الاستغاثة
الشيخ : عبد الله بن فيصل الأهدل
المقدمة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب ، وهزم الأحزاب .
الحمد لله الذي جعل القرآن بياناً وتبياناً لا شك فيه ولا ارتياب ، ولا إله إلا الله كلمة قامت عليها الأرض والسموات ، وابتدئت بها الرسالات ، وجردت لأجلها السيوف القاطعات .
وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين ، والمبعوث رحمة للعالمين ، جاء بالحق اليقين ، والنور المبين ، بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
أما بعد :
إننا في زمان تلبّس معظم أهله بالجهل ، واتبعوا صوت كل ناعق ، فعميت أبصارهم وبصائرهم عن معالم سنن الهدى ، ونطق فيهم الرويبضة ، فأفتى بغير علم فضلَّ وأضل .
وإن من أشد أنواع الجهل جهلاً أن لا يُفرّق بين الكفر والإسلام ، ولا بين المعصية والطاعة ، وأشد منه أن يُحسب الكفرُ إسلاماً والمعصية طاعةً .
وهذا مبحث مختصر يكشف زيف المارقين الجاهلين ، الداعين إلى الاستغاثة بالأموات والغائبين ، مبيناً في ذلك جهلهم ، ودافعاً إليهم شبههم ، مقرراً فيه ما دلّت عليه الأدلة وأجمع عليه أهل الملّة .
فأقول مستعيناً بالله وحده :
معنى الاستغاثة وأنواعها
الاستغاثة : مصدر الفعل اسثغاث . وهي : طلب الغوث لإزالة الشدة .
مثل الاستعانة : طلب العون .
قال تعالى : ] فاستغاثه الذي من شيعته [ .
فالاستغاثة إذاً من جنس الدعـــاء ، إلا أن الدعاء أعم فيكون لإزالة الشدة – وهو الاستغـاثة - ، أو لجلب الخير - فيكون إستعانة - .
وقال بعضهم : [ الاستغاثة هي الإعانة ] .
وعلى أية حال فهي لا تخرج عن الدعاء ، كما قال تعالى :
] إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [ .
ومعلوم يقيناً وقطعاً أن الدعاء منه ما هو عبادة ، ومنه ما ليس كذلك ، فأما الذي هو عبادة فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى ، لأن من صرف شيئاً من العبادات الشرعية صغرت أم كبرت لغير الله تعالى صار كافراً مرتداً بإجماع أهل الإسلام، ومما يدل على ذلك :
قول الله تعالى :] ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ .
وقوله تعالى : ] وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً [ .
وقوله تعالى ] ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين [ .
وقوله تعالى : ] ومن أضل ممن يدع من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون [ .
وقوله تعالى : ] له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى المـاء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال [ .
وقوله تعالى : ] والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسمعــوا دعاءكم ولو سمعــوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم [ .
وغيرها من الآيات الكثيرة الدالة على هذا المعنى .
ومن الأحاديث : قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري (( من مات وهو يدع من دون الله ندّاً دخل النار )).
وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد والترمذي (( الدعاء هو العبادة )) . ومما يدل على أن الدعاء هو العبادة من القرآن :
قوله تعالى ] وقال ربكم أدعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [ .
وقوله ] وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً ، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب [ .
وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين (( ينـزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ثم يقول : من يدعوني فأستجب له ؟ ... )) الحديث .
وعند أحمد وابن أبي شيبة والحاكم وصححه (( من لم يدع الله يغضب عليه )) .
والصنف الثاني من الدعاء ؛ الذي هو ليس بعبادة ، فهذا ليس بشرك ولا كفر . ومن ذلك :
استغاثة ذلك الرجل بموسى عليه السلام في قوله تعالى : ] فاستغاثه الذي من شيعته [ .
ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم- (( من دعاكم فأجيبوه )) .
ومثله في النصرة ] وإن استنصروكم فعليكم النصر [ .
ومثله في الإعانة ] فتعاونوا على البر والتقوى [ .
وفي الحديث (( والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )) .
بيان حكم الاستغاثة
من خلال ما قدمنا يقوم الجواب عن سبب كتابة هذه الأسطر وهو :
حكم الاستغاثة بالأموات والغائبين ، بل والحاضرين فيما لا يقدر عليه إلا الله .
فهل هذه الاستغاثة من النوع الأول فتكون شركاً مخرجاً من الملة ؟
أم من النوع الثاني فلا تكون شركاً ؟
وللإجابة عن ذلك :
ينبغي أولاً معرفة حال المشركين ، الذين كفّرهم القرآن ، لصرفهم الدعاء لغيره تعالى الذي مر في الآيات السابقة .
فالمشركون هؤلاء لم يكونوا يجحدون وجود الله بل كانوا يقرّون ويعترفون أن الله سبحانه وتعالى خالقهم ومدبّر شأنهم ومالك أمرهم وأنه المحيي والمميت وأنه رب السموات والأرض ؛
قال تعالى ] ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ .
وقال تعالى ] ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ .
وقال تعالى ] قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبّر الأمر فسيقولون الله ، فقل ألا تتقون [ .
وقال تعالى ] قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون ، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون [ .
وقال تعالى ] قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تصرفون [ .
ومع كل ذلك كفّرهم القرآن ، ووصفهم بالشرك ، ومما كفّرهم به أنهم جعلوا لهم وسائط بينهم وبين ربهم ، يتوجهون إليها ويدعونهم ويستغيثون بهم ؛
قال تعالى ] ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [ .
وقال تعالى ] والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ . وقد قدمنا أن الدعاء هو العبادة .
وهؤلاء المدعوون من الأصنام كان منهم رجال صالحون ، كما جـاء في صحيح البخاري من قول ابن عباس عن ؛ ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، أنهم رجال صالحون عُبدوا بعد موتهم .
ومنهم أنبياء وملائكة وغير ذلك اتخذوهم وسطاء وشفعاء عند الله ، يرفعون إليهم حاجاتهم ، ويستغيثون بهم ، حيث جعلوا الله كملوك الأرض يحتاجون إلى وسطاء في رفع الحوائج .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه < الواسطة بين الحق والخلق ص 18 > : [ ومن أثبتهم ( أي الأنبياء والصالحين ) وسائط بين الله وخلقه كالحجّاب بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه ، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم ، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله ، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم ، والناس يسألون أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك ، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك ، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج ، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك ، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وهؤلاء مشبهون لله شبّهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أنداداً ] .
وكان هؤلاء المشركون يعتقدون في عبادتهم لتلك الأصنام أنها قربة إلى الله .
قال الإمام البكري الشافعي عند قوله ] من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ الآية : [ فإن قلتَ : إذا أقرّوا فكيف عبدوا الأصنام ؟ قلتُ : كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله ( وهكذا ما يفعله عباد القبور ) والتقرّب إليه ولكن بطرق مختلفة ، ففرقة قالت : ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته ، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى . وفرقة قالت : الملائكة ذو جاه ومنزلة عند الله تعالى ، فاتخذنا لنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى . وفرقة قالت : جعلنا الأصنام لنا قبلة في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته . وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله ( وهذا ما يعتقده أيضاً كثير من عبدة القبور أن للولي الفلاني نفر من الجن مسخّر له بزعمهم ) فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان بأمر حوائجه ، وإلا أصابه شيطانه بنكبة بإذن الله ] .
وقال شيخ الإسلام في الرسالة السنية : [ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام ، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق ، أو تنـزل المطر ، أو تنبت النبات ، وإن كانوا يعبدونهم ويعبدون قبورهم أو صورهم ، ويقولون : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى . ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . فبعث الله رسله تنهي أن يدعى أحد من دونه ، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثــة ، وقال : ] قل ادع الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشـف الضـر عنكم ولا تحويلاً ، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب [ ] < راجع كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان لمحمد بشير السهسواني > .