أكد خبراء في التربية والبيداغوجيا، في ندوة “الشروق” عن بعد، أن بروز ظاهرة المعدلات المرتفعة في امتحان شهادة البكالوريا وتناميها في السنوات الأخيرة الماضية، لا تعبر عن مخرجات مدرسية صحيحة يمكن أن نطمئن إليها، ولا تعد مؤشرا صحيّا للمدرسة العمومية، وعليه وجب إصلاح “منظومة التقويم”، مرورا بإعادة النظر في طريقة بناء المواضيع، وصولا إلى الابتعاد عن تقييم المتعلمين عن طريق “العلامات”، على اعتبار أن عناصر الجودة ليست مرتبطة بها حصريّا.
رابح خدوسي العضو السابق بلجنة بن زاغو:
التقويم الدراسي يقوم على مقولة “بضاعتكم ردت إليكم”
يقترح رابح خدوسي العضو السابق في لجنة إصلاح المنظومة التربوية، أنّ على السلطات العمومية التأسيس لإصلاحات شاملة، من خلال إلغاء امتحان شهادة البكالوريا، واستبداله بما يصطلح عليه “بالثانوية العامة”، حيث يجتاز المتعلم امتحانات داخلية على مستوى ثانويته في السنة ثالثة ثانوي، ليجتمع “مجلس الأساتذة” في نهاية السنة الدراسية لتحديد قوائم المنتقلين إلى المؤسسات الجامعية المختلفة، بناء على معايير يتم تحديدها بصفة مسبقة أي “معدل النجاح”، ولكن شريطة أن تبرمج الكليات والمعاهد والمدارس العليا في بداية الدخول الجامعي مسابقة لانتقاء “الطلبة الجدد”.
ويجزم العضو السابق في لجنة بن زاغو، بأن هناك اختلالات كثيرة في عملية التقويم المدرسي عموما والامتحانات بصفة خاصة، بسبب غياب الأسس العلمية، والتي نجدها في نوع الأسئلة المطروحة، وكذا في طريقة بناء المواضيع، حيث يتم اختبار التلاميذ في المكتسبات القبلية التي بحوزتهم، من خلال القيام “بعملية استرجاع” لكمّ هائل من المعلومات بشعار “بضاعتكم ردت إليكم”، وكذا في نوع المواد الممتحنة، وعلى سبيل المثال، فإدراج مادة التربية البدنية في امتحان شهادة البكالوريا، لا يعد قرارا مناسبا، على اعتبار أن التلميذ الذي يحصل على العلامة 19 من 20 في “الرياضة” وينجح في البكالوريا بمعدل 9.5 من 20 تكون نتيجته مضطربة ولا نعتبره ناجحا بمؤهلاته العقلية والعلمية وإنما بعضلاته، بالإضافة إلى بروز اختلالات أخرى في معايير التصحيح، ولذلك أصحبت الشهادات التي تمنح للطلبة لا تعبر عن مستواهم الحقيقي، يضيف محدثنا.
وبخصوص ظاهرة المعدلات العالية في امتحان شهادة البكالوريا، والتي تنامت في السنوات الأخيرة الفارطة، يؤكد رابح خدوسي بأن القضية محل النقاش لا تعبر إطلاقا عن مؤشر إيجابي وصحي للمدرسة العمومية، بقدر ما هي تضخيم للعلامات بتواطؤ الجميع.
ويشدد محدثنا أن الامتحانات المدرسية هي بقايا النظام الفرنسي، وبالتالي فقد تحولت مع مرور الوقت إلى “كابوس” يؤرق التلاميذ وعائلاتهم سنويا ويدفع البعض منهم إلى الانتحار بسبب الرسوب ويدخل أغلبهم الحبس، مؤكدا أن المدرسة العمومية بعد ما كانت تؤثر في الشارع والأسر باعتبارها مصدرا للإشعاع الفكري، أضحت اليوم عرضة للإصابة بعدوى أمراض الشارع.
لمباركية نوار.. باحث في التربية والبيداغوجيات:
الدروس الخصوصية شوّهت الامتحانات الرسمية
ومن جهته، يرى لمباركية نوار، باحث في التربية والبيداغوجيات، بأن بروز ظاهرة المعدلات المرتفعة في شهادة البكالوريا، لا تعبر عن مخرجات مدرسية صحيحة يمكن أن نطمئن إليها لا تؤشر إلى حالة تسكنها السلامة والصحة والوثوقية، على اعتبار أنه من مواصفات التقويم التربوي الوجيه هو “الثبات”، بمعنى أن التلميذ الممتحن والمتقدم من حيث العلامات، يحافظ على مستواه عندما يكرر تقويمه عدة مرات، ويتساءل محدثنا إن كان هؤلاء “المتفوقون” في البكالوريا يمكنهم المحافظة على مستواهم ويتألقون ثانية في حال ما أدخلنا مجموعة منهم إلى حجرة الامتحان بعد ثلاثة أشهر على سبيل المثال؟ والدليل هو النتائج الكارثية التي تحصل عليها طلبة السنة أولى بالمدرسة العليا للرياضيات، برغم أنهم من “النخبة”، وتحصلوا على الشهادة بمعدلات عليا، إلا أن تقدمهم “مغشوش” ومزيف، على حد تعبيره.
ويشدد الباحث على أن تقويم الكفاءات يعتمد على توظيف المعارف المكتسبة، أي من خلال استغلالها في حل مشكلات مطروحة تزيد درجة من حيث التعقيد عن تلك المتناولة في الأقسام، وليس على اجترار المعارف بعد استرجاعها من الذاكرة، وهذا هو الذي يصنع “الفروق الفردية” بين مستويات المتعلمين.
ويجزم محدثنا أن الدروس الخصوصية أو “اللصوصية”، بوصفه، والتي وقفت حاجزا مانعا أمام الأداء الفصلي النوعي المنشود، قد تسببت في “تعويق” العمليات التقويمية وتشويهها وتحريفها عن أهدافها بما فيها الامتحانات الرسمية، متسائلا عن جدوى تصنيف تلميذ ضمن خانة “المتفوقين” إن كان يحفظ حلول التمارين حتى في المواد العلمية كالفيزياء والرياضيات؟
ويعتقد لمباركيّة أن التعليم الحالي لا يساير المقاربة التدريسية التي جاءت بها إصلاحات سنة 2003، وإنما يخالفها الأداء الفصلي في “وقفات التقويم”، مؤكدا أنه إذا كانت الممارسة التعليمية في الأقسام “منسلخة” تماما من مبادئ ومتطلبات التدريس بالكفاءات التي يرمز إليها بالحروف “”apc، فإنه لا يصح لنا الادعاء بأننا نُقوّم كفاءات محددة ومسطرة في المناهج التربوية المعتمدة.
كما يوضح الباحث لمباركية نوار بأن “سفينة التعليم” ببلادنا، تستقر وللأسف على “التلقين” في أبشع صوره وأبغضها، لأنه ينظر إلى عقول المتعلمين “كإسفنجات” تستطيع امتصاص أي سائل يعترض طريقها أثناء المسح، أو كأوعية ينبغي أن تملأ أو كجرابات تصلح للتكديس المعرفي وللتخزين، وبالتالي فهي مجرد ممارسات تعليمية سلبية، لأنها لا تعمل على تطوير قدرات المتعلمين العقلية المختلفة التي تعتبر أدوات أساسية لممارسة التعلم، وإنما تنتصر للقدرة على الحفظ في كل المواد التعليمية.
مسعود بوديبة.. المكلف بالإعلام بنقابة “الكناباست”:
منظومة الأسئلة تشجع الحصول على العلامات الكاملة
من جانب آخر، يقول مسعود بوديبة، الأمين الوطني المكلف بالإعلام والاتصال بنقابة المجلس الوطني المستقل لمستخدمي التدريس للقطاع ثلاثي الأطوار للتربية، إن ظاهرة المعدلات المرتفعة والتي أضحت تميز امتحان شهادة البكالوريا في السنوات الأخيرة، وبقدر ما هي تعطي بشارات خير بقدر ما تحتاج إلى دراسة ميدانية مرتبطة بواقع المدرسة الجزائرية، وبمسار التلميذ في المراحل الثلاث، وكذا المنظومة التعليمية والتقييمية المنتهجة، خصوصا وأنها ترتكز على مقاربة جديدة والمتمثلة في المقاربة بالكفاءات.
ويعتقد بوديبة أنه حان الوقت لفتح النقاش حول مجموعة من المؤشرات المرتبطة “بنظام التقويم” ببلادنا، على اعتبار أن المؤشر الأول يؤكد بأن منظومة بناء المواضيع في امتحان شهادة البكالوريا أضحت تشجع الحصول على العلامات الكاملة وتعطي بذلك فرصا أكبر للتلاميذ للحصول على علامات أحيانا تصل إلى 20 من 20، في حين أن المؤشر الثاني يتمثل في حرص الأولياء على تحسين مستوى أبنائهم في جميع المواد وبدروس الدعم الخاصة، إلى جانب ارتفاع عدد التلاميذ المترشحين والشروط المعمول بها في التسجيل الجامعي، ما جعلهم يبذلون مجهودا أكبر للحصول على نتائج مميزة تسمح لهم بتحقيق رغباتهم في الجامعة أو المعاهد المتخصصة. بالإضافة إلى التوجيهات التي تدفع إلى التساهل في “سلم التنقيط” والتغاضي على جوانب كانت في السابق أساسية، وكذلك “تحديد الدروس” المعنية في الامتحان وتخفيفها مثل ما يحدث حاليا جراء الوضع الصحي المرتبط بجائحة كورونا.
ويدعو محدثنا إلى ضرورة الالتفات إلى فئة التلاميذ الناجحين في البكالوريا بمعدلات مقبولة بجوار 10 من 20 فما فوق، والانتباه إليها، على اعتبار أن عددهم كبير، بالإضافة إلى العمل على رفع نسبة الممتازين حتى نعيد الاعتبار لمصداقية الشهادة.
محمد بوخطة.. مدير مركزي سابق بوزارة التربية:
إلزامية الابتعاد عن العلامات لتحقيق جودة النظام المدرسي
بدوره، يؤكد محمد بوخطة، مدير سابق للموارد البشرية بوزارة التربية الوطنية، أن العلامة في الامتحان لا تعتبر مؤشر جودة في النظام التربوي، بمعنى أن النظام الدراسي الذي فيه علامات مرتفعة لا يعني بأنه نظام جيد وإنما هو نظام “ناجع” أو “فعال” وفقط، على اعتبار أن هناك معايير أخرى تقيم “الجودة الدراسية”، وبالتالي فهي ليست مرتبطة لا بالارتفاع ولا بالانخفاض، غير أنه لا يمكن في كل الأحوال الطعن في مصداقية العلامات التي يجب أن نثق فيها، يضيف محدثنا.
ويعتقد بوخطة أنه لأجل الوصول إلى الجودة، وجب الابتعاد عن العلامات والتركيز على عناصر أخرى مهمة، كالمناهج التربوية، الزمن التربوي، الانضباط والسلوك، دور الأسرة، تكوين الأساتذة والمؤطرين ووضعية المدرسة وعلاقتها بالمجتمع، من خلال تشديد العناية بمادتين أساسيتين في العملية التربوية وهما الرياضيات والفلسفة، وتجنب التعرض للمناهج التربوية خلال السنة تطبيقا لقرار الرئيس عبد المجيد تبون.
ويدعو النقابي السابق إلى تمكين المتعلم من حصوله على المعلومة واطلاعه على كيفية التعامل معها والحصول عليها بالآليات الصحيحة، لكي لا يضيع في بحر اسمه “كثافة الدروس”، على حد تعبيره.