كیف نتذكر ولماذا ننسی؟ (النظریات والاسس البیولوجیة)
أتذكر الخضروات في حديقة امي عندما كنت صغيرا, نباتات الذرة كانت طويلة كالعمارات والابنية. اتذكر عندما كنت اسقط من الشجرة ويعدو جميع الحاضرين في حفلة الشواء التي يقيمها جارنا للتأكد من سلامتي وعدم وجود كسور, أتذكر وأتذكر وأتذكر….
(تذكر یتذكر ذكری ذاكرة) الفعل ذاته يعد شاعريا ويحمل معاني كثيرا فهو يحمل انطباع التجربة اولا واخرا ویربطنا بالكثیر من المعاني. ان فكرة الذاكرة مثيرة للفضول لاسيما مع اننا أتينا مع الكثير من الاستعارات من اجلها اكثر من حاجتنا للتعبير عن اي ظاهرة في ذهن الانسان.
النظريات الاولى خمنت ان الذاكرة هي نص ادبي مكتوب بواسطة الجسد لوصف التجارب السابقة. فرويد اشاع مفهوم الكبت والذكريات المكبوتة والتجارب المدفونة فيزيائيا في اعماق اللاوعي. اما التعريفات الحديثة فقد غلب عليها الطابع المعرفي والتشبيه برقميات اجهزة الكومبيوتر, والتي يعامل فيها دماغ الانسان معاملة القرص الصلد الذي يخزن التجرب في ملفات وحافظات الكترونية ولكن بنموذج بايولوجي, والذاكرة في الحقيقة اروع واجمل من جميع هذه الاوصاف. مبدئيا تمثل الذاكرة مقياس التغير فينا. في عاداتنا وايديولوجياتنا وامالنا ومخاوفنا التي تتأثر كلها بما نتذكره عن ماضينا. والذي يعزى بأبسط صوره الى الروابط بين الخلايا العصبية لأذهاننا والتي تتغير وتنعكس على الدماغ في كل تجربة نخوضها.
إن هذه المكونات التي تشكل ذاكرتنا تعكس تاريخنا كسلسلة من الجبال والتضاريس الجيولوجية كما انها تمثل منحنى التغيير في هوياتنا وشخصياتنا والتي من الممكن ان تعكس هوياتنا المستقبلية. كما ان فهم الذاكرة يؤدي الى فهم دور التجارب التي نخوضها في تشكيل حياتنا, هذه السلسلة من المقالات ستوضح كيف يمكن للتجارب ان تصبح ذكريات وستوضح فيما اذا كانت الطريقة التي نتبعها في تكوين وخزن الذكريات تؤثر في طريقة تعلمنا ام لا وبعد ان تم شرح التصنیف الاول للذاكرة كذاكرة طویلة الامد وقصیرة الامد سیتناول هذا الجزء من السلسلة الذاكرة المعلنة وغیر المعلنة وهو التصنیف الاقرب بیولوجیا لذاكرة الانسان.
الذاكرة المعلنة وغير المعلنة Declarative and non-Declarative memory
لقد تم توضيح الذاكرة الطويلة والقصيرة الامد في المقال السابق وهناك طريقة اخرى في تصنيف ذاكرة الانسان بواسطة تقسيم الذاكرة الى جزئين يتضمن الاول كيفية القيام بالاشياء مثل امساك كرة السلة او قيادة الدراجة او ارتداء الملابس فيما يصنف ضمن الذاكرة غير المعلنة لأن الانسان يقوم بهذه الاشياء بشكل اوتوماتيكي دون وعي او تفكير بكيف تم تعلم هذه الاشياء. والجزء الثاني هو الذكريات المعلنة وهي الحقائق والاحداث التي يمكن ان نستدعيها في وعينا وان نصفها فعليا.
إن تصنيف الذاكرة الى وقتية وفعلية يعد منطقيا من وجهة النظر البيولوجية والسريریة, فالمرضى المصابين بأنواع فقدان الذاكرة المختلفة غالبا ما تكون لديهم صعوبات في تذكر احد هذين الجانبين كما ان العلماء اكتشفوا ان كل تركيب في الدماغ مختص بالعمل على نوع معين من الذاكرة وفق هذا التصنیف مما يدل على ان تصنيفات الذاكرة هذه ليست موضوعا للحوار فقط وانما لها اسس بايولوجية متينة حول كيفية تذكر الانسان للاشياء وكيفية تمثيل الذكريات في الاجزاء المختلفة من الدماغ.
كيف نصنع الذكريات
الحواسيب الحديثة ترمز المعلومات بمصفوفات ضخمة من البيانات الرقمية التي يمكن الوصول اليها عشوائيا (randomly accessible) وهذا يعني ان الحاسوب من الممكن ان يجلب رقم الهاتف الخاص بصديقك دون ان يجلب اي معلومات اخرى عن صديق مثل (كيف يبدو؟) او (كيف التقيت به للمرة الاولى؟). بينما يخزن دماغ الانسان المعلومات بشكل مختلف, فاستعادة رقم الهاتف الخاص بصديقك لها طريقة مختلفة ترتبط بتذكر وجه الصديق او بتذكر محاورة لطيفة معه او فيلم معين قمت بمشاهدته معه, إذا فمعلومات الانسان مترابطة مع بعضها بخلاف معلومات الحاسوب البسيطة والمنفصلة عن بعضها. معلوماتنا غنية لأنها تتشكل من خلال العلاقات, عندما نختبر حدثا معينا فإن ادمغتنا تربط المشاهد والروائح والاصوات والانطباعات سوية بعلاقة واحدة, وهذه العلاقة تمثل ذاكرتنا حول هذا الحدث. بخلاف ذكريات الحاسوب, فإن ذاكرة الانسان ليست شيئا منفصلا او موجودا في مكان معين, و من الممكن ان تكون علاقة مجردة بين افكار تظهر من النشاط العصبي المنتشر في عموم الدماغ. (تفسر علائقية ذاكرة الانسان وكثرة الارتباطات المتكونة بين الحواس المختلفة مدى الذكريات التي نستعيدها عندما نشم عطرا كنا قد استخدمناه منذ امد بعيد حتى كأننا عدنا الى تلك اللحظة, او ما نشعر به حين نسمع الاغاني المفضلة التي تعيدنا غالبا الى ذكريات جميلة كما تفسر هذه الصفة في ذاكرة الانسان جودة حفظ الطالب عندما يقوم بإستخدام اكثر من حاسة واحدة في الحفظ كالسماع ومشاهدة الصور وقراءة الموضوع وأيضا تفسر صعوبة القراءة في اليوم الذي يسبق الامتحان ذلك لصعوبة ربط الكم الكبير من المعلومات بذكريات كافية لإستعادته في حين ان الشخص الذي قرأ المواضيع بشكل موزع منتظم على فترات زمنية طويلة يستطيع ان يقرن ما يحفظه بصور وتجارب معينة تجعله يتذكره بشكل افضل فيما بعد). ولكن كيف تتكون هذه العلاقة؟ وفق وجهتي النظر السلوكية والبيولوجية فإن العملية معتمدة على تعزيز الذاكرة, تعزيزها بتكرار فعل معين او بتمرين معين, نحن نتذكر ان واحد زائد واحد يساوي اثنين لاننا نسمعها بكثرة, التعزيز يمكن ان يحدث خلال الاثارة الشعورية, اكثر الاشخاص يتذكرون انهم سمعوا بمقتل جون كندي لان ذلك مرتبط بمحتوى شعوري يحيط بالحدث, المشاعر من الممكن ان تنتج من الانتباه ايضا, إذا فالذكريات تتعزز وتتقوى باعطاء الانتباه والتركيز والوعي في محاولة تذكر ما حدث.