هل يجوز في الردود السخرية بأهل البدع والمستهزئين بالشرع والفسَّاق ؟
السؤال
دائماً يا شيخ - حفظك الله - إذا أخطأ شيخ فاضل ، أو طالب علم ، أو أحد من الناس ، وكان كلامه خطأ ، أو ظنّاً منَّا أنه أخطأ ، فنسمع المقولة الدائمة من أخطأ علناً نرد عليه علناً ، فهل ذلك صحيح
أرجو تبين المسألة بالتفصيل ؛ للإشكال فيها . والسؤال الثاني هو : هل يجوز لنا التكلم على أحد الفساق ، أو أحد الذين يكتبون في الصحف ويتكلمون في الدين ، فنرد عليه - مثلاً - بمقال ساخر يسخر منه في المنتديات
فالبعض قالوا لنا : إنها غيبة ، وردَّ عليهم بعض الإخوة بأنها تجوز من باب قوله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) ، وما جاء في تفسير " التحرير والتنوير " للطاهر بن عاشور : (
..أي : أن المُجازي يجازي من فَعَل معه فَعلةً تسوؤه بفعلة سيئة مثل فعلتِه في السوء ، وليس المراد بالسيئة هنا المعصية التي لا يرضاها الله ، فلا إشكال في إطلاق السيئة على الأذَى الذي يُلحق بالظالم )
. فيقولون : يجوز أن نلحق به الأذى بالسخرية من كتاباته ، وأن نستهزئ به ؛ لأنه يستهزئ بالإسلام ، وهو مسلم في الحقيقة ، والسخرية منه ، والتنقص : جزاء لسوء عباراته
وأما أن نؤذيه بالكلام بالضوابط الشرعية : فهذا جائز ( وليس واجباً أو مندوباً ) وإنما جائز ، وهناك نصوص توضح مثل هذا الأصل
ومنها قول الله تعالى : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِم ..) فما هو الحكم يا شيخ حفظك الله ونفع بك ؟
الجواب
الحمد لله
أولاً:
من المسلَّمات التي لا يختلف عليها العقلاء : أن الخطأ لا يسلم منه أحد ، لا الدعاة ، ولا العلماء ، ولا من دونهم , وهذه سنَّة الله في خلقه ، لا تتبدل .
ثانياً:
إن النصيحة من أعظم أخلاق هذا الدين العظيم ، كما جاء في حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ) قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : ( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ) رواه مسلم ( 55 ) .
والأصل في النصح : الرفق ، والستر :
أما الرفق : فهو أدعى لقبول الحق ، والتراجع عن الخطأ ، ففي الحديث عنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
( إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ ) رواه مسلم ( 2594 ) .
ومن أمثلته : ما جاء في الحديث عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِي فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَهْ ، مَهْ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لاَ تُزْرِمُوهُ ، دَعُوهُ ) ، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ :
( إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِي لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ) ،
قَالَ : فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ .
رواه البخاري ( 5679 ) ومسلم ( 285 ) .
وأما الستر : فلحديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ يَسْتُرُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه مسلم (2590) .
ومن أمثلة ذلك : ما جاء عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيءُ لَمْ يَقُلْ مَا بَالُ فُلاَنٍ يَقُولُ وَلَكِنْ يَقُولُ:( مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا ).
رواه أبو داود ( 4788 ) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
ومن كلام الشافعي - رحمه الله - :
تعمَّدني بنصحك في انفرادي
** وجنِّبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع
** من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي
** فلا تجزع إذا لم تعط طاعـه
ويستثنى من ذلك : المجاهر بالمعصية ، أو بدعة , والمصر عليها ، والداعي لها ,
ثالثاً:
السخرية بأقوال أهل البدع ، وأقوال المجاهرين بالمعصية ، والذين يتكلمون في الدين وأهله : مباحة , بشرط أن لا يُسخر من خِلقتهم
وأن تكون في " طور الرزانة والحق ، وألا يتخذها عادة وديدناً ، وألا يغلب هزله على جدِّه "
وقد يستدل لذلك بقوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ .
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ . وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ . فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) المطففين/ 29 – 34 .
قال الألوسي- رحمه الله - :
فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا ، فلا بد من المجانسة ، والمشاكلة حتماً .
" روح المعاني " ( 30 / 77 ) .
ويستدل لذلك – أيضاً – بقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ) المجادلة/ 20 .
قال الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني - حاكياً اعتقاد السلف أهل الحديث - :
واتفقـوا مع ذلك : على القول بقهر أهل البدع ، وإذلالهم ، وإخزائهم ، وإبعادهم ، وإقصائهم ، والتباعد منهم ، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم ، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ، ومهاجرتهم .
" عقيدة السلف وأصحاب الحديث " ( ص 123 ) .
والذين يسخرون من الإسلام وشعائره وأهله : يقعون في الكفر المخرج من الملة ، باتفاق أهل السنَّة ، وتسقط حرمتهم ، ويجوز معاملتهم بالمثل بالسخرية منهم
ومن بدعهم ، وضلالهم ، كما قال تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) البقرة/ 194 ، وقال تعالى ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) النحل/ 126 .
وأما الاستدلال بالآية الكريمة وهي قوله تعالى ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) الشورى/ 40 : فالاستدلال بها صحيح .
قال ابن الجوزي - رحمه الله - :
قوله تعالى : ( وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مِثْلُها ) قال مجاهد ، والسدِّي : هو جواب القبيح ، إذا قال له كلمة أجابه بمثْلها ، من غير أن يعتديَ .
" زاد المسير " ( 5 / 325 ) .
وهذا كله في المجاهر ، والمبتدع ، والمتربص بالدِّين وأهله , وأما المشايخ ، والدعاة ، وطلبة العلم : فقد تقدم الجواب على الأصول والضوابط في الرد عليهم ، وبيان أخطائهم
ومع أننا ذكرنا ما يدل على جواز السخرية بأقوال أهل البدع ، والمجاهرين بضلالهم ، والكائدين للإسلام وأهله بأقلامهم : إلا أننا نرى عدم فعل ذلك أثناء الرد عليهم
والاكتفاء بنقض أقوالهم ، وردها عليهم ، دون اللجوء إلى أسلوب السخرية والاستهزاء ؛ خشية من الوقوع في المحظور وعدم الالتزام بالضوابط الشرعية
وتنزيهاً لأقلام أهل السنَّة أن تكتب ما لا يعلم جوازه عامة أهل السنَّة ، فلا يعود فعل ذلك إلا بالضرر عليهم .
فخلاصة الجواب أنه يجوز السخرية بأولئك المحادين لله ورسوله ودينه ، والكمال في ترك ذلك ، والاكتفاء بالردود العلمية الرصينة ، خاصة إذا لم تكن مصلحة شرعية من تلك السخرية .
والله أعلم
.