الجواب عن افتراء على الشيخ ابن باز أنه لم يزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم قط
السؤال
كما هو معلوم عندكم ، فإنه عند غياب العلماء الربانيين يكثر الضلال ، واتخاذ الرؤوس الجهال ، الذين ضلوا ، وأضلوا ، فهذه هي الحالة التي نعيشها هنا في بلد إفريقية ، والله المستعان
. سؤالي بارك الله فيكم كيف الرد على من أثار شبهة حول الشيخ ابن باز لتنفير الناس عنه ألا وهي : أن الشيخ رحمه الله مكث في مكة ، أو المدينة عدة سنوات , ولم يزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم
فيقولون - هؤلاء الطرقيون المبتدعة - إنهم - يعني : الحجازيين - لا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم . فبم نجيبهم ؟ .
الرجاء التفصيل ، وذكر الأدلة كما اعتدنا منكم ، من الكتاب والسنَّة ، والآثار السلفية .
الجواب
الحمد لله
أولاً:
بارك الله فيك أخي السائل ، وجزاك الله خيراً على حرصك على سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وذبك عنها ، وعلى دفاعك عن علماء أهل السنَّة والجماعة
ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لنشر الاعتقاد الصحيح ، ونوصيكم بالرفق ، والحكمة ، في دعوة الناس .
ثانياً :
لا بد أن يعلم المسلم أن أجر الصبر على غربة التمسك بالسنَّة : عظيم ، ففي صحيح مسلم (145) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء) .
وفي سنن الترمذي (3058) عن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (... إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّاماً الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ) .
وفي رواية : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : (بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" .
فلا ينبغي أن يجزع المسلم من هذه الغربة ، فالعاقبة للمتقين , وهم المتمسكون بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
ثالثاً :
زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان في المدينة النبوية : مشروعة ، كزيارة قبر غيره
فهي داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : (إني كنتُ نهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رواه مسلم (977) من حديث بُرَيْدَةَ بن الحُصَيْب
وفي رواية : (فَزُورُوا الْقُبُورَ ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ) رواها مسلم (976) من حديث أبي هريرة .
وشدُّ الرحل للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة : مشروع ، باتفاق المسلمين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وشدُّ الرحل إلى مسجده : مشروع باتفاق المسلمين ، كما في الصحيحين عنه أنه قال : (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : مَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِي هَذَا ، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى) رواه البخاري (1132) ومسلم (1397) .
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) رواه البخاري (1133) ومسلم (1394) .
فإذا أتى مسجدَ النبي صلى الله عليه وسلم : فإنه يسلِّم عليه ، وعلى صاحبيه ، كما كان الصحابة يفعلون .
"الفتاوى الكبرى" (5/146) .
ولكن مسألة الزيارة غير مسألة شد الرحل ، والسفر لزيارة قبره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وزيارة القبور من غير شدِّ رحل إليها مسألة , وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى .
"مجموع الفتاوى" (27/193) .
فالأُولى استحبها العلماء ، وندبوا إليها , وأما الثانية - وهي شد الرحل والسفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، وقبر غيره - : فهي غير مشروعة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم دون الصلاة في مسجده : فهذه المسألة فيها خلاف ، فالذي عليه الأئمة ، وأكثر العلماء : أن هذا غير مشروع ، ولا مأمور به
لقوله صلى الله عليه وسلم (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِي هَذَا ، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى) .
"الفتاوى الكبرى" (5/146) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
لا يجوز السفر بقصد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قبر غيره من الناس ، في أصح قولي العلماء ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
: المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى) متفق عليه .
والمشروع لمن أراد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعيد عن المدينة : أن يقصد بالسفر زيارة المسجد النبوي ، فتدخل زيارة القبر الشريف وقبريْ أبي بكر ، وعمر ، والشهداء ، وأهل البقيع ، تبعاً لذلك .
وإن نواهما : جاز ؛ لأنه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً ، أما نية القبر بالزيارة فقط : فلا تجوز مع شد الرحال ، أما إذا كان قريباً لا يحتاج إلى شد رحال
ولا يسمى ذهابه إلى القبر سفراً : فلا حرج في ذلك ؛ لأن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، وقبر صاحبيه ، من دون شد رحال : سنَّة ، وقربة , وهكذا زيارة قبور الشهداء ، وأهل البقيع
وهكذا زيارة قبور المسلمين في كل مكان ، سنَّة ، وقُربة ، لكن بدون شد الرحال ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (زوروا القبور ، فإنها تذكركم الآخرة) أخرجه مسلم في صحيحه .
وكان صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية) أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه .
"فتاوى الشيخ ابن باز" (8/336) .
وأما الأحاديث التي فيها الندب للسفر ، وشدِّ الرحل لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم : فهي غير صحيحة ، وانظر جواب السؤال رقم : (2534) .
رابعاً :
أما كلام أولئك القبوريين ، والطرقيين عن الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى ، وأنه لم يزر قبر النبي صلى الله عليه وسلم في فترة مكثه في المدينة : فهو كذب عليه ، وشهادة زور باء بها من شهد بها
فالشيخ رحمه الله من أعظم الناس في هذا العصر محبة
وتعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحد , ولا تخفى عليه مشروعية زيارة القبور ، سواء أكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قبر غيره ,
كيف وهو رحمه الله قد قرر ذلك كثيراً ؟! وقد سبق النقل عنه أن "زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ، وقبر صاحبيه ، من دون شد رحال : سنَّة ، وقربة" ، ولكنَّ الشيخ ـ كما يبق
يفرق بين زيارة القبر ، وبين السفر وشد الرَّحل لزيارة القبر , فالثانية هي التي يمنعها الشيخ رحمه الله , وهو الصواب .
ثمَّ يقال : من الذي راقب الشيخ رحمه الله طيلة مكثه في المدينة النبوية حتى شهد تلك الشهادة الزائفة الباطلة ؟! .
وينبغي هنا أن ننبه ، أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان بالمدينة ، ليست مشروعة له كلما دخل المسجد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فلهذا كان العمل الشائع في الصحابة - الخلفاء الراشدين ، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - أنهم يدخلون مسجده ، ويصلون عليه في الصلاة
ويسلمون عليه ، كما أمرهم الله ورسوله ، ويدعون لأنفسهم في الصلاة مما اختاروا من الدعاء المشروع ، كما في الصحيح من حديث ابن مسعود لمَّا علَّمه التشهد قال : (ثم ليتخير بعد ذلك من الدعاء أعجبه إليه)
ولم يكونوا يذهبون إلى القبر ، لا من داخل الحجرة ، ولا من خارجها ، لا لدعاء ، ولا صلاة ، ولا سلام ، ولا غير ذلك من حقوقه المأمور بها في كل مكان ، فضلا عن أن يقصدوها لحوائجهم كما يفعله أهل الشرك
والبدع ؛ فإن هذا لم يكن يعرف في القرون الثلاثة ، لا عند قبره ، ولا قبر غيره ، لا في زمن الصحابة ، ولا التابعين ولا تابعيهم .
فهذه الأمور إذا تصورها ذو الإيمان والعلم : عرف دين الإسلام في هذه الأمور ، وفَرَّق بين من يعرف التوحيد ، والسنَّة ، والإيمان ، ومن يجهل ذلك .
وقد تبين أن الخلفاء الراشدين ، وجمهور الصحابة : كانوا يدخلون المسجد ، ويصلون فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يسلمون عليه عند الخروج من المدينة
وعند القدوم من السفر ، بل يدخلون المسجد ، فيصلون فيه ، ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يأتون القبر ، ومقصود بعضهم التحية .
وأيضا : فقد اسْتُحِب لكل من دخل المسجد أن يسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : "بسم الله والسلام على رسول الله
اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" ، وكذلك إذا خرج يقول : "بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"
فهذا السلام عند دخول المسجد كلما يدخل : يغني عن السلام عليه عند القبر ، وهو من خصائصه ، ولا مفسدة فيه .
"مجموع الفتاوى" (27/413 – 415) .