الخلاف في رضاع الكبير هل يحرِّم أو لا؟
السؤال
هل يجوز إرضاع الكبير غير المحرم ؟ وكيف مع أن المصافحة أو حتى النظر حرام ؟
وما معنى هذا الحديث سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول لعائشة : والله ! ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة . فقالت : لم ؟
قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت : يا رسول الله ! والله ! إني لا أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم قالت :
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرضعيه" فقالت : إنه ذو لحية .
فقال "أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة " . هل هذه كانت حالة خاصة بسالم ؟
سمعت أن بعض العلماء قالوا إنها حلبت له في إناء, ولكن الرضاع معناه التقام الثدي ومما يؤيد ذلك أنها استغربت الأمر فقالت إنه ذو لحية .
الجواب
الحمد لله
أولا :
الرضاع المحرِّم لا يتوقف على مص اللبن من الثدي ، بل لو وضع في إناء وشرب منه الطفل ، كان ذلك رضاعا معتبرا في قول جمهور العلماء .
قال ابن قدامة رحمه الله :
" قال الشافعي :
( والسَّعُوط كالرضاع , وكذلك الوَجُور ) .
معنى السعوط : أن يصب اللبن في أنفه من إناء أو غيره . والوجور : أن يصب في حلقه صبا من غير الثدي
. واختلفت الرواية في التحريم بهما , فأصح الروايتين أن التحريم يثبت بذلك , كما يثبت بالرضاع .
وهو قول الشعبي والثوري , وأصحاب الرأي . وبه قال مالك في الوجور .
والثانية : لا يثبت بهما التحريم . وهو اختيار أبي بكر , ومذهب داود وقول عطاء الخراساني في السعوط ; لأن هذا ليس برضاع , وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع .
ويدل على ثبوت التحريم بهما ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لا رضاع إلا ما أنشز العظم , وأنبت اللحم) رواه أبو داود
. ولأن هذا يصل به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع , ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع , فيجب أن يساويه في التحريم "
انتهى من "المغني" (8/139) بتصرف .
وقال في "الكافي" (5/65) :
" إذا حلبت في إناء دفعة واحدة ، أو في دفعات ، ثم سقته صبيا في خمسة أوقات
فهو خمس رضعات ، وإن سقته في وقت واحد ، فهو رضعة واحدة ، لأن الاعتبار بشرب الصبي ، فإن التحريم يثبت به ، فاعتبر تفرقه واجتماعه " انتهى .
ثانيا :
لا يثبت التحريم برضاع الكبير ، في قول جمهور الفقهاء
وإنما الرضاع المعتبر ما كان في الحولين .
وقد روى الترمذي (1072) وابن ماجه (1936) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرِّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ )
قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا تُحَرِّمُ إِلَّا مَا كَانَ دُونَ الْحَوْلَيْنِ
وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا . والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي .
وروى البخاري (2453) ومسلم (1455) عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ قَالَ : يَا عَائِشَةُ ، مَنْ هَذَا ؟
قُلْتُ : أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ . قَالَ : ( يَا عَائِشَةُ ، انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ ) .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح :
" وَالْمَعْنَى : تَأَمَّلْن مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ هَلْ هُوَ رَضَاع صَحِيح بِشَرْطِهِ : مِنْ وُقُوعه فِي زَمَن الرَّضَاعَة , وَمِقْدَار الِارْتِضَاع ، فَإِنَّ الْحُكْم الَّذِي يَنْشَأ مِنْ الرَّضَاع إِنَّمَا يَكُون إِذَا وَقَعَ الرَّضَاع الْمُشْتَرَط .
قَالَ الْمُهَلَّب : مَعْنَاهُ : اُنْظُرْنَ مَا سَبَب هَذِهِ الْأُخُوَّة , فَإِنَّ حُرْمَة الرَّضَاع إِنَّمَا هِيَ فِي الصِّغَر حَتَّى تَسُدّ الرَّضَاعَة الْمَجَاعَة .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد
: مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي جَاعَ كَانَ طَعَامه الَّذِي يُشْبِعهُ اللَّبَن مِنْ الرَّضَاع لَا حَيْثُ يَكُون الْغِذَاء بِغَيْرِ الرَّضَاع .
قَوْله ( فَإِنَّمَا الرَّضَاعَة مِنْ الْمَجَاعَة ) فِيهِ تَعْلِيل الْبَاعِث عَلَى إِمْعَان النَّظَر وَالْفِكْر , لِأَنَّ الرَّضَاعَة تُثْبِت النَّسَب وَتَجْعَل الرَّضِيع مُحَرَّمًا
. وَقَوْله " مِنْ الْمَجَاعَة " أَيْ الرَّضَاعَة الَّتِي تَثْبُت بِهَا الْحُرْمَة وَتَحِلّ بِهَا الْخَلْوَة هِيَ حَيْثُ يَكُون الرَّضِيع طِفْلًا لِسَدِّ اللَّبَن جَوْعَته , لِأَنَّ مَعِدَته ضَعِيفَة يَكْفِيهَا اللَّبَن ، وَيَنْبُت بِذَلِكَ لَحْمه فَيَصِير كَجُزْءٍ مِنْ الْمُرْضِعَة
فَيَشْتَرِك فِي الْحُرْمَة مَعَ أَوْلَادهَا , فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا رَضَاعَة مُعْتَبَرَة إِلَّا الْمُغْنِيَة عَنْ الْمَجَاعَة ، أَوْ الْمُطْعِمَة مِنْ الْمَجَاعَة " انتهى .
وقد جاءت آثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على أن رضاع الكبير لا يؤثر ، فمن ذلك:
1- ما جاء عن أبي عطية الوادعي قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : إنها كانت معي امرأتي فحُصر لبنها في ثديها فجعلت أمصه ثم أمجُّه فأتيت أبا موسى فسألته
فقال : حرمت عليك . قال : فقام وقمنا معه حتى انتهى إلى أبي موسى فقال : ما أفتيت هذا ؟
فأخبره بالذي أفتاه فقال ابن مسعود ، وأخذ بيد الرجل : أرضيعاً ترى هذا ؟ إنما الرضاع ما أنبت اللحم والدم ، فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحَبْر بين أظهركم .
رواه عبد الرزاق في المصنف (7/463 رقم13895) .
ورواه أبو داود (2059) عن ابن مسعود بلفظ : (لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم . فقال أبو موسى : لا تسألونا وهذا الحَبْر فيكم) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
2- وروى مالك في الموطأ (2/603) عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه قال : (لا رضاعة إلا لمن أُرضع في الصغر ، ولا رضاعة لكبير) .
3- وروى مالك أيضا في الموطأ عن عبد الله بن دينار أنه قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا معه عند دار القضاء يسأله عن رضاعة الكبير
فقال عبد الله بن عمر : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : إني لي وليدة [جارية] وكنت أطؤها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها ، فدخلت عليها فقالت : دونك
فقد والله أرضعتها . فقال عمر : أوْجِعْها وأْتِ جاريتك ، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير . وإسناده صحيح
.
ولهذا قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (8/142) :
"من شرط تحريم الرضاع أن يكون في الحولين . وهذا قول أكثر أهل العلم , روي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة .
وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة وإليه ذهب الشعبي وابن شبرمة والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور ورواية عن مالك وروي عنه : إن زاد شهرا جاز , وروي شهران .
وقال أبو حنيفة : يحرم الرضاع في ثلاثين شهرا ; لقوله سبحانه : (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) . ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء ; لأنه يكون سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال .
وقال زفر : مدة الرضاع ثلاث سنين .
وكانت عائشة ترى رضاعة الكبير تحرِّم . ويروى هذا عن عطاء والليث , وداود " انتهى .
وقد ذهب إلى القول الآخر ، وهو تأثير الرضاعة في الكبر : عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، وروي عن علي رضي الله عنه وفي إسناده ضعف . ونسبه الطبري إلى : عبد الله بن الزبير رضي الله عنه
والقاسم بن محمد وعروة . وهو قول عطاء والليث بن سعد وابن حزم ، وينسب إلى داود الظاهري أيضا ، ومال إليه ابن المواز من المالكية .
انظر : "فتح الباري" (9/148) .