الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلقد حثَّتْ شريعةُ الإسلام على الْتِزامِ طيِّب الكلام؛ وجِمَاعُ ضوابطِه يكمن:
● أوَّلًا: في لزوم الصِّدق في القول؛ إذ الصدقُ أصلُ البِرِّ، وقاعدةُ التعايشِ بين العباد، وأساسُ السُّلوك إلى الله والدَّارِ الآخرة، وهو عنوانُ المؤمنِ وسِمَتُه المُميِّزةُ له عن الكاذب والمنافق والخائن وغيرِهم؛ قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩﴾ [التوبة].
● ثانيًا: في لزوم العدل في القول؛ بحيث لا يميل به الهوى عن قول الحقِّ والْتِزام طريق الهدى، لا تجرفه شهوةٌ جامحةٌ أو دعوةٌ فاسدةٌ أو دُنيَا فانيةٌ، فيَحِيدَ بها عن قول الحقِّ ويسلك غيرَ سبيلِ المؤمنين الصَّادقين المُقسِطين؛ قال تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء].
فالعدلُ في القول ـ إذن ـ يستوجب محبَّةَ اللهِ وكرامَتَه ورضوانه وإنعامه، كما قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنََٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ٨﴾ [المائدة]، وقال تعالى: ﴿وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٩﴾ [الحُجُرات]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ﴾ [الأنعام: ١٥٢].
وجملةُ الأقوالِ المبغوضةِ لله والكلماتِ المسخوطة له والعبارات المذمومة التي تُعَدُّ مِنْ «حصائد اللِّسان» و«قوارصِ الكلام» كُلُّها قبيحةٌ ذمَّها اللهُ في كتابه؛ لأنها لا تتَّصِف بالصِّدق ولا بالعدل، وهي دَرَكاتٌ مُتفاوِتةٌ في الحضيض، أقبحُها قولًا وأخبثُها مُعتقَدًا وجُرمًا وأنتنُها عملًا: كلمةُ الشرك، وهي اتِّخاذُ آلهةٍ وأندادٍ مع الله تعالى، وما تفرَّع عنها مِنْ عملٍ باطلٍ وفسادٍ؛ ذلك لأنَّ «الكلمة أصلُ العقيدة، فإنَّ الاعتقاد هو الكلمةُ التي يعتقدها المرءُ، وأطيبُ الكلام والعقائدِ: كلمةُ التوحيد واعتقادُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأخبثُ الكلامِ والعقائدِ: كلمةُ الشرك، وهو اتِّخاذُ إلهٍ مع الله، فإنَّ ذلك باطلٌ لا حقيقةَ له، ولهذا قال سبحانه: ﴿مَا لَهَا مِن قَرَارٖ﴾»(١).
ومِنْ أَخزى كلماتِ الباطل وأخبثِها اعتبارًا وعملًا في عصرِنا الحديث: تلك التي ينتهك المرءُ فيها رتبةَ الرُّبوبيَّةِ الصَّمَديَّة على أبشعِ صُوَر الانتهاك، ويتعدَّى بها على خاصيَّة التَّشريع والحاكميَّة لله تعالى، فينسب مصدرَ السُّلطةِ والتَّشريع ـ عُدوانًا وظُلمًا ـ للأمَّة أو الشَّعب الذي هو ـ عندهم ـ الحَكَمُ وإليه التَّشريعُ والحُكمُ، وكثيرًا ما ينخدع الغَوْغاءُ والدَّهْماء، والإِمَّعاتُ والمُلبَّسُ عليهم، والمُنبهِرون بالحضارة الغربيَّة والمفتونون بها بهذا النَّوعِ مِنَ الحكم الذي يُسمُّونه الدِّيمقراطيَّة، والتي بَلَغ التَّهويلُ بها والتَّعويلُ على دساتيرها وقوانينِها والغلوُّ في تعظيمِ نظامِها الأغلبيِّ إلى حدِّ العبوديَّة والتَّقديس كما لو كانت شريعةً إلهيَّةً مُنزلةً مِنَ الحيِّ القيُّوم الذي لا يموت، وما هي ـ في حقيقة الأمر ـ إلَّا حكمُ الأكثريَّة الموسومةِ بالجهل والنُّقصان والميلان عن سواءِ السَّبيل، فهي حكمُ الدَّهماء والغوغاء، إذ أهلُ اليقين والرُّسوخِ يعلمون أنَّ رأيَ الأغلبيَّة معدومُ القيمة لا يساوي عند الله شيئًا إِنْ كانَتِ الأغلبيةُ تأمر بالباطل وتعمل بمعصية الله، إذ الجماعةُ ما وافق الحقَّ وطاعةَ الله وإِنْ كنتَ وَحْدَك، ولا تُغني الأكثريَّةُ مِنَ الحقِّ شيئًا إِنْ خالفَتِ الحقَّ واتَّبعَتِ الهوى، وقد حصلَتْ تشريعاتٌ وضعيَّةٌ قرَّرَتْها الأغلبيَّةُ البرلمانيَّةُ، مِنْ سَنِّ قوانينَ يُبدَّلُ فيها شرعُ الله: كإباحة الخمر والتِّجارةِ فيها، وفتحِ مجالات الرِّبا والزِّنا وجملةٍ مِنَ الرَّذائل الأخرى، وتغييرِ بعضِ نُظُمِ الميراث والزَّواج وغيرها مِنْ أحكام الدِّين، وهذا غيضٌ مِنْ فيضٍ مِنْ تبديلِ مَعالِمِ الدِّين وتشويهِ جمال الشَّريعة، وإحلالِ عَوارِ النُّظُم المُستورَدةِ مَحَلَّها، وقد ذمَّ اللهُ تعالى هذه الأكثريَّةَ في مَواضِعَ كثيرةٍ مِنَ التَّنزيل الحكيم، منها: قولُه تعالى: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف]، وقولُه تعالى: ﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦]، وقولُه تعالى: ﴿وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ ١٠٦﴾ [يوسف]، وغيرُها مِنَ الآيات.
والمعلومُ أنَّ الدِّيمقراطيَّة مبدأٌ جاهليٌّ ومفهومٌ علمانيٌّ ما له في شريعةِ الإسلام مِنْ قرارٍ، حَلَّ في بلاد المسلمين وانتشر عن طريق الغزو الاستدماريِّ والفكريِّ، أو عن طريق المحاكاة العمياء للغرب مِنْ قِبَل المُولَعِين بحضارتهم الجاهليَّة والمفتونين بها، الذين جعلوا الحياةَ الغربيَّةَ مَثَلَهم الأعلى في أفكارهم وسلوكهم وغاياتِهم وآمالهم وأمانِيِّهم، ويُشيدون بها في محاولةٍ لإخضاعِ كلمة التَّوحيد ـ عقيدةً وشريعةً ـ لمسايرةِ الحياة الغربيَّة الرَّاهنة، ويعملون على إبعاد النَّاس عن دِينهم الحقِّ وصرفِهم عن التَّمسُّك بكلمة التَّقوى إلى الالتزام بالأنظمة المُستورَدةِ الجاهليَّة، يصدُّون النَّاسَ عن سبيل الله وصِرَاطِه المستقيم؛ وقد أَوضحَ اللهُ تعالى أنَّه لا حُكمَ أحسنُ مِنْ حكم الله تعالى، وأنَّه ليس بعد حُكمه إلَّا حكمُ الجاهليَّة بقوله: ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠﴾ [المائدة].
وهكذا أَصبحَ هذا المبدأُ الفكريُّ الجاهليُّ بنظامه ودساتيرِه وقوانينِه له الحُرمةُ والتَّعظيمُ والقدسيَّةُ في نفوس النَّاس كأنَّه الفيصلُ في الدِّين والشَّريعة، بل هو دِينٌ آخَرُ فُرِض على المسلمين بدلًا مِنْ دِينهم الحقِّ وشريعَتِهم النَّقيَّة، فلا دَنْدَنةَ إلَّا على حكم الدِّيمقراطيَّة وإرادةِ الشَّعب والأكثريَّة، ولا حديثَ إلَّا عن تقديس البرلمان المتشرِّع، وتعظيمِ الدُّستور والتَّنويه بالقانون، وحُرمةِ المحكمة وقدسيَّة القضاء الوضعيِّ، فبِاسْمِ الشَّعب تُستفتَحُ الخطاباتُ الرَّسميَّةُ وغيرُ الرَّسميَّة، ولا اعتبارَ فوق إرادة الشَّعب، منه المبدأُ وإليه المنتهى والمصيرُ؛ وعليه، فقَدْ تَبلوَرَ جليًّا أنَّ التَّشريعَ للشَّعبِ والسِّيادةَ له وَحْدَه لا شريكَ له، فلا الْتِفاتَ إلى شرعِ الله ولا اعتبارَ لحُكمه، بل شريعةُ الإسلام خاضعةٌ ـ عندهم ـ للقوانين والقواعد الأساسيَّة المُولَّدةِ مِنَ الشَّعب عن طريق سُلطته التَّشريعيَّة، وما كان منها مُوافِقًا للشَّريعة فإنَّما وافقها عَرَضًا ومصادفةً، لا سلوكًا ولا اتِّباعًا لها وخضوعًا، كما وأَوضحَ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ ما عليه التَّشريعاتُ الوضعيَّة بثوبها الدِّينيِّ الجديد قائلًا بما نصُّه: «وصار هذا الدِّينُ الجديدُ هو القواعدَ الأساسيَّة التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثرِ بلاد الإسلام ويحكمون بها، سواءٌ منها ما وافق في بعضِ أحكامه شيئًا مِنْ أحكام الشَّريعة وما خالفها، وكُلُّه باطلٌ وخروجٌ، لأنَّ ما وافق الشَّريعةَ إنَّما وافقها مصادفةً، لا اتِّباعًا لها ولا طاعةً لأمرِ الله وأمرِ رسوله، فالموافقُ والمُخالِفُ كلاهما مُرتكِسٌ في حمأة الضَّلالة، يقود صاحِبَه إلى النَّار»(٢).
فهذه التَّشريعاتُ الوضعيَّة التي يحكمون بها ويتحاكم المسلمون إليها ويرضَوْن بحكمها فهي ـ بلا شكٍّ ـ مُنازعةٌ لله في حقِّ الأمر والنَّهي والتَّشريع بغير سلطانٍ مِنَ الله، ومُخالَفةٌ صريحةٌ لجوهر التَّوحيد، وتمرُّدٌ على حقيقة الإسلام التي تُوجِبُ على عباد اللهِ القَبولَ والانقيادَ والاستسلام لدِين الله تعالى.
وقد تَمكَّن حُماةُ الدِّيمقراطيَّة وسُعَاتها والمروِّجون لها ـ مِنَ المفتونين بالغرب والمُتبنِّين للطَّرح العلمانيِّ وبقيَّةِ إخوانهم في الغيِّ ـ مِنَ الوصول إلى غرسِ مبادئ الدِّيمقراطيَّة ودساتيرِها وقوانينها في نفوس المسلمين، حتَّى أُشرِبوا في قلوبهم حُبَّها نِدًّا وعدلًا كحُبِّ الله، والرُّضوخَ لها، وطاعةَ دساتيرِها وقوانينِها، والتَّعصُّبَ لها، واتِّخاذَها دِينًا جديدًا يعتقدونه ومذهبًا ينتحلونه، يسيطر على أهوائهم وشَهَواتِهم، لا يخضعون إلَّا له، ولا يتحرَّكون إلَّا به، فيجتمع لهم فيها جانبُ المحبَّة والتَّعظيمِ والطَّاعة، وعنصرُ الولاء والبراء، فالإخوانُ الدِّيمقراطيُّون وأضرابُهم يتآخَوْن في ديمقراطيَّتِهم، ويتناصرون عليها، ويتحزَّبون لقوانينِها ودساتيرِها ولاءً وبراءً، فهُمْ ـ في التَّبعيَّة العمياء للغرب ـ يَصِفون الدِّيمقراطيَّةَ بصفاتٍ الربوبيَّة الصَّمَديَّة، ويصبغونها بصبغاتٍ لا تَلِيقُ إلَّا لله تعالى مِنْ كمال الذُّلِّ والتَّعظيم والمحبَّةِ والخضوع والاستكانة، فهؤلاء ـ في اتِّخاذِهم الدِّيمقراطيَّةَ نِدًّا مع الله ـ لا يُسوُّونها بالله في الخَلْق والرَّزق والتَّدبير، وإنما يُسوُّونها به في:
● أوَّلًا: المحبَّة والتَّعظيم والعبادة؛ إذ الحبُّ ـ في الحقيقة ـ هو أصلُ العبادة، لأنَّ العبادة تَشْمَلُ الإرادةَ والمحبَّةَ، وعليهما يدور كُلُّ عملٍ وحركةٍ، وقد بيَّن ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ هذا المعنى بقوله: «وإذا كانت المحبَّةُ والإرادةُ أصلَ كُلِّ عملٍ وحركةٍ، وأعظمُها في الحقِّ محبَّةُ الله وإرادتُه بعبادته وَحْدَه لا شريكَ له، وأعظمُها في الباطلِ أَنْ يتَّخِذ النَّاسُ مِنْ دون الله أندادًا يُحِبُّونهم كحُبِّ الله، ويجعلون له عدلًا وشريكًا؛ عُلِم أنَّ المحبَّةَ والإرادةَ أصلُ كُلِّ دِينٍ، سواءٌ كان دِينًا صالحًا أو دِينًا فاسدًا؛ فإنَّ الدِّين هو مِنَ الأعمال الباطنة والظَّاهرة، والمحبَّةُ والإرادةُ أصلُ ذلك كُلِّه»(٣)؛ فمِنْ هذا البيانِ يتجلَّى للعاقل أنَّ مَنْ أَحبَّ مَنْ يَستحِقُّ المحبَّةَ ـ على الحقيقة ـ ووَضَع الحقَّ في موضعه كانت محبَّتُه عينَ صلاحِه وسعادَتِه وفوزه؛ وبالمُقابِل فمَنْ أَحبَّ مَنْ لا يَستحِقُّ مِنَ المحبَّةِ شيئًا ولم يضَعِ الحقَّ موضعَه فظَلَم حقَّ اللهِ وتعدَّى حدودَه كانت محبَّتُه عينَ شقائه وفسادِه وتشتُّتِ أمره؛ قال تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ ١٦٥﴾ [البقرة].
● ثانيًا: كما يُسوُّون الدِّيمقراطيَّةَ بالله في التَّشريع والحكم بإثباتهما لغير الله أو معه؛ إذ لا يخفى أنَّ مَنْ نصَّب الأمَّةَ أو الشَّعبَ أو أيَّ كائنٍ آخَرَ مصدرًا للسُّلطات والتَّشريع فقَدْ وَقَع في هذا النَّوعِ مِنَ الشِّرك بالله في الرُّبوبيَّة بالأنداد في صِفَته وهو الحكمُ والتَّشريع، إذ لا يخفى ـ على عارفٍ بمُقتضَيَاتِ كلمة التَّوحيد مُوقِنٍ بها ـ أنَّ التَّشريع والحكم حقٌّ لله وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ مصدر السُّلطة التَّشريعيَّة هو الكتابُ والسُّنَّةُ، لا الشَّعبُ ولا الأمَّةُ ولا المجالسُ النِّيابيَّة ولا الزُّعَماءُ ولا الأئمَّةُ ولا الأولياء، وقد جاءَتْ نصوصُ القرآن والسُّنَّةِ بيِّنًا حكمُها، قاضيةً بأنَّ شريعة الإسلام هي المصدرُ الوحيدُ للتَّشريع والحكم بلا مُنازِعٍ أو شريكٍ؛ قال تعالى: ﴿وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦ﴾ [الرعد: ٤١]، وقال تعالى: ﴿وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٦﴾ [الكهف]، وقال تعالى: ﴿إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٤٠﴾ [يوسف]، وقال تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ﴾ [الشورى: ٢١]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ»(٤)، وغيرها مِنَ النُّصوص الشَّرعيَّة الدَّالَّةِ دلالةً واضحةً على أنَّ مصدرَ السُّلطةِ هو الشَّرعُ الحنيف الذي يجب الإذعانُ لأمرِه، والانقيادُ لحُكمِه، والاستسلامُ له، بتحليلِ حلالِه وتحريمِ حرامه، وامتثالِ أوامره واجتنابِ نواهيه وزواجرِه دون ما سِوَاه؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥﴾ [النساء]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٣٦﴾ [الأحزاب]، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فكثيرٌ مِنَ النَّاس يرضى بالله ربًّا ولا يبغي ربًّا سواه، لكنَّه لا يرضى به وَحْدَه وليًّا وناصرًا، بل يوالي مِنْ دونه أولياءَ ظنًّا منه أنَّهم يُقرِّبونه إلى الله، وأنَّ موالاتَهم كموالاةِ خواصِّ المَلِك، وهذا عينُ الشِّرك .. وكثيرٌ مِنَ النَّاس يبتغي غيرَه حَكَمًا: يتحاكم إليه ويُخاصِمُ إليه ويرضى بحكمه، وهذه المَقاماتُ الثَّلاثُ هي أركانُ التَّوحيد: أَنْ لا يُتَّخَذ سِواهُ ربًّا ولا إلهًا، ولا غيرُه حَكَمًا»(٥).
هذا، وإنَّ تقديسَ الأنظمةِ المُستورَدة، وتقديرَ رجالِهَا وإكبارَ رُوَّادِها، والاعتمادَ على الاتِّجاهات الفكريَّةِ والحركاتِ الهدَّامة بالمَشارِب الغربيَّة، والتَّغاضِيَ عن عيوبها وعيوبِ المدنيَّة على أنموذج الحياة الفكريَّة والسُّلوكيَّة الغربيِّ ما زادَتِ الأمَّةَ إلَّا ذُلًّا وانبطاحًا وتِيهًا وخَبالًا وانحرافًا وبُعدًا عن شرع الله تعالى وإعراضًا عنه، إذ كان مِنَ اللَّازمِ: الإذعانُ له، والانقيادُ لحُكمِه، والاستسلامُ لِشرعِه، وقيادةُ النَّاس به، يستوي في ذلك الحُكَّامُ والمحكومون، في جعلِ كلمةِ الله هي العُلْيا، وكلمةِ الباطلِ السُّفْلى، عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(٦).
فالمسؤوليَّة ـ إذن ـ مُلقاةٌ على جميع المسلمين في أَنْ يَحرِصوا على جعلِ شريعة الله تعالى هي المصدرَ الوحيد للتَّشريع، ومُهَيْمِنةً على كافَّة الشَّرائع الباطلةِ الأخرى، لا مصادِرَ تشريعيَّةً أصليَّةً أو تبعيَّةً أو فرعيَّةً مع الأنظمة المُستورَدة، فلا ركونَ لآراء البشر وأهوائِهم المُصادِمةِ لشريعة الإسلام، ولا نزولَ على إرادة الشَّعب ولا انقيادَ لِرغبَتِه إذا كان الشَّعبُ ـ ولو بِرُمَّتِه ـ يرفض الاستسلامَ لدِين الله والرُّجوعَ لِشرعِه وحُكمِه القائمِ على كلمة التَّوحيد، واعتقادِ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ في ربوبيَّتِه وأسمائِه وصِفَاته وأفعالِه وحُكمه، وفي ألوهيَّتِه وعبادَتِه؛ فكلمةُ التَّوحيد هي العُرْوةُ الوُثْقى التي مَنْ تمسَّك بها نَجَا، ومَنْ لم يتمسَّكْ بها هَلَك، وهي كلمةُ التَّقوى التي أَلزَمَها اللهُ صحابةَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وكانوا أَحَقَّ بها، وهي الكلمةُ الباقية التي جَعَلها إبراهيمُ عليه السلام في عَقِبه لعلَّهم يرجعون، وهي الكلمةُ الطَّيِّبة والقولُ الثَّابتُ في الحياة الدُّنيا والآخرة كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ ٢٤ تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۢ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ ٢٥ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٖ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجۡتُثَّتۡ مِن فَوۡقِ ٱلۡأَرۡضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٖ ٢٦ يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧﴾ [إبراهيم].
وبرابطة التَّوحيدِ والمتابعةِ يحصل التَّضامنُ الإيمانيُّ، ويلتحم المجتمعُ الإسلاميُّ؛ ليُصبِحَ كالجسد الواحد والبنيان المرصوص، يَشُدُّ بعضُه بعضًا؛ وعليها تنبني عقيدةُ الولاءِ والبراء والحبِّ والبغض؛ لذلك لا يجوز ـ ألبتَّةَ ـ النِّداءُ برابطةٍ أخرى مُطلَقًا، لا قوميَّةٍ ولا إقليميَّةٍ، ولا وطنيَّةٍ ولا عِرْقيَّةٍ، ولا قَبَليَّةٍ ولا عَصَبيَّةٍ نَسَبيَّةٍ، ولا حَرَكيَّةٍ حزبيَّةٍ، ولا مذهبيَّةٍ ولا طائفيَّةٍ، بل الواجبُ إماتةُ كُلِّ النَّعرات الجاهليَّة التي ذمَّها الإسلامُ وحقَّرها الشرعُ، والعملُ على ربطِ الأمَّة برابطة الأخوَّة الإيمانيَّة القائمةِ على كلمة التَّوحيد والمتابعة، قولًا واحدًا لا اختلافَ فيه بين كافَّة المسلمين؛ قال الشنقيطيُّ ـ رحمه الله ـ: «والحاصلُ: أنَّ الرَّابطةَ الحقيقيَّة التي تجمع المُفترِقَ وتُؤلِّف المُختلِفَ هي رابطةُ: «لا إلهَ إلَّا اللهُ»؛ ألَا ترى أنَّ هذه الرَّابطةَ ـ التي تجعل المجتمع الإسلاميَّ كُلَّه كأنَّه جسدٌ واحدٌ، وتجعله كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضًا ـ عطَفَتْ قلوبَ حَمَلةِ العرش ومَنْ حوله مِنَ الملائكة على بني آدَمَ في الأرض مع ما بينهم مِنَ الاختلاف؟! قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَيُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَيَسۡتَغۡفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْۖ رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡءٖ رَّحۡمَةٗ وَعِلۡمٗا فَٱغۡفِرۡ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ ٧ رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٨ وَقِهِمُ ٱلسَّئَِّاتِۚ وَمَن تَقِ ٱلسَّئَِّاتِ يَوۡمَئِذٖ فَقَدۡ رَحِمۡتَهُۥۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٩﴾ [غافر]، فقَدْ أشار تعالى إلى أنَّ الرَّابطة التي ربطَتْ بين حَمَلة العرش ومَنْ حوله، وبين بني آدَمَ في الأرض حتَّى دعَوُا اللهَ لهم هذا الدُّعاءَ الصَّالحَ العظيم، إنما هي الإيمانُ بالله جلَّ وعَلَا»(٧).
وأخيرًا، فإنه يجدر التنبيه إلى أنَّ ما تقرَّر ذِكرُه سابقًا يُعَدُّ مِنَ الحكم المُطلَق الذي لا يُنزَّل حُكمُه على المعيَّن إلَّا بعد التثبُّت فيه بمعرفةِ استيفاءِ المعيَّنِ شروطَ الحكم عليه وانتفاءِ موانعه عنه؛ لأنَّ مَنْ ثَبَت إيمانُه بيقينٍ فلا يُزالُ عنه بالشكِّ، وإنما بيقينٍ مِثلِه، وذلك لقيامِ دليل التفريق بين الحكم المُطلَق والحكم على المعيَّن في نصوص الكتاب والسُّنَّة، وهو مأثورٌ عن أئمَّة السلف.
نسأل اللهَ تعالى أَنْ يُصلِحَ لنا دِينَنا ودُنيانا وآخِرَتَنا، وأَنْ يُثبِّتَنا بالقول الثَّابت في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة، وأَنْ يرزقنا الاعتصامَ بالكتاب والسُّنَّة، وأَنْ يُوفِّقَ وُلَاةَ أمور المسلمين للعمل على إعلاءِ كلمة الحقِّ والدِّين، وأَنْ يجمع قلوبَنا عليها، ويُوفِّقَنا للعمل بها عقيدةً وقولًا وعملًا، وأَنْ يختم لنا بخاتمة السَّعادة، ويجعلنا ممَّنْ كُتِبَتْ لهم الحُسْنى وزيادةٌ؛ وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٠ شعبان ١٤٤٠ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٥ أبريل ٢٠١٩م
https://ferkous.com/home/?q=art-mois-137