يقول الله عز وجل: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110]، هذه الآية تدل على أن أسماء الله أعلامٌ، كلها تدل على مسمى واحد.
وقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]، وهذه تدل على أن أسماء الله أوصاف؛ فدعاءُ الله يكون بالوصف الذي تضمَّنه الاسم.
ومجمَل القول في المسألة:
أن الله سبحانه وتعالى بعَث رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن الذي فيه ذكر أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته، وعلى هذا اتفق الأنبياءُ والرسل وأتباعهم؛ ولهذا فإن مذهب أهل السنة والجماعة - كما هو مقرر ومعلوم - أن الله سبحانه وتعالى موصوفٌ بما وصَف وسمَّى به نفسه، وبما سماه ووصَفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، لا في الأحرف ولا المعاني، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل أهل السنة والجماعة وسَط بين المعطِّلة من الجهمية والمعتزلة ومتكلِّمة الصفاتية الذين شاركوا في التعطيل، وبين المشبهة والمجسمة؛ فهم وسط في هذا الباب، كما هم وسط في سائر أبواب أصول الدين بين طوائف المسلمين، وأول مخالفة ظهرت في باب الأسماء والصفات - وهو من أخص أصول الإيمان والرُّبوبية - لما أظهَر الجعدُ بن درهم مقالة التعطيل، فزعم أن الله لا يوصَف بصفة، ولا يسمى باسم، وتابَعَه على ذلك الجهمُ بن صفوان، وصارت هذه المقالة تسمَّى عند السلف مقالةَ الجهمية، نسبة إلى الجهمِ بن صفوان؛ لأنه هو الذي أشاعها وأذاعها ونشرها، ثم تقلدتها المعتزلة؛ كأبي الهذيل العلاف، ومن بعده، فصاروا يقرِّرون هذا المذهب.
وتوحيد الله جل وعلا في أسمائه وصفاته نوعٌ من أنوع التوحيد، وهذا النوع ينبني على أصلين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11].
والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسَه، أو وصفه به صلى الله عليه وسلم، على الوجهِ اللائق بكماله وجلاله؛ كما قال بعد قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، مع قطعِ الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف بهذه الصفات؛ قال تعالى: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110].
وقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11] فيه: نفيٌ وإثبات.
فنفى أن يماثل اللهَ شيءٌ - جل وعلا - وأثبَت له صفتيِ السمع والبصر.
قال العلماء: قدَّم النفيَ قبل الإثبات على القاعدة العربية المعروفة: أن التخليةَ تسبق التحلية.
فيجب أن يخلو القلب من كل براثن التمثيل، ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخَلْقه، أو تشبيه خَلْق الله به، فإذا خلا القلبُ من كل ذلك، وبرئ من التشبيه والتمثيل، أثبت ما يستحقُّه الله - جل وعلا - من الصفات، وقد أثبت هنا صفتينِ، وهما السمعُ والبصر.
وسبب ذِكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات، دون غيرهما من الصفات، أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء: لأن صفتيِ السمع والبصر مشتركةٌ بين أكثر المخلوقات الحية؛ فجلُّ المخلوقات الحية التي حياتها بالروح والنفس، لا بالنماء، فإن السمع والبصر موجودٌ فيها جميعًا؛ فالإنسان له سمع وبصر، وسائر أصناف الحيوانات لها سمع وبصر؛ فالذباب له سمع وبصر يناسبه، والبعير له سمع وبصر يناسبه، وكذلك الطيور والأسماك، والدواب الصغيرة والحشرات، كل له سمع وبصر يناسبه.
التمهيد لشرح كتاب التوحيد (ص: 436-437).
ومن المتقرر عند كل عاقل أن سمع هذه الحيوانات ليس متماثلاً، وأن بصرها ليس متماثلاً، وأن سمع الحيوان ليس مماثلاً لسمع الإنسان؛ فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من الحيوانات، وكذلك البصر، فإذا كان كذلك كان اشتراك المخلوقات التي لها سمع وبصر في السمع والبصر اشتراكًا في أصل المعنى، ولكلٍّ سمعٌ وبصر بما قدر له، وما يناسب ذاته، فإذا كان كذلك ولم يكن وجود السمع والبصر في الحيوان وفي الإنسان مقتضيًا لتشبيهِ الحيوان بالإنسان، فكذلك إثباتُ السمع والبصر للملِك الحي القيُّوم ليس على وجه المماثلة للسمع والبصر في الإنسان أو في المخلوقات، فلله - جل وعلا - سمعٌ وبصر يليق به، كما أن للمخلوق سمعًا وبصرًا يليق بذاتِه الحقيرةِ الوضيعة؛ فسمعُ الله كاملٌ مطلق من جميع الوجوه، لا يعتريه نقصٌ، وبصره كذلك.
واسم الله (السميع) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة السمع، وكذلك اسم الله (البصير) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر، فدل ذلك على أن النفيَ مقدَّم على الإثبات، وأن النفي يكون مجملاً، والإثبات يكون مفصلاً؛ فالواجب على العباد أن يعلموا أن الله - جل جلاله - متصفٌ بالأسماء الحسنى وبالصفات العلى، وألا يجحدوا شيئًا من أسمائِه وصفاته، فمن جحَد شيئًا من أسماء الله وصفاته فهو كافر؛ لأن ذلك صنيعُ الكفار والمشركين.