تكملة..............
ثم قالوا له: قد علمت الذي بين الأوس والخزرج من الدماء ونحن نحب ما أرشد الله به أمرك ونحن لله ولك مجتهدون وإنا نشير عليك بما ترى فامكث على اسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنخبرهم بشأنك وندعوهم إلى الله ورسوله, فلعل الله يصلح بيننا ويجمع أمرنا فإنا اليوم متباعدون متباغضون, وإن تقدم علينا اليوم ولم نصطلح لم يكن لنا جماعة عليك, ولكن نواعدك الموسم من العام المقبل فرضي رسول الله
الذي قالوا فرجعوا إلى قومهم فدعوهم سرًّا وأخبروهم برسول الله
والذي بعثه الله به ودعا إليه بالقرآن حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة..
ثم بعثوا إلى رسول الله
أن ابعث إلينا رجلاً من قبلك فيدعو الناس بكتاب الله فإنه أدنى أن يتبع فبعث إليهم رسول الله
مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة فجعل يدعو الناس سرًّا ويفشو الإسلام ويكثر أهله وهم في ذلك مستخفون بدعائهم ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا بئر مرى أو قريبًا منها فجلسنا هنالك وبعثنا إلى رهط من أهل الأرض فأتوهم مستخفين..
فبينما مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن أخبر بهم سعد بن معاذ فأتاهم في لأمته معه الرمح حتى وقف عليهم فقال: علام يأتينا في دورنا بهذا الوحيد الفريد الطريح الغريب يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه لا أراكم بعدها بشيء من جوارنا, فرجعوا ثم إنهم عادوا الثانية ببئر مرى أو قريبًا منها فأخبر بهم سعد بن معاذ الثانية فواعدهم بوعيد دون الوعيد الأول, فلما رأى أسعد منه لينًا قال: يا ابن خالة اسمع من قوله, فإن سمعت منكرًا فاردده يا هذا منه, وإن سمعت خيرًا فأجب إليه, فقال: ماذا يقول فقرأ عليهم مصعب بن عمير {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1- 3]..
فقال سعد بن معاذ: ما أسمع إلا ما أعرف, فرجع وقد هداه الله ولم يظهر لهم الإسلام حتى رجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه, وقال: من شك فيه من صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى فليأتنا بأهدى منه نأخذ به, فوالله لقد جاء أمر لتحزن فيه الرقاب فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد ودعائه إلا من لا يذكر, فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرها, ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير واشتدوا على أسعد بن زرارة, فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ فلم يزل عنده يدعو ويهدي الله على يديه حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة, وأسلم أشرافهم وأسلم عمرو بن الجموح وكسرت أصنامهم فكان المسلمون أعز أهلها وصلح أمرهم ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله
.
فذات يوم كان مصعب جالسًا ومعه سعد بن زرارة وهو يعظ الناس ففوجئ بقدوم أسيد بن حضير سيد بني عبد الأشهل بالمدينة وهو يكاد ينفجر من فرط الغضب على ذلك الرجل الذي جاء من مكة ليفتن قومه عن دينهم، فوقف مصعب أمام أسيد وقد كان ثائرًا، ولكن مصعب انفجرت أساريره عن ابتسامة وضاءة وخاطب أسيد قائلاً: أو لا تجلس فتستمع؟ فإن رضيت أمرنا قبلته وإن كرهته كففنا عنك ما تكره. قال أسيد: أنصفت. وركز حربته وجلس يصغى وأخذت أسارير وجهه تنفرج كلما مضى مصعب في تلاوة القرآن وفي شرح الدعوة للإسلام, ولم يكد يفرغ من كلامه حتى وقف أسيد يتلو الشهادتين.
سرى النبأ في المدينة كالبرق فجاء سعد بن معاذ وتلاه سعد بن عبادة وتلاهم عدد من أشراف الأوس والخزرج. وارتجت أرجاء المدينة من فرط التكبير. وفى موسم الحج التالي لبيعة العقبة قدم من يثرب سبعون مسلمًا من بينهم امرأتان، وكان ذلك فاتحة مباركة لهجرة الرسول إلى المدينة.
وعاد مصعب إلى رسول الله
، يحمل له البشرى في مكـة، وبلغ أمه أنه قد قدم فأرسلت إليه يا عاق أتقدم بلدًا أنا فيه لا تبدأ بي, فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله
, فلما سلم على رسول الله
وأخبره بما أخبره ذهب إلى أمه, فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد, قال: أنا على دين رسول الله
وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله, قالت: ما شكرت ما رثيتك مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب, فقال: أقر بديني إن تفتنوني, فأرادت حبسه, فقال: لئن أنت حبستني لأحرصن على قتل من يتعرض لي، قالت: فاذهب لشأنك, وجعلت تبكي, فقال مصعب: يا أمة إني لك ناصح عليك شفيق, فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله, قالت: والثواقب لا أدخل في دينك, فيزري برأيي ويضعف عقلي, ولكني أدعك وما أنت عليه وأقيم على ديني.
وهكـذا أتيح له هو الوحيد أن يسلم على يده هذا العدد من الأنصار، حتى كادت المدينة كلها تدين بإسلامها لمصعب
.