في مستوى البنىالمقطعية مما يفيد في ربطها ببعضها ،وجعلها لبنات في نظام نصي متكامل يقوم علىتراتبية واضحة تستهل بوصف فسرد فخطاب فخاتمة وصفية، والقصد من هذا البناء تحقيقالغاية الإقناعية ،وتحقيق عنصر المحاججة في الرسالة الشعرية :
الشاعر...........النص.............الحجة.......المخ اطبون ( المستضعفون في كل مكان )
تزيين الهلاك في صورة تضحية من أجل بقاءالقوة........التهديد ....الإغراء ...الوعود البراقة. وما يمكنملاحظته في الخطاب اعتماده السرد الشعري الذي أضحى تقنية فنية يعتمد عليها الشعرالحديث والمعاصر ،إذ لم يعد محصورا في الرواية والخبر التاريخي إلا أن الغرض منتوظيف السرد الشعري ليس إنتاج حكاية بل تشكيل وضعية نصية معقدة ومتشابكة متجاوزةللوضعية الغنائية والانفعالية الظاهرة في الشعر الكلاسيكي [1]، وتقرر اللسانيات النصية على يد أحد أقطابها من المدرسة الفرنسية ج.م. آدام(J.M.Adam) أن النص بنية مقطعية غير متجانسة في الأساس، وبالإضافة إلى هذا يمكن أن نعين نوعا من المناسبة الغرضية بين مطلع النص في خاصيته الوصفية السردية وخاتمة القصيد في وصفيتها التقريرية ، واللافت للنظر الحصيف أن الشابي قد بنى نصه على رمزية عددية يحظى فيها العددخمسة(5) بمكانة متميزة ،والحقيقة أن الرمز 5 يحتل في سلم الثقافات الإنسانية مكانة متميزة ففي الهندية مثلا يعبر عن سلالة الآلهة بنضاف ،وربما هذا المعنى ينسجم مع الصفة التقديسية التي نعت بها ثعبان الجبال كسلطة روحية متحكمة تحكم الآلهة ، وفي البوذية يرمز العدد خمسة إلى عدد أتباع بوذا ومكونات الكون ، كما ارتبط العدد نفسه في الحضارة الإسلامية بعدد الفرائض وفي الثقافة اللغوية نجد الأسماء الخمسة ،وربما ارتبط هذا العدد بالحواس الخمسة والتي تثبت حضورها في الخطاب الشعري من حيث هي وسائل لتحسس الجمال والقبح فيما عبرعنه الشاعر ضمن حوارية الثعبان / الشحرور فجملة الأحاسيس المعبر عنها هاهنا ترتد إلى إحدى الحواس المدركة للحقيقة الوجودية [2] .

أولا-قواعد الاتساق (cohesion )

إنّ دراسة الرّبط في البنية النصية مهم لأن تأكيده يثبت صفة النصية ووحدة البناء ،وسيكون الطريق مفتوحا بالنسبة إلى الدارس لكي يحاور نصه ،و يؤوله انطلاقا من معرفته الخلفية ورؤيته للعالم ،وينقسم الربط إلى أقسام تناولها علماء لسانيات النص لعل أهمها :
أ-الربط التعليلي.
ب-الربط الإشاري.
ج-الربط الاستنتاجي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ

1 ـ محمد فكري الجزار ، لسانيات الاختلاف، الخصائص الجمالية لمستويات بناء النص في شعر الحداثة ،إتراك للطباعة والنشر ،ط1 ،2001 ، ص224 .
2 ـ العروسي القاسمي ،اللغة المثلى ونحو الأفكار عند الشابي ،الحياة الثقافية ،عدد113،السنة 25 ،مارس 2000،ص12.











رد مع اقتباس
قديم 2013-02-28, 21:59   رقم المشاركة : 236
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي


الاتساق النصي

الاتساق النصّي
دراسة تطبيقية
ــ د. عبد الجليل غزالة – المغرب


طرح الإشكالية
ما الوسائل اللغوية التي يستعملها القاص الليبي زياد علي لتسطير كيفيات الاتساق النصي داخل مجموعته الحكائية التي تحمل عنوان (الطائر الذي نسي ريشه)؟ هل تستطيع المفاهيم الغربية المنظمة لألسنية النص تحديد اتساق الخطاب الأدبي عند المؤلف؟
الإطار النظري:
تدرج ألسنية النص والخطاب وكذلك قطاعاً نحو النص وتحليل الخطاب. مصطلح الاتساق النصي في العديد من بحوثها الأساسية..
نوظف مصطلح الاتساق النصي في دراستنا الحالية لتحديد التماسك المتين بين الأقسام اللغوية المكونة للخطاب الحكائي الذي ينجزه زياد علي من خلال (الطائر الذي نسي ريشه) يقوم اتساق النص الحكائي على بعض الوسائل اللفظية التي تربط بين العناصر اللغوية البانية لجزئيات الخطاب المتلاحم داخل هذا العمل الأدبي.
سيقطع عملنا طريقا خطياً مترابطاً منذ البداية حتى النهاية، بغية وصف النصوص التي تخلق هذه المجموعة، وتحليل الضمائر والإشارات المحلية والإحالات (سابقة ولاحقة) كما سندرس أدوات الربط والعطف والاستبدال والحذف والوصل والتوظيف المعجمي للكلمات القابعة داخل هذه الحكايات.
والحقيقة أن مقاربتنا الألسنية ستبقى قاصرة عن بناء موضوع الخطاب الحكائي والبنية الكلية للإنتاج الأدبي الذي يقدمه زياد علي. فالظاهرتان تحتاجان إلى مقاربة خارجية، أما ممارستنا الحالية فستكون داخلية خالصة تبرز مظاهر الاتساق النصي أن كل إبداع أدبي يجسد لحمة خطابية موحدة، في حين أن غيابها فإنه يقصي هذا الاتساق ويدخل النص في دائرة العدم: أي وجود جمل مفككة ومبتورة. يشترط الاتساق النصي على كل مقطع لغوي خلق كلّ موحد، تتوفر فيه "خصائص معينة تعتبر سمة في النصوص ولا توجد في غيرها، ولا يقف الاتساق النصي عند المستوى الدلالي فقط، وإنما يتوغل أيضاً داخل مستويات أخرى مثل النحو والمعجم. وهذا مرتبط بتصور الباحثين للغة باعتبارها نظاماً يملك ثلاثة مستويات: الدلالة (المعاني)، النحو والمعجم (الأشكال) والصوت والكتابة (التعبير). يعني هذا التصور أن المعاني تتحقق كأشكال والأشكال كتعابير...)(1).
يهتم الاتساق النصي بالعلاقات الموجودة بين أقسام الخطاب الأدبي، لكي يحدد مجموعة من الوسائل والمظاهر التي تربط بين عنصرين لغويين: عنصر لاحق وآخر سابق.
الاتساق النصي في (الطائر الذي نسي رئيسه):
يرتكز الاتساق النصي عند زياد علي في هذه المجموعة الحكائية على عدة وسائل ومظاهر لغوية محددة تنسج البنى الداخلية بكل علاقاتها ووظائفها. نذكر من بين هذه الوسائل: الإحالة، الاستبدال، الحذف، الوصل والاتساق المعجمي.

1-الإحالة:
يطلعنا التحليل الألسني الخطابي أن مؤلف هذه المجموعة الأدبية يوظف عدة إحالات لغوية تبرز أن العناصر البانية للنصوص لا تستطيع بمفردها تأويل الخطابات الداخلية، بل لا بد من الرجوع إلى ما تحيل إليه مثل بعض الضمائر الوجودية المنفصلة والمتصلة وضمائر الملكية والنسبة وكذلك أسماء وظروف الإشارة الزمكانية وأدوات المقارنة (كمية وكيفية)..
يحكم زياد على نسج إحالاته اللغوية المشكلة لخطابات (الطائر الذي نسي ريشه) بواسطة نوعين من الضمائر:
1-1-ضمائر وجودية منفصلة: (أنا، أنت، هو، هي، نحن، أنتما، هما، هم، هن)
تنتظم هذه الضمائر داخل عدة صفحات من هذه المجموعة الحكائية. نجد في ص9: ".. وشربت ماء لا هو من الأرض ولا هو من السماء". فالاتساق النصي ينطبق هنا من الجملة الثانية المحتوية على الضمير المنفصل (هو) الذي يحيل إلى الكلمة السابقة (ماءً) المقيمة في الجملة الأولى.
إن هذه الإحالة تجعل الجملتين متسقتين نصياً وتمنع تكرار بعض الكلمات التي يعوضها الضمير المقيم في الجملة الثانية. ولذلك نقوم بتأويل الجملتين (الأولى والثانية) باعتبارهما لحمة متحدة تبنى نصاً أو جزءاً منه، تبعاً للطول والقصر. يتوالى نظم زياد علي للاتساق النصي داخل (الطائر الذي نسي ريشه) بالضمائر عينها. وهكذا نصادف الأمثلة الآتية في ص12 (أما الماء الذي شربه وهو ليس من الأرض) وفي ص23 : (وهو يحادثه في شأن الإفراج..) والصفحة 45 تبرز لنا الضميرين الوجوديين المنفصلين: (أنا/أنت) من خلال المقابلة: (أنا أفقرته، وأنت تغنيه.. أنا قتلته، وأنت تحييه).
فهذه العلاقات اللغوية بين الجمل اللاحقة والسابقة قامت على الضمائر المذكورة آنفاً. وهي التي ساعدت الكاتب على بناء خطاب حكائي متماسك..
إذن يشترط الاتساق النصي هنا توفر بعض الضمائر العائدة صحبة الكلمات التي تعود عليها، فالإحالة تكون تبادلية بين الضمائر والكلمات التي تحيل إليها أي أن الاثنين يحيلان إلى الشيء ذاته.
يبث الكاتب إرسالية لغوية محكمة إلى القارئ (العربي من خلال ضمائر منفصلة تربط بين جمل لاحقة وأخرى سابقة. فالقارئ لمجموعة (الطائر الذي نسي ريشه) لا يستطيع الفصل بين الضمائر العائدة والكلمات التي تحيل إليها لن تقوم للاتساق النصي قائمة إذا ألغى القارئ الضمائر قائلاً: (شربت ماءَ لا ماء من الأرض ولا ماء من السماء) فعدم تعويض كلمة (ماء) في الجملة الثانية والثالثة بضمير عائد مناسب يقصي الاتساق النصي ويبذر التفكك بين الجمل الثلاث.
تقف التحاليل الغربية الألسنية الخطابية التي ترصد الإحالة النصية عند مفهومي الضمائر المنفصلة والعلاقات السابقة، في حين أننا نجد في اللغة العربية مفهومي الضمائر المتصلة والعلاقات اللاحقة علاوة على المفهومين الغربيين السالفين. لذلك يعد طرح الإحالة النصية داخل اللغة العربية أوسع مما هو عليه داخل اللغات الغربية (الإنجليزية والفرنسية مثلاً) نجد عند زياد علي:
1-2-ضمائر وجودية متصلة:
ينتج المؤلف جملاً ثانية وثالثة ورابعة.. متماسكة نصياً ومرتبطة بالجملة الأولى عن طريق بعض الضمائر الوجودية المتصلة البانية للاتساق النصي.
تطالعنا الصفحة 5 بالقول التالي (شيخ وزوجته لم يخرجا من الدنيا إلاّ بولد عوضهما الله به عن الفقر وقسوة الزمان، فعاهدا نفسيهما أن يهباه للعلم والمعرفة) فضميرا المثنى (الألف/ هما) يجعلان الجمل اللاحقة تحيل إلى الجملة الأولى (شيخ وزوجته) يمكن توضيح هذه العلاقة السابقة بالمخطط الآتي:
يخرجا
شيخ وزوجته ــــــــ عوضـ ــــــــ (هما)ـــــ : علاقات سابقة
عاهدا
يهبا
يبنى ضمير المثنى السالف علاقات وثيقة مع الجملة الأولى (شيخ وزوجته) وهي علاقات تخلق اتساقاً نصياً بين الجمل. أن تأويلا عشوائياً يقصي ضمير المثنى العائد سينتج جملاً حكائية غير (أصولية) ويؤدي إلى تكرار بعض الكلمات التي تجعلنا الضمائر في غنى عنها.
يوظف القاص زياد علي في مجموعة (الطائر الذي نسي ريشه) إحالة لغوية أصيلة تقوم على عدة ضمائر وجودية متصلة ومنفصلة. إن هذه الإنجازات اللغوية المبدعة تسلك طريقين للإحالة:
1-3-طريق الإحالة المقامية:
يعانق المؤلف العالم الذي يقع خارج النص الحكائي.
1-4-طريق الإحالة النصية:
يلج المبدع إلى أعماق نصوص هذه المجموعة فينغمس فيها. يخلق الطريق الأول النصوص الحكائية، حيث يجعل الكاتب يحدد الفضاء الزمكاني للأحداث التواصيلية داخل عمله، وكذلك العلاقات الفيزيائية بين المتقاعلين مع الحكايات (بالنظر إلى إيماءاتهم وإشاراتهم وتعابير وجوههم)(2) ويجعل الطريق الأول المبدع زياد علي يربط لغته الواصفة بسياق المقام الحكائي. وقد أجاد ذلك بدقة متناهية.
تذكرنا التقنيات الحكائية الموظفة والمكونات المعرفية المضمرة، التي يغلفها الكاتب بطرق أسلوبية متينة، بحكايات (ألف ليلة وليلة) الشائعة في الكون وبـ (مائة ليلة وليلة) التي درسها الباحث التونسي محمود طرشونة وببعض الحكايات الروسية التي وضع لها "فلادمير بروب" تنظيراً شاملاً .. وبالحكاية المصرية الخلاقة (ياسين وبهية) وبغيرها من الحكايات في العالم، مما يجعل مؤلف مجموعة (الطائر الذي نسي ريشه) يتواصل عالمياً دون دونية أو زللٍ مع تقنيات وشروط الإنتاج الموضوعي للحكايات الكونية.
لا يوصل طريق الإحالة المقامية زياد علي إلى تأسيس اتساق مجمل داخل مجموعته الحكائية، في حين أن طريق الإحالة النصية يمثل سر الاتساق اللغوي عند هذا الكاتب.
1-5-علاقات لاحقة:
لا تتعرض الألسنية الخطابية الغربية لهذا المفهوم أثناء الممارسة التطبيقية. يقف تحديدها له عند المستوى النظري فقط..
تحكم الاتساق النصي، الذي يخلق تماسكاً متيناً بين الجمل المتوالية المكونة للخطاب الحكائي عند زياد علي، مجموعة من العلاقات اللاحقة كقوله في ص45:
((أنا أفقرته، وأنت تغنيه
أنا قتلته، وأنت تحييه)).
إن الضميرين المنفصلين الابتدائيين (أنا، أنت) يحيلان إلى الأفعال اللاحقة "أفقرت/ تغني، قتلت/ تحيي" فالعلاقة بين الضمير المنفصل والفعل هي علاقة السابق باللاحق من حيث الدلالة والتركيب. نجسد ذلك بالمخطط الآتي:
أ- أناـــــــ أفقرت+ ـــــــ علاقة لاحقة
أنا ـــــــ قتلت+ ـــــــ علاقة لاحقة
ب- أنت ــــــ تغني+ ـــــــ علاقة لاحقة
أنت ـــــــ تحييى+ ـــــــ علاقة لاحقة
يفرغ الكاتب نصوصه الحكائية في قوالب لغوية مقبولة تلوح بإنجازته الألسنية الموظفة لأسلوب شخصي متميز، يعتمد على المقابلات والمقارنات والإبراز أو الإخفاء لبعض العناصر اللغوية. وهي خصوصية أسلوبية لا مضارع لها عند مبدعي النصوص الحكائية لأنها تنسج الخطابات بلغة واصفة ترسم في بعض الصفحات معالم الخطاب الصوفي والسريالي بدقة فريدة.
يوزع زياد علي ادوار الكلام داخل نصوصه الحكائية المتسقة عن طريق الإحالة اللغوية المرتكزة على عدة ضمائر منفصلة وأخرى متصلة، كما أنه يغادر النص ليعانق الإحالة المقامية التي تقطع جذور الاتساق النصي، مما يجعل بعض الخطابات تتوغل في السرد. تضم الإحالة اللغوية، التي تمثل مظهراً قوياً من مظاهر الاتساق النصي في حكايات (الطائر الذي نسي ريشه)، مجموعة أخرى من الضمائر نطلق عليها:
1-6-ضمائر الملكية والنسبة:
أبرز التحليل الألسني الخطابي أن الكاتب يبدع اتساق نصوصه الحكائية بالاعتماد على استعمال ضمائر وجودية منفصلة ومتصلة تخلق علاقات سابقة ولاحقة بين الجمل المتتالية. ارتبطت هذه الضمائر كلها بالأفعال فقط.
نجد وسيلة أخرى للإحالة اللغوية عند زياد علي، وهي توظيفية لبعض ضمائر الملكية والنسبة المتعلقة بالأسماء فقط، مثل:
"أصحابه، أهله، خالي، عزمهما، أصحابك، لفرسه، جسدها، بأنغامه، موقفهما، ولدي، أغانيه، دكانك، صديقه، قصتك، والدك، رأسه، لكلبه، مهرها، سلوكه، طبعه، بعيادته، أمي، "بوي"، أحواله، تجارته، عملك، جوعه، سراحه، بأرجلها، بطنها، والده، خاله، بجناحيه، ريشه، صلاتكم، مشاكلكم، نفسه، ولدها، مضاربهم، أولادي، أختي، خالها..".
يوظف زياد علي ضمائر الملكية والنسبة ليبني اتساق النصوص الحكائية التي تحملها مجموعة (الطائر الذي نسي ريشه). يساعدنا هذا التوظيف على التمييز بين أدوار الكلام التي تنتمي إليها كل ضمائر الملكية والنسبة المتعلقة بالمتكلم: (ولدي، أمي، "أبوي"، أختي..) والمخاطب: (أصحابك، دكانك، قصتك، والدك، عملك صلاتكم، مشاكلكم، أولادك...) والغائب بأعداده الثلاثة: (أصحابه، أهله، عزمهما،
بفرسه، جسدها، بأنغامه، موقفهما، أغانيه، صديقه، رأسه، لكلبه، مهرها، سلوكه، طبعه، بعيادته، أحواله، تجارته، جوعه، سراحه، خالها..)
تحيل ضمائر الملكية والنسبة السالفة إلى السياق المرتبط بالمتكلم والغائب والمخاطب والفضاء الزمكاني. إنها ضمائر نعتبرها بنيوياً خارجة عن النص. وهو ما نعتناه سابقاً بالإحالة المقامية.. لا تلج هذه الإحالة عالم النص الحكائي إلاّ في الكلام المستشهد به" أو في خطابات مكتوبة متنوعة من ضمنها الخطاب السردي، وذلك لأن سياق المقام في الخطاب السردي يتضمن سياقاً للإحالة، وهو تخيل ينبغي أن ينطلق من النص نفسه، بحيث إن الإحالة داخله يجب أن تكون نصية"(3).
والحقيقة أن الخطاب الحكائي الذي يوظفه زياد علي لا يلغي الإحالة السياقية التي ترحل خارج نصوص (الطائر الذي نسي ريشه). يمكن اعتبار الضمائر التي يستعملها الكاتب: "أنا،نحن"، أو تلك التي تشير إلى القارئ العربي: "أنت، أنتم" بأنها سياقية. وهي عملية لغوية تؤدي إلى تنوع أدوار الكلام في خطابات هذه المجموعة.
يتجلى الدور الرائد للاتساق النصي عند زياد علي في بعض ضمائر الغيبة العددية (مفرد، مثنى، جمع) التي تؤدي أدواراً كلامية مخالفة للضمائر الوجودية المتصلة. هذه الضمائر هي: (هو، هي، هما، هم، هن) وقد سبق الذكر أنها تخلق علاقة سابقة مع الجملة الثانية: "وشربت ماءً لا هو من الأرض ولا هو من السماء".
إنها تربط عناصر النص ببعضها وتسدد كل فراغ بين الأقسام. والملاحظ أن ضمائر الملكية والنسبة الموظفة في هذه الحكايات تقوم بعمل مزدوج: فهي تضم المالك والمملوك أو المنسوب، والمنسوب إليه، من خلال التدقيق في كيفية عودة الضمائر على الكلمات المتعلقة بها.

الهوامش:
(1) محمد خطابي. لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب. المركز الثقافي العربي: الدار البيضاء. المغرب.
ط1. 1991. ص15.
(2) المرجع نفسه. ص17
(3) المرجع نفسه. ص18.
منقووووووووووووول














رد مع اقتباس
قديم 2013-03-05, 21:46   رقم المشاركة : 237
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

اهلا وسهلا










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-05, 21:50   رقم المشاركة : 238
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

تأملات صوتية في كتاب الله


بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته


لقد أولى القرآن الكريم المستوى الصوتي من اللغة اهتماما بالغا ،حتى تتم العملية التواصلية بين الخالق عز و جل وبين عباده . لذلك نجد القرآن الكريم يدقق في اختيار حروف الألفاظ تدقيقا متناهيا ، و ويحيط المستوى الصوتي ـ كأحد المستويات اللغوية ـ بكتاب الله من جميع جوانبه :
ـ فقد كان نزوله نزولا صوتيا حيث كان جبريل عليه السلام يتلو الآية أو الآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم تلاوة صوتية مسموعة ،أي أن تلقيه كان صوتيا .
ـ وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلى الناس تبليغا صوتيا كذلك .
ـ ولا زال القرآن الكريم يُتناقل جيلا بعد جيل بطريقة شفوية صوتية .مما يدل دلالة واضحة أن الجانب الصوتي كأحد جوانب اللغة يحف بكتاب الله من كل جانب: في تنزله و تلقيه ، وفي تبليغه ، و في تناقله في الأمة .
ولعل ما يزيد من تأكيد أن القرآن الكريم أولى اهتماما بالغا للجانب الصوتي من اللغة ما أورده الإمام الزمخشري في تفسيره "الكشاف " من أن الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم تجمع كل الظواهر الصوتية العربية . بمعنى أن جميع صفات الحروف المعروفة قد تمثلت في الحروف المقطعة . وإذا عدنا عمليا إلى المصحف للتأكد من هذه الظاهرة سنلاحظ ما يلي : ـ إذا كانت الحروف المهموسة في العربية 10هي ما جمع في قولهم : "فحثه شخص سكت " فإنه ورد منها في الحروف المقطعة بكتاب الله نصفها أي 5 حروف وهي : ( ص ك هـ س ح ). وجاءت في فواتح السور التالية :مريم ،يس ،فصلت .


وإذا كانت الحروف المجهورة هي ما سوى المهموسة ( 18حرفا ) ، فإن القرآن الكريم استعمل كذلك نصفها تقريبا فـي الحروف المقطعة وهي 9 حروف : (أ ،ل ،م ،ر ،ع ،ط ،ق ،ي ،ن ). وذكرت في فواتح الرعد ،طه،يس،الشورى ،القلم.
ـ وإذا كانت الحروف المتصفة بالشدة 8 هي المجموعة في قولهم :"أجد قط بكت " فقد استخدم القرآن الكريم نصفها أيضا في الحروف المقـطعة وهي: (أ،ك،ط،ق ) أي 4 أحرف . و قد وردت في فواتح العنكبوت ،الشعراء ،مريم ،طه ،ق .
ـ وإذا كانت الحروف الرخوة 20 حرفا و هي ما سوى الشديدة ، فقد ورد منها في الحروف المقطعة 10 حروف ( ح، ر،س ،ص ،ع ،ل ،م،ن،هـ، ي )، و قد جاءت في فواتح السورالتالية :الحجر ،مريم ،النمل ، الزخرف ، القلم .
ـ وإذا كانت الحروف المطبقة 4 وهي : (ص، ض ،ط ،ظ ) فقد ورد منها في الحروف المقطعة نصفها كذلك ، أي حرفان : (ص، ط ) ، و قد ذكرت في فواتح ص وطه .
ـ وإذا كانت الحروف المنفتحة هي ما سوى المطبقة ( 24حرفا ) فقد استخدم القرآن الكريم نصفها في الحروف المقطعة وهي الحروف التالية(أ،ح،ر،س،ع،ق،ك،ل،م،ن،هـ،ي ) أي 12 حرفا . و نجدها في فواتح كل من : البقرة ،مريم ،الشورى ،الدخان ، القلم .
ـ وإذا كانت حروف الاستعلاء 7 جمعت في قولهم "خص ضغط قظ " فقد ورد منها في الحروف المقطعة 3أحرف هي (ص ،ط،ق ) وذكرت في فواتح السور التالية : ص ،النمل ، ق .
ـ وإذا كانت الحروف المنخفضة هي ما سوى المستعلية وعددها 21 فإن القرآن الكريم استعمل كذلك نصفها كذلك تقريبا في الحروف المقطعة أي 11 حرفا هي ( أ ، ل ، م ، ر ، ك ، هـ ،ي ، ع ،س ،ح ، ن ) ، وجاءت هذه الحروف في فواتح :
الرعد ،ومريم ، وغافر ، و القلم .
و إذا عرفنا أن حروف القلقلة 5 هي التي جمعت في قولهم : "قطب جد " فإن كتاب الله استعمل منها النصف كذلك تقريبا وهما : ق، ط . اللتان نجدهما في فواتح سورتي طه ، ق .
هذه بعض أمثلة الإعجاز الصوتي في القرآن الكريم ، و سنتناول بالدرس ـ إن شاء الله ـ أمورا أخرى متعلقة بهذا النوع من الإعجاز الذي يزخر به كتاب الله تعالى .










رد مع اقتباس
قديم 2013-03-05, 21:53   رقم المشاركة : 239
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

السرقـــــــــــــات الشعريـــــــة


تعريف (السرقات) الشعرية:
السرقات الشعرية هي أن يعمد شاعر لاحق فيأخذ من شعر شاعر سابق بيتاً شعرياً ، أو شطر بيت ، أو صورة فنية ، أو حتى معنى ما،"ويكون في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر ،لا في المعاني المشتركة...واتكال الشاعر على السرق بلادة وعجز، وتركه معنى سبق إليه جهل والمختار أوسط الحالات"([1])
وتعد السرقات الشعرية من الموضوعات التي أولاها النقاد اهتماماً كبيراً وعناية فائقة، إذ كان من الأهداف النقدية الوقوف على مدى صحة نسبة الأعمال الأدبية إلى أصحابها، والنظر فيما فيها من إبداع أو تكرار، ومعرفة ما امتاز به عمل شاعر عن آخر. ثم إن النقاد أصبحوا يلجؤون إلى الموازنة بين الشعراء كما هو موجود عند الآمدي والجرجاني، ولا يعد المشتغل بالنقد متمكناً حتى يميز بين أصنافه وأقسامه، ويحيط به علما، ويستطيع أن يفصل القول فيه، والتفريق بين أنواعه.
ثم إن النقاد تتبعوا ما في أعمال الشعراء من جدة وابتكار، أو اتباع وتقليد ، وهذا لا يكون إلا باطلاع واسع، ليسهل ربط المتقدم بالمتأخر، ومعرفة السابق بالمعنى واللفظ، وعندها يمكن الحكم عليه بالتقليد أو التجديد

تاريخ السرقات

لا يمكن أن يقرر تاريخ بداية السرقات، وإن كانت هذه الظاهرة قديمة قدم الشعر، فقد وجدت عند اليونانيين، وإن كان المصطلح مأخوذ من سرقة المحسوسات إلا أنه لما ظهر أن هناك ما يوازيه، بل وربما يزيد عليه قبحاً، وذلك بتأثيره الظاهر على المجتمع الإنساني، وسلب إبداع المبدعين، فإن لما تشع به أفكار المبدعين حرمة تتطلب حفظاً، كما أن للأموال حرمة، ولا يكون هذا إلا عن طريق تتبع هذه السرقات، وإظهار ما خفي منها، وأما ما كان واضحاً جلياً فإنه أظهر من أن يبيّن. والسرقة "باب متسع جداً، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه ".([2]) "والسرق ـ أيدك الله ـ داء قديم، وعيب عتيق، وما زال الشاعر يستعين بخاطر الآخر، ويستمد من قريحته، ويعتمد على معناه ولفظه؛ وكان أكثره ظاهراً كالتوارد...وإن تجاوز ذلك قليلاً في الغموض لم يكن فيه غير اختلاف الألفاظ"([3]).

وقد وردت السرقات في الشعر الجاهلي، وكان الشعراء أول من نبه إلى ذلك، إما باعترافهم بأنهم يأخذون عمن سبقهم، وإما بنفي تهمة السرقة عن أشعارهم، فمن ذلك قول عنتره:



هل غادر الشعراء من متردم ...........أم هل عرفت الدار بعد توهم



وكما قال امرؤ القيس:



عوجا على الطلل القديم لعلنا ......نبكي الديار كما بكى ابن حذام



ونفى طرفة بن العبد عن نفسه سرقة أشعار غيره، فقال:


ولا أغيرُ على الأشعار أسرقُها..... عنها غنيتُ، وشرُّ الناس مَنْ سرقا


و الشعراء يظنون أن كلامهم معاد ومكرور كما قال كعب بن زهير:



ما أرانا نقول إلا معاداً...... أو معاراً من قولنا مكرورا




وهذا حسان بن ثابت ينفي عن نفسه الإغارة على شعر غيره حيث يقول:



لا أسرق الشعراء ما نطقوا....... بل لا يوافق شعرهم شعري



وهذا جرير يتهم الفرزق بالسرقة فيقول:



سيعلم من يكون أبوه قينا...... ومن عرفت قصائده اجتلابا



وقوله اجتلابا استخدمه النقاد فيما بعد مصطلحا من مصطلحات السرقة.

ثم يعود الفرزدق فيرد على جرير ويتهمه بالسرقة منه فيقول:



إن استراقك يا جرير قصائدي.... مثل ادعاء سوى أبيك تنفل



وهذا ابن الرومي يرمي البحتري بالسرقة فيقول:



حتى يغير على الموتى فيسلبهم..... حرّ الكلام بجيش غير ذي لجب



وربما يعمد بعض الشعراء إلى السرقة، و من ذلك ما روي أن الأصمعي سأل الفرزدق هل أحدثت شيئاً؟ فأنشده:



كم دون مية من مستعمل قذف...... ومن فلاة بها تستودع العيس



فقال الأصمعي: سبحان الله هذا للمتلمس. فقال الفرزدق: اكتمها ، فلضوال الشعر أحب إلي من ضوال الإبل.

([1]) ابن رشيق ، العمدة ص 531.
([2]) ابن رشيق ، العمدة ص 531.

([3]) القاضي الجرجاني، الوساطة ص185.


منقوووووووول









رد مع اقتباس
قديم 2013-03-05, 22:12   رقم المشاركة : 240
معلومات العضو
**د لا ل**
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

النقـد العـربي قبـل اللسانيات
يتطلب الوقوف علي ما حدث في النقد العربي من تغيرات عند توجهه للنقد اللساني والحداثي بعامة، يتطلب تحديد ما كانت عليه هذه الممارسة من قبل؛ ليـصبح الكشف عمـا حدث فيه من تغيرات واضحا محدد المعالم، كما أن تحديد هذه الممارسة يوضح سبب تأخر انتشار النقد اللساني علي نحو واسع في النقد العربي إلي ثمانينيات القرن الماضي، في حين أن العالم قد بني عليه العديد من النظريات الأخرى ــ سواء بالتعارض معه أو بتطوير بعض الجوانب فيه ــ في موطنها الأصلي بفرنسا، وفي بعض البلاد الأخرى أيضا، منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي.
والكشف عن هذه الممارسة له أهميته الخاصة؛ لكونها تـُمَثـِّل الخلفية السابقة لنقادنا العرب، وهي الخلفية التي كانت كامنة في أعماقهم عندما تعاملوا مع النقد اللساني كمنهج نقدي؛ لذا فإن الكشف عن هذه الممارسة يُسَهِّل التعرف علي مقدار ما استلهمه نقادنا من معطيات هذه الممارسة السابقة؛ ويكشف أيضا عما إذا كانت قد تسربت بعض الجوانب النظرية أو التطبيقية منها، إلي الممارسة التي حاولت تـَمَثـُّل النقد اللساني وتطبيقه في النقد العربي.
وبمقتضى هذه الأسباب أمضي عارضا لتحولات الممارسة النقدية العربية المعاصرة، منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى سبعينيات القرن الماضي، مُركـِّزا علي الجوانب والظواهر النقدية التي كان لها إسهامها وتأثيرها في الممارسة النقدية التي تلقت "البنيوية"، ومهملا الجوانب الأخرى التي تبدو عديمة الفائدة لموضوع الدراسة.
وتنقسم هذه الممارسة القبلية إلي ثلاث مراحل هي: مرحلة "نقد الإحياء" [1876-1921]، ومرحلة "النقد الرومانسي" [1921-1947]، ثم مرحلة "النقد الواقعي" [1947-1981]()*ــ وهو العام الذي شهد انتشار "البنيوية" علي نحو واسع إثر نشر العدد الثاني من مجلة فصول النقدية ــ، ومن الملاحظ أن هذه المراحل متداخلة إلي حد كبير، وهو ما يجعل القطع بوضع حد فاصل تماما بين مرحلة وأخري في عام محدد غير صائب؛ حيث تظهر إرهاصات المرحلة التالية في السابقة، وأحيانا تتسرب بعض جوانب السابقة إلي التالية، وأحيانا أخري تبقي المرحلة السابقة حاضرة بجوار التالية؛ لذا وجب التنويه بأن ذكر التواريخ هنا من قبيل الإعانة علي الدراسة، وليس حدا فاصلا تماما بين مرحلتين منتهيتين.
المرحلة الأولي : "نقد الإحياء" [1876- 1921]:
من الملاحظ أن الآثار الأدبية لمنجزات ((محمد علي)) (1805- 1848) النهضوية لم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ لذا كان "الأدب" في النصف الأول امتدادا لما كان عليه من تدهور في عهدي الدولة العثمانية والمملوكية من قبل. ويتلخص هذا التدهور في العناية الفائقة بالبديع وضروب التكلف اللفظي، وفي اختفاء الأغراض الشعرية التقليدية، ليحل بدلا منها التشطير والتسديس وحساب الجمل وغيره من الألعاب اللفظية، التي حولت "الأدب" ــ شعرا ونثرا( )1ــ إلي ضرب من ضروب التكلف والتعقيد والإلغاز، وفرغته تماما من الإبداع والابتكار والجمال.

ومن الطبيعي أن يشهد "النقد" في تلك الفترة حالة من التدهور تتوازي مع حالة موضوعه "الأدب"، لاسيما أن هذه الحالة نتاج قرون من الجمود والتخلف، أثـَّرت علي مجمل الحياة الثقافية والعلمية في البلاد، وليس علي "الأدب" و"النقد" فحسب؛ لذا انحصر "النقد" في دروس الأزهر ومعاهده، وضاقت نظرته إلي "الأدب"، فلم يعد يراه إلا من خلال منظوري "النحو" و"البلاغة"، وهما منظوران يجعلان "الأدب" خادما "للنحو" و"البلاغة"، ولا يجعلان "النحو" و"البلاغة" يُمَثـِّلان "منهجا" يُبْحَثُ به في جماليات "الأدب" وإمكانياته، كما أن "النقد" شهد ضيقا في موضوعه الذي اقتصر علي تقريظ الكتب وإطراء الأدباء، مع المبالغة الشديدة في ذلك كله.2( )
ولم تتغير هذه الصورة إلا مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متأثرة في ذلك بمجموعة من العوامل تهيأت أسبابها منذ عهد ((محمد علي)) (1805- 1848)، لكنها لم تتمكن من التأثير في الحياة الثقافية والأدبية إلا مع عهد ((إسماعيل)) (1863- 1879)، وذلك لما هو معلوم عن التوجه العسكري المحض لمحمد علي، ثم ما دخلت فيه البلاد من جمود وركود في عهدي ((عباس الأول)) (1849- 1854)، و((سعيد)) (1854- 1863) ــ مع إهمال الفترة القصيرة التي تولاها ((إبراهيم)) (1848) ــ، بينما تـَمَيَّز عهد ((إسماعيل)) بهدوء نسبي، ساعد علي تمكين النهضة الثقافية من الاستفادة بهذه العوامل، بعدما كانت متجهة في تأثيرها إلي الجوانب العملية والتطبيقية فقط.3
ويمكن تقسيم العوامل التي ساعدت علي دفع النهضة الأدبية إلي أربعة محاور تنتظم فيها، وتعطي فكرة حول تأثيرها علي الحياة الأدبية والثقافية بعامة، هذه المحاور هي: أولا: الاحتكاك الثقافي بالغرب منذ الحملة الفرنسية(1798)، ومرورا بالبعثات العلمية، وهو ما أدي إلي التعرف علي الثقافة الغربية والإفادة منها في النهضة الأدبية. ثانيا: انتشار التعليم إلي حد معقول في البلاد، وهو ما وَفـَّر جمهورا تلقى "الأدب" و"النقد" علي المستوي العام، وساعد في نهضته وإنتاجه علي المستوي الخاص. ثالثا: بَعْثُ التراث العربي ونشره باستخدام الطباعة؛ مما مَكـَّن من التعرف علي "الأدب العربي" في صوره المشرقة، بدلا من الصورة السيئة السابق الحديث عنها. رابعا: ازدهار الترجمة والتأليف، وشيوعهما من خلال المجلات التي حلت محل المجلات الأدبية المتخصصة في تلك الفترة، وهو ما أثـَّر بشكل كبير علي ظهور الرواية، وعمل علي تحرر الأسلوب من أغلال البديع.4( )
أما الآلية التي اتبعتها النهضة لدفع "الأدب" ولتخليصه مما أصيب به من تدهور؛ فهي محاولة التضاد مع مظاهر الضعف والتدهور الحادثة فيه بنقيضها، كالتخفيف من أسر البديع وقيده، والتقليل من أهميته، بعدما أصبح جـوهـر الأدب ومـداره، وكذلك محـاولة إعـادة الأغـراض الأدبية التقليدية لـه ــ كالمدح والهجاء والفخر والغزل ــ بدلا من التشطير والتسديس وحساب الجمل، أي باختصار: محاولة إعادة الطبع إلي "الأدب" بعدما غلبت عليه الصنعة والتكلف.
من هؤلاء الأدباء الذين حاولوا ذلك: ((محمود صفوت الساعاتي)) (1241هـ - 1298هـ)، و((عبد الغفار الأخرس العراقي)) (1810 - 1873)، لكن الدفعة الحقيقية للنهضة الأدبية ــ علي مستوي الشعر ــ جاءت علي يد: ((محمود سامي البارودي)) (1838 - 1904)، و((عائشة التيمورية)) (1840- 1902)، و((إسماعيل صبري)) (1854 – 1923)، وغيرهم.
وفي مجال النثر قـَدَّمَ ((رفاعة الطهطاوي)) (1801 – 1873) دفعة كـبيـرة له بترجمـة ((تليماك)) لفنيلون الفـرنسي ــ نـُشـرت ببيروت عام(1867م) ــ، لكن الملاحظ أن الدفعة الحقيقية للنثر ساهم فيها انتشار المجلات التي اهتمت بالنواحي الأدبية إلي حد كبير، وهو ما عمل علي تخليص الأسلوب من سطوة "البديع" و"الزخرف اللفظي"، كما ساعد أيضا علي نشر "الرواية" وتقبلها بين القراء، ومن الذين لهم فضل في انتشار هذه المجلات ــ سواء بالتأسيس أو بالكتابة النقدية والإبداعية فيها ــ: ((يعقوب صروف)) (1852-1927)، و((إبراهيم اليازجي)) (1847 – 1906)، و((جرجي زيدان)) (1861 – 1914)، و((فرح أنطون)) (1861-1922)، وغيرهم.
ومما تقدم يُلاحَظ أن النهضة الأدبية التي حدثت لم يكن للنقد دور ريادي أو جوهري فيها، فهو لم يقم بدوره المطلوب من مراجعة لجوانب الضعف والتدهور الحادثة في "الأدب"، ومن ثـَمَّ يسهم في محاولة تغييرها، وإنما ما حدث أن امتدح "النقد" هذه العيوب، وأطري عليها كما تقدم الذكر، إلي أن جاء النفور منها من "الأدباء" أنفسهم، بعدما أصبح لديهم "ملكة" ذوقية قادرة علي التمييز الفني، وهي الملكة التي كان للعوامل السابق الحديث عنها دور كبير في تكوينها، وما يُمَثـِّل أهمية هنا، أن "النقد" أصبـح مُطـَالـَبَا بالاستجابة لهذا التقدم الحادث في "الأدب"، وأصبح عليه أن يُعَدِّل من أساليبه وأدواته المتوارثة منذ عهود الانحطاط السابقة؛ لكي يتلاءم مع المستوي الذي وصل إليه "الأدب" في تلك الفترة، ومن الجدير بالذكر أن الكثير من هؤلاء "الأدباء" أنفسهم دخلوا دائرة "النقد"، وكان لهم إسهامهم الخاص فيه أيضا.
وعلي هذا يتجه البحث هنا إلي تحديد استجابة "النقد" "للأدب" بعدما تحققت له نهضته، وبعدما أصبح له سَمْتـَهُ الخاص المغاير لما كان عليه من قبل، ويجب قبل المضي في ذلك، تحديد الإطار العام للرؤية الثقافية التي كان يراها "أدباء" و"نقاد" تلك الفترة، وهي "الرؤية" التي تتمثل في حرصهم علي التمسك باتجاهين متعاكسين، هما: "الاتجاه المحافظ" الذي يستلهم مُثـُلـُه من "التراث" في صوره المشرقة منذ العصر الجاهلي إلي العباسي، وهو ما ظهر انعكاسه علي "الأدب" في الحرص الشديد علي الفصاحة والجزالة والفخامة والصحة اللغوية من ناحية، وتقليد "التراث" في صوره وأغراضه وأخيلته وتعبيراته من ناحية أخري. أما الاتجاه الآخر، فهو: "الاتجاه المُجَدِّد" الذي حاول إدخال أنواع أدبية جديدة لم تكن معروفة من قبل، وتم التعرف عليها من خلال قراءة الآداب الأوربية، سواء مترجمة أو في لغاتها الأصلية، كالأدب القصصي والتمثيلي، وكالشعر الملحمي والمسرحي، وأيضا حاول هذا الاتجاه استلهام روح العصر الحديث ــ لتلك الفترة ــ، عن طريق وصل "الأدب" بالواقع المعاش، بعدما انفصل عنه لقرون طويلة.5( )
ومحاولة أدباء النهضة ونقادها المحافظة علي التوازن الشديد بين هذين الاتجاهين معا، له دلالته في التعبير عن الروح التي سادت تلك العصر، وهي الروح التي حاولت التخلص من تخلف القرون السابقة وجمودها من ناحية، ثم اللحاق بالعالم الغربي المتطور والمتقدم من ناحية ثانية، مع الرغبة في المحافظة علي "الهوية القومية"، والخوف عليها من الذوبان خلال هذه العملية، التي أصبحت تفرض نفسها بحكم التطور الملموس للغرب، الذي استطاع استعمار البلاد وإخضاعها له، من ناحية ثالثة.
وعلي صعيد آخر، هذان الاتجاهان معا يجعلان إطلاق تسمية "الكلاسية
علي تلك الفترة ــ والتي صارت معتمدة عند كثيرين ــ غير دقيقة، وهو ما نـَبَّه إليه ((شكري عياد)) من قبل ــ عندما حاول تفسير عدم إطلاق أبناء تلك الفتـرة اسمـا علي أنفسهـم، رغـم معرفتهم بأنهم يحاكون "الكلاسيين الغربيين" ــ يقول في هذا السياق: ((فإذا كانت الكلاسية أو المدرسية تعني إتباع القديم، أو سلوك النهج الذي يؤدي إلي الاعتراف بكتاباتهم وإدراجها ضمن ما يتعلمه التلاميذ في المدارس(...) فماذا يكون هذا القديم، أو تكون هذه التقاليد الأدبية المعترف بها في التعليم، أهي التقاليد الشائعة أو المشتركة بين الآداب الغربية فيكونوا في الحقيقة خارجين علي تقاليد الكتابة العربية، أم هي تقاليد الكتابة العربية وهي لا تعرف هذا القصص أو هذا التمثيل الذين يحاولون إدخاله إليها)) ( ).6
لذا تبدو تسمية ((جابر عصفور)) لنقد تلك الفترة: "بنقد الإحياء"( )7، أكثر صوابا ودقة عن تسميته "بالنقد الكلاسي"؛ فتسمية "نقد الإحياء" مُعَبِّرة تماما عـن حاله في تلك الفتـرة، ومـلائمة لعدم استقرار الأنماط الأدبية المختلفة إبانها ــ لاسيما الجديد والوافد منها ــ ، وأيضا عاكسة لعدم نضج المعايير الجمالية التي وضعها "النقد" للأدب ــ وهو ما يجعل تسمية "النهضة" غير دقيقة
أيضا ــ؛ لذا اخترت تسمية "نقد الإحياء" وتركت تسمية "النقد الكلاسي".
أما التاريخ الذي اعتمدت عليه في تحديد بداية هذه المرحلة؛ فهو تاريخ أقـدم استعمـال معـروف لمصطلح "الانتقـاد"، وهو المصطلح الـذي شـاع كبديل لمصطلح "النقد" كما نعرفه اليوم، أو كما عرفه أجدادنا العرب من قبل، واستخدام مصطلح "الانتقاد" بهذه الصورة له دلالته علي مقدار بُعْدِ "النقد" في تلك الفترة، عن "النقد" كما كان في التراث العربي من قبل، وله دلالته أيضا فيما يوحي به من معاني التصيُّد والتسقـُّط للأخطاء في العمل الأدبي. وأقدم استعمال لهذا المصطلح ــ فيما يذكر((علي شلش))( )8ــ يرجع إلي عام (1876م)، حين ورد في عنوان كتاب صغير هو: ((ارتياد السحر في انتقاد الشعر)) لمحمد سعيد، وهو الكتاب الذي ظهر منجما بمجلة ((روضة المدارس)) عام 1876م، ولا يُعْرَف استخدام لهذا المصطلح قبل ذلك، خاصة مع حالة التدهور التي كانت حادثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر من قبل.

لكن مما يُحْسَب لهذه التسمية ــ "الانتقاد" ــ أنها ظهرت في تلك الفترة لتـُمَيِّز بين نوعين من "النقد"، الأول ما شاع عنه اسم "التقريظ"، وهو المنوط به تعريف القراء بالأعمال الأدبية، عن طريق التنويه بالكتب وبالأدباء، وهو يشبه ما اقتصر عليه "النقد" من قبل في موضوعه كما تقدم، والآخر ما يَبْحَث في شئون "الأدب" وأحواله ووسائل الإجادة فيه، سواء علي مستوي التنظير أو علي مستوي التطبيق كما سيجيء، وهو ما يعني أن "النقد" بدأ يكتسب حساسية خاصة، تمكن بها من الوعي بذاته ــ إلي حد ما ــ، وكذلك الوعي بدوره الذي يجب عليه القيام به تجاه "الأدب".
ومما يُحْسَب للنقد أيضا في تلك الفترة ما لاحظه ((جابر عصفور)) من محاولة التمييز بين "الشعر" و"النظم"، علي أساس خاصية نوعية يختص بها الأول دون الآخر هي "الخيال"( )9، وعلي الرغم من أن التمييز بين "الشعر" و"النظم" يعد شيئا بدهيا لنا الآن؛ إلا أن ذلك يُمَثـِّل نقلة كبيرة للنقد في تلك الفترة، خاصة عند مقابلة ذلك بما كان سائدا في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما تقدم.
لكن ما وَضَعَه "نقاد الإحياء" من شروط يدور فيها "الخيال" ــ طبقا لتصوراتهم ــ يبدو مثيرا للدهشة؛ فقد كان لا يُسْمَح لهذا "الخيال" بالانطلاق أو التحرر من أسْر الواقع، بل كان عليه أن يكون "متعقلا" ــ بتعبير ((عصفور)) ــ، يراعي قوانين الاحتمال وحدود المنطق، ويستمد مفرداته من معطيات الواقع ومكوناته؛ لكي يخرج المنتج الخيالي النهائي إما مشابه للواقع، أو ما يجب أن يكون في الواقع()*؛ وذلك لكي يحقق "الخيال" فعالية تأثيره في المتلقي من وجهة نظرهم( )10، خاصة عندما يجد المتلقي نفسه أمام عوالم علي الرغم من أنها منشأة عن طريق "الخيال"، إلا أن "مظنة الكذب" منتفية عنها تماما، وهو ما يفرض علي "الخيال" ضِـيقا، يعوقه عن القيام بدوره في إثراء "الأدب" وفي تحقيق "الجمال الأدبي".


ومن الواضح أن مَرَدَّ هذا التضييق علي "الخيال" تلك النظرة "الاجتماعية" و"الأخلاقية" التي التزم بها نقاد وأدباء تلك الفترة علي حد سواء، بحيث يبدو الغرض الأساسي من "الأدب" عندهم ما يحمله من رسالة تعليمية وأخلاقية تجاه الجمهور، أنظر كيف تبدو هذه النظرة واضحة في تعريف ((محمد عبده)) (1849- 1905) للكتب الأدبية بأنها: ((هي ما يبحث فيها عن تنوير الأفكار، وتهذيب الأخلاق، من هذا القبيل كتب التاريخ، وكتب الأخلاق العقلية، وكتب الرومانيات [يقصد الروايات]، وهي المخترعة لغرض جليل كتعليم الأدب والحث علي الفضائل، والتنفير من الرذائل، ككتاب كليلة ودمنة، وفاكهة الخلفاء(...)))( )11، ويبدو واضحا تماما في هذا التعريف ما يعتقده نقاد الأحياء حول "وظيفة الأدب"، و"دوره" تجاه المجتمع، وهي النظرة التي التزم بها جميع "نقاد" و"أدباء" تلك الفترة تجاه "الأدب".
ومن هذا المنظور؛ فإن في حالة التعارض بين "الأدب" و"دوره الاجتماعي" و"الخلقي" المنوط به ــ كأن يخلو من قيمة تعليمية أو أخلاقية يوجهها، أو كأن يتعارض مع حقيقة علمية ــ؛ يكون جزائه النبذ والطرد وعدم الاعتداد به، وعلي هذا الأساس تم طرد الأدب الشعبي من دائرة "الأدب"، وسمي ((محمد عبده)) كتبه: "كتب الأكاذيب الصرفة"، وعرفها بأنها: ((ما يذكر فيها تاريخ أقوام علي غير الواقع، وتارة تكون بعبارة سخيفة مخلة بقوانين اللغة، ومن هذا القبيل كتب أبو زيد، وعنتر عبس (...)))( ).12


والأدب الشعبي يبدو من هذه الوجهة ــ لعدم احتوائه علي قيمة يوجهها إلي الجمهور، ولاحتوائه علي معلومات مغلوطة ــ معارضا لمنظومة الأخلاق والتعليم التي صاغها "النقد" للأدب في تلك الفترة، وهو ما أدي إلي طرده من دائرة "الأدب المحترم"، وعدم الاعتراف به في "النظرية النقدية"، علي الرغم مما يحتويه من قيمة أدبية، التفت إليها "النقد" فيما بعد.
و"الأدب" في ظل رسالته الأخلاقية والاجتماعية هذه، يصنع لنفسه آلية تمكنه من أداء دوره تجاه الجمهور. فإذا كان الجمهور يبدو رافضا تلقي هذه الرسالة بشكل مباشر، أو يبدو غير قادر علي استساغة ما في هذه الرسالة "الأخلاقية" و"الاجتماعية" من "حقائق"؛ فإن "الأدب" يستعين في أداء دوره "بالخيال"، لكي يعمل من خلاله علي تمرير رسالته دون إشعار المتلقين بالمرارة الكامنة فيها، لذا يري ((جابر عصفور)) أن "الخيال" من منظور "نقاد الإحياء": ((رداء خادع تكتسي به الحقائق، فتخفي مرارتها وجفافها علي العامة الذين هم أشبه بالصغار الذين لم يشبوا عن الطوق فكريا)) ( )13. ومن هذا الفهم المحدد للخيال و"الأدب" معا، يمكن معرفة سر تضييق النقاد علي "الخيال" من ناحية، ومن ناحية أخري، يمكن معرفة سر عدم انطلاق "الأدب" في فترة "الإحياء" إلي أفق رحبة فسيحة نحو "الجمالية" و"الإبداعية"، كتلك التي وصل إليها "الأدب" الذي حاولوا محاكاته، لاسيما "الأدب الغربي

من ناحية أخري، اهتمت النظرية النقدية لتلك الفترة "بالشعر"، وأهملت "الرواية"، وذلك لاعتبارها "الشعر" الفن الأدبي الأول وربما الأوحد، متأثرة في ذلك بما يلقاه "الشعر" من اهتمام بالغ في "التراث" الذي يحاولون إحياءه ومحاكاته في نهضتهم الحديثة( )14؛ لذا نظروا إلي "الرواية" علي أنها: ((وليد غير شرعي في هذا المجتمع)) ــ بتعبير ((بدر)) ــ، خاصة مع عدم الاعتراف بالأدب الشعبي الحافل بالقصص والخيال، والذي بدونه يبدو "التراث" خاليا من المعطيات القصصية الخصبة، وجدير بالذكر أن إهمال "الرواية" سوف يستمر حتى المرحلة الثانية أيضا( ).15
لكن برغم هذا الإهمال النقدي، كانت "الرواية" تـَلقي رواجا ضخما، وكانت تنتشر بشكل واسع في البلاد، وهي في انتشارها هذا لم تقتصر علي مكان دون مكان، بل امتد تأليفها ونشرها إلي المدن الصغيرة أيضا، مثل: طنطا ــ والمنصورة ــ وصيدا ــ وطرابلس ــ وحلب ــ والمنيا ــ وشبين الكوم ــ والسنطة، وغير ذلك، مما يجوز معه وصف حالة رواجها هذه "بالهوس" كما يصف ((علي شلش)) ( )16، وهذا "الهوس" كان يَفرِض للرواية وضعا أدبيا يُجبـِر "النقد" ــ غير المعتـَرِف بها ــ علي الاستجابة لها، لكن هذه الاستجابة كانت تواجه صعوبة خاصة، نابعة من عدم وجود تقاليد تراثية خاصة بالرواية في تراثنا الأدبي والنقدي، مما يجعل علي عاتق "النقاد" مهمة إرساء تقاليد أدبية ونقدية خاصة لجنس أدبي غربي، ليس له أي رصيد نقدي سابق في "الممارسة النقدية العربية"، وقد حاولوا التغلب علي ذلك بالاستعانة بالمقاييس "البلاغية" و"النقدية" التي أقرها "النقاد" و"البلغاء

القدماء للشعر؛ ليتم تطبيقها علي جنس آخر مغاير هو "الرواية"، مما أدي إلي الاهتمام بالكلمة المفردة في "الرواية"، وإهمال ما بها من صياغات أخري "كالحدث" و"الشخصية" و"الزمان" و"المكان"، وغير ذلك( ).17
وفيما يخص تعريف الرواية عند "الإحيائيين"؛ فبعدما يستعرض ((علي شلش)) التعريفات المختلفة لنقاد تلك الفترة للرواية، يخلـُص إلي أن "الرواية" كانت تتحدد في تلك الفترة علي أنها: ((واقعة حقيقية أو خيالية تروي عن شخص، أو مجموعة من الأشخاص، بهدف التسلية أو الموعظة)) ( )18، ويَذكـُر أيضا أنه برغم عدم التفريق بين "الرواية" و"القصة" بشكل قاطع في تلك الفترة، إلا أنه كان هناك تفريق ضمني بينهما، يعتمد علي "الحجم"، المتمثل في طول الصفحات بصفة خاصة، دون أن يتم الاعتماد علي "الأحداث" أو "الشخصيات" في هذه التفرقة، كما حدث فيما بعد( ).19
ويذكر ((شلش)) أيضا ــ فيما يخص التقييم النقدي للرواية ــ، أن "الرواية" كانت تـُصَنـَّف إلي قسمين: "ضارة" و"نافعة"، وتـُصَنـَّف إلي ذلك عن طريق ما تحتويه من قيم ومبادئ أخلاقية، دون النظر إلي مستواها الفني؛ فتصبح "الرواية": "نافعة" و"جيدة" إذا كثرت فيها المبادئ والأخلاق، وفي المقابل تصبح "الرواية": "ضارة" و"رديئة"؛ إذا احتوت علي جوانب غرامية فجة، أو وصف عميق للنواحي الغزلية( )20، ومنبع ذلك ما يحمله "الإحيائيون" للأدب من وظائف تهذيبية وأخلاقية كما تقدم.

وفي هذا الإطار الأخلاقي الصارم كان علي الروائي أن يُنشِأ روايته، وعليه أن يجعل منها مُشـَوِّقـَة وجذابة أيضا؛ لكي تدفع القارئ إلي قراءتها حتى نهايتها؛ ولكي يتحقق ذلك قدم ((فرح أنطون)) (1861-1922) مجموعة من النصائح للروائي، عليه أن يستعين بها في إنشاء رواياته، وهذه المجموعة من النصائح تـُعَدُُّ من أخصب الاستجابات النقدية النظرية التي ظهرت للرواية في تلك الفترة؛ لذا سوف أعرضها كما نقلها ((شلش)) ــ علي الرغم من طولها ــ لأهميتها.
تتضمن هذه الوصفة ستة عناصر علي الكاتب مراعاتها، هذه العناصر هي: ((أولا ــ قوة الاختراع: والمراد بها أن تكون مخيلة الكاتب قادرة علي اختراع حوادث وأخبار تجعل في الرواية فكاهة ولذة. وبهذه القوة تنشأ في الرواية المشاهد والمواقف الكبرى التي تحتك فيها العواطف والأميال والمبادئ احتكاكا شديدا يستأسر لب القارئ ... إلا أنه يجب أن لا تتجاوز هذه القوة حد المعقول المقبول.
ثانيا- قوة الحركة: التي تجعل الحوادث متحركة بحيث لا يسأم القارئ القراءة، ومنبئة عن أخلاق الشخصيات أو طبائعها.
ثالثا- وحدة السياق وتنوع الموضوع: والمراد بوحدة السياق رسم طريق للرواية تبتدئ في أولها وتنتهي في آخرها، دون أن تخرج الرواية عنها في أثناء تقلباتها ... والمراد بتنوع الموضوع جعل مواضيع الرواية التي تتفرع من ذلك السياق متنوعة متفرعة، لاجتناب ملل القارئ أولا، واستيفاء البحث في أخلاق أشخاص الرواية ثانيا.

رابعا- قوة البسيكولوجيا والسسيولوجيا: ويصح أن يقال إن هذه القوة أهم القوات الضرورية للرواية. ولما كانت مواضيع الرواية تشمل جميع الحوادث والحالات التي تطرأ علي أشخاصها، وعلي الوسط الذي يعيشون فيه كانت الرواية محتاجة إلي أكثر أصناف العلوم. فهي تحتاج إلي علم الطبيعة لكي تـُبني آراؤها ومبادئها وأخلاق أشخاصها علي دعامة علمية، أي علي النواميس الطبيعية، وإلا كانت نسيج أوهام وخرافات. وتحتاج إلي علم تقويم البلدان (الجوغرافيا) لمعرفة البلاد التي يكتب عنها، وطبائع أهلها وهوائها، وتحتاج إلي علم التاريخ خصوصا إذا كانت تاريخية. وقد تحتاج إلي سائر العلوم إذا كان لمواضيعها اتصال بها. ولكنها إذا احتاجت إلي جميع هذه العلوم أحيانا، وأمكنها الاستغناء عنها جميعا أحيانا فهناك علمان لا يمكنها أن تستغني عنهما أصلا، وهما علم البسيكولوجيا وعلم السسيولوجيا.
أما علم البسيكولوجيا أو ((علم النفس والأخلاق)) فهو قسمان: مصنوع ومطبوع، أي اكتسابي وغريزي. والأول يستفيده الكاتب من مصدرين، أحدهما كتب البسيكولوجيا، والآخر مراقبة الطبيعة والبشر لملاحظة أخلاقهم وأحوالهم في جميع أطوارهم. ولا يتم نفع الأخير إلا إذا تكونت في نفس الدارس ــ الكاتب ــ قوة غريزية يقدر بها علي استنباط مكنونات النفوس، وتصوير حالاتها، دون أن تدري هي بها. وهي هبة من الطبيعة لتلك النفس وإن كان بعض علماء الأخلاق يقول إن الدرس والاختبار قد يؤديان إليها.


أما علم السسيولوجيا، أو الاجتماع البشري، فترجع ضرورته لمؤلف الرواية إلي سببين، أحدهما أن جميع الروايات المهمة في هذا العصر أصبح غرضها (اجتماعيا) والآخر أن الروايات من أهم وسائل ترقية المجتمعات التي يسعي هذا العلم إلي بحثها وتحصيلها.
خامسا- درس الفن الروائي: بمطالعة روايات أكابر المؤلفين وكتابات مشاهير نقاد الرواية.
سادسا- عاطفة الجمال: ويدخل في هذا أن تكون الرواية جميلة الموضوع، جميلة السبك. ويتحقق جمال الموضوع بمراعاة الصفات الخمس السابقة. ولكن جمال السبك لا يتحقق إلا باللفظ العذب والمعني الطليّ والروح الجليّ، بعيد عن الجفاف والجمود في الإنشاء))( )21[ما تحته خط بنفس صورته الخاطئة في النص]، وهذه النصائح تعكس بوضوح رؤية ومطالب "النقد الإحيائي" من كل من "الرواية" و"الروائي" علي حد السواء.
وفي إطار الحديث عن أنضج الممارسات النقدية لتلك المرحلة؛ يجب الحديث عن: الشيخ ((حسين المرصفي)) (1815-1890)()*؛ وذلك لما له من تأثير نقدي كبير في مرحلته، ولما امتاز به من وعي نقدي، يظهر واضحا في كتابه الشهير: ((الوسيلة الأدبية للعلوم العربية))، وهو الكتاب الذي يصفه ((محمد مندور)) بأنه: ((شديد الشبه بكتب الأمالي العربية القديمة كأمالي أبي علي القالي، وأمالي المبرد وغيرهما))( )22، وذلك لكي يتسق مع موضوعه، الذي هو تعليم إنشاء "الشعر" و"النثر"، فهو أساسا محاضرات الشيخ في دار العلوم لطلبته.
ويعلق ((طه حسين)) علي هذا الكتاب، وعلي صنيع ((المرصفي)) فيه؛ فيقول: ((مذهب الأستاذ المرصفي نافع النفع كله إذا أريد تكوين ملكة في الكتابة وتأليف الكلام وتقوية الطلاب في النقد وحسن الفهم لأثار العرب))( )23؛ وهذا الكتاب من النوع الشامل، الذي يجمع بداخله متفرقات من كل علوم العربية، كعلوم: "النحو"، و"الصرف"، و"العروض"، و"البيان"، و"البديع"، و"المعانٍ"؛ بهدف تهيئة معرفة كاملة للمتعلمين تعينهم في تأليف وإنشاء "الأدب".
والكتاب يسير في اتفاق ــ من حيث "نظريته النقدية" ــ مع ما تقدم ذكره من نظرة "أخلاقية" و"اجتماعية"، وكذلك أيضا فيما يخص وحدة البيت واستقلاله، وقيامه بذاته منفصلا، دون حاجته إلي غيره( )24، وبالإضافة إلي ذلك، فإن ((المرصفي)) يرسم فيه لمن أراد إنشاء "الشعر" منهجا، يقوم علي حفظ أكبر قدر ممكن من الشعر الجيد، كشعر ابن أبي ربيعة، والبحتري، وجرير، والرضي، وغيرهم، ثم التحلل من هذا الشعر المحفوظ في الذاكرة عند إنشاء الشعر الجديد الخاص بالشاعر، لكي يخرج المُنتـَج الجديد متأثرا بجودة المحفوظ من "الشعر" في الذاكرة، وخالصا في أسلوبه لمؤلفه، بعيدا عن تبعية "الشعر" للأسلوب القديم المحفوظ ( )25.
أما علي الصعيد التطبيقي؛ فإن الكتاب يسير علي نمط "الموازنات" بين الأدباء المختلفين ــ قدماء ومحدثين ــ، لكي يتبين موقع "الأديب المحدث" من "الأديب القديم"، ولكي يتبين جودة "الأدب" بمقارنته بنموذج أدبي تراثي مشهود له بالجودة، وقد لاحظ ((عز الدين الأمين)) أن ((المرصفي)) في موازناته هذه يتبع النهج التالي: 1- يوجه بعض "النقد" من غير تعليل، معتمدا في ذلك علي ذاتيته، وعلي رأيه الذوقي الخالص. 2- يتخذ الشعر العربي القديم بسننه المألوفة مثلا أعلي للشعر، ولا يحبذ الخروج عن هذه السنن، ويرفض أي تغيير في هذه السنن. 3- يعتمد علي "النقد اللغوي" فيناقش صحة الكلمات الواردة في العمل الأدبي من حيث الاستعمال اللغوي، ويشرح ويفسر معاني بعض الكلمات التي تبدو مبهمة. 4- يؤاخذ الأديب علي السرقة، خاصة إذا ما كان المعني السابق أكمل وضوحا، وأصح معني. 5- لا يستحسن البيت الذي يكثر لفظه ويقل معناه، وهي نظرة تري بانقسام العمل الأدبي إلي معني ولفظ، وشكل ومضمون. 6- يري أن الشاعر لا يكون دائما بمنزلة واحدة في شعره، فقد يجود في بعض أدبه، وقد يسف في موطن آخر.( )26
وفي ذلك كله يبدو ((المرصفي)) متوافقا تماما مع الرؤية العامة للنقد الإحيائي، لكن ما يُعَدُّ غير متوافق مع ما تقدم، ما تحدث به ((المرصفي)) عن قصيدة "الأمير" لـ ((البارودي)) (1838-1904)، إذ امتدح ((المرصفي)) اتساق أبياتها وانتظامها معا، بشكل لا يسمح معه بوضع بيت بين بيتين، أو بتغيير ترتيب بيت من أبيات القصيدة بالتقديم أو التأخير، وهو ما يبدو مخالفا لما أبداه من رأي في وحدة البيت وقيامه كوحدة مستقلة بذاته، لكن النظرة المدققة إلي كلام ((المرصفي)) تكشف عن أنه لم يَعْدِل عن رأيه السابق، فهو يقول: ((أنظر هداك الله لأبيات هذه القصيدة فأفردها بيتا بيتا تجد ظروف جواهر أفردت كل جوهرة لنفاستها بظرف، ثم اجمعها وانظر جمال السياق وحسن النسق، فإنك لا تجد بيتا يصح أن يقدم أو يؤخر، ولا بيتين يمكن أن يكون بينهما ثالث، وأكلك إلي سلامة ذوقك وعلو همتك(...)))( )27.

وذلك يدل علي أنه رأي في أبيات ((البارودي)) إلي جانب استقلال البيت وقيامه بذاته كوحدة متكاملة، مزية أخري، هي اتساق هذه الأبيات المستقلة معا، بما لا يسمح معه بتعالق بيت بآخر، علي غير الترتيب الذي جاء به ((البارودي))، فيكون المقصود كمال البيت إذا ما فـُصِل وحده مستقلا عن باقي القصيدة، وكمال ترتيب الأبيات إذا ما وضعت معا في القصيدة، فلا تقبل ترتيبا غير هذا الترتيب الذي جاءت عليه قصيدة ((البارودي))، وهذا التفسير يبدو موضحا لجانب آخر من وجهة نظر ((المرصفي))، وهو جانب ضرورة مراعاة تعالق الأبيات ببعضها والعمل علي حسن تنسيقها معا، مع وجوب مراعاة استقلال البيت المفرد، وقيامه في أداء معناه بذاته أيضا()*، وهو ما سوف يشار إليه ثانية عند الحديث عن "وحدة القصيدة" في المرحلة التالية.
* * * * * *
ومما تقدم، يلاحظ علي "النقد" في تلك الفترة ، أنه في مقابل إلزامه "الأدب" بهدف تعليمي وأخلاقي يجب أن يتضمنه؛ فإن "النقاد" أنفسهم التزموا بجانب تعليمي يقومون به تجاه "الأدباء" أيضا، أي أنهم حرصوا علي أن يكون "النقد" نفسه مُصطـَبـِغا بصبغة تعليمية تـُعِين "الأديب" علي تأليف "الأدب" ــ كما رأينا مثلا في "الوسيلة الأدبية" سابقا ــ، وكذلك أيضا حرصوا علي أن يكشف نقدهم التطبيقي للأديب عن "الأخطاء" التي وقع فيها "عمله الأدبي"، وهي أخطاء من نوع "تاريخي" أو "معجمي" أو "بلاغي" غالبا، ومثال ذلك ما وجهه ((جرجي زيدان)) (1861-1914)، و((إبراهيم اليازجي)) (1847-1906) لرواية ((شوقي)) (1869-1932): ((عذراء الهند أو تمدن الفراعنة)) (1897م)، من نقد رَكـَّز فيه ((زيدان)) علي عدم "معقولية" العقدة، لصغر المدة التي اجتمع فيها بطلا القصة معا وهما صغار، وكذلك رَكـَّز ((اليازجي)) علي "المآخذ اللغوية" المتضمنة في "الرواية"، واتفق الاثنان
علي شجب ما بالقصة من خوارق وعجائب غريبة مخالفة لما هو صحيح في الواقع، ولما هو مألوف في الحقيقة( )28.
وعند النظر إلي النتاج الأدبي الخاص بتلك المرحلة










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
*«•¨*•.¸¸.»منتدى, اللغة, العربية, «•¨*•.¸¸.»*, طلبة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 01:28

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc