دراسة نقدية في الادب الجزائري
يتميز الأدب الجزائري الحديث عن بقية آداب اللغة العربية في العالم العربي، بخاصية منفردة قلما نجدها، تجتمع في أدب العروبة قديماً وحديثاً، ويتمثل ذلك التمايز في جملة من الخصائص المركبة المعقدة، أنبتتها صيرورة تاريخية لا مناص منها, تدخلت في تشكيل الأدب الجزائري على مرّ العصور ثلاثة عناصر، العنصر المحلي، والعنصر العربي، والعنصر اللاتيني الفرنسي، وانصهرت العناصر الثلاثة لغة وحضارة عبر التاريخ، ثم لبست حلة عربية في مرحلة استرداد السيادة الوطنية في الربع الأخير من القرن العشرين.
التقت العناصر الثلاثة : . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لقاء الصراع والتفاعل والاندماج، وأثمرت في النهاية أدبا« جزائرياً» قبل أن يكون لاتينياً فرنسياً، وإن نطق باللاتينية والفرنسية، وقبل أن يكون عربياً أو وطنياً محليا، وإن نسج أحداثه وشخوصه من عبقرية الأرض والعروبة، وبناء على هذا التركيب العجيب، توحدت عناصر اللغة والفكر والبيئة والتاريخ والإنسان الجزائري، في صورة شديدة التعقيد والثراء، تولدت عنها صورة الأدب الجزائري المعاصر، الذي تعددت منابعه وتباينت أصوله ومشاربه, لكنها تصب جميعها في محيط أشمل، يتسع لكل الروافد, محيط الثورة الجزائرية، التي انصهرت فيها كل التيارات الفكرية واللغوية، وتخضبت فيها كل الكفوف الجزائرية بالدماء، مثلما تخضبت بالحناء في عرس الاستقلال ونيل الحرية1.
فعندما تندمج الروح الشرقية للجزائر بالثقافة الفرنسية، التي يستخدمها الكتاب الجزائريون، تكون النتيجة أدباً أصيلاً. فالأدب الجزائري مع ما له من خصائص عربية عديدة تميزه، يختلف عن الأقطار العربية، حيث لم يكن للاستعمار تأثير مشابه على التعليم والثقافة، بل أن التفكير الجزائري ذاته يعتبر مختلفا ومتبايناً، حيث إنه يشكل مزيجاً من العقلانية والمنطق والشاعرية. ولا يمكن لهذه العناصر المتناقضة، أن تكون جميعها وليدة ثقافة واحدة؛ فالجزائري يمتلك بطبيعته الروح الشاعرية والمتدينة والقدرية، وقد تحصل من ثقافة المستعمر على المنطق والعقلانية. أقبلت الرواية الجزائرية باللغة الفرنسية في العشرينات، تحمل في تضاعيفها هذا التاريخ المثقل بالتنوع والثراء وبالصراع والمقاومة، الأمر الذي يفسر غلبة طابع المقاومة على الإنتاج الروائي الجزائري.
الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية إشكالية اللغة والوطن: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يزخر تاريخ أدب العالم بأمثلة عديدة من الكتاب الذين كتبوا بلغة غير لغتهم الأصلية، إما طواعية منهم أو أنهم كانوا مضطرين لذلك لأسباب سياسية في بلادهم، فكتب بعضهم بالفرنسية وآخرون بالإنجليزية ولم يعتبروا نتيجة لذلك فرنسيين أو إنجليزا، ومن بين هؤلاء جبران خليل جبران وجورج شحاتة من لبنان، وادوارد سعيد وجبرا إبراهيم جبرا من فلسطين، وقوت القلوب وأندريه شديد من مصر وغيرهم.
شكلت الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ظاهرة ثقافية ولغوية متميزة وأثارت بذلك حولها جدلاً كبيراًً بين النقاد والدارسين، منهم من عدها رواية عربية باعتبار مضامينها الفكرية والاجتماعية، والكثرة عدوها رواية جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية، باعتبار أن اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي بها يكتسب الأدب هويته، ثم إن الكتابة الروائية بالفرنسية قد ساهمت في نمو الأدب الفرنسي، أكثر ما ساهمت في إخصاب الأدب العربي، ولذا فنحن حينها نقف عند هذه الظاهرة المتميزة، فإننا لا نفعل أكثر من إعطاء فكرة عن نشأة هذا الفن في ظروف حرجة في الجزائر أو في المغرب العربي عموماً.
ويذكر« جان ديجو» أنه يمكننا فيما بين سنة 1920 وسنة 1945، أن نعثر على محاولات قليلة في الكتابة الروائية، فقد ظهرت سنة 1925 أول محادثة لعبد القادر حاج حمو بعنوان« زهرة امرأة عامل الناجم» وفي هذه الرواية يقلد الكاتب تكنيك الرواية الطبيعية عند أميل زولا. وفي 1926 كتب سليمان بن إبراهيم بالاشتراك مع إتيان دينيه رواية بعنوان «راقصة أولاد نائل» وكذلك كتب عبد القادر فكري بالاشتراك مع روبير راندو حواراً قصصياً يتميز بطابعه السياسي بعنوان« رفاق الحديقة» سنة 1933. وفي سنة 1936 كتب محمد ولد الشيخ رواية بعنوان« مريم وسط النخيل»2.
إن هذه النصوص شكلت فيما بينها المتن الجزائري الأول، الذي تميز على المستوى الجمالي بطغيان سلطة «الدياليكتيك»، حيث إن الخيال الروائي والنسيج النصي، كانا يتأسسان على قاعدة« المقايسة» لنص كولونيالي، له تصوراته عن الإنسان الجزائري، تلك التصورات التي تنتجها الأيديولوجيا الكولونيالية، والتي ترى الإنسان العربي والإفريقي بعين« اكزوتيكية» إغرابية، تحقيرية ومتخوفة. إن وضعية هذه الموجة تشبه حالة النساخين لأساليب الكتابة الروائية، التي مارسها الكتاب الفرنسيون مثل: لويس براتراند، وروبير راندو، وغابرييل أود يسو، وإيزابيل إبهارد، وإيتيان دينيه، وبول بيلا، وإيمانويل روبلس، وغيرهم.
كانت كتابات هذه الموجة من الروائيين« الهالي» تتميز بنسخية واضحة، قدمت الإنسان الجزائري في صورته الفلكلورية السياحية الاستهلاكية. كما النص نفسه من حيث البناء الجمالي، لم يتخلص من كتابة مغامرات مبسطة وتافهة، وحكايات غرامية بين الأهالي و«الفرنسيات» و«المسلمات»، إذ تصور الإنسان الجزائري غريزيآ، وساذجآ طيباً، وخبيثاً دموياً.
لقد كانت هذه الموجة من الكتاب متوجهة إلى« الآخر»، تريد أن تشعره أولاً بأن الانتلجانسيا الأدبية الأهلية قادرة على الكتابة، التي هي ظاهرة حضارية، لكن الهموم والمشكلات المطروحة في النصوص، لا تتعدى أن يكون هذا« الجزائري» إطاراً وموضوعاً للتسلية والفلكلور، بمفهومه الاستهلاكي التحقيري. بدأت الحركة الروائية الجزائرية باللغة الفرنسية، تؤسس لنفسها متناً هو مرآة لذاتها، لطموح الإنسان في هذا الشمال الإفريقي، الذي بدأت الحداثة تهزه على لعلعة مدافع هتلر، وتؤسس الحركات الوطنية، وسقوط العشيرة والدم والقبيلة أمام المفاهيم المعاصرة.
كان على منتجي الرواية باللغة الفرنسية، خلق مسافة لتأمل التاريخ ونقد الذات، ونقد الآخر. فمن خلال هذه المسافة وفي ظل هذه المساحة، بدأ الإعلان عن نص روائي جديد يبشر بإنسان جديد وبعقل جديد، قلب موازين البطولة الروائية. فإذا كان الآخر« الفرنسي» هو المركز في الرواية الكولونالية،« الأنا» أي« الأهلي» هو الهامش. وفي هذا النص الجديد ولد إنسان جديد3.
ففي سنة 1942 أنهى الكاتب الجزائري علي الحمامي روايته بعنوان« إدريس» التي توصف على أنها كتاب محرر في شكل رواية. وهذه المحاولات من الناحية الفنية تعد أقرب إلى القصة الطويلة أو الحدوثة منها إلى الرواية الفنية. استطاع القراء منذ 1945 التعرف على قلة قليلة من الروائيين، الذين ارتادوا اللغة الفرنسية مباشرة، وعبروا عن واقع مجتمعهم. وقد عرفت هذه الفترة ولادة جديدة للقصص الجزائري، المكتوب باللغة الفرنسية؛ فنشرت مارجريت طاوس عميروش روايتها« الياقوتة السوداء» سنة 1947. ثم نشرت جميلة دباش روايتها« ليلى فتاة الجزائر». وفي سنة 1948 نشر مالك بن نبي روايته« لبيك».
[:
مولود فرعون... وعي الذات والآخر . . . . . . .
وهكذا تضاعفت المحاولات باللغة الفرنسية في فترة الخمسينات، فنشر مولود فرعون عام 1950« ابن الفقير»، وفي سنة 1953 ظهرت له رواية« الأرض والدم»، وفي عام 1957«الدروب الصاعدة»، وصددت يومياته سنة 1969 في كتاب مستقل يحمل عنوان «مولود فرعون: رسائل إلى الأصدقاء»، وأخيراً نشرت روايته« الذكرى» عام 1972. ويعد فرعون أحد أكبر كتاب المغرب العربي ذوي التعبير الفرنسي شهرة، لقد كانت «ابن الفقير» روايته الأولى ولا تزال، أول عمل أدبي يبدأ به كل تلميذ جزائري اطلاعه على الأدب الوطني. وكان فرعون يلفت انتباه مواطنيه كلما أصدر كتاباً جديداً وكان آنذاك معلماً قروياً، انتقل للعمل في العاصمة قبيل هلاكه المأساوي على يدي غلاة الاستعمار الحانقين. وقد حاز إبداعه شيئاً فشيئاً على شهرة واسعة، ليس في وطنه فحسب بل في فرنسا كذلك، وترك موت الكاتب أثراً فاجعاً في قلوب كل الناس من ذوي الإرادة الطيبة. ساهم مولود فرعون كثيراً في دعم القضية الوطنية، وإيقاظ الوعي للشعب الجزائري، الذي هب لمعركته الخيرة والحاسمة ضد الاستعمار.
إثر اغتيال مولود فرعون، صرح جان عميروش في استجواب له، لقد كانت جريمة المغتال الرئيسية هي رغبته في رؤية الإنسان سعيداً، يحمل باعتزاز اسمه الخاص، وسعيداً بتمتعه بوطنه، ومؤمناً بمستقبله ويمكن كل ابن فقير من أن يقرر مصيره4.
ويكمن في هذه الكلمات الثلاث (الحرية، الرسم، الوطن) مغزى وهدف إبداع كتاب شمال إفريقيا. الذين فرعون ينتمي إلى جيلهم. اغتالته المنظمة الإرهابية السرية، التي كانت تعمل من أجل جزائر فرنسية في حي الأبيار، وهكذا انتهت الحرب من أجل الاستقلال، التي دامت سبع سنوات، بشكل مأساوي بالنسبة لفرعون، قبل ثلاثة أيام من توقيع اتفاقية أيفيان، ودفن يوم 18 مارس 1962.
ويذكر إيمانويل روبلس، وهو كاتب من الجزائر من أصل فرنسي، كان صديقاً لفرعون ودرس معه في معهد بوزريعة، كما قدم له دعماً ومساعدة ثمينتين، حين أجبره على «الشروع في الكتابة»، يذكر أن فرعون لم يكن إنساناً طيباً وهادئاً فحسب، بل أهم من ذلك مثقفاً« كان يقرأ أكثر منا جميعاً، وكان يلتهم الكتب ببساطة، كان يضمر الإجلال للكتاب الروس، ويحب فرنسيي القرن الثامن عشر، ثم بعد ذلك كشفت له الأمريكيين»5.
وما يشهده على أن الكتاب الروس، كانوا من ضمن من أحبهم فرعون، كونه استهل أول تجربة أدبية له، وهي رواية« ابن الفقير» بكلمات انطون تشيكوف« سنعمل للآخرين الآن، وفي شيخوختنا من دون أن نعرف سبباً للراحة، وحينما تحل ساعتنا سنموت بخنوع، وسنقول هنالك في لحدنا بأننا تعذبنا وبكينا وتجرعنا المرارة، حينذاك سيهبنا الله من لدنه الرحمة». لقد كانت جمل تشيخوف، مفعمة بمعنى واقعي بالنسبة لفرعون، الذي كان يعي هكذا بالضبط مغزى وغاية إبداعه وعمله الصعب والنبيل لخير وطنه.
كتب مولود فرعون في« ابن الفقير»، مبيناً كيف يتكون« الطبع الحقيقي» للرجل القبائلي، حيث يولد الطفل في هذه المنطقة، من أجل المعركة في سبيل الحياة. وتشكل فلسفة وحكمة الحياة وعاداتها ومعتقداتها وشعائرها القديمة ، ذلك العالم الخاص والأصيل الذي تمثله قرية تيزي، حيث شب ابن الفقير« فورلو»، وهي في الوقت ذاته ذلك العالم النموذجي لقرية قبائلية نموذجية. وهذا العالم لا يزال في الرواية يحيا أساساً وفق سنن موروثة من الماضي البعيد، حيث تسود أخلاق وأنماط حياة الأجداد، وحيث لا يزال كل واحد يؤمن بالقدر. غير أن الشكل الثاني من الصراع هو صراع من أجل إجادة لغة غريبة وثقافة غريبة، والدراسة في ثانوية فرنسية حيث يشعر دائماً بنفسه غريباً، ويشعر بالخوف من الطرد بسبب إخفاق عارض ويصمم« فورلو» على لقاء هذا العالم الذي يجهله، وهذه الحياة الغريبة عنه:« وحدي، وحدي في هذه المعركة الرهيبة التي لا ترحم...»6.
تعتبر رواية ابن الفقير إلى حد بعيد سيرة ذاتية، تصف طفولة الكاتب ومراهقته، كما تغطي الرواية السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، لتصل نهاية العشرينات.
وتناول فرعون في رواية« الأرض والدم» أول مرحلة من عملية هجرة شمال أفريقيا للعمل بسبب الوضع الشاق للعمال والفلاحين في المستعمرات، التي بدأت بشكل مكثف من العشرية الأولى من القرن العشرين. وإذا كانت الهجرة الاضطرارية مرتبطة في البداية بالمعاناة الشاقة لفراق الأرض الأصيلة، فإن الأمر أصبح شيئاً فشيئاً عادياً، أملاً في الكسب السهل في فرنسا. وحدث أن العودة إلى القرية كانت مرفوقة بصدمة نفسية, فقد كان الإحساس بالفرق بين العالم المهجور –عالم الغرب- والعالم التقليدي- الوطن- وهكذا يعود عامر في رواية« الأرض والدم» إلى موطنه رفقة زوجته الفرنسية الشابة، بعد أن اشتغل سنوات عدة في فرنسا، وجرب كل أنواع الحرمان، التي كانت من نصيب المغتربين في أوروبا، لكنه لا يستطيع مدة طويلة، أن يتأقلم مع حياة قريته الصغيرة، التي بدت له متخلفة ومتوحشة، واحتاج إلى عامين كي يصبح قبائلياً من جديد، وكأنه لم ير الكثير في حياته، ولم تحنكه الصعاب، ولم يواجه الموت7.
تقع أحداث الأرض والدم في الفترة الواقعة ما بين الحربين العالميتين، وتنتهي في عام 1930، ويفاجأ عامر بالحرب حالما يصل إلى فرنسا.
ونشعر بأنفاس ريح التغيير، وريح التاريخ، ابتداء من الصفحات الأولى في رواية« الدروب الصاعدة»، التي تبرز ذلك العالم المنغلق، الذي لم يمسسه الزمن، وهو ينسف تحت هجوم العصر، وللطبيعة الشاقة والمأساوية أحياناً لتأثير هذا الصدام بين الجديد والقديم في وعي الناس وسلوكهم. والرواية دراما عاطفية، حيث نجد مثقفاً قروياً، منعزلا في قرية قبائلية نائية، ومنفصلاً عن العالم، وبعيداً عن التاريخ، نجده يكتب مذكرات لا حاجة لأحد بها في وقت يقوم فيه جميع المثقفين الجزائريين بالثورة، والرواية تصور حيرة وارتباك جيل نضج. ويستمر فرعون في الدروب الصاعدة، يصور عالم القيم القديمة المتفجر، في تغذية الأمل في الأشكال الإنسانية للتخلص من العبودية8.
وتعتبر الدروب الصاعدة امتداداً للرواية الثانية، وإن كان هناك انقطاع في الوقت، حيث أن يوميات عامر ترجع في تاريخها إلى الخمسينات، وتعتبر بمثابة سنوات اليقظة بالنسبة للجزائريين، أي بداية الثورة ونهاية صدام الحضارات، وكذلك بمثابة بوتقة تذوب فيها خيبة أمل الإنسان الجزائري وسخطه وعدم رضاه.
وسيظل فرعون ممثلاً نموذجياً لجيله، جمع فعلاً في ذاته« عالمين وثقافتين» ومثالاً للفنان المخلص والشجاع، الذي نجد في إبداعه أو محاولة جدية لتصوير حياة وطنه، وشعبه بموضوعية، وطرح المشكلات والمتناقضات التي زخرت بها مرحلة يقظة الوعي الوطني للجزائريين تلك المرحلة المرتبطة بالكفاح من أجل الاستقلال.