الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذا الحديث الثاني من الأربعين النووية، هذا الحديث الثاني، مضى الأول، وهذا الحديث الثاني: عن عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، الخليفة الراشد الثاني، المتوفى سنة 23 من الهجرة، في ذي الحجة، عن عمر أنهم كانوا جلوسًا عند النبي ﷺ في بعض الأيام، فلم يسألوا، فبعث الله جبرائيل يسأل حتى يستفيدوا ويستفيد مَن بعدهم من الأمة؛ رحمةً من الله جلَّ وعلا، فالنبي وهو جالس بين الناس ذات يومٍ إذا جاء جبرائيل في صورة إنسانٍ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه من الحاضرين أحدٌ، صورة غريب، فقال: يا محمد، على عادة البادية يسألون الرؤساء بأسمائهم: يا فلان، يا محمد، يا عبدالعزيز، يا معاوية، يا علي، عادة الأعراب هكذا: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، كان الأفضل أن يقول: يا رسول الله، يا نبي الله، لكن جعل طريقة البادية وأشباههم: أخبرني عن الإسلام ما هو؟ فقال له النبيُّ ﷺ: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلًا، فسَّر الإسلام بأركانه.
الإسلام كثير، يعمّ جميع ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، كله يُسمَّى: إسلامًا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] ومعناه: الإسلام لله، الذل لله، والانقياد لله بأداء ما أمر، وترك ما نهى، هذا هو الإسلام؛ أن تُؤدي ما أمر الله، وأن تنتهي عمَّا نهى الله عنه، يعني في عموم الدين، كما قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ.
والنبي أجابه بالأصول والأركان الخمسة التي قال فيها ﷺ: بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت؛ ليُعلم الناس أنَّ هذه أصول الإسلام، وهذه أركانه العظيمة، فلما أخبره بها قال: صدقتَ! فقال الصحابةُ: فعجبنا له: يسأله ويُصدقه؛ لأنَّ العادة أن السائل ما عنده علم كيف يُصدقه؟! السائل ما عنده علم يسأل، لكن صدَّقه ليعلم الناس أنَّ هذا هو الحق؛ لأنه سيُخبرهم أنه جبرائيل.
ثم قال: أخبرني عن الإيمان، يعني: عن أصوله، قال: أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، هذه أصول الإيمان، وإلا فالإيمان يشمل الدينَ كله، يشمل جميع الدِّين، يشمل الصَّلوات والزَّكوات والصيام والحج والشهادتين والجهاد وغير هذا من أوامر الله، كما يشمل ترك ما نهى الله عنه، كله يُسمَّى: إيمانًا، كما قال النبي ﷺ: الإيمان بضع وسبعون شعبة - أو قال: بضع وستون شعبة - فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.
فالإيمان يشمل كلَّ ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، لكن أراد أن يُبين الأصول التي يرجع إليها الإيمان، وهي ستة: أن تؤمن بالله أنه ربك وإلهك ومعبودك الحق، وأنه الخلَّاق العليم، وأنه ذو الأسماء الحسنى، والصِّفات العُلَى، لا شبيهَ له، ولا كفء له، ولا نِدَّ له.
وملائكته؛ تؤمن بأنَّ لله ملائكةً معروفين بطاعته وتنفيذ أوامره ، خلقهم الله من النور، خُلق آدم من الطين، وخُلقت الملائكة من النور، وخُلق الشيطان من النار، كما في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ قال: خُلِقَتِ الملائكةُ من النور، وخُلق آدم مما وُصف لكم، وخُلق الجانُّ من مارجٍ من نارٍ، ولا يعلم عددهم إلا الله، الملائكة شيء كثير لا يعلمهم إلا الله، ألوف الملايين التي لا تُحصى، يقول النبيُّ ﷺ: يدخل البيتَ المعمور كل يوم سبعون ألف ملكٍ للتعبد فيه ثم لا يعودون إليه سائر الدهر، كم يصيرون؟
كل يوم سبعون ألف ملكٍ يدخلون البيت المعمور، وهو في السماء السابعة على وزان الكعبة في الأرض، يتعبد فيه الملائكة، كل يوم يدخله سبعون ألف ملك، يوم من أيام الدنيا، ثم لا يعودون إليه، يأتي غيرهم في كل يوم، فهذا يدل على أنه لا يحصى عددهم.
وهم في طاعة الله وتنفيذ أوامره، منهم جبرائيل السفير بين الله وبين الرسل، وهو أفضلهم، ومنهم إسرافيل الموكل بنفخ الصور، ومنهم ميكائيل الموكل بالقطر، بالمطر، ومنهم مالك خازن النار، الذي قال فيه - جلَّ وعلا -: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، ومنهم الحفظة الموكَّلون بنا وبأعمالنا، الذين قال فيهم سبحانه: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10- 12]، ومنهم ملائكة سيَّاحون في الأرض يلتمسون مجالس الذكر، فإذا أدركوها تجمَّعوا عندها، ومنهم ملائكة سيَّاحون يُبَلِّغون الرسول عن أمته الصلاة والسلام.
وكتب الله كذلك، الركن الثالث: الإيمان بكتب الله المنزلة على الأنبياء، هو أنزل كتبًا سبحانه على أنبيائه، فنُؤمن بذلك، منها التَّوراة والإنجيل والزَّبور وصحف إبراهيم وصحف موسى، ومنهم القرآن، وهو أفضلها، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ [الحديد:25]، فالله أرسل الرسل، وأنزل معهم الكتب، وأفضلها وأعظمها القرآن العظيم المنزل على محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
فعلى كل عبدٍ أن يُؤمن بكتب الله، وأنها حقٌّ، وأنَّ أفضلها وأعظمها القرآن.
هكذا الرسل، الركن الرابع: الإيمان بالرسل جميعًا من أولهم آدم إلى آخرهم محمد ﷺ، آدم رسول إلى ذُريته، وبعده نوح رسول إلى أهل الأرض، وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعدما وقع الشركُ فيهم، وآخرهم وخاتمهم وأفضلهم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام.
فأنت تُؤمن بجميع المرسلين كلهم، تؤمن بأنَّ الله أرسل الرسل، وأنهم بلَّغوا رسالات ربهم، تؤمن بهذا، وتشهد بأنَّ الله أرسل رسلًا إلى الأرض، وأنهم بلَّغوا وأدُّوا ما عليهم، وخاتمهم محمد ﷺ.
الخامس: اليوم الآخر: تُؤمن باليوم الآخر، يعني: يوم القيامة، وأنه حقٌّ، لا بدَّ من يوم القيامة، وهي الجزاء والحساب، والجنة والنار، والحساب والميزان، والكتب والمرور على الصراط، إلى غير ذلك، تؤمن بهذا اليوم الآخر الذي بيَّنه الله في كتابه العظيم، قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، وقال: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].
فهذه أصول مبينة في القرآن.
والسادس: القدر: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22].
فتؤمن بالقدر، وأن الله قدَّر المقادير وعلمها وأحصاها، فما يوجد شيء إلا وقد سبق بعلم الله، يقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: إنَّ الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء، هكذا رواه مسلم في الصحيح من حديث عبدالله بن عمرو، وفي الحديث هنا -حديث جبرائيل: وتُؤمن بالقدر خيره وشرِّه أي: تُؤمن بأنَّ الله قدَّر الأشياء وعلمها وأحصاها وكتبها: ما يكون في الأرض، وأهل الجنة، وأهل النار، وما يكون من المصائب، وما يكون من الفتن والقتال، وغير ذلك كله مقدر، كله مضى في علم الله، تشهد أن الله قدَّر الأشياء وعلمها وكتبها سبحانه.
ومراتب القدر أربع: العلم، والكتابة، والخلق والإيجاد، والمشيئة، فالله علم كلَّ شيءٍ، وكتب كلَّ شيءٍ، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، جميع الموجودات كلها مخلوقة له ، هو الخلَّاق العليم: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16].
المرتبة الثالثة: الإحسان، وهي أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذه أعلى المراتب؛ أن تعبد ربَّك كأنَّك تُشاهده، هذه درجة المشاهدة، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، يعني: فتُؤمن بأنه يراك ويعلم حالك ويُشاهدك، ولا تخفى عليه خافية، حتى تكون في عبادةٍ على غاية الاستعداد والإحسان كأنَّك تُشاهد ربَّك، فإن ضعفت عن هذا فاعمل على أن ربَّك يُشاهدك، وأنك بعينه ومرآه - جلَّ وعلا - كما قال : الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218- 219].
فالله يرى الجميع، ولا تخفى عليه خافية ، فينبغي للمؤمن أن يستحضر هذا عند صلاته وأعماله؛ أن الله يراه حتى يُتقن عمله، حتى يجتهد في عمله لأنه بمرأى من الله؛ ولهذا صارت هذه الدَّرجة هي الدرجة العليا: الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
تمت المراتب الثلاثة: الإسلام وهي العامَّة، ثم الإيمان وهي الأخص، ثم الإحسان وهي أخص الأخص، وهي المرتبة العليا التي تخص خواص المؤمنين.
قال: أخبرني عن الساعة؟ متى تقوم الساعة، يعني: أخبرني متى تقوم الساعة؟ متى يموت الناس؟ قال له ﷺ: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، يعني: ما أعلمها، وأنت ما تعلمها، كلنا ما نعلمها، الله - جلَّ وعلا - يقول: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف:187].
قال: أخبرني عن أماراتها. علاماتها، قال: أن تلد الأمةُ ربَّتها، وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، أخبره بالعلامات العامَّة التي وقعت في عهده ﷺ وبعد عهده: أولها أن تلد الأمةُ ربَّتها، يعني: السيد يستولد رقيقته، وهذا وقع من عهد النبي ﷺ، فإن ابنه إبراهيم من وليدته، من مارية، وهي مملوكة، وهذا موجود عند العرب، ولكنه قليل، ثم كثر في الأمة، بعدما كثر الرقيقُ وقام الجهادُ كثرت الجواري التي تحمل من ساداتها.
وهكذا الحُفاة العُراة العالة، وهم العرب؛ كان يغلب عليهم أنهم حُفاة عُراة عالة، غالب العرب البادية هكذا، يغلب عليهم أنهم حُفاة عُراة عالة فقراء، حتى أكرمهم الله بهذا الدين، وصاروا ملوك الناس، وأغناهم الله بعد ذلك، صاروا رؤوس الناس، وصاروا يتطاولون في البنيان؛ يبنون البنايات العظيمة، والبيوت الكثيرة، بعدما وسَّع الله عليهم، وقد وقع هذا كله، بدأ في عهده وبعده في عهد خلفائه وبعده.
ثم انطلق ولم يعرف الناسُ هذا مَن هو؟ فقال النبي لعمر: أتدري مَن السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبرائيل أتاكم يُعلمكم دينكم يعني: لما لم تسألوا أرسله الله حتى يُعلم الناس هذه الفائدة العظيمة، وهذا الترتيب العظيم، وأن الدين مراتب ثلاثة: إسلام وإيمان وإحسان، كما بيَّنه النبي ﷺ في جوابه لجبرائيل. وفَّق الله الجميع.
المصدر : الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.