استقالة كثير من الآباء في هذا الزّمان من وظيفتهم الواجبة في تربية الأبناء، واقع نرى آثاره الوخيمة ونجد ثماره المرّة، لكن، لله الحمد، فليس كلّ الآباء قد ضيّعوا الأمانة، فهناك آباء حريصون موفّقون، يسعون حثيثا ليسيروا مع أبنائهم وبناتهم على درب الهدى والصّلاح، ويحملون الهمّ ويقدّمون الأسباب ليجتمعوا بذرياتهم في الجنّة، يتراءى أمامهم قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ويَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (سورة الرّعد).. آباء وأمّهات يتعبون بالنّهار في تربية وتهذيب ومتابعة أبنائهم وبناتهم، ويقومون بالليل يدعون الله أن يصلح فلذات أكبادهم ويرزقهم برّهم ويجمعهم بهم في جنّته ومستقرّ رحمته.
أبناؤنا كما يمكن أن يكونوا نقمة؛ نشقى بهم في الدنيا ونعذّب بهم في الآخرة، يمكن كذلك أن يكونوا نعمة؛ نسعد بهم في الدّنيا ونُجازى بصلاحهم في الآخرة.. كم من أب سعيد بأبنائه في هذه الدّنيا؛ يجتهدون في دراستهم، ويصلّون في بيوت الله، ويحفظون القرآن، ويجتمعون في البيت في وقت الطّعام، وإذا جنّ اللّيل أووا إلى بيوتهم هانئين مطمئنّين، لا تستهويهم الشّوارع ولا المقاهي.. كلّ من يراهم يدعو لهم ولوالديهم بالخير.. جنّتهم وراحتهم وأُنسهم في بيوتهم التي يجدون فيها ما يعينهم على الصّلاح والاستقامة؛ أمّ صالحة تحنو وتنصح وتذكّر بوقت الصّلاة وورد القرآن، وأب يرغّب ويشجّع، ويزجر وينذر إذا استدعى الأمر، وأجهزة مضبوطة على ما ينفع ويعلّم ويربّي ويهذّب.
كم من أمّ صالحة هي الآن تُجازى في قبرها بصلاح أبنائها.. وكم من أب هو الآن في قبره يرفع مقامه بصلاح أبنائه، وتعرض عليه الأعمال الصّالحة التي يقدّمها أبناؤه ويأخذ مثلها في ميزان حسناته.. في الحديث أنّ الله يرفع درجة العبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب من أين لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.. وفي حديث آخر أنّ ابن آدم إذا مات انقطع عنه عمله إلّا من ثلاث: صدقة جاريةٍ، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” (مسلم).
أبناؤنا هم أكبادنا التي تمشي على الأرض، وهم أرواحنا التي نراها تتحرّك أمام أعيننا، ومن واجبنا أن نحافظ على أبنائنا وبناتنا أكثر من حفاظنا على أكبادنا وأرواحنا.. أبناؤنا ينبغي أن نربيهم ونتعب في إصلاحهم، ونقوم بالليل نبكي وندعو الله أن يصلحهم، حادينا قول الله تعالى عن عباده المتّقين: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾، وقدوتنا أنبياء الله عليهم السّلام ومن تبعهم من الصّالحين المصلحين، الذين أخلصوا الدّعاء لذرياتهم؛ فهذا إبراهيم الخليل -عليه السّلام- يدعو ربّه أن يرزقه الولد الصّالح، فيقول: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (الصافات)، ويدعو مولاه أن يصلح له ذريته ويتقبّل دعاءه فيها، قائلا: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾ (إبراهيم).
وهذا العبد الصّالح لقمان الحكيم، ظلّ يعلّم ولده ويوجّهه ويبصّره، ويقول له: يا بنيّ، يا بنيّ، يا بنيّ، بكلّ رأفة وحنان.. علّمه حقّ الله في أن يدعى ويلجأ إليه وحده، وعلّمه أن يكون بارا بوالديه، محافظا على صلاته، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، صابرا على ما أصابه، قاصدا في مشيه عارفا وجهته مركّزا على هدفه وغايته، متواضعا لعباد الله غاضّا بصره وصوته، وعلّمه أن يكون مستشعرا رقابةَ الله واطّلاعَه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾.. فما أروع هذه التربية وأنفع هذا التوجيه الذي غفلنا عنه! فأكبر خطأ نرتكبه في حقّ أبنائنا أنّنا نريد لهم أن يخافونا ويخافوا عقابنا، بينما يفترض أن نجعلهم يخافون ربّهم ويستشعرون رقابته ونظره إليهم.. نخوّفهم من عقابنا فإذا غابوا عن أعيننا ارتكبوا الممنوعات ووقعوا في المحظورات.
ينبغي أن نحمل الهمّ، ونجعل صلاح أبنائنا أهمّ مشروع في حياتنا بعد مشروع صلاحنا.. أبناؤنا هم رأس مالنا.. أبناؤنا مكانهم في المدارس القرآنية وفي المساجد؛ نعلّمهم فضل حفظ القرآن وتعلّمه، ونعلّمهم آداب المساجد وهيبتها، ونصحبهم معنا إلى بيوت الله ليصلّوا معنا ونحرص على أن يلتزموا آداب المساجد ويعرفوا قدرها ويحفظوا هيبتها.
ينبغي ألا يفارق همّ صلاح أبنائنا بالنا بالليل ولا بالنّهار.. ينبغي أن نقوم بالليل نبكي وندعو الله بصلاحهم، ونستعين بالله على تربيتهم وتقويمهم وإصلاحهم، فقلوبهم وأرواحهم بيد الله سبحانه، وهو لا يخيّب أُمًّا دعته بحرقة أن يصلح لها أبناءها، ولا يردّ دعاء أب ألحّ على مولاه في أن يهدي أبناءه.. هذا الفضيل بن عياض، العبد الصّالح، رحمه الله، كان يجتهد في إصلاح أبنائه وتربيتهم، ويدعو الله لهم، وحينما صعب عليه تقويم أحدهم، دعا الله بكلّ خشوع وقال: “اللهم إني عجزتُ عن إصلاح ولدي فأصلحه لي”. فمازال يدعو الله بهذا الدّعاء حتى أصلح الله ولده.
صلاح أبنائنا مشروع عُمُر، وليس وظيفة ساعة أو يوم أو عام.. ينبغي للرّجل المسلم أن يبدأ الحرص على صلاح أبنائه باختيار أمّهم امرأة صاحبة خلق ودين، تملك هدفا ساميا في هذه الحياة؛ أمًّا تحمل همّ الآخرة، وليست من نساء الدّنيا اللاتي يعبدن المظاهر.. يحرص على صلاح ذريته من أوّل يوم يدخل فيه على زوجته، فيصلّي ثمّ يدعو الله قائلا: “اللهمّ جنّبنا الشّيطان وجنّب الشّيطان ما رزقتنا”.. وتحرص الأمّ وهي حامل بولدها على أن تقرأ القرآن بالليل والنّهار حتّى يأنس به ولدها في رحمها.. فإذا خرج إلى الدّنيا حرص أبوه على أن يؤذّن في أذنه، ليكون أوّلَ ما يسمع في هذه الدّنيا نداءُ الحقّ.. ودعا الله أن يرزقه برّه وصلاحه، وتظلّ الأمّ تتعاهد وليدها بتلاوة القرآن بجانبه، حتّى يكبر ويترعرع على صوت القرآن، إلى أن يبدأ تعليمَه بالقرآن، ويظلّ حبله ممدودا مع القرآن في كلّ المراحل الدراسية، والوالدان في كلّ هذا المسار يدعوان الله باللّيل والنّهار أن يصلحه ويثبّته على الطّاعة، وهما يستحضران حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “ثلاث دعوات يستجاب لهن لا شك فيهن”، وذكر منها: “دعوة الوالد لولده”.
سلطان بركاني
2022/06/06