الاقتداء بالسَّلف بتحقيق مقاصدهم وليس في محاكاة وسائلهم الظرفية
الشِّدَّة نموذجاً
بسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم أن الأمة الإسلامية أمة فَتيَّة، هي آخر الأمم؛ معدنها الأوَّل العرب لم يعرفوا ـ قبل الإسلام ـ البحث الفلسفي و النقاش الفكري، ولا تعدُّد التيارات الفكرية.
وجاءهم الإسلام بدين يخاطب العقل و الوجدان، متكامل من جميع النواحي، سدَّ كل حاجات البشر، فلم يقرع من قبل بال البشرية مثله، لغته بسيطة مباشرة ، يفهمها ـ آنذاك ـ الجاهل و المتعلِّم على حدٍّ سواء، أحدث تغيّيِرا جذريا في حياة العرب الفكرية و الاجتماعية و الاقتصادية، جعل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يدركون أنهم أمام شيء عظيم غير مسبوق، فنشأ لديهم اهتمام لا نظير له بضرورة نقله و تبلغيه إلى الناس بكل السبل الممكنة، لأنه رحمة لا يجب أن تحرم منها البشرية، مع ضرورة الحفاظ على نقائه و صفائه.
أخذ التابعون عنهم هذا الشعور و الاعتقاد، و بسبب البراءة من الخلفية الفلسفية، و عدم الإرث الثقافي الفكري المعتاد على النقاش و الاختلاف ،وربما لأنهم لم يقفوا عند السنن الكونية و الحقيقة القدرية التي أخبرت بها النصوص من ظهور الفرق و إتباع سنن السابقين، و التي بدت بوادرها في الواقع كاحتكاك العرب بالأمم السابقة، و احتياجهم إلى معارفهم المادية ، و انتقال الإسلام من وحي منزل لغته عامة إلى وحي مؤول لغته اصطلاحية خاصة بالعلماء بسبب ظهور العلوم الاصطلاحية و العجمة ، فنشأ عن ذلك الاختلاف حول معنى النص و تحديد المراد.
وهناكانت الصدمة لكل أولئك الذين كانوا مهمومين بالحفاظ على نقائه ، ذاهلين عن هذه السنن الكونية و المتغيرات فواجهوها بالشدَّة لأنها الأسهل وهم في موقع قوة و لأن الردع أوَّل طرق الرد، طمعاً في وقف زحف الأفكار البدعية الجديدة، فنهوا أوَّلا عن كتابة أي شيء غير الحديث النبوي، ثم نهوا عن مناظرة المخالف من الفرق و الرد عليه و الكتابة في ذلك، و أمروا بالهجران المحض في المجالسة، و أخذ العلم، و الصلاة خلفهم، و تشييع جنائزهم، ومناكحتهم...الخ.
لكنهم تحت ضغط الواقع و توسُّع نطاق المخالفين، و تسرُّب أفكارهم إلى صفوفهم حتى دخل فضلاءٌ من أهل العلم و الإيمان في القدر و الإرجاء و الاعتزال و التشيُّع السياسي مما اضطرهم إلى فتح مجال الرد و المناظرة، و التفريق بين أنواع البدع و أسبابها، و ما يترتب عليها في حق المبتدع، ففرقوا بين الداعية إلى بدعته وبين غيره، و بين المخاصم عليها و غير المخاصم إلى أن جاء ابن تيمية فأغلق الموضوع علميا حينما فصل بحدود واضحة بين ضرورة الاستمرار في الحفاظ على نقاء الإسلام كما نزل و تلقاه السَّلف ، و بين إدانة المؤمنين المخالفين، و الموازنة بين صلاحهم و إيمانهم و الأسباب الموضوعية لقبولهم تلك المقالات أو بعضها أو لقواعدها البدعية وعذرهم و بين حقيقة مخالفتها للوحي المنزل و كيف تلقاه السَّلف.
يعني: لم يعد كافيا التحذير بعبارات السَّلف التي وردت في الجهمية و غيرهم،فقد تسرَّبت الأفكار إلى المؤمنين الصالحين من أهل الديانة و العلم .
هذه أسباب شدَّة السَّلف فهمها بعضهم حتى في زمانهم كعطاء، قال طَلْحَةُ بْنُ عُمَرَ: ( قُلْتُ لِعَطَاءٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ يَجْتَمِعُ عِنْدَكَ نَاسٌ ذَوُو أَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَنَا رَجُلٌ فِيَّ حِدَّةٌ فَأَقُولُ لَهُمْ بَعْضَ الْقَوْلِ الْغَلِيظِ؟
فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ! يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً". فَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَكَيْفَ بِالْحَنِيفِيِّ !)" تفسير القرطبي؛2/16.
و كذلك ابن أبي ذئب الذي كان يأوي إليه القدرية المطاردون من السلطان فتركوها آنذاك ،و لم يجاروا أنصار الشدَّة.
وعليه، فلا حجَّة لنا في التمسُّك بها و قد عرفنا مبرِّرتها ، كما أننا لا نحتاج لتركها إلى تخطئتهم، فلم يكونوا كما قد يظنه بعضهم،بل تصرَّفوا بحسب الحاجة و المصلحة، ولن نكون خارج منهجهم إذا تركناها لأن منهجهم في المضامين و القصد وهو الحفاظ على نقاء الإسلام أو أصالته، فما انتهجوا الشدَّة إلا لهذا السَّبب، وليس في وسائلهم في الردع غير المفيدة في الغالب، التي لم تمنع من انتشار هذه الأفكار و توسُّع هذه الفرق، و بالتالي لا حاجة إلى الشدَّة، و قد تعقَّدت المسائل و امتزجت ببعضها ،و تداخلت مسالكها ، و انطلت البدع الدقيقة التي يصعب كشفها على كثير من أهل العلم و الإيمان.
بهذا وحده نحافظ على قصدهم و هو نقاوة الإسلام و أصالته، أو الوحي المنزل، ونعوذ إلى التعاليم النبوية من النُّصح في إطار الإخوة الإسلامية، وحفظ جماعة المسلمين من العداوة المدمِّرة لهم.
فإذا سألنا: ما الفرق بين السلفيين المتأخرين و أقصد من كان منهم على دراية بعلم الكلام و الفلسفة و الفكر كابن تيمية و كذلك الرازي وغيرهما وبين المتقدمين،بحيث وجدنا الشدة، و الوقوف عند الهجر المطلق، وعدم معالجة القضايا علميا تفصيليا قد اختلف عند المتأخرين و أصبحوا أكثر مرونة و تعاطيا مع النقاش الفكري ؟
الجواب:هو الإرث الفكري الذي وجده المتأخر،فاضطر أن ينظر في التراث برمته ،و يفحص أقوال المختلفين و أنواعهم ومراتبهم في العلوم الشرعية و أحوالهم الإيمانية فشكَّل لديه هذا الإرث نوعا من التفهم و الوعي لطَّف من مواقفه ،وكلما تقدَّمنا في الزمن نقصت العصبية و الحدة و التكفير المتبادل من دون انتهاء النقاش في تلك القضايا إلا عند بعض من نقل عن المتقدمين كل شيء، المسائل العلمية و ما تلبست به من شدة و أمور خارجة عنها، وهذا لا نقصده.
و المقصود أن السعي للحفاظ على نقاء الإسلام ،على أصالة عقيدته يكون بالعلم و الحوار، أما غير ذلك فهي وسائل ردعية يعمل بها بعضهم عندما يكونون في حال قوة، و يتركونها عندما يكونون في حال ضعف،وتلك أخلاق العسكر كما قال ابن عقيل الحنبلي ـ رحمه الله.
في السلف الصالح من جمع بين العلم وقول الحق و الورع و المهابة مع الوداعة و الكرم و اللين و السماحة مثل ابن أبي ذئب ـ رحمه الله فلمَ لا يعرفه جمهور السلفيين؟
لأن شيوخ الشدة لا يستشهدون بمواقفه في كتبهم، مع أنها الأوفق مع الكتاب و السنة؟