- 1-المقامة الجَلفَاوِيّة ل: عاشق العفة
حدّثنا أبومحمد الريّاشي قال: سرتُ مسيرة ألف ميل ٍ،واجتزتُ الفُرات والنّيلَ حتّى توقّفتْ بيَ الجمالُ بأرْضٍ أهلُها كثيري التـِّرحال،يُقالُ لهم بنوا نائل ٍ،سيماهم الجود والفضائل، وما هي إلاّ بُرهة ٌ حتّى سمعت ُ جَلبَة ًفرفعتُ رأسي بعد نكسي لطُول حزني وطُولِ تعْسي، فأبصَرَتْ عينايَ ما سمِعتهُ أذنايَ،فإذا بفتيةٍ وجوههم كالقمر قد بدى ليلة البدر ،متّجهين نحوي وخيلهم تدوّي ،كأنّهم حُمُرٌ مُستنفرة فرّت من قسورة،مُسرعين أيّما سُرعة، فلمّا وصلوا وضعوا اللـِّـجام وقالوا لا كلام ؟إنّ شيخ القبيلة قد سلّ اليوم الحُسام وأقسم أن لاينام حتىّ نأتيَ بمن يُشاركهُ الطعام . فقلت على سجيّتي :هذا لعمرُالله ما أنا أبغي،لطالما أنهكتني الأسفار وما أنا حاملهُ من الأسفار[1] التي طالعتُها بالليل والنّهار حتّى حذِقتُ تلك الأسرار.
فلمّا وصلنا إلى المكان المنشود إذا بخِوانٍ كبيرٍ هم عليه قعود ،يتوسّطُ الرّحبة شيخٌ ضرير قد بدى لي أنّه عالِمٌ نِحْريرٌ[2].قال: هل جئتم بالمُراد فأنا على أتمّ الإستعداد؟.قالوا:نعم،فأذن مُؤذنٌ منهم لمّا رآني قائلا:أعرف هذا الضيف لقد كنتُ قابلتهُ في الصّيف،قد ظفرتم والله كلَّ الظَّفرْ وجمعتُم بين الشّمس والقمرْ.قالوا: أفصح عمّا تقول فقد حيّرت العقول؟
قال:إنّهُ لأديبٌ أريبٌ له صوت يُشبهُ النّزيب[3]، وفوق هذا فهو عن كلّ سُؤال مجيب؟.
فأقبل عليّ الشّيخ وقال:أحقًّا ما قال أم ما أنت إلاّ مُحتال؟فقلتُ:إن كنت في ريبٍ ممّا قال فاسئلني عمّا بدا لك في الحال لتعلم صدق المقال؟ ففكّر زمان وهزّ رأسه هزّ العُنفُوان قائلاً: ها،أيُّها الضيف هل تعرف أسماء وصفات السّيف؟فقلتُ:قد آن لأبي محمّد أن يجلو بصرك بالإثمد،وبدأتُ أنشِد:-البسيط-:
يا سائلي عن صفات السّيف واسْمائه *** فاسمعْ كلامي وخُذ ْ ما أنت جاهلُ
صفيحة ٌ للعريض،شِمْـلـُهُ المِشْمَلُ[4] *** للقاطع العضْبُ والحُسامُ كذا المِقصَلُ
من أرض هندٍ مُهنّدٌ[5] و مَهْوٌ[6]ٌ رفقْ *** صمْصامةٌ[7] ٌقلْ لمنْ لاينثني،مِغـْــوَلُ[8]
وسْطَ السِّياط،خشِيبٌ[9] للصقيل فقطْ *** مُصَمَّمٌ مرَّ في العظْمِ فلا يمهلُ
مُفقــَّرٌ[10]ٌ ذو الحُزُوزِ مِعْظَدٌ[11] مُمْتهنْ *** لقطْع أخشابهم والقاطعُ المِخـْظلُ
مُطبِّقٌ قدْ أصاب منهم المِفـْْصــلَ *** جميعُ ما قلتهُ سيفٌ لهُ مِحْمـــــــلُ
قال :إن كنت من أولي النّظر فما يُسمّى كثير الماء والجيش والمطر؟
فقلتُ:أجيبك في العاجلة وأزيدك كثير المال فوقها نافلة ًوجعلتُ أنشد: - من البسيط-
- للمال قل لـُبَدٌ[12] ماءٌ فقل غََدَقٌ[13] ** للجيش قل لـَجـِبٌ كذا العُبَابُ المطرُ
وبعد أن أنهيتُ الكلام أشرتُ بيدي أن هاتوا الطّعام ؟ قال:و هل تعرف أقسام الإشارة؟
قلتُ: نعم ولكلّ عضوٍ من الجسم عبارة وأنشدتُ: - من البسيط-
- إشارة ٌ باليد للرّأس إيماءُ ** واغمُزلدى حاجب ٍ وارمُز شفهْ ثِبْ لمعْ [14]
وصِحْتُ بهم :أحظروا لي طعام الجِمال فقد بلغتُ حدّ الهُزال، قالوا:لن نحظر لك لحم الجمل حتّى تعُدّ لنا أسماء الإبل؟ فقلت:أجيبكم عمّ سألتم وأحظروا لي فقط ما وعدتم،فأنشدتهم:
-نوقٌ جـِمالٌ بَكـْْرٌ كالفتى قد أتى ** قَلُوصُ جاريةٍ بعيرهم ما أتى[15]
قال الشيخ :والله لقد كفيت وشفيت ووصلت البُلغة في فقه اللغة سنُعطيك كلّ ما في القصعة ، فانقضضت عليها بسرعة ،حتى أتيتُ عليها وبلغتُ مأربي منها ، وحمدتُ الله على هذه الآلاء والنعم وناشدته أن يُبعد عنّا البلاء والنّقم فإنّه جوادٌ ذو كرم.
[1] أراد بالأسفار الأولى:من السفر، أما الثانية:أراد بها الكتب كما قال تعالى:كمثل الحمار يحمل أسفارا-الجمعة-
[2]العالم الحاذق في مختلف الفنون.
[3]النزيب هو صوت الظبي.
[4]هو السيف القصير الذي يشتمل عليه الرجل فيغطّيه بثوبه.
[5]إذا سُوِّي وطُبع بالهند.
[6] إذا كان رفيقا.
[7]إذا كان صارما لا ينثني.
[8]إذا كان في وسط السوط.
[9]إذا كان صقيلاً.
[10]إذا كانت به حزوزا سمّي مفقّر وللنبيّ صلى الله عليه وسلم سيفٌ يُسمّى:ذو الفقار.
[11]إذا امتـُهن لقطع الأخشاب ونحوها سمّي:معظدٌ
[12]اللّبد:كثير المال قال تعالى:[يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا] {البلد:6}
[13]الغدق:الماء الكثير قال تعالى:[وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا] {الجنّ:16}
[14]أي:لمع بثوبه :أشار.
[15]-الناقة: بمنزلة المرأة،والجمل: بمنزلة الرجل،والبكر: بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية و البعير بمنزلة الانسان.-فقه اللغة للثعالبي.