قد نشأت الدولة العثمانية كإمارة صغيرة ، ثم شبت سريعا متفوقة على غيرها من الإمارات السلجوقية حولها : نظرا لاستفادة العثمانيين من الظروف المتاحة حولها وتظريف العوامل التي هيئت لهم ، والتي من أبرزها :
1- الوجود التركي القديم في الأناضول؛ هذا الوجود الذي مضى عليه إبان قيام الدولة العثمانية خمسةُ قرون، سواء كان هذا الوجود اجتماعيًّا فقط، أم مدعومًا بقوى سياسية؛ إذ البداية في الوجود التركي رحيلُ أسر تركية إلى الأناضول بفعل عوامل متعددة، من أبرزها: البحث عن المراعي الجيدة في غرب آسيا، ثم توج هذا الوجود الاجتماعي ببروز القوى السياسية في الأناضول، الذي أدى إلى قيام دولة سلاجقة الروم سنة 466هـ/1074م، وهذا الوجود التركي القديم المتزايد أوجد للعثمانيين تجانسًا معه، ثم تحققت فوائدُه للعثمانيين على حساب السلاجقة والبيزنطيين، ثم على حساب الإمارات التي خلفت الدولة السلجوقية.
2- إن العناصر التركية المتزايدة في الأناضول، وبخاصة تلك التي تزامن إتيانُها مع قيام الدولة العثمانية، كانت عناصرَ شديدةَ البأسِ، عريقة في البداوة، والبدوُ بطبعهم قوم محاربون، والقبيلة منظمة كأنها جيش مستعد لأي أمر يطلبه منه شيخ القبيلة، وأسلوب الحياة البدوية يدفع إلى الروح القتالية، والطاعة المطلقة، والاستعداد للحرب، وهذا ما نلمسه بوضوح في قيام الدولة العثمانية؛ حيث نظر الأتراك إلى الدولة بوصفها قبيلةً كبيرة، وبخاصة في عهد أرطغرل وابنه عثمان، ودعم ذلك في عهود السلاطين الآخرين ما قام به هؤلاء السلاطين من توسيع في البلاد الأوربية باسم الإسلام، وصراع مع القوى النصرانية باسم الإسلام كذلك.
3- بروز الطابع الديني المتَّقد حماسة لدى العثمانيين منذ عهد الأمير عثمان؛ إذ على الرغم من أن الأتراك قد بدؤوا الدخول في الإسلام في وقت مبكر، إلا أنه في عهد هذا الأمير زاد انتشار الإسلام فيهم، ويبدو أنهم قبل ذلك كانوا يعيشون حالة من الانتقال من الوثنية إلى الإسلام.
ولقد ارتبط العثمانيون مثلهم في ذلك مثل الأتراك عمومًا، وسلاجقة الروم خاصة، ارتبطوا بمشايخ الطرق الصوفية، ولكن هذا الارتباط مع الطاعة المطلقة لأميرهم كان من أقوى عوامل قيام دولتهم؛ إذ من المعروف تاريخيًّا أن الدولة إذا التزمتْ مذهبًا دينيًّا واجتمعت مع ذلك عصبية قبلية، كان ذلك أدعى لاستمرارها وقوتها، فأصبح العثمانيون - والعسكريون منهم بخاصة - لا يعرفون إلا شيخ الطريقة موجِّهًا لهم، والأمير ثم السلطان قائدًا يدينون له بالطاعة والولاء.
وكان لتمسك العثمانيين بالإسلام أثر كبير في مستقبلهم الديني والعسكري والسياسي، لا يقل أثرًا عما تركه هذا الدين في عرب شبه الجزيرة؛ فقد هيأ الإسلام للعثمانيين وحدة في العقيدة، وحماسًا ظاهرًا في الدفاع عنها، واجتمع هذا مع طبيعة عسكرية صارمة، مرتبطة بنزعة قبلية قوية، وبخاصة إبان قيامها، ثم عمل السلاطين العثمانيون على زيادتها واستمرارها حتى غدت سمةً بارزة في التاريخ العثماني، وبشكل خاص في علاقة العثمانيين بأوربا النصرانية.
4- لقد سعى الأمير عثمان لوضع نظم إدارية لإمارته، تضمن لقبيلته الاستقرار والتوطن، والانتقال من نظام القبيلة المتجولة إلى نظام الإدارة المستقر؛ وبذلك انتقلتْ هذه القبيلة من البداوة إلى التحضر، مما ساعد على توطيد مركزها، وتطورها تطورًا سريعًا إلى دولة كبرى، هذا مع احتفاظ هذه القبيلة - حتى بعد أن أصبحت دولةً - بمظهر من مظاهر الطابع البدوي في الطاعة المطلقة لشيخ القبيلة الذي أصبح سلطانًا، مع الرغبة في الحرب والاستعداد للقتال كما مر في العامل الثاني.
5- إن أهم دولتين في آسيا الصغرى هما الدولة البيزنطية، ممثلة في إماراتها في آسيا، ودولةُ سلاجقة الروم، وكانتا قد وصلتا إلى حالة شديدة من الضعف والانهيار؛ نتيجة الصراع الطويل بين هاتين الدولتين، ونتيجة تعرض البيزنطيين الأرثوذكس للغزو الكاثوليكي، وتعرُّض دولة السلاجقة لغزو المغول؛ مما جعل منطقة الأناضول تعيش فراغًا سياسيًّا، ساعد الدولةَ العثمانية في بداية تكوينها على ملئه على أنقاض هاتين الدولتين المتداعيتين.
6- إن نشأة الإمارة العثمانية في الشمال الغربي للأناضول على حافة العالم النصراني، المتمثل في الإمارات البيزنطية في آسيا، وهو ما يعرف بدار الحرب، وعلى حافة دار الإسلام؛ أي: نهاية الإمارات السلجوقية، هذه النشأة فرضتْ على العثمانيين سياسةً حربية نشطة؛ لأنهم بمحاذاة عالم نصراني يمكنهم أن يتوسَّعوا في مناطقه باسم الجهاد، وقد يلقَون تعاطفًا من أتباعهم والمسلمين كافة، هذا زيادة على أن الحرب مع بيزنطة، والاستيلاء على عاصمتها العريقة "القسطنطينية"، كان أملَ المسلمين في مختلف حقب تاريخهم؛ ومن هنا فإن الثابت تاريخيًّا أن إمارات الحدود أوفر حظًّا في التوسع من إمارات الداخل؛ ذلك لأن الجهاد ونشر الإسلام والتوسع باسمه، يتوافر لإمارات الحدود، ولا يتوافر لإمارات الداخل؛ لأنها بمحاذاة إمارات أو بلدان إسلامية.
بداية التوسع العثماني ضد البيزنطيين:
لقد اتبع العثمانيون منذ عهد أرطغرل سياسةً حربية نشطة في أن يتم اتساع إمارتهم في الممتلكات البيزنطية في آسيا، بحيث تكون غزواتهم ضد النصارى في غرب الأناضول، وليس ضد المسلمين في الشرق والجنوب؛ كل ذلك تحقيقًا للعوامل التي ساعدتْ على قيام دولتهم، وكانت سياستهم الحربية هذه غاية في الذكاء؛ فقد كسبوا دعم السلاجقة وأمرائهم من بعدهم؛ لأنهم يحاربون البيزنطيين، زيادة على أن توسعهم الأول كان لحساب السلطان السلجوقي.
ومن هنا فقد نجحوا في المراحل الأولى لقيام دولتهم نجاحًا منقطع النظير، وحقق أرطغرل توسعًا إقليميًّا جيدًا في منطقة الشمال الغربي للأناضول، حيث ضم منطقة إسكي شهر.
وسلك عثمان مسلكَ أبيه في التوسع والفتوح، واستغل هذا الأمير ضعْفَ دولة السلاجقة، وإغارات المغول التي أجهزت على هذه الدولة سنة 707هـ/1307م، فأعلن استقلاله مقتديًا بغيره من أمراء المناطق السلجوقية، وبذلك عُدَّ المؤسِّسَ الأول للدولة العثمانية، ونسبت هذه الدولة إليه.
وكما كان توسع والده في ممتلكات الدولة البيزنطية، فقد فعل عثمان الشيء نفسه، وساعده خلوُّ أطراف هذه الممتلكات من وسائل الدفاع، فأخذ يشن الغاراتِ المتكررةَ على هذه الأطراف البيزنطية، واستولى على عدد من القلاع القريبة من دولته، مثل قلعة "آق حصار"، التي جعلت العثمانيين يطلون على مضيق البسفور، وتمكن السلطان عثمان من الاستيلاء على الطريق المائي الموصل بين القسطنطينية وبروسة، ثم على قلعة "هودج حصار"، وكان الاستيلاء على هذه المراكز الإستراتيجية مقدمةً للاستيلاء على مدينة بروسة سنة 727هـ/1326م الذي تم في آخر عهد هذا الأمير، حيث سمح في هذه السنة وهو على فراش الموت بالاستيلاء عليها من قبل ابنه أورخان