حقيقة المنطق
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمعروفُ عند المَناطِقةِ أنَّ المنطق ـ باعتبارِ فائدته ـ هو آلةٌ قانونيةٌ تعصم مُراعاتُها الذهنَ مِن الخطإ في الفكر؛ فهو علمٌ عمليٌّ آليٌّ(١) موجودٌ في العقل بالغريزة، وموضوعُه: المعلوماتُ التصوُّرية(٢) والتصديقية(٣)، وغايتُه: الإصابةُ في الفكرِ وحِفْظُ الرأيِ عن الخطإ في النظر؛ وذلك بتَقابُلِ الفكرِ مع نَفْسه وتجريدِه مِن التناقض؛ لذلك سُمِّيَ منطقُ «أرسطو» ﺑ «المنطق الصوريِّ» لعنايته بصورةِ الفكر دون مادَّته ومعناه، كما سُمِّيَ «أرسطو»(٤) ﺑ «المعلِّم الأوَّل»، حيث قام ـ في زَعْمِهم ـ بصياغةِ هذه الصناعةِ الآلية: فقعَّد له، وحدَّد مُصْطَلَحاتِه، وهذَّب مَباحِثَه، ورتَّب مَسائلَه وفصولَه، وجَعَلَه أوَّلَ العلومِ الحِكَمية وفاتحتَها؛ فنُسِب إليه المنطقُ نسبةَ صياغةٍ وإظهارٍ لا ابتداءٍ واختراعٍ(٥).
ما وَقَعَتْ فيه الأمَّةُ الإسلامية مِن المحنة بسببِ تعريب كُتُب اليونان
وقد ابْتُلِيَتِ الأمَّةُ الإسلامية بتعريبِ كُتُبِ اليونان التي ابتدأ دخولُها في العهد الأمويِّ بدونِ توسُّعٍ ولا انتشارٍ، حيث كان المُشْتغِلون بالفلسفة اليونانيةِ المُعْجَبون بالمنطق الأرسطيِّ آحادَ الناسِ على خُفْيةٍ مِن علماءِ أهل السنَّة والجماعة الذين حذَّروا منها لِما تنطوي عليه مِن ملابَسةِ العلوم الفلسفية المُبايِنةِ للعقائد الصحيحة، إلَّا أنَّ كُتُبَ اليونان شاعَتْ في عهدِ الدولة العبَّاسية، وعَظُمَ ذلك وقَوِيَ أيَّامَ المأمونِ لِما أثاره مِن البدع، وكان حِرْصُه على نشرِها والحثِّ عليها أَعْظَمَ مِن الاشتغال بعلوم السلف الأوائل(٦).
إقحام المنطق في العلوم الشرعية لا سيَّما علم الأصول
ثمَّ تحقَّق إقحامُ المنطق بصورةٍ حقيقيةٍ لاسيَّما في علمِ الأصول على يد أبي حامدٍ الغزَّاليِّ (ت: ٥٠٥ﻫ) الذي اشترطه لتحصيلِ العلوم والاجتهاد، وجَعَلَه معيارَ العلومِ العقليةِ وميزانًا لها، وقال: «مَن لا يحيط بها [أي: المقدِّمة المنطقية] فلا ثِقَةَ له بعلومه أصلًا»(٧)، وصنَّف في ذلك كُتُبًا منها: «معيار العلم» و«مِحَكُّ النظر» و«مَقاصِد الفلاسفة» و«القسطاس المستقيم»، وقد تَناوَله في مطلعِ كتابه: «المستصفى»(٨)؛ وتأثَّر بكلامه كثيرٌ مِن المتأخِّرين حتَّى أوجبوا تَعَلُّمَ المنطقِ وجَعَلوه مِن فروض الكفاية أو مِن شروط الاجتهاد(٩)، أي: لا يكون المُرْتقي في مَدارِجِ الاجتهادِ مُسْتكمِلًا لشرائطِ النظرِ وأهلًا للتأليفِ والفتوى إلَّا بتحصيله. وضِمْنَ هذا السياقِ قال ابنُ تيمية رحمه الله: «ولكِنْ بسببِ ما وَقَعَ منه ـ أي: الغزَّالي ـ في أثناءِ عُمُرِه وغيرِ ذلك صار كثيرٌ مِن النُّظَّار يُدْخِلون المنطقَ اليونانيَّ في علومهم، حتَّى صار مَن يسلك طريقَ هؤلاءِ مِن المتأخِّرين يظنُّ أنه لا طريقَ إلَّا هذا»(١٠).
الفرق بين الميزان العقليِّ الذي أنزله اللهُ والميزان الأرسطيِّ اليوناني
هكذا كانَتْ عنايةُ كثيرٍ مِن المصنِّفين بعلم المنطق الأرسطيِّ حتَّى أسهموا في إقحامه ضِمْنَ العلومِ الشرعية لا سيَّما في مَجَال الأصول لمَّا ظنُّوا فيهما اتِّحادَ غايةِ كُلٍّ منهما وهي: معرفةُ الطُّرُقِ والأساليبِ المُوصِلةِ للصواب، وقد أثَّر سَلْبًا اختلاطُ المنطقِ بالعلوم الشرعية وكان مِن أَعْظَمِ الجناياتِ على دينِ الإسلام وأهلِه، ولم تكن كُتُبُ المنطقِ والفلسفةِ مَحَلَّ تقديرٍ عند الراسخين في العلم الثابتين على الحقِّ، لا مِن أجل اشتغال الأُمَمِ الكافرة به فقَدْ قبلوا منهم علومًا صحيحةً كالطبِّ والحساب والهندسة وغيرها، وإنما رفضوا التلفيقَ بين المنطق ومنهجِ الكتاب والسنَّة، وذلك بعَرْضِ صفاءِ عقيدة المسلمين باستعمالِ القوالب الفلسفية والمنطقية المأخوذةِ مِن كُتُبِ اليونان، وجَعْلِ المنطق الأرسطيِّ ميزانًا للعلوم الشرعية، قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: «ولا يجوز لعاقلٍ أن يظنَّ أنَّ الميزان العقليَّ الذي أنزله اللهُ هو منطقُ اليونان لوجوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الله أَنْزَلَ الموازينَ مع كُتُبه قبل أن يخلق اليونانَ مِن عهدِ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وغيرِهم، وهذا المَنْطِقُ اليونانيُّ وَضَعَه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائةِ سنةٍ، فكيف كانَتِ الأممُ المتقدِّمة تَزِنُ به؟!
الثاني: أنَّ أمَّتَنا أهلَ الإسلام ما زالوا يَزِنُون بالموازينِ العقلية، ولم يُسْمَع سلفًا بذِكْرِ هذا المنطقِ اليونانيِّ، وإنما ظَهَرَ في الإسلام لمَّا عُرِّبَتِ الكتبُ الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبًا منها.
الثالث: أنَّه ما زال نُظَّارُ المسلمين ـ بعد أن عُرِّبَ وعَرَفوه ـ يعيبونه ويذمُّونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية... ثمَّ هذا جَعَلوه ميزانَ الموازينِ العقلية التي هي الأقيسةُ العقلية، وزَعَموا أنه آلةٌ قانونيةٌ تعصم مُراعاتُها الذهنَ أن يَزِلَّ في فكره، وليس الأمرُ كذلك؛ فإنه لو احتاج الميزانُ إلى ميزانٍ لَزِمَ التسلسلُ»(١١).
المفاسد الناجمة عن إدخال المنطق اليونانيِّ في أصول الدين
ومِن المَفاسِدِ الناجمة عن إدخالِ كُتُبِ اليونان في أصول الدين أَنْ شوَّهَتِ العقيدةَ السليمة بلوازمَ فاسدةٍ فيها تكذيبٌ صريحٌ للقرآن وصحيحِ العقل:
• كالقول بقِدَمِ العالَمِ لأنَّ الإله لم يسبق العالَمَ في الوجود الزمنيِّ وإن كان يسبقه في الوجود الفكريِّ مثلما تسبق المقدِّمةُ النتيجةَ في الوجود.
• ومِن أعظمِ إساءةِ الظنِّ بربِّ العالمين: قَصْرُ علمِه سبحانه على الأمور الكُلِّيَّة دون الجزئية، ويبرِّرون إنكارَهم لعلمِ الله بالجزئيات بأنَّ الجزئياتِ في تغيُّرٍ وتجدُّدٍ؛ فلو تَعلَّق علمُ اللهِ بها لَلَزِمَه التغيُّرُ بتَغيُّر المعلومِ وتَجدُّدِه(١٢).
• ومِن ضلالهم: إنكارُ الصفات الثبوتية لله تعالى ووَصْفُه بالسُّلوبِ المحضةِ؛ لأنَّ الواحدَ لا يصدر عنه إلَّا واحدٌ؛ إذ لو صَدَرَ عنه اثنان لَكان ذلك مُخالِفًا للوحدة؛ وبذلك نَفَوْا أن يكون اللهُ فاعلًا مختارًا، ونَفَوُا الصفاتِ عن اللهِ تعالى فرارًا مِن تشبيهه بالنفوس الفَلَكيةِ أو الإنسانية، ثمَّ شبَّهوه بالجمادات؛ ﻓ «ضلالُهم ـ أي: الفلاسفة ـ في الإلهيات ظاهرٌ لأكثرِ الناس؛ ولهذا كفَّرهم فيها نُظَّارُ المسلمين قاطبةً»(١٣).
• ومِن مَفاسِدِ اعتقادهم: إنكارُهم للنُّبوَّات واعتبارُها أمرًا مُكْتَسَبًا تستعدُّ له النفوسُ بأنواع الرياضات، وليست النبوَّةُ ـ عندهم ـ هِبَةً مِن الله ومنَّتَه على بعض عباده.
• وكذا الأخبارُ المتواتِرةُ عند المَناطِقةِ احتماليةُ الصدقِ ويختصُّ بها مَن عَلِمَها، ولا تكون حُجَّةً على غيره.
فهذا غيضٌ مِن فيضٍ ممَّا يسبِّبه المنطقُ الأرسطيُّ مِن تفريقِ كلمةِ المسلمين، وتَذَبْذُبِ معتقَدهم، وشَقِّ عَصَاهم، ونَبْذِ جماعتهم؛ فالاضطراب والشكُّ والنزاعُ والحيرة عالقٌ بأهل المنطق والمشتغِلين به؛ فلا يكاد يُوجَد اثنان منهم يتَّفِقان على مسألةٍ ما حتَّى تلك التي يُطْلِقون عليها اسْمَ «البَدَهيات» أو «اليقينيات»، وقد وَصَفَ ابنُ تيمية رحمه الله المُشْتغِلين بهذه الصناعةِ بقوله: «إنَّ مِن الخائضين في العلوم مِن أهلِ هذه الصناعةِ أَكْثَرَ الناسِ شكًّا واضطرابًا، وأَقَلَّهم علمًا وتحقيقًا، وأَبْعَدَهم عن تحقيقِ علمٍ موزونٍ، وإن كان فيهم مَن قد يحقِّقُ شيئًا مِن العلم فذلك لصحَّةِ المادَّةِ والأدلَّةِ التي ينظر فيها وصحَّةِ ذهنه وإدراكِه لا لأجلِ المنطق، بل إدخالُ صناعةِ المنطق في العلوم الصحيحة يُطوِّل العبارةَ ويُبَعِّد الإشارةَ، ويجعل القريبَ مِن العلم بعيدًا، واليسيرَ منه عسيرًا؛ ولهذا تجد مَن أَدْخَلَه في الخلافِ والكلامِ وأصولِ الفقه وغيرِ ذلك لم يُفِدْ إلَّا كَثْرَةَ الكلامِ والتشقيق، مع قلَّةِ العلم والتحقيق؛ فعُلِمَ أنه مِن أعظمِ حَشْوِ الكلام، وأَبْعَدِ الأشياء عن طريقةِ ذوي الأحلام»(١٤)، قال أحَدُ بَطارِقةِ الروم: «فما دَخَلَتْ هذه العلومُ على دولةٍ شرعيةٍ إلَّا أَفْسَدَتْها وأَوْقَعَتْ بين علمائها»(١٥).
آثار جناية المنطق على الإسلام وأهله
ومِن آثارِ جناية المنطقِ الأرسطيِّ على الإسلام وأهله: ضَعْفُ توقيرِ الكتاب والسنَّةِ في نفوس المُعْجَبين بعلمِ الكلامِ اغترارًا بالأدلَّة العقليةِ الموزونةِ بميزان المنطق، وتقديمُها على أدلَّةِ الشرع، ولم تَعُدْ لأدلَّةِ الوحيين قيمةٌ ذاتيةٌ إلَّا على وجهِ الاستئناس بها والمُعاضَدةِ للأدلَّة العقلية عند التوافق معها، أمَّا في حالةِ التعارض فإنَّ نصوص الوحيِ مِن الكتاب والسنَّةِ تُرَدُّ ردًّا كُلِّيًّا بإلغاءِ مدلولَيْهما وتأويلِهما على وجهٍ يتوافَقُ ـ في زعمهم ـ مع العقل المشفوع بالمنطق لقطعيَّتِه وظنِّيَّتِهما، والقطعيُّ لا يُعارِضه الظنِّيُّ ولا يُقاوِمه؛ الأمرُ الذي أدَّى إلى الاستغناءِ عن نصوص الوحيين بآراء الرجال وأقيسة المَناطِقة وهرطقات الفلاسفة، وأَبْعَدَهم عن مقتضى وصيَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمَّةِ بما يكفل لها النجاةَ والهدى إذا اعتصَمَتْ بالكتاب والسنَّة وتحاكَمَتْ إليهما في مَوارِدِ النزاع، وتباعدَتْ عن وجوه الضلالات والبِدَع، قال ابنُ تيمية رحمه الله: «فكان مِن الأصول المتَّفَقِ عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ: أنه لا يُقْبَل مِن أحَدٍ قطُّ أن يُعارِض القرآنَ لا برأيه ولا ذوقِه ولا معقولِه ولا قياسِه ولا وَجْدِه؛ فإنهم ثَبَتَ عنهم بالبراهين القطعيات والآياتِ البيِّنات أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودينِ الحقِّ، وأنَّ القرآن يهدي للتي هي أَقْوَمُ»(١٦).
انتفاء حاجة العلوم إلى منطق اليونان
هذا، والمنطق نمطٌ فكريٌّ جانَسَ الفكرَ اليونانيَّ وتَلاءَمَ مع البيئة الفلسفية التي نَشَأَ فيها، وأهلُها مِن أهل الشرك والإلحاد. في تلك الحقبة مِن التاريخ كان الفكر اليونانيُّ يتوافق مع الفكرة المجرَّدة ويُناسِب الجدَلَ المثاليَّ، وهذا عِلْمٌ لا صِلَةَ له بالواقع، بل وجودُه في الذهن ليس إلَّا؛ لأنَّ المنطق يبحث في عالَمِ الكلِّيَّات ويتجاهلُ البحثَ في الجزئيات والأعيانِ المشخَّصة(١٧)؛ لذلك لم يَعُدْ صالحًا بمُضِيِّ عهده وانتهاءِ أوانه، بل كان له الأثرُ الظاهرُ في تخلُّف اليونان عن رَكْبِ الحضارة والمدنية التي كان مُعْرِضًا عنها وعن العلومِ التطبيقية الواقعية، بانزوائه بالفكر والجهود العلمية إلى عالَمِ ما وراء الطبيعة؛ فكان ظهورُ التقدُّم العلميِّ والحضاريِّ بعد الثورة المزدوَجة على السلطة العلمية ـ ممثَّلةً في المنطق الأرسطيِّ ـ والسلطةِ الدينية ـ ممثَّلةً في رجال الكنيسة ـ(١٨)؛ وعليه فإنَّ العلوم تقدَّمَتْ قبل المنطق والتعرُّفِ عليه وبعد انتهاءِ أوانه، وفي هذا المعنى يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: «لا تجد أحَدًا مِن أهلِ الأرض حقَّق علمًا مِن العلوم وصارَ إمامًا فيه مُسْتعِينًا بصناعةِ المنطق، لا مِن العلوم الدينية ولا غيرِها؛ فالأطِبَّاءُ والحُسَّابُ والكُتَّابُ ونحوُهم يحقِّقون ما يحقِّقون مِن علومهم وصناعاتهم بغيرِ صناعة المنطق، وقد صُنِّف في الإسلامِ علومُ النحوِ واللغةِ والعَروض، والفقهِ وأصوله والكلامِ وغيرِ ذلك، وليس في أئمَّةِ هذه الفنونِ مَن كان يلتفت إلى المنطق، بل عامَّتُهم كانوا قبل أن يُعَرَّب هذا المنطقُ اليونانيُّ»(١٩)؛ لذلك كان فَرْضُه مُقدِّمةً لمُخْتَلَفِ العلوم ـ بما في ذلك العلوم الشرعية ـ مسلكًا عديمَ الفائدةِ كثيرَ المَفاسِد، ليس فيه إلَّا تضييعُ الأزمان، وإتعابُ الأذهان، وكثرةُ الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان.
وفي مَعْرِض الردِّ على كُتُبِ المنطق ومدى صحَّةِ قولِ مَن اشترطها في تحصيلِ العلوم، قال ابنُ تيمية رحمه الله: «...وأمَّا شرعًا فإنه مِن المعلومِ بالاضطرار مِن دينِ الإسلام أنَّ الله لم يُوجِبْ تَعلُّمَ هذا المنطقِ اليونانيِّ على أهلِ العلم والإيمان، وأمَّا هو في نَفْسِه فبَعْضُه حقٌّ وبعضُه باطلٌ، والحقُّ الذي فيه كثيرٌ منه أو أَكْثَرُه لا يُحتاج إليه، والقَدْرُ الذي يُحتاج إليه منه فأَكْثَرُ الفِطَرِ السليمةِ تَسْتَقِلُّ به، والبليدُ لا ينتفع به والذكيُّ لا يحتاج إليه، ومَضَرَّتُه على مَن لم يكن خبيرًا بعلومِ الأنبياءِ أَكْثَرُ مِن نَفْعِه؛ فإنَّ فيه مِن القواعد السَّلْبية الفاسدةِ ما راجَتْ على كثيرٍ مِن الفُضَلاءِ وكانَتْ سبَبَ نِفَاقهم وفسادِ علومهم، وقولُ مَن قال: «إنه كُلَّه حقٌّ» كلامٌ باطلٌ، بل في كلامِهم في الحَدِّ والصفاتِ الذاتية والعَرَضيةِ وأقسامِ القياس والبرهانِ ومَوادِّه مِن الفساد ما قد بيَّنَّاه في غيرِ هذا الموضعِ(٢٠) وقد بيَّن ذلك علماءُ المسلمين(٢١)»(٢٢).
جزاءُ مَن اتَّخذ المنطقَ اليونانيَّ مسلكًا له وميزانًا
هذا، وقد كان جزاءُ مَن اتَّخذ المَناهِجَ الفلسفية والطُّرُقَ المنطقية ميزانًا له ومسلكًا أَنْ أَوْرَثهم اللهُ خَبْطًا في دوَّامةٍ مِن الشكِّ والهذيان والحيرة باستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ، المتجلِّي في المَحَجَّةِ البيضاء التي تَرَكَنا عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ليلُها كنهارها لا يَزيغ عنها إلَّا هالكٌ، قال ابنُ القيِّم رحمه الله: «لقد استبان ـ واللهِ ـ الصبحُ لمن له عينان ناظرتان، وتبيَّن الرشدُ مِن الغَيِّ لمن له أُذُنان واعيتان، لكِنْ عَصَفَتْ على القلوبِ أهويةُ البِدَعِ والشُّبُهات والآراءِ المُخْتَلِفات فأطفأَتْ مَصابيحَها، وتحكَّمَتْ فيها أيدي الشهوات فأغلقَتْ أبوابَ رُشْدِها وأضاعَتْ مَفاتيحَها، ورانَ عليها كَسْبُها وتقليدُها لآراء الرجال فلم تَجِدْ حقائقُ القرآنِ والسنَّةِ فيها منفذًا، وتمكَّنَتْ فيها أسقامُ الجهلِ والتخليط فلم تنتفع معها بصالحِ الغذاء، واعجبًا جَعَلَتْ غذاءَها مِن هذه الآراءِ التي لا تُسْمِن ولا تُغْنِي مِن جوعٍ، ولم تقبل الاغتذاءَ بكلام الله تعالى ونصِّ نبيِّه المرفوع!»(٢٣).
اعترافات أذكياء أهل الكلام والمنطق بمَضَرَّته وفسادِ مَسالِكِه
وقد اعترف كثيرٌ ممَّن تأثَّروا بالمنطق وعلمِ الكلام ـ الذين خاضوا بَحْرَه وغاصوا أعماقَه ـ بمَضَارِّ القوالب الفلسفية والمَناهِجِ المنطقية التي لا تَشْفِي عليلًا ولا تُرْوِي غليلًا، ورجعوا إلى طريقِ الحقِّ والصواب بعد أن أدركوا تَناقُضَ المنطقِ وتَهَافُتَه: أمثالَ نُعَيْمِ بنِ حمَّادٍ [ت: ٢٢٩ﻫ] وأبي الحسن الأشعريِّ [ت: ٣٢٤ﻫ]، وأبي المعالي الجوينيِّ [ت: ٤٧٨ﻫ]، وأبي حامدٍ الغزَّاليِّ [ت: ٥٠٥ﻫ] وغيرهم(٢٤)، وكان الغزَّاليُّ قد ذمَّ المنطقَ وأهلَه، وبيَّن أنَّ طريقتهم لا تُوصِل إلى اليقين مفنِّدًا البرهانَ الفلسفيَّ ومُظْهِرًا قصورَه عن الوصولِ بالإنسان إلى اليقين حالَ تطبيقه في الإلهيات فقال: «لهم نوعٌ مِن الظلم في هذا العلمِ وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطًا يُعْلَم أنها تُورِث اليقينَ لا مَحالَةَ، لكنَّهم عند الانتهاءِ إلى المَقاصِدِ الدينية ما أَمْكَنَهم الوفاءُ بتلك الشروط، بل تَساهَلوا غايةَ التساهل»(٢٥)، كما ذمَّ طريقةَ المتكلِّمين وأشار إلى مَضَارِّ علمِ الكلام بقوله: «أمَّا مَضَرَّتُه فإثارةُ الشُّبُهات، وتحريكُ العقائد وإزالتُها عن الجزم والتصميم، فذلك ممَّا يحصل في الابتداء، ورجوعُها بالدليل مشكوكٌ فيه ويختلف فيه الأشخاصُ، فهذا ضَرَرُه في الاعتقاد الحقِّ، وله ضررٌ آخَرُ في تأكيدِ اعتقاد المُبْتَدِعة للبدعة، وتثبيتِه في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتدُّ حِرْصُهم على الإصرار عليه، ولكنَّ هذا الضررَ بواسطة التعصُّب الذي يثور مِن الجدل...»(٢٦)، وجاء عنه رحمه الله في كتابه: «إلجام العوامِّ عن علم الكلام» قولُه: «الدليل على أنَّ الحقَّ هو مذهبُ السلف أنَّ نقيضَه بدعةٌ، والبدعة مذمومةٌ وضلالةٌ»(٢٧)، وقال في موضعٍ آخَرَ: «إنَّ الصحابة رضوانُ الله عليهم كانوا مُحتاجين إلى مُحاجَّةِ اليهودِ والنصارى في إثبات نُبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، فما زادوا على أدلَّةِ القرآن شيئًا، وما رَكِبوا ظَهْرَ اللجاج في وضعِ المقاييس العقلية وترتيبِ المقدِّمات؛ كلُّ ذلك لعِلْمِهم بأنَّ ذلك مَثارٌ للفتن ومنبعُ التشويش، ومَن لا يقنعه أدلَّةُ القرآنِ لا يقمعه إلَّا السيفُ والسِّنانُ؛ فما بعدَ بيانِ الله بيانٌ»(٢٨).
تلك هي بعضُ اعترافاتِ مَن رجعوا إلى وصيَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمسُّك بالكتاب والسنَّةِ والاعتصامِ بحبل الله تعالى وعدَمِ التفرُّق، بعد تِيهٍ في بيداء الكلام، وعلمِهم أنَّ في طُرُقِ المَناطِقةِ فسادًا كبيرًا، والحاصلُ منها بعد النَّصَبِ والمَشَقَّةِ خيرٌ قليلٌ؛ فهو «كَلَحْمِ جَمَلٍ غَثٍّ على رأسِ جبَلٍ [وَعْرٍ]، لَا سَهْلٌ فَيُرْتقى، ولا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلَ»(٢٩)، فرَحِمَ الله علماءَ السنَّة والحديثِ؛ في كُلِّ عصرٍ ينصرون الحقَّ، ويَدْعون الناسَ إليه، مع قيامهم بواجب النصحِ وأمانةِ تبليغِ هذا الدين، ودرءِ تحريف الغالين وفسادِ المُبْتَدِعين، حتَّى يكون الدينُ لله ربِّ العالمين.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١ مِنَ المحرَّم ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٣٠ يناير ٢٠٠٦م