فوائد الرحمة والشفقة على الخلق
كم في كتاب الله من الآيات, وكم في السنة من النصوص المحكمات التي فيها الحث على الرحمة والشفقة على الخلق, صغيرهم وكبيرهم, وغنيهم وفقيرهم, قريبهم وبعيدهم, برهم وفاجرهم, بل وعلى جميع أجناس الحيوان, وكم فيها من الترغيب في الإِحسان, وأن الراحمين يرحمهم الرحمن والمحسنين يحسن إليهم الديان, وأن الله كتب الإِحسان, على كل شيء حتى في إزهاق النفس من إنسان والحيوان, وشَرْعُ الله كله رحمة وحكمة وبر وفضل وامتنان, لقد وسعت رحمة الله كل شيء, وأمر بإيصال المنافع إلى كل حي أما أمر بإعطاء المحتاجين وحث على إزالة الضرر عن المضطرين, وعلى الحنو على الصغار والكبار وجميع العاملين؟ أما قال ïپ² مرغباً غاية الترغيب في الإِحسان «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء؟»( )وقال «إن الله كتب الإِحسان على كل شيء, فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة , وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة, وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته»( ).
أما ندبك أن تعفو عمن ظلمك, وتعطي من حرمك, وتحسن إلى من أساء إليك؟ وقال: ïپ½وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍïپ» (سورة فصلت آية 34-35).
أما أباح للمظلوم أن يأخذ حقه بالعدل, وندبه إلى طريق الإِحسان والفضل فقال: ïپ½وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَïپ» [سورة النحل آية 126] ïپ½وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِïپ» (سورة الشورى (40).
أما أمر الله بشكر نعمه المتنوعة, وجعل من أجلّ شكره الإِحسان إلى الخلق؟ قال بعد ما ذكر منته على نبيه بشرح صدره ووضع وزره ورفع ذكرهïپ½فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْïپ» [سورة الضحى آية 9-11].
أما حث المتعاملين على أعلى المناهج فقال: ïپ½وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْïپ» [سورة البقرة آية 237] وهو البذل والسماح في المعاملة؟ أما شرع عقوبة العاصين, وقمع المجرمين المفسدين بالعقوبات المناسبة لجرائمهم رحمة بهم وبغيرهم ليطهرهم , ولئلا يعودوا إلى ما يضرهم وردعاً لغيرهم؟ ولهذا قال في عقوبة القتل الذي هو أكبر الجرائم: ïپ½وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌïپ» [سورة البقرة من آية 179] وقال بعدما شرع قطع أيدي السارقين صيانة للأموال: ïپ½جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِïپ» [سورة المائدة آية 38] فالشريعة كلها مبنية على الرحمة في أصولها وفروعها, وفي الأمر بأداء حقوق الله وحقوق الخلق فإن الله لم يكلف نفساً إلا وسعها وقال: ïپ½يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَïپ» [سورة البقرةآية 185] ولما ذكر أحوال الطهارة وتفاصيلها قال: ïپ½مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَïپ» (سورة المائدة آية 6).
وإذا تدبرت ما شرعه في المعاملات والحقوق الزوجية وحقوق الوالدين والقرابة, وجدت ذلك كله خيراً وبركة لتقوم مصالح العباد وتتم الحياة الطيبة, وتزول شرور كثيرة, لولا القيام بهذه الحقوق لم يكن عنها محيص, ثم من رحمة الله بالجميع أن من أخلص عمله منهم ونوى القيام بما عليه من واجبات ومستحبات كان قربة له إلى الله , وزيادة خير وأجر , وكان له ثواب ما كسب وأنفق وقام به من تلك الحقوق, قال ïپ² : «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فيِّ امرأتك»( )
فإذا كان هذا في القيام بمؤونة الجسد وتربيته, فما ظنك بثواب القيام بالتربية القلبية بتعليم العلوم النافعة والأخلاق العالية؟ فهذا أعظم أجرًا وثوابًا قال ïپ² «لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»( ) «وأفضل ما نحل والد ولده أدب حسن»( ) وكذلك رحم الله المعلمين والمتعلمين للعلوم النافعة الدينية وما أعان عليها, فالمعلمون جعل نفس تعليمهم أجل الطاعات وأفضلها, ثم ما يترتب على تعليمهم من انتفاع المتعلمين بعلمهم ثم تسلسل هذا النفع فيمن يعلمونه ويتعلم ممن علموه مباشرة أو بواسطة, فكل هذا خير وحسنات جارية للمعلمين ونفع مستمر في الحياة وبعد الممات, قال ïپ²: «إذا مات العبد انقطع عمله من ثلاث : صدقة جارية أوعلم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له»( )وكذلك رحم الله المتعلمين حيث قيض لهم من يعلمهم ما يحتاجونه في أمور دنياهم ودينهم, ويصبر على مشقة ذلك, ولهذا وجب عليهم أن يكافئوا المعلمين بالقيام بحقوقهم ومحبتهم واحترامهم وكثرة الدعاء لهم , وعلى الجميع أن يشكروا الله بما قيض لهم ويسر من الأسباب النافعة التي توصلهم إلى السعادة.
ومن رحمة هذه الشريعة توصيتها وحثها على الإِحسان إلى اليتامى والمضطرين والبائسين والعاجزين والحنو عليهم والقيام بمهامهم وإعانتهم بحسب الإِمكان , وأوصى الله ورسوله بالمماليك من الآدميين والحيوانات أن يقام بكفايتهم ومصالحهم, وأن لا يكلفوا من العمل مالا يطيقون, ففي هذا رحمة للمماليك والبهائم, ورحمة أيضاً للملاك والسادة من وجهين:
أحدهما: أن قيامهم بما يملكون هو عين مصلحتهم ونفعه عائد عليهم فإنهم إذا قصروا عاد النقص والضرر الدنيوي على الملاك, ولهذا كثير من الملاك لولا هذا الوازع الطبيعي النفعي لأهملوا مماليكهم وبهائمهم, ولكن المصلحة الدنيوية وخوف الضرر على أنفسهم ألجأتهم إلى ذلك رحمة من الله وجوداً وكرما.ً
الوجه الثاني: أن الملاك إذا احتسبوا في نفقاتهم على ما يملكون ونووا القيام بالواجب ورحمة المملوك والبهيمة, أثابهم الله وكفر به من سيئاتهم وزاد في حسناتهم, وأنزل لهم البركة في هذه المماليك, فإن كل شيء دخلته النية الصالحة والتقرب إلى الله لابد أن تحل فيه البركة, كما أن من أهمل مماليكه وبهائمه, وترك القيام بحقهم استحق العقاب, ومن جملة ما يعاقب به أن نزع البركة منها , فكما حبس وقطع رزق من يملكه, قطع الله عنه من الرزق جزاء على عمله, وهذا مشاهد بالتجربة, وكل هذا من آثار الرحمة التى اشتملت عليها الشريعة الكاملة, ولهذا من أوى إلى ظلها الظليل فهو المرحوم, ومن خرج عنها فهو الشقي المحروم.لقد وسعت هذه الشريعة برحمتها وعدلها العدو والصديق ولقد لجأ إلى حصنها الحصين كل موفق رشيد, ولقد قامت البراهين أنها من أكبر الأدلة على أنها من عند العزيز الحميد, كيف لا يكون ذلك وأكبر من ذلك وقد شرعها البر الرحيم, العليم الكريم, الرءوف الجواد ذو الفضل العظيم؟ شرعها الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها, بل رحمة جميع الوالدين وحنانهم جزء يسير جداً جداً جدا من رحمة الله الذى أنزل بين عباده رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة ( ) فبها تتراحم الخليقة كلها, حتى أن البهائم والسباع الضارية لتعطف على أولادها وتحنو عليهم حنواً لايمكن وصفه فلا يمكن الواصفين أن يعبروا عن جزءٍ يسير جداً من رحمة الله التي بثها ونشرها على العباد , فتباً لمن خرج عن رحمة الله التي وسعت كل شيء , وزهد بشريعته, واستبدل عن هذا المورد السلسبيل بالمر الزعاف والعذاب الوبيل. طوبى لمن كان له حظ وافر من رحمة الله. ويا سعادة من اغتبط بكرم الله وسلك كل سبيل ووسيلة توصله إلى الله علماً وعملاً , وإرشاداً ونصحاً, ودعوة وإحساناً إلى عباد الله فإنه تعالى لما ذكر أن رحمته وسعت كل شيء, ذكر أهل الرحمة الخاصة المتصلة بالسعادة الأبدية والنعيم السرمدي فقالïپ½وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّïپ» [سورة الأعراف : آية 156] الآية.
وقال: ïپ½وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَïپ» [سورة آل عمران آية 132]فذكر تعالى الطرق العظيمة الكلية التي تنال بها رحمة الله والفوز بثوابه ورضوانه وهي الإِيمان والتقوى واتباع الرسول وطاعة الله والرسول, وتفاصيل هذه الأمور هو القيام بجميع الدين, أصوله وفروعه, وأعمال القلوب والجوارح وقول اللسان, فمن لم يقم بهذه الأصول لن يكون له نصيب من هذه الرحمة الخاصة المتصلة بسعادة الأبد, وعلى قدر اتصافه وقيامه بهذه الأمور يكون له نصيب من هذه الرحمة, فكما أنه تعالى واسع الرحمة فإنه شامل الحكمة, ومن حكمته أن الأمور متعلقة بأسبابها وطرقها والأسباب ومسبباتها كلها من رحمة الله قال ïپ²: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» . قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل». متفق عليه. وقال(اعملوا فكل ميسر لما خلق له)( ) ولهذا على العبد أن يشكر الله على الخير والثواب, ويشكره على التوفيق لمعرفة الأسباب وسلوكها التي رتب عليها الثواب, قال تعالى عن أهل الجنة ïپ½الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُïپ» [سورة الأعراف:
من آية 43].
وفي الحديث الصحيح يقول الله: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ( )وهذا يشمل الهداية العلمية والهداية العملية, وقد أمرنا الله أن ندعو في كل ركعة من ركعات الصلاة بحصول هاتين الهدايتين في قوله ïپ½اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَïپ»( )( ).
تنبيه: كثير من الجهال اعتمدوا على مغفرة الله ورحمته وكرمه فضيعوا أمره ونهيه ونسوا أنه شديد العقاب وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
وأعظم الخلق غروراً من اغتر بالدنيا وعاجلها فآثرها على الآخرة ورضي بها بديلاً من الآخرة وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله.
وينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدها: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإِمكان.
وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني ( ).
فحسن الظن بالله إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة كما قال تعالى: ïپ½إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌïپ» [سورة البقرة آية 218] فانظر كيف قدموا أمام الرجاء الإِيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله . وقال تعالى: ïپ½إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَïپ» [سورة الأعراف آية (56)] أي المحسنين في عبادة الله المحسنين إلى عباد الله ولم يقل إن رحمة الله قريب من العصاة والفسقة والملحدين وقال تعالى: ïپ½وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّïپ» [سورة الأعراف آية (156-157)] فهؤلاء المؤمنون المتقون لله بطاعته وترك معصيته المتبعون لرسوله محمد ïپ² هم أهل رحمة الله.
اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح لنا شأننا كله لا إله إلا أنت واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
منقول من كتاب أسباب الرحمة لعبد الله بن جار الله