لقد نقل الإجماع على علو الله - تعالى - على عرشه أكثر من عشرين إمامًا، ومن المعلوم أن إجماع الأمة حجة قاطعة؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، بل الضلال كل الضلال في مخالفة هذا الإجماع.
وإليك هذه النقولات:
النقل الأول
إسحاق بن راهويه (ت 237هـ)
قال الإمام الذهبي – رحمه الله –:
قال أبو بكر الخلال أنبأنا المروذي حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري حدثنا أبو داود الخفاف سليمان بن داود قال قال إسحاق بن راهويه قال الله تعالى {الرحمن على العرش استوى} إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة. نقله الذهبي في "العلو" (ص 179).
وهذا إسناد حسن، يقول الإمام الذهبي – رحمه الله تعالى – عقب هذا الإجماع: اسمع ويحك إلى هذا الإمام كيف نقل الإجماع على هذه المسألة كما نقله في زمانه قتيبة المذكور. ا.هـ.
النقل الثاني
قتيبة بن سعيد (ت 240هـ)
قال أبو أحمد الحاكم: سمعت محمد بن إسحاق الثقفي، قال: سمعت أبا رجا قتيبة بن سعيد قال: هذا قول الأئمة المأخوذ في الإسلام والسنة.
فذكر عقيدة أئمة أهل السنة وفيها: ونعرف الله في السماء السابعة على عرشه. شعار أصحاب الحديث (ص 30- 35).
وهذا إسناد صحيح.
النقل الثالث والرابع
أبو حاتم (ت 277هـ) وأبو زرعة (ت 264هـ) الرازيان
أخرج اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/ 197- 201 برقم 321) : أخبرنا محمد بن المظفر المقرئ , قال: حدثنا الحسين بن محمد بن حبش المقرئ , قال: حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم , قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين , وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار , وما يعتقدان من ذلك , فقالا: " أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم:.... .
فذكرا مذهبهم وفيه: وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه , وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا كيف , أحاط بكل شيء علما , {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11]. شرح أصول الاعتقاد (1/ 197- 198).
وهذا إسناد حسن.
النقل الخامس
عثمان بن سعيد الدارمي (ت 280هـ)
يقول الإمام الدارمي أيضًا: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله – تعالى – فوق عرشه فوق سماواته. النقض على بشر المريسي العنيد (1/ 340).
النقل السادس
أبو جعفر الطحاوي (ت 321هـ)
يقول الإمام الطحاوي في عقيدته التي قال في أولها: هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة.
قال فيها: وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.
ولفظة (وفوقه) ثابتة في أكثر النسخ، والمعنى لا يستقيم إلا بها، ولا يمكن تخصيص الفوقية بفوقية القدر أو القهر، إذ هو تخصيص بلا مخصص، وهو باطل.
النقل السابع
أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ)
قد نقل الإمام أبو الحسن الأشعري إجماع أهل السنة على أن الله فوق عرشه، حيث قال: الإجماع التاسع: وأجمعوا على أنه عز وجل يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته لنعيمهم، وأنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم، وأن غضبه إرادته لعذابهم، وأنه لا يقوم على غضبه شيء، وأنه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه. رسالة إلى أهل الثغر (ص 130).
وأما عما قاله في صفتي السمع والبصر فإما أن يكون تفسيرًا باللازم، وإلا ففيه نظر.
لكن هنا نقول أن هذا الإجماع الذي نقله على أن الله فوق سماواته على عرشه دون أرضه، صريح في فوقية الذات التي لا يثبتها متأخرو من ينتسبون للإمام الأشعري – رحمه الله –.
النقل الثامن
الآجري (ت 360هـ)
قال الإمام الآجري – رحمه الله –:
والذي يذهب إليه أهل العلم: أن الله عز وجل سبحانه على عرشه فوق سماواته , وعلمه محيط بكل شيء , قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السماوات العلا , وبجميع ما في سبع أرضين وما بينهما وما تحت الثرى , يعلم السر وأخفى , ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور , ويعلم الخطرة والهمة , ويعلم ما توسوس به النفوس يسمع ويرى , ولا يعزب عن الله عز وجل مثقال ذرة في السماوات والأرضين وما بينهن , إلا وقد أحاط علمه به فهو على عرشه سبحانه العلي الأعلى ترفع إليه أعمال العباد , وهو أعلم بها من الملائكة الذين يرفعونها بالليل والنهار.
ثم قال:
فعلمه عز وجل محيط بجميع خلقه , وهو على عرشه , وهذا قول المسلمين. الشريعة (3/ 1076).
النقل التاسع
ابن أبي زيد القيرواني (ت 386هـ)
قال الإمام ابن أبي زيد القيرواني:
فمما أجمعت عليه الأمة من أمور الديانة، ومن السنن التي خلافها بدعة وضلالة: أن الله – تبارك اسمه – له الأسماء الحسنى والصفات العلى .... .
ثم ذكر عقيدة أهل السنة في باب الصفات، وفيها: وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه. الجامع في السنن والآداب والمغازي (ص 107- 108).
النقل العاشر
ابن بطة (ت 387هـ)
قال الإمام ابن بطة – رحمه الله –:
أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين، وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه، فوق سماواته بائن من خلقه، وعلمه محيط بجميع خلقه، لا يأبى ذلك ولا ينكره إلا من انتحل مذاهب الحلولية، وهم قوم زاغت قلوبهم، واستهوتهم الشياطين فمرقوا من الدين، وقالوا: إن الله ذاته لا يخلو منه مكان، فقالوا: إنه في الأرض كما هو في السماء وهو بذاته حال في جميع الأشياء، وقد أكذبهم القرآن والسنة وأقاويل الصحابة والتابعين من علماء المسلمين. الإبانة الكبرى (7/ 136).
النقل الحادي العاشر
أبو عمر الطلمنكي (ت 429 هـ)
قال الإمام أبو عمر الطلمنكي – رحمه الله – في كتابه "الوصول إلى معرفة الأصول":
أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله {وهو معكم أين ما كنتم} ونحو ذلك من القرآن أنه علمه وأن الله تعالى فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء. نقله الذهبي في العلو (ص 246).
النقل الثاني عشر
أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ)
قال في كتابه "الاعتقاد":
طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومما اعتقدوه: ... .
ثم ذكر عقيدتهم وفيها: وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه. نقله الذهبي في "العلو" (ص 243).
النقل الثالث عشر
أبو عمرو الداني (ت 444هـ)
قال الإمام أبو عمرو الداني وهو يذكر مذهب أهل السنة:
ومن قولهم: أنه سبحانه فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، ومستول على جميع خلقه، وبائن منهم بذاته، غير بائن بعلمه، بل علمه محيط بهم، يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم ما يكسبون، على ما ورد به خبره الصادق، وكتابه الناطق، فقال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} ، واستواؤه عز وجل: علوه بغير كيفية، ولا تحديد، ولا مجاورة ولا مماسة. الرسالة الوافية (ص 129- 130).
النقل الرابع عشر
أبو نصر السجزي (ت 444هـ)
واعتقاد أهل الحق أنّ الله سبحانه فوق العرش بذاته من غير مماسة وأن الكرامية ومن تابعهم على قول المماسة ضلال.
وقال أيضًا: وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته فوق العرش بلا كيفية بحيث لا مكان.
وقال أيضًا: وليس في قولنا: "إنّ الله سبحانه فوق العرش" تحديد وإنما التحديد يقع للمحدثات، فمن العرش إلى ما تحت الثرى محدود والله سبحانه فوق ذلك بحيث لا مكان ولا حد، لاتفاقنا أن الله سبحانه كان ولا مكان، ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان. ا.هـ. رسالته إلى أهل زبيد (ص 187- 189).
وقال أيضًا: في كتاب الإبانة الذي ألفه في السنة: أئمتنا كسفيان الثوري ومالك وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة والفضيل وابن المبارك وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وعلمه بكل مكان وأنه ينزل إلى السماء الدنيا وأنه بغضب ويرضى ويتكلم بما شاء. نقله الذهبي في العلو (ص 248).
النقل الخامس عشر
أبو عثمان الصابوني (ت 449هـ)
ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله – سبحانه – فوق سبع سماواته، على عرشه مستوٍ، كما نطق كتابه. عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص 175).
وقال أيضًا: وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف – رحمهم الله – لم يختلفوا في أن الله – تعالى – على عرشه، وعرشه فوق سماواته، يثبتون من ذلك ما أثبته الله تعالى، ويؤمنون به، ويصدقون الرب – جل جلاله – في خبره، ويطلقون ما أطلقه – سبحانه وتعالى – من استوائه على عرشه، ويمرونه على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، ويقولون {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} كما أخبر الله – تعالى – عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ذلك ورضي منهم فأثنى عليهم به. (ص 176).
النقل السادس عشر
ابن عبد البر (ت 463هـ)
قال ابن عبد البر – رحمه الله – وهو يرد على المعتزلة: وأما احتجاجهم بقوله عز وجل {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. التمهيد (7/ 138- 139).
وقال أيضًا: وأما قوله في هذا الحديث للجارية "أين الله" فعلى ذلك جماعة أهل السنة وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه وسائر نقلته كلهم يقول ما قال الله تعالى في كتابه {الرحمن على العرش استوى} وأن الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان وهو ظاهر القرآن في قوله عز وجل {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} وبقوله عز وجل {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وقوله {تعرج الملائكة والروح إليه} ومثل هذا كثير في القرآن. الاستذكار (7/ 337).
النقل السابع عشر
أبو القاسم التيمي (ت 535هـ)
قال في كتابه "الحجة في بيان المحجة":
قال أهل السنة: الله فوق السماوات لا يعلوه خلق من خلقه، ومن الدليل على ذلك: أن الخلق يشيرون إلى السماء بأصابعهم، ويدعونه ويرفعون إليه أبصارهم. (2/ 82).
النقل الثامن عشر
يحيى بن أبي الخير اليمني (ت 558هـ)
قال الإمام يحيى بن أبي الخير – رحمه الله –:
قد ذكرنا في أول الكتاب أن عند أصحاب الحديث والسنة أن الله سبحانه بذاته بائن عن خلقه، على العرش استوى فوق السموات، غير مماس له، وعلمه محيط بالأشياء كله. الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 607).
النقل التاسع عشر
ابن رشد الحفيد (ت 595)
قال الفيلسوف ابن رشد:
القول بالجهة: وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى، حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقولهم. الكشف عن مناهج الأدلة (ص 145).
والمراد بالجهة أمر اعتباري، ومعناها أن الله – عز وجل – على عرشه بائن من خلقه، وإثبات هذا المعنى واجب لله – عز وجل –.
النقل العشرون
أبو عبد الله القرطبي (ت 671هـ)
من المعلوم أن القرطبي – رحمه الله – أشعري العقيدة، ينفي علو الله على العرش، ويؤول ما ورد من إثبات العلو بعلو القدر والقهر، لكنه اعترف أن مذهب السلف هو إثبات جهة العلو وأن المتكلمين مخالفون لهم في ذلك، فقد قال في تفسير آية الاستواء في سورة الأعراف:
هذه مسألة الاستواء، وللعلماء فيها كلام وإجراء. وقد بينا أقوال العلماء فيها في الكتاب (الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولا.
والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم، لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث. هذا قول المتكلمين.
وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله. ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة. وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته. الجامع لأحكام القرآن (7/ 219)، ونقل بعضه الذهبي في "العلو" (ص 267).
فأنت ترى أن المتكلمين – ومنهم القرطبي – نفسه ينفون أن يكون الله بجهة فوق، وأما السلف فما نفوا جهة الفوقية لله – تعالى –، بل نطقوا بإثباتها لله – عز وجل – وهذا إجماع ينقله أحد أئمة الأشعرية عن السلف بإثبات الجهة لله – تعالى –.
ولا يمكن حمل الجهة على فوقية القدر أو القهر؛ إذ أن المتكلمين ما نفوا فوقية القدر ولا القهر، وإلا لاستحقوا الكفر، والسياق ظاهر جدًّا في أن الجهة التي نفاها المتكلمون هي بعينها التي أثبتها السلف الصالح – رضي الله عنهم –.
وإذا قيل بأن مراد القرطبي – رحمه الله – أن السلف ما تحرجوا بإطلاق لفظ الفوقية والعلو، لأنهم كانوا يثبتون لفظ القرآن والسنة، ويفوضون معناه.
قلنا: بل تفويض المعنى يقتضي إثبات اللفظ دون المعنى، وسؤالنا: أين ورد في الكتاب والسنة لفظ "الجهة"؟!
إن لفظ "الجهة" لم يرد في القرآن أو السنة حتى يأتي متحذلق ويقول إن السلف نطقوا بالألفاظ التي توهم بالجهة وفوضوا معناها، بل هم أثبتوا اللفظ "الفوقية والعلو" والمعنى "الجهة الاعتبارية" فالقرطبي يقصد أنهم لم يثبتوا الألفاظ فقط، بل أثبتوا الألفاظ وما دلت عليه من معنى.
وكل عاقل لا يسعه أن يقول بعد هذا النقل أن القرطبي قال بأن السلف أثبتوا اللفظ فوضوا لله المعنى.
وإذا قيل: إن هذا القول يلزم منه أن يكون القرطبي ناقلاً مذهب السلف وفي نفس الوقت غير مرجِّحٍ له ولا يقول به، بدليل أنه أوَّل نصوصًا كثيرة يفيد ظاهرها إثبات الجهة لله – تعالى –.
قلنا: لسنا ننكر أن القرطبي ينكر علو ذات الله – عز وجل – فهو كغيره من متأخري الأشعرية ينكر علو الله على العرش، إلا أنه يقر بأن السلف على خلاف ما ذهب إليه المتكلمون، وأما اللازم بأنه مخالف لمذهب السلف فإننا لا ننكره، بل لقد صرَّح القرطبي نفسه بأنه مخالف لمذهب السلف في صفة العلو لله – تعالى –، حيث قال: وأظهر هذه الأقوال – وإن كنت لا أقول به ولا أختاره – ما تظاهرت عليه الآي والأخبار أن الله – سبحانه – على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه، هذا جملة مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات. الأسنى (2/ 132)، ونقله مرعي الكرمي في "أقاويل الثقات" (ص 132).
ولو كان مراد السلف بعلو الله على العرش هو علو القدر والقهر والسلطان، فإن القرطبي يقول به ويختاره، فدل كلام الإمام القرطبي أن العلو الذي يقول به السلف هو العلو الذي لا يقول به هو ولا يختاره، وليس ثمة علو لا يقول به القرطبي إلا علو الذات، فدل ذلك على أن السلف – رضي الله عنهم – كانوا يثبتون علو ذات الله – عز وجل –.
النقل الحادي والعشرون
علاء الدين ابن العطار (ت 724هـ)
قال في كتابه "الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد": وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته. (ص 179).
النقل الثاني والعشرون
الذهبي (ت 748هـ)
قال في آخر كتابه "العلو":
والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول ونقله عنهم الأئمة. (ص 596).
وقال أيضًا:
وقول عموم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إن الله في السماء، يطلقون ذلك وفق ما جاءت النصوص بإطلاقه، ولا يخوضون في تأويلات المتكلمين، مع جزم الكل بأنه -تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهَ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . السير (11/ 70- 71).
النقل الثالث والعشرون
أبو الثناء الآلوسي (ت 1270هـ)
قال:
والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضا وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته. روح المعاني (8/ 475).
وقال أيضًا:
وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده فإذا قيل: إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعنى ذلك أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه سبحانه كان قبل الجهات وأنه من قال: إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنه جل شأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم يسم وهو كلام حق ولكن الجهة ليست أمرا وجوديا بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك. روح المعاني (8/ 475).
وقال أيضًا:
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ} وهو الله عزّ وجلّ كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل {مَنْ فِي السَّماءِ} أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا وأصله من في السماء أمره، فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر. وقيل: على تقدير خالق من في السماء وقيل: فِي بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل: أَأَمِنْتُمْ من تزعمون أنه فِي السَّماءِ وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف، أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل: أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الملك الموكل بالخسف، وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه.
وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «آمنوا بمتشابهه».
ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عزّ وجلّ في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه، وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول ابن الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب. روح المعاني (15/ 18).
وقال أيضًا:
وتعالى الله أن يكون كدودة القز تبني على نفسها ما يحيط بها من القز بل كأن عز شأنه لا في مكان وخلق العالم دونه وبقي هو على ما كان فما وراء العالم لا العالم {الرحمن على العرش استوى} {أأمنتم من في السماء} {إليه يصعد الكلم الطيب} {ذو المعارج تعرج الملائكة والروح إليه} فهو جل شأنه. وعز سلطانه. في جهة العلو على الوجه اللائق به مع نفي اللوازم المستحيلة عليه سبحانه وتعالى. وأدلة كونه تعالى كذلك من الآيات والأحاديث والآثار أكثر من أن تحصى. وأوفر من أن تستقصى. وفيما يجده كل أحد في نفسه من الميل الطبيعي الضروري إلى جهة العلو في الاستمداد حالتي الرغبة والرهبة شاهد قوي لذلك. حتى قيل أن الفخر الرازي لما أورد عليه ذلك الهمداني بعد أن فرغ من تقرير الأدلة العقلية على نفي الجهة قام من مجلسه وهو يقول حيرني الهمداني حيرني الهمداني. ولم يزل يقولها حتى دخل بيته. غرائب الاغتراب (ص 185).
منقول مدونة السبيف الاثري