أحصى "رضا مالك" (84 عاما) المتحدث باسم الوفد الجزائري المفاوض في ايفيان، الأربعاء، أربعة محاذير طبعت اتفاقيات إيفيان، أبرزها السماح لفرنسا باستغلال الصحراء 4 سنوات وكذا المرسى الكبير لمدة 15 سنة، لكن الرئيس الراحل "الهواري بومدين" ألغى ذاك في أوائل حكمه.
في مثل هذا اليوم قبل 53 سنة، وقعت الحكومة الجزائرية المؤقتة ونظيرتها الفرنسية اتفاقيات إيفيان التي أنهت الحرب وعجّلت بترسيم استقلال الجزائر بعد 132 سنة من احتلال أليم لا تزال ظلاله ترخي على علاقات البلدين، وإذ توصف اتفاقيات إيفيان بـ"المحطة الحاسمة" التي كرست هزيمة فرنسا وأنهت عذابات 132 سنة، فإنّ استذكار هذه المحطة يحيي أقواسا لا تزال مفتوحة بعد 51 عاما، يبحثه "الشروق أون لاين" في هذا الملف مع العديد من الفعاليات.
بداية، جدّد "رضا مالك" التشديد على رفض ما تروج له بعض الأطراف عن وجود "بنود سرية" في اتفاقيات الاستقلال، مشيدا بصلابة المفاوضين الجزائريين والتزامهم بمبادئ الثورة التحريرية وهذا ما مكنهم من افتكاك الاستقلال بعدما تشبثوا بالمسائل الرئيسية المتعلقة بوحدة التراب الوطني وتحقيق الاستقلال الكامل.
وفي تصريحات خاصة بـ"الشروق أون لاين"، أسرّ مالك أنّ اتفاقيات إيفيان نصت على السماح لفرنسا باستغلال الصحراء 4 سنوات والمرسى الكبير لمدة 15 سنة، لكن الرئيس الراحل الهواري بومدين ألغى ذاك في أوائل حكمه.
أما عما توصلت له مفاوضات ايفيان حول موضوع الأقدام السوداء، أبرز مالك أنّ الطرف الفرنسي أظهر قدرا كبيرا من التعنت بشأنهم، إلا أنّ تشبث المفاوضين الجزائريين جعل الاتفاقيات تستقر عند وجهة النظر الجزائرية، حيث منحت لهؤلاء المعمرين الحق في الإقامة بالجزائر لمدة 3 سنوات، ومن ثم يتم تخييرهم ما بين الجنسيتين الجزائرية أو الفرنسية، ونظرا لشدة الخلاف حول هذه النقطة تم تكرار كتابتها 19 مرة قبل التوصل إلى صيغة نهائية.
فصل الصحراء وابتلاع ميناء وهران
أكّد أحد مهندسي اتفاقيات إيفيان أنّ الصحراء الجزائرية كانت من ضمن أبرز العراقيل التي اكتنفت مسار المفاوضات، حيث طالب الطرف الفرنسي بادئ ذي بدأ بفصل الصحراء عن الشمال نتيجة اكتشافات البترول ومحاولة استغلالها في "الجرائم النووية" وهو ما كان محل رفض كلي، في حين توصلت المفاوضات إلى منح المحتل السابق الحق في البقاء في الصحراء الجزائرية لـ 4 سنوات، وخلال هذه المدة قامت فرنسا بجرائمها النووية في مناطق صحراوية على غرار الذي حصل في كل من رقان وعين امقل وإينكر، مستغلة بنود الاتفاقية التي منحتها الحق في استغلال الصحراء خلال الفترة المذكورة.
كما نصت اتفاقيات ايفيان على منح الطرف الفرنسي حق استغلال ميناء المرسى الكبير الذي عُدّ قاعدة جد هامة للفرنسيين، بدليل مطالبتهم بمنحهم الحق في استغلالها لمدة 90 سنة، قبل أن يجري تخفيضها إلى 30 سنة، لتصل الصيغة النهائية بعد رفض الجزائر إلى 15 سنة، والتطبيق الفعلي كان أقل من ذلك نظرا لمساسه بسيادة الجزائر المستقلة.
بن براهم: "لا غموض"
فندت المحامية البارزة "فاطمة الزهراء بن براهم" الأنباء المتداولة حول فرض اتفاقية إيفيان على الجزائر إبقاء المعمرين والأقدام السوداء في أراضيها، وما ظلّ يروّج عن "بنود سرية" في الاتفاقية .
وقالت "بن براهم" إنّ الاتفاقية الموقعة بين البلدين واضحة في هذا الشأن، فالجزائر أنصفت ما يسمى بـ"ممتلكات" الأقدام السوداء ماديا وقانونيا، موضحة أنّ البند الخاص بالأقدام السوداء نص على أن كل فرنسي له الحق في العيش في الجزائر بكل أمان وأن يتمتع بالجنسيتين الجزائرية والفرنسية، وأوضحت أن الجزائر لم تطردهم يوما من بلدها بل فرّوا نتيجة السياسة التي كانت تنتهجها منظمة الجيش السري المتطرفة آنذاك، جراء سياسة الخوف والقتل التي طالت الفرنسيين من أبناء جلدتهم، إذ عملت على قتل الفرنسيين الذين أرادوا البقاء في الجزائر وممارسة العنف ضدهم من أجل إجبارهم على مغادرة الجزائر.
وأضافت "بن براهم" أنّ الجزائر أنصفت الأقدام السوداء، وشددت على تمتع كل فرنسي بجميع حقوقهم في حال لم يغادروا الجزائر بين 1962 و1965، وفي حال مغادرتهم فإنّ أملاكهم تصبح تابعة للدولة الجزائرية، أما الذين تنقلوا بين الجزائر وفرنسا خلال السنتين وأرادوا بيع ممتلكاتهم فتم ذلك بموجب تصاريح.
مغالطات تاريخية
بحسب الصحافي "بيار دوم" صاحب كتاب "لا حقيبة ولا نعش، الأقدام السود الذين ظلوا في الجزائر"، فانه "منذ نصف قرن عندما نتحدث في فرنسا عن رحيل فرنسيي الجزائر تتبادر إلى الذهن فكرتان: أنهم غادروا كلهم الجزائر سنة 1962 وانه لم يكن لديهم الخيار، فإما الحقيبة (الرحيل) او النعش (الموت)، والحقيقة أن ذلك خاطئ"، وأوضح دوم انه "من بين مليون ممن يعرفون بالأقدام السود حسب إحصاء سنة 1960، فإنّ 200 ألف منهم لم يغادروا التراب الجزائري في جانفي 1963".
وأوضح بيار دوم "من 200 الف سنة 1963 تراجع عددهم الى 100 الف في 1965 ثم 50 الفا في نهاية الستينات، وبضعة آلاف في تسعينات القرن الماضي، قبل أن تتضارب الأنباء بشأنهم لاحقا.
مماطلات مفاتيح وسيف ومدفع الجزائر
تطالب فعاليات جزائرية فرنسا بإرجاع مفاتيح وسيف الجزائر، مذكرة إياه بان يوم 5 جولية 1830، سلّم داي الجزائر لفرنسا مفاتيح المدينة، ويؤكد عديد المخضرمين على أنّه بعد اتفاقيات ايفيان، تناست فرنسا إرجاع مفاتيح و سيف ومدفع الجزائر اللذين احتفظت بهم إلى غاية الاستقلال قبل أن تحولهم بعد ذلك إلى فرنسا حيث يتواجدون حاليا بالمتحف العسكري بباريس.
وفي رسالة إلى الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند"، شدّد "سعد زاوي" الناشط الجزائري في فرنسا على ضرورة إعادة مفاتيح مدينة الجزائر وسيفها بعد أن تناست فرنسا إعادتهما للجزائر بعد الاستقلال، مشيرا في هذه الرسالة أن "الشعب الجزائري وريث هذه الرموز يطلب منكم عاليا إرجاع مفاتيح مدينة الجزائر وسيفها" مؤكدا أن إعادة هذه الرموز "ستبقى راسخة في التاريخ والذاكرة الجماعية للجزائريين".
وسبق للجزائر أن قدمت طلبا رسميا للحكومة الفرنسية لتسليمها مدفع بابا مرزوق الذي صنعه الجزائريون في عهد العثمانيين، وتحديدا في القرن الـ16 لحماية العاصمة من حملات الغزاة في البحر، واستولى المستعمر الفرنسي على المدفع العملاق، ونقله إلى فرنسا بعد احتلال الجزائر عام 1830.
وأكدت وزارة الدفاع الفرنسية قبل ثلاث سنوات أنّ "الحكومة الجزائرية تقدمت بطلب رسمي لاستلام مدفع بابا مرزوق وهو قيد الدراسة بوزارة الخارجية "، وأوضحت مستشارة وزير الدفاع الفرنسي أنّ "بحرية بلادها" مازالت متمسكة بهذا المدفع لأنه يمثل جزء من موروث الدفاع الوطني".
كما لم تشر المسؤولة كم سيستغرق تسليم مدفع بابا مرزوق من الوقت بعد تقديم الجزائر لطلب رسمي حيث فشلت في السابق كل محاولات الجمعيات الناشطة في هذا الميدان في اقناع السلطات الفرنسية بذلك.
وقامت وزارة الدفاع، في الذكرى الخمسين لإستقلال الجزائر، بصنع مدفع "بابا مرزوق" مقلد للمدفع الذي صادره المحتل الفرنسي سنة 1830 وأخذه إلى فرنسا أين وضعه كنصب في إحدى ساحات مدينة "بيرست" وفوقه ديك رومي إلى غاية اليوم.
وأوضح "بلقاسم باباسي" رئيس "مؤسسة القصبة" إنّ "مدفع بابا مرزوق" كان حارس العاصمة أيام الوجود العثماني، يعود له الفضل في تحصينها ضد حملات القراصنة والغزاة بالبحر الأبيض المتوسط، ومن أشهر الحروب التي شارك فيها، وقوفه في وجه حملة الأميرال الفرنسي أبراهام دوكيسن في 1671، وكلف ذلك "بابا مرزوق" عداء فرنسيا دام مائتي سنة انتهى بمصادرته.
وارتبط اسم المدفع بأيام مجد الأسطول البحري الجزائري. وحافظ المدفع، حسب باباسي، على صمود العاصمة مدة ثلاثة قرون. وقد تم صناعته بورشات حربية عام 1542.
وتعود تسمية المدفع إلى القوة التي كان يتمتع بها وطول مدى قذائفه، ما أذهل سكان مدينة الجزائر الذين اعتبروه هبة ورزقا من الله فسموه (بابا مرزوق).