اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنَّ من أعظم أبواب الولوج إلى محبَّة الله تعالى: اتباعَ سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تعبِّر تعبيرًا صادقًا عن محبَّة المرء للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك الذين يدَّعُون محبَّةَ الله أن يلتزموا بطاعة واتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، فقال: ï´؟ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [آل عمران: ظ£ظ،].
قال الإمام المفسِّر ابن كثير رحمه الله[1] ممهِّدًا لتفسير الآية السابقة: "هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كل مَن ادَّعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنَّه كاذِب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبع الشرعَ المحمدي، والدينَ النبوي في جميع أقواله وأحواله...، [ثم قال]: فيحصل لكم فوق ما طلبتم مِن محبَّتكم إياه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظم مِن الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأنُ أن تُحِبَّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قومٌ أنَّهم يُحبون اللهَ فابتلاهم الله بهذه الآية..."[2].
وقد أخبرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربِّه أنَّ الله تعالى يحب عباده الذين يكثرون مِن النوافل والسنن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((...، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه...))[3].
وما أرسَل الله مِن رسولٍ إلَّا أمَره بمهمَّة التبليغ والبيان لشرعه، فقال تعالى:ï´؟ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ï´¾ [إبراهيم: ظ¤]، فمهمَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم التبليغُ لشرع الله ورسالته، وترجمة هذه الرسالة بطريقة عملية من خلال الممارسة والفهم لها.
فلذلك أكَّد الله تعالى على وجوب اتِّباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنَّه القدوة الصالحة والخصلة الحسنة، التي يَنبغي على كلِّ مؤمن أن يقتدي به في أقواله وأفعاله وأحواله، فقال تعالى: ï´؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 21][4].
وقد أعلن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اتِّباع سنَّته شرطٌ لدعوى محبَّة دينه وملَّتِه، فقال: ((مَن أحبَّ فطرتي[5] فلْيَستَنَّ بسنَّتي...))[6]؛ ولذلك حثَّ أمَّتَه على التمسُّك بهديه وسنَّتِه فقال: ((عليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ))[7]، وأخبر عن عظيم أجر المتمسِّك بالسنَّة عند فساد الأمَّة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((المتمسِّكُ بسنَّتي عند فسادِ أمتي له أجرُ شهيد))[8].
وإذا كنَّا نتكلَّم عن اتِّباع سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بدَّ لنا مِن بيان المراد منها، فقد قال العلماء في تعريف السنَّة لغة: إنها الطريقة المسلوكة، وأمَّا اصطلاحًا فعرَّفها المحدِّثون بأنها: ما أُضيفَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلْقِيٍّ أو خُلُقِيٍّ[9].
أمَّا الأصوليون، فيقولون: إنَّها ما صَدَرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات[10].
فهم يجعلونها خاصَّة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون فيها "الوصف"؛ وذلك لأنَّهم يبحثون فيها كمصدر للتشريع، والتشريع يثبُت بالقول أو الفعل أو التقرير منه صلى الله عليه وسلم[11].
ولا بدَّ لنا مِن بيان أنَّ السنن مِن حيث ما يترتب عليها نوعان: سنن هُدى، وسنن زوائد.
أما سنن الهدى، فهي ما يُثَاب فاعله، ويوجِب تركها إساءة وكراهية؛ كترك الجماعات، والأذان، والإقامة، ونحوها مِن سنن الهدى المؤكَّدة التي واظب عليها النبيُّ.
وأمَّا سنن الزوائد، فهي التي لا يوجب تركها الكراهة، ولكن يُثاب فاعلها بنيَّة الاتباع للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كاتِّباعه صلى الله عليه وسلم في لباسه، وقيامِه وقعوده، وطعامِه وشرابه...، وما أشبه ذلك، وهي دون ما سبقها من السنن.
وهناك من السنن ما هو دون سنن الزوائد، وهي داخلة في إطار النوافل والمندوبات، وتعرَّف بأنها: ما يثاب فاعلها، ولا يسيء تاركها[12].
والسنن جوابر للفروض وما يحدث فيها مِن نقص؛ ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِن أَعْمَالِهِم الصَّلاةُ، قَالَ: يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَزَّ لِمَلائِكَتِهِ - وَهُوَ أَعْلَمُ -: انْظُرُوا فِي صَلاةِ عَبْدِي أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِن كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِن كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِن تَطَوُّعٍ، فَإِن كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ: أَتِمُّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ))[13].
كما أنَّ السُّنة هي العاصِمُ من الوقوع في البِدَع الضالَّة، وكلما أُحييتْ سُنَّةٌ أُميتتْ بِدْعَةٌ؛ ولذلك ننصت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ينصح لأمَّته أن تلتزمَ السُّنة وتَحْذَرَ مِن البدع عند فشوها وانتشارها، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((... وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّهَا ضَلالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ...))[14].
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "الاقتصاد في السنَّة أحسن مِنَ الاجتهاد في البدعة"[15].
وقد نُقل عنه رضي الله عنه موقوفًا عليه أنَّ أول ما يدخل النَّقص على الأمَّة في دينها هو ترك السُّنة النبوية، فقال: "يكون عليكم أمراء يَتركون من السنَّة مثل هذا، وأشار إلى أصل إصبعه، وإن تركتموهم جاؤوا بالطامَّة الكبرى، وأنها لم تكن أمَّة إلا كان أولَ ما يتركون من دينهم السُّنة، وآخر ما يدَعون الصلاة، ولولا أنهم يستحيون ما صلَّوا"[16].
وأما إنكار السنَّة وتركها بالكليَّة، فهو أمر خطير، ينبئ عن انحراف فِكري، وخَلَل عقدي، وقد أخبر النبيُّ عن هذه الفئة الضالَّة التي تتذرَّع لهجر السنَّة بالتمسُّك بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا هل عسى رجل يبلُغُه الحديثُ عنِّي وهو متكئٌ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه، وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرَّم الله))[17]، وقد عَدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء المنكرين الضالِّين في جملة الملعونين عند اللهِ وعند رسولِه وجميعِ الأنبياء المقرَّبين، فقال فيما ترويه عنه السيدة الطاهرة أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((ستة لعنتُهُم ولعنَهُمُ الله وكلُّ نبيٍّ مُجَاب: الزائد في كتاب الله عز وجل، والمكذِّبُ بِقَدَرِ الله عز وجل، والمستحلُّ حرمةَ الله، والمستحلُّ من عترتي ما حرَّم اللهُ، والتاركُ السُّنة))[18].
فاللهمَّ أَحْيِنا على سنَّته، وأَمِتنا على مِلَّته، واسقِنا مِن حوضه، واحشرنا تحتَ لوائه.
اللهمَّ آمين!
[1] إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، أبو الفداء عماد الدين (701 - 774 هـ): حافظ مؤرِّخ فقيه، تناقل الناس تصانيفه في حياته، من كتبه: تفسير القرآن العظيم، وفضائل القرآن؛ طبقات المفسرين للداودي، ص (79 - 80)، الأعلام (1/ 320).
[2] تفسير ابن كثير (2/ 32)، بتصرف يسير.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: التواضع برقم 6137.
[4] انظر: تفسير ابن كثير (6/ 391)، والبحر المديد؛ لابن عجيبة (5/ 79)، وفتح القدير؛ للشوكاني (6/ 30).
[5] الفطرة: تأتي بعدة معانٍ، ومن معانيها: دين الإسلام، وكذلك سنة الأنبياء، انظر: النهاية في غريب الحديث (6/ 132).
[6] أخرجه أبو يعلى في مسنده (5/ 133) عن عبيد بن سعد، وقال محققه سليم أسد: رجاله ثقات، وأخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار (11/ 210)، وقال: هذا مرسل، وروي عن أبي حرة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي، وأخرجه كذلك في شعب الإيمان (7/ 336)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 462)، وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات إن كان عبيد بن سعد صحابي، وإلَّا فهو مرسل.
[7] أخرجه أبو داود في السنة برقم 4607، والترمذي في العلم برقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة برقم 42، والحاكم في المستدرك (1/ 174) برقم 329، وقال: صحيح ليس له علَّة، ووافقه الذهبي.
[8] أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 315) برقم 5414 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبو نعيم في الحلية (8/ 200)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 418)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن صالح العدوي، ولم أرَ مَن ترجمه، وبقية رجاله ثقات، وقد قال المنذري في الترغيب والترهيب: بإسناد لا بأس به (1/ 41)، (طبعة دار الكتب العلمية بتحقيق إبراهيم شمس الدين)، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بالحسن؛ كما قال المناوي (4/ 161).
[9] منهج النقد في علوم الحديث، ص (26).
[10] البحر المحيط؛ للزركشي (3/ 236)، ويخرج من الأفعال ما كان من قبيل المعجزات.
[11] منهج النقد في علوم الحديث، ص (28).
[12] انظر: شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح للتفتازاني (2/ 258).
[13] أخرجه أبو داود في الصلاة برقم 864 واللفظ له، والترمذي في الصلاة برقم 413، وقال: حديث حسن غريب، والنسائي في الصلاة برقم 465، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها برقم 1425.
[14] أخرجه الترمذي في العلم برقم 2676، وقال: حسن صحيح.
[15] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/ 184)، وقال: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي.
[16] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 564)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[17] أخرجه الترمذي (5/ 22) برقم 2664، وقال: حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب العلم (1/ 191) عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب.
[18] أخرجه الترمذي في القدر برقم 2154، والحاكم في المستدرك (1/ 91)، وقال: صحيح الإسناد ولا أعرف له علَّة ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 425 و7/ 418): رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبيدالله بن عبدالرحمن بن موهب، قال يعقوب بن شيبة: فيه ضعف، وضعَّفه يحيى بن معين في رواية ووثَّقه في أخرى، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ووثَّقه ابن حبان، ورجاله رجال الصحيح، وكذا رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/1175...#ixzz8QerYDpld