قال الشيخ عبيد الجابري حفظه الله في تنبيه ذوي العقول السليمة إلى فوائد مستنبطة من الستة الأصول العظيمة:
المسألة الثانية: كيف ينصح المسلم ولاة الأمور
نقدم بين يدي هذه المسألة أمرين:
أولهما: تعريف النصيحة، فالنصيحة في اللغة مأخوذة من نصح الثوب أي أصلحه وخاطه فيشبه فعل الناصح مع المنصوح له بفعل من يصلح ثوبه ويسد خلله فالناصح يسد خللا في المنصوح وقيل مأخوذة من نصح العسل أو نصح العسل إذا صفاه من العوالق كالشمع وهنا وجه الشبه أن الناصح يحاول تصفية حال المنصوح برفق
وفي الاصطلاح : إرادة الخير للمنصوح بما يصلح حاله هذا هو الأمر الأول
الأمر الثاني : الذي يجب على كل مسلم معرفته وقبوله وعلى طلاب العلم خاصة الوقوف على السنة سواء كانت عبادة او معاملة فما وردت فيه سنة لا يسوغ للمسلم أن يستعمل فيه العقل بل يجب الوقوف عند السنة حتى المعاملات مادامت السنة واردة فيها فلا يسوغ للمسلم أن يجانب السنة ويطلب العقل
إذا الأمر الثاني هو وقوف عند السنة سوء أكانت في عبادة أو في معاملة لأن بعض الناس قد يقول هذه معاملات فالأصل في العبادة المنع إلا بنص والأصل في المعاملة الإباحة إلا بنص
ولكن نقول: إذا ورد في المعاملة فهل يجوز تجاوزه ؟ .. يعني هذا تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها ضل من ضل ووقع شطط في معاملة ولاة الأمور من المسلمين لأن القوم غلبوا العقل على النقل هذا من قديم من عهد الخوارج بقي الأن محور المسألة وهو كيف ينصح ولاة المسلمين ؟
أقول هذا الجانب أعني نصيحة ولاة الأمور هل الأمر فيه متروك لأجتهادتنا وعقولنا أم تولى بيانه الشارع ؟
وإذا كان الشارع الحكيم قد تولى ذلك فما بيانه؟ وكيف ينصح المسلم ولاة الأمور وفق الشرع؟
نقولك روى ابن أبي عاصم في السنة والإمام أحمد في مسنده وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: من كانت عنده نصيحة فلا يبدها علانية وليأخذ بيده وليخلو به فإن كان قد أدى الذي عليه"
فالحديث دلي على ثلاثة أمور:
أولا: السرية التامة في المناصحة للحاكم حتى عن أقرب الناس إليه إن أمكن.
ثانيا: براءة الذمة بمجرد النصيحة على هذا الوجه الذي تضمنه الحديث.
ثالثا: أنه لاتبعة على من لايقدر على النصيحة للحاكم سرا لأنه لاتكلف نفس إلا وسعها، ولأن هذا الطريق هو ماجاء عن الله على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلو رضي الله للعباد والبلاد غيره لجاء بيانه في الكتاب أو في صحيح السنة فكان لزاما على كل طالب للحق والهدى الوقوف على هذا النص.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله "ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله، وقد قدمنا في أول كتاب السير هذا أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح، والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
" اهـ
المسألة الثالثة: في في الشبهات التي يعرضها أهل الشطط، وهي كثيرة جدا، لكن نقول: هكذا غلب الهوى والاجتهاد الخاطيء يرد الناس إلا من رحم الله سنة صحيحة صريحة ويركبون البدع ويكون الضلال.
فمن االشبهات إنكار أبي سعيد الخدري رضي الله عنه على أمير المدينة مروان بن الحكم حين قدم خطبة العيد على الصلاة قالوا فجذبه، وهذا إنكار علني، نقول: هذه القصة في صحيح مسلم وغيره، ولفظ الحديث: عن أبي سعيد الخدري.
: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها وكان يقول تصدقوا تصدقوا تصدقوا وكان أكثر من يتصدق النساء ثم ينصرف فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم فخرجت مخاصرا مروان
حتى أتينا المصلى فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبرا من طين ولبن فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرني نحو المنبر وأنا أجره نحو الصلاة فلما رأيت ذلك منه قلت أين الابتداء بالصلاة ؟ فقال لا يا أبا سعيد قد ترك ما تعلم قلت كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم ( ثلاث مرار ثم انصرف )
قلت: لاشك في صحة الحديث كما ترى، كما أنه لاشك في ظهور إنكار أبي سعيد على أميرالمدينة مروان صنيعه في تقديم الخطبة على صلاة العيد، ولكن غفل القوم عن أمور في الحديث لو عقلوها لأراحتهم من تلك الشبهة، وهي:
أولا: مامعنى المخاصرة في قول أبي سعيد فخرجت مخاصرا مروان؟.
فالجواب: ماقاله ابن الأثير في النهاية (فخرج مخاصرا مروان) المخاصرة: أن يأخذ الرجل بيد رجل آخر يتماشيان ويد كل واحد منهما عند خصر صاحبه" اهـ.
ثانيا: أن عياض بن عبدالله بن سعد راوية أبي سعيد، قال:كما في إسناد مسلم عن أبي سعيد وهذا حكاية عن عياض لصنيع أبي سعيد مع مروان من قوله، أعني أن أبا سعيد حدثه تلك القصة.
ثالثا: اكتفى أبو سعيد بتنبيهه مروان إلى السنة وإنكاره عليه مخالفتها فقط، بل وصلى معه، ولم يتخذ من مخالفة مروان مجالا للتشهير والتهييج لعلمه أن ذلك مخالفة لسنة رسول الله عليه وعلى آله وسلم، أعني التشهير بنصح الولاة، ولأنه فهم من قول مروان كما جاء في بعض طرق الحديث( أن الناس لايجلسون لنا) أنه- أي: مروان- فعل ذلك اجتهادا منه، ولعل ماسقنا يظهر لك أمرين:
أحدهما: اتفاق صنيع أبي سعيد في هذا الحديث مع حديث ابن أبي عاصم المتقدم.
وثانيهما: أنه ليس من منهج السلف الانكار على الولاة على المنابر ولا في المحافل العامة، بل مشافهة وفي سرية تامة.
الشبهة الثانية: أن المنكرات قد تجاوزت حدها وصارت علانية، وهذه الشبهة جوابها من وجهين:
أولهما: أن يقال هل عندكم سنة تقول: إذا ظهرت المنكرات يجب إظهار النصيحة والتشهير؟ فالجواب: أنه لاتوجد سنة بذلك، بل السنة عامة بسرية النصيحة، وسوا كانت المنكرات ظاهرة أو خفية، كما في حديث ابن أبي عاصم المتقدم.
ثانيا: أليس الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبلغ عن ربه؟ بلى، إذن فلا تتجاوزوا السنة إن كنتم منصفين، يجب أن تسعكم السنة، وإلا كنتم ضالين مضلين عن الهدى مجانبين للصواب بركوبكم القياس العقلي ووقعتم في نهج الخوارج." اهـ كلام الشيخ عبيد
قال الشيخ الفوزان حفظه الله في فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة :
السؤال: ما هو المنهج الصحيح في المناصحة وخاصة مناصحة الحاكم أهو التشهير على المنابر بأفعالهم المنكرة؟ أم مناصحتهم بالسر؟ أرجو توضيح المنهج السلفي في هذه المسألة؟
الجواب: العصمة ليست لأحد إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - فالحكام بشر يخطئون ولا شك أن عندهم أخطاء و ليسوا معصومين، ولكن لا نتخذ أخطاءهم مجالا للتشهير بهم ونزع اليد من طاعتهم حتى وإن جاروا وإن ظلموا حتى وإن عصوا ما لم يرتكبوا كفرا بواحا، كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - و ان كان عندهم معاص وعندهم جور وظلم فإن الصبر على طاعتهم جمع للكلمة ووحدة المسلمين وحماية لبلاد المسلمين وفي مخالفتهم و منابذتهم مفاسد عظيمة أعظم من المنكر الذي هم عليه لأنه يحصل ما هو أشد من المنكر الذي يصدر منهم ما دام هذا المنكر دون الكفر و دون الشرك. و لا نقول إنه يسكت على ما يصدر من الحكام من أخطاء لا... بل تعالج ولكن تعالج بالطريقة السليمة بالمناصحة لهم سرا والكتابة لهم سرا و ليست بالكتابة التي تكتب بالإنترنت أو غيره و يوقّع عليها جمع كثير وتوزع على الناس فهذا لا يجوز لانه تشهير ، هذا مثل الكلام على المنابر بل أشد فان الكلام ممكن ان ينسى ولكن الكتابة تبقى و تتداولها الأيدي فليس هذا من الحق . قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة،الدين النصيحة ، الدين النصيحة. قلنا : لمن؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمةالمسلمين وعامتهم ). رواه مسلم وفي الحديث ( أن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا و أن تعتصموا بحبل الله جميعا وان تناصحوا من ولاه الله أمركم ) رواه ابن حبان في الصحيح و أولى من يقوم بالنصيحة لولاة الأمر هم: العلماء وأصحاب الرأي والمشورة أهل الحل والعقد، قال تعالى : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمرمنهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) النساء.
فليس كل أحد من الناس يصلح لهذا الأمر وليس الترويج للأخطاء والتشهير بها من النصيحة في شيء ولا هو من منهج السلف الصالح وان كان قصد صاحبها حسنا وطيبا وهو إنكار المنكر بزعمه لكن ما فعله أشد منكرا وقد يكون إنكار المنكر منكرا إذا كان على غير الطريقة التي شرعها الله و رسوله فهو منكر لأنه لم يتبع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم الشرعية التي رسمها حيث قال عليه الصلاة والسلام (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم وأحمد وأبو عوانه . فجعل الرسول الناس على ثلاثة أقسام :
منهم من يستطيع أن يزيل المنكر بيده وهو صاحب السلطة ولي الآمرأو من وكل إليه الأمر من الهيئات والأمراء والقادة .
وقسم ينكر المنكر بلسانه وهو من ليس له سلطه وعنده قدره على البيان .
و قسم ينكر المنكر بقلبه وهو من ليس له سلطه و ليس عنده قدره على البيان " اهـ كلام الشيخ الفوزان.