تحريم الاستغاثة بالحي فيما لا يقدر عليه إلا الله ليس بدعة تيمية
مِن نافلة القول أن يُقال: إنّ دعاء الله هو الأصل في الدعاء، فلا يكاد مسلمٌ يقرأ آية من القرآن إلا دفعت بهذه الحقيقة في وجهه مقرِّرة لها بالأدلة الشرعية بقسميها العقليّ والنقلي.
ومع ذلك ظلّ بعضُ المتأخِّرين يجادل في هذه الحقيقة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، حتى جعلوا دعاءَ غيرِ الله وسؤالَه هو الأصل، بل أوهموا الناس أنّ الإنسان لا يكاد يُستجاب له دعاء ما لم يدعُ صالحا ويستغِثْ به من دون الله، وجعلوا دعاء الحي الغائب ودعاء الميت فيما لا يقدر عليه إلا الله من قبيل التوسل مع التصريح بندائه ودعائه في أمر لا يقدر عليه، وجعلوا اشتراط القدرة بدعَة تيميّة، ولبيان هذا الأمر وتجليتِه يجب تبيين عدّة مسائل:
أولا: أن أسماء الله عز وجل كثيرة، وهذه الكثرة حِكمتها أن يُدعى بكل اسم بما يناسب حاجة الإنسان، قال الله: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأعراف: 180]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة»([1]).
ثانيا: الأصل هو حرمة دعاء ما سوى الله عز وجل نبيًّا كان أو ملَكًا أو صالحًا أو غير ذلك، وهذا ما نصّت عليه الآيات القرآنية الكثيرة، ومن أصرحها في ذلك قول الله عز وجل: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]. قال ابن عباس: “كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة وعُزَيرًا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعُزيرصا”([2]).
ثالثا: نزلت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه كرب كثيرة، فكلُّ ما أُثِر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم هو دعاء الله، وكذلك أصحابه، ومن أمثلة ذلك ما وقع في بدر، فلم يُؤثر عنهم إلا دعاء الله، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِين} [الأنفال: 9].
وفي الصحيحين من حديث أنس: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا». قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً وَلَا شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَاللهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ». قَالَ: فَانْقَطَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسًا: أَهُوَ الرَّجُلُ الْأَوَّلُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي([3]).
وما من مناسبة إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم دعاء يخصّها، مثل أدعية الكرب والحزن وخوف العدو، وغيرها من الأدعية المشروعة، وليس في شيء من ألفاظ هذه الأدعية إحالة إلى أن يدعَى مخلوق من دون الله أو مع الله.
فإذا تقرَّر هذا بقي لنا أن نورد ما يتعلّق بالمسألة التي نحن بصدد مناقشتها فنقول: إن الاصطلاحات لا تغيّر حقائق العقل ولا الشرع، فمن سمى دعاء الغائب أو الميت توسُّلا، وجعل ذلك اصطلاحًا له، وحاكم إليه الشرائع؛ فإن ذلك لن يغير من الحقائق شيئا:
فالملح للسكَّر لن ينقلبا *** إن لفظ سكَّر عليه كُتبَا
ولن يغيّر النحاس من ذهب *** يقول للناس نحاسي ذهبَا
وهذا الاصطلاح هو من جنس ما حكى الله عز وجل عن المشركين في افترائهم على الله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف: 28].
ونحن نبين بعون الله أن منع الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ليس خاصًّا بابن تيمية، بل هو مسبوق إليه، وقال به خلق لا يحصَون من مخالفيه، فهذا الفخر الرازي وهو ممن ألهى القومَ التكاثرُ به ينصّ على حرمة دعاء غير الله، فقد قال عند قول الله سبحانه: {قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} [الأعراف: 138]: “واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وخالقًا ومدبرًا؛ لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره لا يمكن أن يكون خالقًا للعالم ومدبرًا له، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل، والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعيّن لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [الزُّمَرِ: 3]. إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول: لم كان هذا القول كفرًا؟ فنقول: أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام”([4]).
وقال أيضا في معرض كلامه عن كيفية عبادة المشركين: “إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى. ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظّموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله”([5]).
وقال القرطبي أبو عبد الله عند قول الله: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} [فاطر: 14]: “أي: يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرؤون منكم. ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين، أي: يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقًّا، وأنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر عن عيسى بقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]، ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي: يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة”([6]).
وقال ابن عقيل: “لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، ومن إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ التراب تبركًا”([7]).
وقال قوام السنة الأصبهاني: “ومن أسمائه: الوهاب، يهب العافية، ولا يقدر المخلوق أن يهبها، ويهب القوة ولا يقدر المخلوق أن يهبها، تقول: يا رب هب لي العافية، ولا تسأل مخلوقا ذلك، وإن سألته لم يقدر عليه، وتقول عند ضعفك: يا رب هب لي قوة، والمخلوق لا يقدر على ذلك”([8]).
وهذا الإمام النووي يجلّي المسألة ويوضّحها؛ فيقول في شرحه لحديث: «إذا سألت فاسأل الله»: “إشارة إلى أنّ العبد لا ينبغي أن يعلّق سرّه بغير الله، بل يتوكّل عليه في سائر أموره، ثم إن كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه كطلب الهداية والعلم والفهم في القرآن والسنة وشفاء المرض وحصول العافية من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة سأل ربه ذلك، وإن كانت الحاجة التي يسألها جرت العادة أن الله سبحانه وتعالى يجريها على أيدي خلقة، كالحاجات المتعلقة بأصحاب الحرف والصنائع وولاة الأمور، سأل الله تعالى أن يعطف عليه قلوبهم فيقول: اللهم أحنن علينا قلوب عبادك وإمائك، وما أشبه ذلك”([9]).
والقرافي رحمه الله من المالكية قد عقد فصلا في الفروق تكلّم فيه عن الأدعية المكفّرة، وجعل منها: “أن تعظم حماقة الداعي وتجرّؤه فيسأل الله تعالى أن يفوّض إليه من أمور العالم ما هو مختصّ بالقدرة والإرادة الربانية من الإيجاد والإعدام والقضاء النافذ المحتم، وقد دلّ القاطع العقلي على استحالة ثبوت ذلك لغير الله تعالى، فيكون طلب ذلك طلبا للشركة مع الله تعالى في الملك، وهو كفر، وقد وقع ذلك لجماعة من جهال الصوفية، فيقولون: فلان أُعطِي كلمة (كن) ويسألون أن يُعطوا كلمة (كن) التي في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، وما يعلمون معنى هذه الكلمة في كلام الله تعالى، ولا يعلمون ما معنى إعطائها إن صح أنها أعطيت، وهذه أغوار بعيدة الرَّوم على العلماء المحصلين، فضلا عن الصوفية المتخرّصين، فيهلكون من حيث لا يشعرون، ويعتقدون أنهم إلى الله تعالى متقربون، وهم عنه متباعدون، عصمنا الله تعالى من الفتن وأسبابها والجهالات وشبهها”([10]).
وقال الحافظ ابن عبد الهادي: “ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به كان هذا شركًا محرمًا بإجماع المسلمين، ولو ندبه وناح لكان أيضًا محرّمًا”([11]).
والسيوطي يرى أن مجرد الدعاء عند القبر ذريعة للشرك، ومحادّة لله ورسوله، ومخالَفة للشرع وابتداع، فكيف بدعاء صاحب القبر من دون الله؟!([12]).
ولو تتبعنا هذا الأمر عند الفقهاء والمحدثين لخرجنا بأسفار تنوء بها العصبة أولو القوة، لكن حسبنا أن نذكر ما يستدلّ به على غيره، ويفهم منه المراد، وفيه كفاية لمن أراد الله له الهداية. والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) رواه البخاري (2585)
([2]) تفسير الطبري (14/ 471).
([3]) رواه البخاري (1013)، ومسلم (897).
([4]) تفسير الرازي (14/ 310).
([5]) تفسير الرازي (17/ 287).
([6]) تفسير القرطبي (14/ 336).
([7]) ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 455).
([8]) الحجة في بيان المحجة (1/ 156).
([9]) شرح الأربعين النووية (ص: 63).
([10]) الفروق (4/ 263).
([11]) الصارم المنكي (ص: 325).
([12]) كتاب الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي (ص: 118).
منقول موقع مركز السلف