- صغيرتنا في هذه المرحلة بالذات تبحر بزورق صغير في بحر الحياة الواسع ..يتلاطم بأمواجه العاتية حينا فتبكي من لوعة الفراق ..ويشق طريقه نحو قرص الشمس كلما انفلت من حضن البحر وصعد رويدا رويدا إلى عليائه فتنبلج ابتسامتها من وسط الدموع فتستأنس بحكمة جدتها وتتخذها ربانا لزورقها الصغير وتتذكر قولها ذات يوم أن هذه الدنيا كأس مرة لكن حلاوتها تختبئ تحت حبابها وكلنا شارب منها ومعطيها ذوقه الخاص .....فتسلم البنت بهذا وتدعو الله أن ييسر في أمرها.
- في صبيحة يوم غطت شمسه غيمة رمادية كبيرة كانت البنت تجلس على أرجوحتها في حديقة المنزل تداعب بأطراف قدميها تراب الحديقة ...بصرها شاخص ،تراها بوجه المرأة البالغة التي فاتت أقرانها من سنها ...تبعثر همومها مع ارتجاجات الأرجوحة ....حتى تسمع صوت سيارة الوالد وهو يركنها ...يدخل بخطى متثاقلة وقد ارتسمت تقاسيم الحزن على وجهه ويقول بصوت خافت :سنرحل....،تتباطئ أنفاس البنت مع تباطئ الأرجوحة ثم تسكن تماما وتنحدر دمعة ماسية على خدها الوردي تلخص آهات الأسى لتمسحها بكل حنان يد الوالد مردفا :قدر الله وما شاء فعل ...ستأتي الشاحنة مساء لتكوني مستعدة ... .
- في هذه الأثناء كانت المعلمة جالسة في شرفة منزلها وجهها عابس عبوس ذالك اليوم كانت تكتب شيئا ما وكلما أتمت سطرا توقعه بدمعة وزفرة طويلة ..وإذ هي كذلك حتى دق جرس الباب ...فتحت فإذا الطفلة واقفة عيناها باكيتان وتعض على شاربها تكاد تكسر أصابعها وهي تلويها تحضنها المعلمة : لا تأسفي فالفراق يعقب اللقاء ولكل عام شتاء ...تطلب منها الإنتظار وتصعد لتجلب ورقة تبللت أطرافها من ندى الدموع تطويها وتدسها في جيب الصغيرة وتقبلها قبلة الوداع :كتبت في الخلف عنواني لتراسليني ...........
آه ..على قلب فتي طاهر كان له أن يبسم في هذه المرحلة وأن ينعم بالدفء والحنان لكن مشيئة الله فوق كل شيء ...
تمر شاعرتنا بصديقاتها لتودعهن ثم تمضي إلى بيتها وهي تحس أنها خسرت كل شيء .
- تحت منحدر سلسلة جبلية غابية تقع مدينة صغيرة متباينة الأطراف بلدة كثرت أشجارها وقل صخبها منازلها بسيطة وأهلها متحابون متواضعون ، لا يميزها سوى مسجدها الشامخ بمئذنته وسط السماء ومبنى البلدية وبناية كبيرة هي فرع للشركة التي كان يعمل بها الوالد ،وخلف هذا الفرع منزل كبير تتقدمه حديقة فسيحة ذات أشجار هيفاء وتتوسطها نافورة ، قدام هذا البيت مساء توقفت مركبة شحن كبيرة تعقبها سيارة الأسرة وينزل الولدان راكضين اووه حديقة كبيرة، يدخل الوالدان ...أما البنت فلم تنزل من السيارة حتى أنها لم تلتفت لترى المنزل ...تناديها الأم : هناك أرجوحة ..إنها تشبه أرجوحتك ...ولكن أنى لقلب باكي ان تتسلل البسمة إليه...؟ ثم رجع الأب لاصطحابها .
تنحدر شمس الأصيل خلف الغيم ...خلف الخط الذي ترسمه الجبال كوجه طفل شاحب في الظلمة ...على مسامع آذان المغرب ويسود المنزل سكوت رهيب ...في زاوية من غرفتها تجلس شاردة الذهن تتذكر رسالة معلمتها تفتحها وتبدأ بالقراءة :......عزيزتي ....