بسم الله الرحمن الرحيم
التوسل الشرعي والبدعي والشركي (بحث علمي)
تم فيه سرد أدلة كل فريق ومناقشتها
التوسل والاستشفاع معنيان مترادفان فمن طلب الوسيلة فقد استشفع، ومن استشفع فقد طلب الوسيلة، لذلك سواء قلنا عنها توسل أو استشفاع فلا فرق، إذ المعنيان متقاربان، وكلاهما يستلزم الأخر ويدل عليه.
فهل التوسل حكمه واحد بأي شكل وأي صورة، أم أن هناك فروقاً بينتها الشريعة الإسلامية ؟
الجواب: بل هناك فروق واضحة جليّة لا تخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، ذلك أن التوسل مرتبط بالتوحيد ارتباطاً وثيقاً، وفرع منه، والله عز وجل ما بعث الأنبياء ولا أرسل الرسل إلا من أجل التوحيد، ولذلك بيّنه الله خير بيان، في كتابه وسنة نبيه، فمن قرأ القرآن فقد قامت عليه الحجة، ومن قرأ السنة ازدادت الحجة عليه قياماً، فمن وقع في الشرك الأكبر لا عذر له، وهو في الأخرة من الخاسرين.
وواعجبي من أقوام ينهون عن التوسل الشركي، فيتهافتون عليه تهافت الفراش على النار، عناداً واستكباراً عن قبول الحق، وتعصباً للمشايخ والهوى والرأي، فلا ينتهون حتى يرو العذاب الأليم.
فالتوسل - وهو الاستشفاع - منه شرعي مباح، ومنه مختلف فيه فمن مجيز ومن قائل ببدعته، ومنه شرك أكبر، من وقع فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
فأما التوسل الشرعي، والتوسل البدعي فالدعاء في كلتا الحالتين موجّه إلى الله تعالى، ولكن مع اختلاف يسير في الكيفية، وصيغته: "يا الله"
فأما التوسل الشرعي المباح، فهو على ضربين:
الأول: أن يتوسل العبد بدعاء رجل يظنّ فيه الخير والصلاح، والقبول عند الله تعالى، أو يتوجه إلى الله به،
فيأتي إلى هذا الشخص ويقول له بلسان المقال: "أريدك أن تدعو الله لي بكذا وكذا" وتسمي حاجتك، فيقوم هذا الشخص فيدعو الله لك بما أردت ويرجو أن يتقبل الله منه دعاءه، فأنت طلبت من هذا الشخص أن يدعو الله لك، ولكنك لم تدعه هو من دون الله، بل طلبت منه أن يدعو لك الله.
والدليل : قول الفاروق عمر رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يَأْتِي علَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ، فَاسْتَغْفِرْ لي"، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا ، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا ، قَالَ : فَيُسْقَوْنَ
قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: وَفِي حَدِيث أبي صَالح: "فَلَمَّا صعد عمر وَمَعَهُ الْعَبَّاس الْمِنْبَر، قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: اللَّهُمَّ إِنَّا توجهنا إِلَيْك بعم نبيك وصنو أَبِيه فاسقنا الْغَيْث وَلَا تجعلنا من القانطين، ثمَّ قَالَ: قل يَا أَبَا الْفضل، فَقَالَ الْعَبَّاس: اللَّهُمَّ لم ينزل بلَاء إلاّ بذنب، وَلم يكْشف إلاّ بتوبة وَقد توجه بِي الْقَوْم إِلَيْك لمكاني من نبيك، وَهَذِه أَيْدِينَا إِلَيْك بِالذنُوبِ، ونواصينا بِالتَّوْبَةِ، فاسقنا الْغَيْث" اهـ
فيتضح من حديث أبي صالح، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إنما أراد بتوسله بالعباس أن يدعو لهم، لذلك قال للعباس: "قل يا أبا الفضل" أي: أدع لنا. فدعى لهم العباس رضي الله عنه، فسقاهم الله تعالى.
ويتضح من هذا الخبر ان الفاروق عمر لم يوجه الدعاء بالنبي ولا استغاث به ولو كان عذا مباحا او مندوبا اليه لما احتاج الى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وتوسل بدعائه إلى الله تعالى.
وعن ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل الصُّفة، قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سلني فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود، رواه مسلم
فربيعة هنا يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً، ولا يقدر على نفعه أو مضرته، كما قال تعالى في سورة الجن: ( قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) وقول النبي في الحديث الصحيح: "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنكي من الله شيئا" أي: أنني لا استطيع أن أعينكي إلا في ما يطيقه المخلوقون عادة من إعانة بعضهم بعضا من أمور الدنيا، فما لا يستطيعه أحاد الناس فإن الأنبياء فضلا عن الأولياء لا يقدرون عليه ولا يستطيعونه.
ويعلم الصحابي أن النبي لا يملك له إلا الدعاء، ونجد هذا البرهان ما ثلا أمامنا في خبر توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما، كما قدمنا، ولذلك سأله مرافقته في الجنّة والنبي حي يرزق، يدرك بذلك أن النبي سوف يقوم بالدعاء له ويرجو الله له أن يجعله رفيقاً له في الجنّة، فنجد النبي يقول له "أعني على نفسك بكثرة السجود" أي: أنني سوف أدعو لك، ولكن يجب أن تعينني أنت ايضاً على ذلك بكثرة الصلاة حتى يقبل الله دعائي لك.
والثاني: أن يتوسل إلى الله بأعماله الصالحة، فيقول: اللهم إني كنت فعلت كذا وكذا ابتغاء وجهك، فأجب دعائي، ويسأله ما شاء.
والدليل: عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخطَّابِ، رضيَ اللهُ عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرةٌ مِنَ الْجبلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا الله تعالى بصالح أَعْمَالكُمْ .. الحديث
وأما التوسل البدعي المختلف فيه، فأجازه بعضهم وبدعه أخرون، وهو على ضربين ايضاً:
الأول: أن تدعو الله تعالى، وتتوجه إليه بالأنبياء والصالحين، كأن تقول: "اللهم إني أتوجه إليك بنبيك أو بعم نبيك أو بفلان - وتسمي أحد من تعتقد فيهم الصلاح - أن تعطيني كذا وكذا أو تفعل كذا وكذا" فهذا الصنف اختلف فيه بين مجيز وغير مجيز، فأما من أجازه فاحتج بما يلي:
الحجة الأولى: خبر توسل الفاروق عمر بالعباس رضي الله عنه، وقد تقدم ذكره.
وقد رد غير المجيزين على هذه الحجة، بأن عمر إنما توسل بدعائه، فليس فيه دليل على جواز أن يدعو الداعي ويقول: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك أو بعم نبيك أو بفلان. ولو كانت هذه الصيغة جائزة، لقال عمر: "اللهم إنا نتوجه إليك بنبيك محمد" ولم يحتج أن يتوسل بالعباس.
والحجة الثانية: عن عثمان بن حنيف، أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك فقال : ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل :اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي عز وجل لتقضى لي حاجتي وتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال عثمان له ثم أتى عثمان بن عفان ، فجاء البواب فأخذه بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على الطنفسة فقال: ما حاجتك ، فذكر له حاجته فقضاها له ، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال له: ما كان لك حاجة فأتنا ، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت حتى كلّمته فيّ ، فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : أو تصبر فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي : ائت الميضئة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات ، قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط اهـ
وقد رد غير المجيزين على هذا الحديث بأنه لا يصح سنده.
فقد رواها الترمذي وابن ماجه وأحمد وابن خزيمة والحاكم والنسائي وعبد بن حميد بدون خبر عثمان بن حنيف مع الرجل الذي أراد الدخول على عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث جاء عندهم ما نصه عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ ، أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي ، فَقَالَ : إِنْ شِئْتَ أَخَّرْتَ ذَاكَ ، فَهُوَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ ، وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ اللَّهَ ؟ ، فَقَالَ : ادْعُهُ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ، يَا مُحَمَّدُ ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ فَتُقْضَى ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ. اهـ
فالرجل قال "يا محمد" ثم أردف قائلا: "فشفّعه فيّ" فظاهر قوله أنه إنما أراد أن يدعو له النبي، كما أن دعاء الأعمى موجّه إلى الله تعالى وليس للنبي محمد كما هو واضح من الخبر.
وأما رواية عثمان بن حنيف الأولى، والتي فيها ذكر خبر الرجل مع عثمان بن عفان، فقد رواها ابو نعيم في الحلية، والطبراني في المعجم الكبير، وفيه اسنادها شبيب بن سعيد، ضعيف، وقد صحح المحدثون روايت شبيب إذا كان يروي عن يونس بن زيد ويروي عنه ابنه أحمد، ولم يتوفر هذان الشرطان في هذه الرواية، فالراوي عن شبيب في هذا الخبر يدعى ابن وهب، وقد تكلم في روايته عنه، والذي روى عنه شبيب هذا الخبر ليس يونس بن زيد بل رواه مرة عن عمير بن يزيد ومرة عن روح بن القاسم، وقد رواه الحاكم من طريق عون بن عمارة البصري عن روح بن القاسم هذا به بدون ذكر القصة المزعومة، وعون هذا وإن كان ضعيفا فروايته أولى من رواية شبيب لموافقتها لرواية المحدثين الأثبات.
فالخبر الذي رواه الطبراني والأصبهاني ضعيف الإسناد، بسبب شبيب هذا، كما أنه منكر المتن، من حيث أنه لم يرو هذه القصة المطولة المزعومة أحد ممن روى حديث عثمان بن حنيف من المحدثين الثقات المشهورين.
ولو سلمنا بصحتها فهي لا تدل بتاتاً على مشروعية التوسل الشركي، وذلك أن من يجيز التوسل الشركي من الأشاعرة والماتريدية والصوفية والإباضية، يحتجون بخبر الأعمى وبخبر الرجل الذي أعرض عثمان بن عفان عن قضاء حاجته، على جواز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من دون الله تعالى، وهذا باطل، فالحديث لا ينص على أكثر من إباحة التوجه بالنبي على الله في حياته أو بعد مماته، فالدعاء في الحديث إلى الله تعالى، والتوجه بالنبي، أما الأشاعرة والماتريدية والصوفية والإباضية فيدعون النبي والولي من دون الله تعالى، ثم يزعمون أن هذا توسل واستشفاع جائز، ويحتجون على ذلك بخبر عثمان بن حنيف، وخبر عثمان بن حنيف كما قدمت ليس فيه أن الأعمى أو الرجل الذي أراد الدخول على عثمان دعو النبي من دون الله، فالأعمى دعا الله وتوسل إلى الله بالنبي ليقبل دعائه، والرجل الذي أعرض عثمان بن عفان عن قضاء حاجته، دعا الله وتوسل إليه بالنبي ليقبل دعائه فأين ما يحتج به هؤلاء من جواز دعاء النبي من دون الله تعالى!
والثاني من التوسل البدعي: هو دعاء الله عند قبور الصالحين، وادعاء أن قبور الصالحين موضع بركة، فيستحبون الدعاء عندها للبركة، اعتقادا منهم أن الدعاء عندها أحرى بالإجابة.
وليس عند المجيزين دليل صحيح يعتد به، وأما المعترضين، والقائلين ببدعيّته فاحتجوا بما يلي:
الأول: أن أعتقاد البركة في المخلوقات والبقاع أمر غيبي، لا يعرف إلا بنصّ شرعي، والنص لا يوجد، فإذا تبركنا بشيء من آثار النبي كشعره أو ثوبه أو بشره فلورود النص بذلك، كما أن النبي قد عرف باطنه وظاهره بنص القرآن، لذلك جاز التبرك به، وأما غيره، فإنك لا تدري ما حاله في السر، فقد يكون صالحاً في الظاهر، خبيثاً في الباطن، لذلك لا يصح أن تعتقد في شيخ أنه ولي أو صالح، وإنما تظن ظناً، وتكل سريرته إلى الله، وتقول: "لا نعلم عليه إلا خيرا ولا نزكي أحداً على الله" قال تعالى: (ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) إذا هذا الفعل بدعة.
والثاني: أن تحري الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين، جاء بخلاف الأحاديث التي وردت بالنهي عن تعظيم البقاع غير المساجد، فتعظيم موضع قبور الصالحين من تعظيم البقاع المنهي عنه.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم : - لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ, وَمَسْجِدِي هَذَا, وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
كما أنه وسيلة من وسائل الشرك، وبمثل هذا وقع الشرك في بني آدم عليه السلام.
وأما جميع الأخبار الواردة في استحباب دعاء الله عند قبور الأنبياء الصالحين فكلها موضوعة ومنها قولهم: "قبر معروف الترياق المجرب" ما وضعه إلا زنديق، ورواه من كان بالغباء والجهل خليق.
وكما تلاحظون فإن الدعاء في التوسل المشروع والتوسل البدعي موجّه إلى الله تعالى وحده لا شريك له، لذلك لا نجد حديثا واحداً أو اثراً واحداً عن النبي أو الصحابة أنهم كانوا يوجّهون دعائهم لغير الله تعالى، بل جميع دعائهم موجّه إلى الله تعالى، إلا خبراً مكذوباً لا حجة فيه يسخره المتصوفة والأشاعرة ليشرعنوا به ما ألفوه من الشرك بالله تعالى.
وأما التوسل الشركي هو أن يكون الدعاء موجّه إلى النبي أو الولي أو الملاك أو الجني أو حجر أو شجر أو اي مخلوق من دون الله تعالى، فبدل أن يقول الداعي "يا الله" تجده يقول: يا نبي الله يا علي يا حسين يا فاطمة يا بدوي يا دسوقي يا جيلاني يا خضر يا فلان ويا فلان، ثم تجده يدعوهم ويستغيث بهم ويستعين بهم ويستعيذ بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله.
وقد استدل من أجاز التوسل الشركي بعدة أخبار:
الأول: خبر عثمان بن حنيف السابق وقد بينا بطلان احتجاجهم به، فالرجل الأعمى والرجل الذي لم يقضي عثمان بن عفان حاجته، لم يدعوان النبي من دون الله، بل دعو الله عز وجل، وسألوا النبي أن يشفع لهم عند الله ليستجيب دعائهم، وقصار ما في هذا الخبر، هو جواز التوجه بالنبي إلى الله تعالى عند دعاء الله تعالى، سواء كان النبي حياً أو ميّتاً، وفي كلتا الحالتين ليس فيه دلالة على مشروعية دعاء النبي فضلاً عن الولي من دون الله تعالى.
والثاني: خبر مالك الدار فعن أبي صالح عن مالك الدار عن مالك الدّار مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :" أصاب النّاس قحط في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا نبي الله استسق الله لأمّتك. فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ائت عمر، فأقرئه السّلام، وقل له : إنّكم مُسْقَوْن، فعليك بالكَيّس، الكيّس، قال : فبكى عمر، وقال : يا ربّي ما آلو إلاّ ما عجزت عنه".
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنّف، والبخاري في التاريخ الكبير مختصرا، والخليلي في الإرشاد.
وهذا الخبر لا يسلم سنده من علة:
العلة الأولى: جهالة حال مالك الدار، وقول الخليلي في الإرشاد بأنه تابعي أثنى عليه التابعون، فيه نظر فمن الذي أثنى عليه ؟! فالخليلي توفي سنة ست وأربعين وأربعمائة، ولم يذكر من أثنى عليه! وبالتالي فمالك الدار غير معلوم العدالة والضبط وهذان شرطان أساسيان في قبول روايته.
والعلة الثانية: أن الخبر على الأرجح مرسل، ولم يصله سوى الخليلي في الإرشاد، ولكنه قال بعد ذلك: "يُقَالُ : إِنَّ أَبَا صَالِحٍ سَمَّعَ مَالِكَ الدَّارِ هَذَا الْحَدِيثَ , وَالْبَاقُونَ أَرْسَلُوهُ" ويقال صيغة تمريض فالخبر مشكوك في اتصاله والأثبت أنه مرسل، لأن الأكثرية أرسلوه.
ولو سلمنا بصحة هذا الخبر، فهل رأيتم الرجل يدعو النبي ويقول يا رسول الله اسقنا يا رسول الله ارزقنا يا رسول الله اعفوا عنا يا رسول الله اغفر لنا يا رسول الله ادخلنا الجنة؟ أم قال: "يا نبي الله استسق الله لأمتك" ؟
فليس في هذا الخبر دليل على جواز دعاء النبي من دون الله تعالى، بل فيه دلالة على أنه كما أنه يجوز أن نسأل من النبي أن يدعو لنا وهو حي يجوز أن نسأل منه أن يدعو لنا بعد موته، هذا كل ما يفيده الخبر، وهو بخلاف ما يقوم به الأشاعرة والماتريدية والصوفية والإباضية والرافضة الذين يدعون النبي من دون الله تعالى، فشتان بين من يسأل من النبي أن يدعو الله له، وبين من يدعو النبي من دون الله تعالى.
والثالث: ما روي من أن أن قدم عبدالله بن عمر بن الخطاب خدرت، فقال له رجل: أذكر أحب الناس إليك، أو أدع، بمعنى أذكر، فقال ابن عمر: محمد، وفي رواية: يا محمد، فذهب ما يجد من الخدر في قدمه. رواه البخاري في الأدب المفرد وغيره.
والجواب: أنه مع ضعيف سند هذا الحديث، إلا أن قصار ما في هذا الحديث أن الرجل إذا ذكر أحب الناس إليه، هدئت نفسه، وارتخت أعصابه، فيذهب ما يجد من الخدر في جسمه.
ومما يدل على ذلك، أن الرجل قال: أذكر أحب الناس إليك، ولم يحدد شخصا بعينه، فقد يكون أحب الناس إليه أمه، أو أباه، أو ولده، وقد لا يكون من الأولياء الصالحين في شيء، كما أن من أشار إلى عبدالله بن عمر بذلك ليس نبيا ولا صحابيا، بل هو تابعي، مما يدل على أنه لم يكن مراد عبدالله بن عمر عندما قال محمد أو يا محمد الأستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والرابع: ما ذكره ابن كثير الدمشقي في تاريخه البداية والنهاية في ذكر وقعة بني حنيفة حيث قال: "وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع، ثم وقف بين الصفين ودعا البراز وقال: أنا ابن الوليد العود، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه" اهـ
والجواب: أن هذا الخبر باطل، ليس له سند يعرف، والثابت أن شعار المسلمين في حرويهم: يا منصور أمت. يتفائلون بالنصر، أي: أيه المنصور بإذن الله اجتهد في القتال حتى الموت.
ثم لو صحت أيضاً لم تكن دليلاً لهؤلاء، لأن هذا مجرد شعار يتعارف به المسلمون به في معمعة الحرب، لكي لا يقتل بعضهم بعضاً، ويستحث به بعضهم بعضاً، وليس بمعنى الاستغاثة بل معناه: يا أنصار النبي محمد جدّوا في الحرب بقدر وسعكم، ومثل هذا معروف عند العرب في الجاهلية، وبعد الإسلام، حيث كانت القبائل العربية في حروبها تعتزي بأسلافها، لكي يعرف بنو القبيلة بعضهم، فلا يقتل بعضهم بعضاً، كما يستخدمونه في استحثاث قومهم، وتشجيهم، على الضراوة في الحرب، قال الأخطل في وقعة جرت بين تغلب وقيس عيلان:
تركوا عميراً والرماح ينشنه .. يدعو وقد حمي الوغى منصورا
أي: يدعوا قومه بني منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان، وهو جدّ قبائل سليم ومازن وهوازن. وكان شعارهم في الحرب: يا منصور، يعتزّون بجدهم الذي ينسبون إليه، لا انهم كانوا يستغيثون بجدهم منصور!
والخامس: احتجوا بحديث الشفاعة الكبرى، عندما يتوجه الناس يوم القيامة إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم عيسى ثم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والجواب: أن الناس عندما يهرعون إلى الأنبياء في ذلك الوقت، يكون النبي صلى الله عليه وسلم حياً حياة كاملة، ويسمع ويبصر وقادر على أن يشفع، فتوافرت فيه شروط الاستغاثة والاستعانة والاستعاذة الجائزة.
وعلى كل فكل دليل يطرحه هؤلاء القوم، إما ضعيف سنداً ولا حجة فيه، أو أنه لا يدل على جواز ما يقومون به من الشرك والإلحاد والعياذ بالله، إنما يقدمونه للجهلة ليشرعنوا به باطلهم، وهم يزعمون أنهم لا يحتجون إلا بالصحيح من الأخبار، ولكن هذا مجرد كلام فارغ، فلا يصح عندهم إلا ما وافق أهوائهم وإن كان موضوعاً، والضعيف والموضوع عندهم ما خالف أهوائهم وإن كان مسلسل بالثقات، نعوذ بالله من الضلال.
وقد علم بالعقل والفطرة والنقل أن السعادة والشقاء والرزق والنصر والهزيمة والصحة والمرض والحياة والموت والجنة والنار أشياء لا يملكها ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل
فلا يهب بالسعادة والغنى والولد والنصر والصحة والحياة والجنة إلا الله وحده لا شريك له لا شريك له في ذلك لا نبي ولا ولي ولا ملك ولا أي شيء.
ولا يدفع الشقاء والفقر والعقم والهزيمة والمرض ولا يميت ولا ينجي من النار إلا الله وحده لا شريك له.
بل حتى فيما يقدر عليه البشر من أمور الدنيا التي أقدرهم الله عليها يجب عليك أن تؤمن بأنه بدون إعانة الله فإن الإنسان عاجز عن أن يقوم بأي شيء
فأجاز الله تعالى أن يستعين ويستعيذ ويستغيث البشر بعضهم ببعض في ما أقدرهم عليه فقط من أمور الدنيا، وأما ما عدا ذلك فإن الإنسان يعرض نفسه للهلاك والوقع في الشرك، فعليه أن يحذر.
ولذلك قال أهل العلم حقا وصدقا أنه لا يجوز لأحد أن يستغيث ويستعيذ ويستعين بمخلوق إلا إذا توفرت فيه ثلاث شروط:
1- أن يكون حيا لا ميتا
2- وأن يكون حاضراً لا غائباً
3- أن يكون في ما يقدر عليه المخلوقون عادة من أمور الدنيا
فمن دعا ميتاً أو غائباً أو دعا أحداً من خلق الله في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله والتي بيناها سابقاً، وظن أنه قادر على إجابته فقد ساوى بينه وبين قدرة الله، أو زعم أن الله أشركه معه في ربوبيته أو ألوهيته، فوقع في الشرك الأكبر.
فهذا النوع من التوسل والاستشفاع هو الذي وقع فيه مشركوا قريش قبل الإسلام.
ومن سأل غير الله في هذه الاشياء فقد أشرك الشرك الأكبر، لأنه ساوى بين قدرة الله وقدرة هذا المخلوق، أو زعم من حيث يشعر أو لا يشعر أن الله أشرك هذا المخلوق معه في ربوبيته أو ألوهيته.
وقد قال الله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) وغيرها من الآيات المتكاثرة التي تدعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له (انظرها في كتابي التوحيد)
وقد يقولون: نحن نعتقد أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده وأن الملك والخلق لله وحده، ولكن هؤلاء لما لهم من وجاهة ومكانة عند الله ندعوهم، فيدعون الله لنا، فيستجيب لهم فينا.
والجواب على ذلك: أن هذا هو عين شرك مشركي قريش في الجاهلية، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) وقال تعالى: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى)
ولكن هؤلاء القوم لديهم حيل ومخاريق، يلبسون بها على الناس، فيقولون: إنما أنكر الله على مشركي قريش لأنهم اتخذوهم آلهة، أو لأنهم وصفوهم بالربوبية، ونحن لا نقول بأنهم أرباب من دون الله، ثم ابتدعوا قاعدة لم يسبقهم إليها أحد، وهو أن عبادة غير الله لا تكون عبادة بل يقول بعضهم لا يشتبه بالعبادة اصلا إلا إذا اقترن معه اعتقاد النفع والضر والربوبية في المعبود والمدعو من دون الله تعالى!!
والجواب على ذلك من وجوه:
أولها: أن هذه شروط باطلة ، وضعوها لتلبيس لا أكثر، وإلا فاين يجدون في كتاب الله تعالى أن من شرط النهي عن دعاء غير الله تعالى عدم اعتقاد الربوبية أو الألوهية في غير الله تعالى!
فهؤلاء كمن يقول: أن الله أرسل النبي وأنزل الكتاب ليقول لأبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف لا بأس أن تدعو غير الله من ملاك أو جني أو وثن ولكن لا تقولوا عنه أنه رب أو إله!!
وهذا كلام لا يقول به إلا أسخف الناس عقلا وأسقمهم فهماً لأنه جعل الدين قشوراً بلا لب وعنواناً بلا مضمون. وخالفوا صريح الكتاب والسنة ببهرجة من القول يلبسون بها من أعمى الله بصيرته .
وثانيها: أن مجرد دعائكم لهم هو عبادة منكم لهم! واتخذا منكم لهم أرباباً وألهةً من دون الله تعالى، والدليل على ذلك قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) قال عدي بن حاتم الطائي: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه, ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم! فوصف الله اليهود النصارى بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله تعالى، وأنهم عبدوهم من دون الله، مع أنهم لم يصفوهم بالربوبية مطلقاً، ولا قالوا بأنهم آلهة تعبد، فكان مجرد العمل، كاف في اتخاذهم لهم أرباباً وألهة تعبد!!
ومن تحايل هؤلاء في شرعنة باطلهم، أنهم يأخذون أحاديث التوسل المشروع والتوسل البدعي، ويحتجون بها على جواز التوسل الشركي، وهذا من أعجب العجب!!
فيا عباد الله، الله الله في أنفسكم والله إن العبد الذي يبتغي مرضات الله ليجد الأمر فيه شبه فيجتنبه فكيف وهذا الأمر هو الشرك الأكبر الذي بسببه سوف تخلد في النار أليس أحق بأن تبتعد عنه وتتجافاه !!
والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله واصحابه ومن أتبع سنته إلى يوم الدين.