قانون الاقتصاد الدولي
الإرسال الثاني
الجزء الثالث:
اتفاقية الجات وتحولها إلي منظمة التجارة العالمية
كانت المفاوضات التجارية بين المجموعة الأوربية و الولايات المتحدة الأمريكية و اليابان يوم 15 ديسمبر 1963 م ، قد اشتملت على عدد كبير من القضايا الخلافية ، إلا أنها حققت اتفاقا حول الكثير من القضايا الأخرى لذلك جاء إعلان نجاح الدورة لتثير العديد من التساؤلات ؟
فما أهمية تلك الدورة بالنسبة للاقتصاد العالمي و البلاد النامية على وجه الخصوص ؟
و بصرف النظر عما تحقق و ما لم يتحقق من الاتفاقية فإن البلاد النامية تشعر بنوع من القلق أمام إدراج موضوع الخدمات و الملكية الأدبية و الفنية و الصناعية و قوانين الاستثمار ذات الأثر السلبي على التجارة الدولية .
في دورتي الأورجواي بـهافانا و المغرب . و لإعطاء المزيد على ذلك سنتعرض إلى هذه الاتفاقية و تحولها إلى منظمة دولية في التالي :
1 – نشأة الجات .
2 – الإطار العام لاتفاقية الجات .
3 – الدول النامية و الجات .
4 – جولات مفاوضات الجات .
* نشأة الجات التاريخية :
كان مطلع سنة 1946 م نقطة البداية لنشأة اتفاقية الجات حيث المجلس الاقتصادي و الاجتماعي التابع لمنظمة الأمم المتحدة قرارا بعقد مؤتمر دولي لبحث تشكيلات التجارة الدولية . و في عاصمة بريطانيا عقدت الدورة الأولى للجنة التحضيرية للمؤتمر الذي عقد في أكتوبر من عام 1946 م . أما الدورة الثانية لهذه اللجنة فقد عقدت في جنيف في شهر أفريل إلى أكتوبر من عام 1947 م ، و انتهت إلى إعداد مشروع ميثاق للتجارة الدولية يتضمن إنشاء منظمة دولية للتجارة .
و لقد أسفرت هذه المفاوضات عن مولد ما يعرف باتفاقية العامة للتعريفات و التجارة ( الجات ) و التي أبرمت في 1947 م و بدأ العمل بها ابتداء من يناير عام 1948 م ، و كان عدد الدول التي وقفت عليها في البداية 23 دولة من بينها : الولايات المتحدة الأمريكية ، فرنسا ، إنجلترا ، هذه الاتفاقية التي حل محلها الآن " منظمة التجارة الدولية " .
و قد مرّت هذه الاتفاقية بعد جولات منها :
1 – ميثاق هافانا :
لإزالة ويلات الحرب العالمية الثانية و ما خلفته من خراب في معظم دول العالم ، عمدت الدول الرأسمالية عقب الحرب مباشرة إلى بداية بناء عالم جديد ، هذا العالم يهتم بتعمير الدول و تنشيط الأداء الاقتصادي العالمي . و قد تمخضت هذه الجهود عن مولد كل من صندوق النقد الدولي و البنك الدولي للإنشاء و التعمير .
أما بالنسبة للتجارة العالمية ، فقد اقترحت الدول الرأسمالية عقد مؤتمر دولي للتجارة و انعقد في هافانا في الفترة من 21 نوفمبر إلى 24 مارس 1948 م و قد سبقته سلسلة من اللقاءات للإعداد له ، و ما هو جدير بالإشارة إليه أن ميثاق هافانا الذي اشتركت 55 دولة و لم يحضره الاتحاد السوفياتي آنذاك ، فقد أبرز اتجاهات السياسات التجارية للدول الأعضاء حيث تميزت المساواة في المعاملة الجمركية و التركي على تخفيضها سنويا عن طريق المفاوضات ، و سمح هذا الوضع بإنشاء الاتحادات الجمركية و مناطق التجارة الحرة ، و أن يكون هذا الميثاق الإطار العالمي الثالث المعين بالتجارة ، بالإضافة إلى صندوق النقد الدولي و البنك الدولي .
و جدير بالذكر أن ميثاق هافانا قد استثنى في مواده بعض الدول الأعضاء من تخفيض القيود الجمركية في حالات ثلاث ، هذه الحالات هي :
- المنتجات الزراعية .
- إنشاء صناعات جديدة .
- عجز ميزان المدفوعات .
و تعزب هذه الاستثناءات إلى نظرة المجتمع الدولي في ذلك الحين و المبرر هو المشاكل الاقتصادية التي تواجهها الدول النامية و تقديرا منها لعدم تفاقم هذه المشاكل الاقتصادية إذا ما أجبرت هذه الدول على تخفيضات جمركية تعارض خطط التنمية فيها .
كذلك أعطى ميثاق هافانا عناية بزيادة المنح و الإعلانات التي تمنحها الدول الغنية لقطاعات الإنتاج منها ، كما أجاز للدول الأعضاء مكافحة الإغراق بفرض رسوم جمركية إذا لحق الإغراق بصناعة محلية أو أثّر على صناعة ناشئة ، و لما كان العالم النامي في ذلك الوقت تتنازعه كل من الكتلة من الاشتراكية و كتلة الدول الرأسمالية ، فقد قرر ميثاق هافانا عدم وضع الحواجز من طرف الدلو المتقدمة على صادراتها ، و أوصى بتثبيت أسعار الصادرات من السلع الأساسية للدول النامية .
و هكذا قدّم ميثاق هافانا منهجيا طموحا في صالح الدول النامية عن طريق انتهاج الدول الغنية لسياسات تجارية تخدم مصالح جميع دول العالم . و من ثمّ فقد عدلت الدول الغنية عن تطبيق ما جاء به من أحكام ، و من هنا كانت الاتفاقية العامة للتعريفات التجارية تمثل جزءا فقط من ميثاق هافانا . أما الأجزاء الأخرى فهي التي اصطدمت باعتراض الكونغرس الأمريكي ، و من ذلك تثبيت أسعار المواد الأولية و منع الممارسات الاحتكارية في التجارة الدولية ، و تنظيم انتقال التكنولوجيا ، و تأمين و تمويل الصادرات و قد دخلت هذه المسائل فيما بعد في اختصاص مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة و التنمية أو ما يسمى اختصارا الانتكاد الذي أنشأ سنة 1964 م .
* الإطار العام لاتفاقية الجات :
تقوم الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية و التجارة " الجات " و التي تتضمن نظاما شاملا للقواعد العامة التي تحكم العلاقات التجارية بين الأطراف تقع في 35 مادة أضيفت لها في عام 1965 م ثلاثة مواد لتلبية مطالب الدول النامية على ثلاثة مبادئ رئيسية هي :
- تحرير التجارة .
- عدم التمييز بين الدول المختلفة في المعاملات التجارية .
- الحماية من خلال التعريفة الجمركية .
و هكذا فإن الغرض الأساسي من إنشاء الجات هو توسيع التجارة الدولية و تمكين الدولة العضو من النفوذ إلى أسواق باقي الدول الأعضاء في الاتفاقية و ما يتحقق التوازن بين الحماية المناسبة للمنتجات الوطنية و بين تدفق و استقرار التجارة الدولية ، و لتحقيق هذا الهدف يلتزم الأعضاء بنوعين من الالتزامات :
الأول : التزامات عامة بالمبادئ العامة للاتفاقية و التي تطبق على كافة الأعضاء ، عدا بعض المرونة الممنوحة للدول الأولى بالرعاية ، و المعاملة الوطنية و الشفافية .
الثاني : التزامات محددة و يقصد بها قيام الدولة بتثبيت ( ربط ) كل أو بعض بنود تعريفتها الجمركية إلى حدود مقبولة من باقي الأطراف المتعاقدة بالاتفاقية بحيث لا يتم تغيير هذا المستوى المربوط من التعريفة الجمركية إلا بعد الرجوع إلى الأطراف المتعاقدة الأخرى و تعويض المتضررين منهم نتيجة التغيير و ذلك وفقا لنصوص الاتفاقية . و هذه الاتفاقية تختلف من دولة لأخرى و ترفق ببروتوكول انضمام كل دولة إلى الاتفاقية .
* الدول النامية و الاتفاقية :
لم تكن تلك المبادئ التي تحكم نظام الجات متفقة و المبادئ الأساسية التي قامت عليها استراتيجيات الدول المتخلفة للتنمية ، كما أنها لم تأخذ بعين الاعتبار ظروفها الخاصة ، و من ثم انصرفت الدول النامية إلى إنشاء منظمة أخرى أكثر استجابة لمتطلبات التنمية بهدف تنظيم التجارة الدولية على أساس و مبادئ مختلفة تماما عن تلك التي قامت عليها الجات و أدى ذلك إلى إنشاء مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة و التنمية المعروف" بالانتكاد "
مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة و التنمية " الانتكاد "
تأسس هذا المؤتمر باعتباره جهازا داعا من أجهزة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 / 12 / 1964 م على أساس توجيهات المؤتمر الأول للتجارة و التنمية الذي عقد في جنيف عام 1964 م بهدف تنظيم التجارة الدولية على أساس مختلف تماما عن تلك التي قام عليها الجات . و قد جاء الانتكاد انتكاسا لاستراتيجيات التنمية التي سادت خلال الستينات كرد فعل لمطالب الجنوب في مواجهة الشمال .
و هكذا لم يعلق هذا المؤتمر أهمية كبيرة على تحرير التجارة الخارجية للبلاد النامية و لم يبدأ التميز و طالب بوجوب قيام النظام التجاري الدولي على أساس إعطاء مزايا خاصة للبلاد النامية دون غيرها .
و يضم المؤتمر كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة و كذلك التي لا تنتمي إليها و لكنها عضو الواحدة أو أكثر من الوكالات المتخصصة ظل يعقد دورته كل أربع سنوات من تاريخ انعقاده الأول في جنيف عام 1964 م و الملاحظ حتى الآن أن موقف الدول الصناعية المتقدمة منه لا يزال جامدا فضلا عن قصوره لأسباب عديدة من أهمها :
* تعتبر نتائج المؤتمر من قبل التوصيات ، فلا تأخذ شكل الالتزام للدول الأعضاء فيه .
* موقف مجموعة الدول المتقدمة المتشدد لعدم زعزعة منظمة الجات في توليها مهام تنظيم التبادل التجاري الدولي .
* عدم موافقة الدول الاشتراكية وقتذاك على بعض مشاكل التجارة في مجموعة الدول النامية بحجة عدم اتفاق الأحكام التي تنظم سوقها مع آليات السوق الرأسمالية .
* تعديل الاتفاقية :
أمام الظروف السالفة الذكر و التطورات الحاصلة في التبادلات الدولية لم يكن لاتفاقية الجات حفرا من تعديل الاتفاقية الأصلية ، و تم إضافة ما يعرف بالقسم الرابع الذي أصبح نافذ المفعول منذ عام 1966 م .
و بعد إضافة هذا القسم أصبح المظهر العام للجات متعاطفا مع الدول النامية و قد نص هذا القسم صراحة أن البلاد النامية تتمتع من قبل الاتفاقية معاملة خاصة و تفضيلية .
و قد شهدت الفترة التي أعقبت 1966 م انضمام عدد كبير من البلاد النامية إلى الجات بعد ما أصبحت الاتفاقية توفر لها نوعا من الحماية فضلا عن المعاملة التفضيلية التي تتيحها عملية التنمية .
و يشمل القسم الجديد ثلاثة مواد هي : 36 ، 37 ، 38 . و أهم ما يخدم البلاد النامية ما جاء في المادة 37 و منها :
* التزام الدول المتقدمة :
1 – إعطاء الأولوية لتخفيض أو إلغاء الحواجز الجمركية على السلع التي تتضمن أهمية خاصة بالنسبة للدول النامية سواء كانت مواد أولية أو مصنعة .
2- الامتناع عن فرض رسوم أو زيادة عبء الرسوم و الحواجز القائمة على منتجات الدول النامية أطراف الاتفاقية .
3- الامتناع عن فرض إجراءات مالية جديدة ، و عند تعديل السياسة المالية تعطى الأولية لتخفيض الإجراءات المالية أو تخفيفها حتى لا تعيق تجارة منتجات الدول النامية .
* التزام الدول النامية الأخرى :
تلتزم الدول النامية خارج الاتفاقية بالالتزامات المنصوص عليها في القسم الرابع لمصلحة الدول النامية ، مادامت تتفق مع نموها في الحاضر و المستقبل و حاجتها المالية و التجارية .
* جولات مفاوضات الجات :
كان الهدف الأساسي من إنشاء الجات هو تحرير التجارة الدولية ، و قد بذلت خلال السنوات الأولى من إنشائها مجهودات شتى لتحقيق هذا الغرض و انصب الاهتمام في البداية على تخفيض الرسوم الجمركية أو تثبيتها على الأقل ، لذلك أجريت عدة جولات للمفاوضات بين الأطراف المتعاقدة في نطاق الجات للتوصل إلى تحقيق هذا الغرض .
فخلال الفترة 1947 – 1967 م تم عقد سبع دورات للمفاوضات التجارية مع الدول الأعضاء و أتبعت بالدورة الثامنة في أورجواي ، و قد تمخض عن كل دورة من الدورات تخفيض الحواجز الجمركية خصوصا في مجال السلع الصناعية ، و كان من أهم هذه الدورات دورة " كيندي " في النصف الأول من عقد الستينات و هي التي انتهت بتخفيض الرسوم الجمركية على التجارة الدولية فيما بين الدول الصناعية بما يعادل 50 % في المتوسط من مستوى التعريفات التي كانت سائدة وقت بدء الدورة . و جاءت بعدها دورة " طوكيو " التي انتهت بتخفيض الرسوم الجمركية بما يعادل 30 % في المتوسط من مستوى التعريفات التي كانت سنة 1947 م .
و رغم أهمية الإنجازات التي تمت في إطار الجات خلال الفترة التي سبقت دورة أورجواي ، فإن عملية التحرير ظلت قاصرة في ثلاث مجالات أساسية هي :
المجال الأول : يتضمن التجارة الدولية بين الدول النامية من ناحية الدول الصناعية ذلك أن تحرير انصب على السلع ذات الأهمية الخاصة في التجارة بين البلدان الصناعية ، و لم تحظى السلع ذات الأهمية الخاصة في التجارة بين البلدان النامية و الصناعية بنفس الأهمية .
و هكذا ظلت الرسوم الجمركية في البلدان الصناعية مرتفعة على صادرات الدول النامية ، فباستثناء عمليات التفضيل التي خطيت بها صادرات الدول النامية في عقد السبعينات ، إلا أن القيود غير التعريفية بقيت عقبة في وجه صادرات عدد كبير من السلع الصناعية ذات الأهمية الخاصة للبلاد النامية.
المجال الثاني : يتعلق هذا المجال بسلعة المنتوجات منذ عام 1962 م أخرجت هذه السلعة تماما من نظام الجات و أخضعت التجارة الدولية فيها لاتفاقية خاصة هي اتفاقية المنتوجات التي اقتصرت في البداية على المنتوجات القطنية ، و اتسعت منذ عام 1974 م لكي كل المنتوجات و الملايين من القطن أو غيره من الألياف الطبيعية أو المصنعة . و هكذا حرمت البلاد النامية من الاستفادة من تحرير التجارة في أهم صناعة تتمتع بها بميزات تنافسية . و بقي الحال هكذا إلى دورة الأورجواي التي أسفرت عن اتفاق في هذا المجال .
المجال الثالث : يتعلق الأمر هنا بعلاج مشكلة القيود التعريفية و غير التعريفية التي تعيق التجارة الدولية في السلع الزراعية . فعلى الرغم من أن الاتفاقية العامة للتعريفات و التجارة تشكل كل من السلع الزراعية و السلع الصناعية ، فقد بقيت الزراعة خارج نطاق المفاوضات التجارية إلى أن نجحت دورة أورجواي في إخضاعها لأول مرة للقواعد التي تحكم التجارة الدولية في السلع الصناعية .
غير أن التراجع الكبير الذي طرأ على عملية تحرير التجارة و على دور الجات بصفة عامة ، جاء مع الاضطرابات التي عرفها الاقتصاد العالمي منذ عقد السبعينات و التي بلغت دورتها في النصف الأول من عقد الثمانينات .
دورة أورجواي للمفاوضات المتعددة الأطراف
منذ أوائل عقد السبعينات دخل الاقتصاد العالمي مرحلة من الاضطرابات الشديدة ، و كان لذلك آثار بارزة نذكر منها :
1 – انهيار نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة و الأخذ بنظام أسعار الصرف العائمة ، و قد اقترن ذلك بارتفاع شديد في أسعار الطاقة و تقلبات حادة في أسعار العملات الرئيسية و بصفة خاصة الدولار ، و ليّن و المارك .
2 – انتشار موجة الكساد التضخمي في معظم الدول الصناعية و النامية ، و بروز مشكلة المديونية الخارجية عام 1982 م مع ظهور اختلالات شديدة في موازين المدفوعات ، الشيء الذي أحدث نكسة شديدة المفعول في النظام التجاري العالمي .
3 – تراجع القدرة التنافسية للولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد الدولي في مختلف مجالات التصنيع ، حيث شهد عقد السبعينات و الثمانينات تعاظم مكانة اليابان في المجال الاقتصادي و تراجع الولايات المتحدة ، و تفوق الإنتاج الصناعي حتى في الأسواق الأمريكية ، و زاد من مشاكل الاقتصاد الأمريكي ظهور ما يعرف بالنمور الأربعة و هي : كوريا الجنوبية ، هونكونغ ، تايوان ، سنغافورة . حيث أصبحت تزاحم الولايات المتحدة الأمريكية في أسواقها الدولية و سوقها الوطنية ، بينما ظلت أسواق هذه البلدان مغلقة أمام المنتوجات الأمريكية . و يصدق هذا الكلام أيضا على دول المجموعة الأوربية من حيث تراجع قدرتها التنافسية أمام منتوجات اليابان و النمور الأربعة .
4 – تصاعد درجة الحماية التجارية في البلاد الصناعية و استحداث أدوات حماية جديدة ضد صادرات اليابان و بلاد شرق آسيا و بعض البلدان النامية الأخرى . و تعرف هذه الإجراءات باسم " الإجراءات الرمادية " ضد منافسة السلع الأجنبية لصالح البلدان الصناعية و هذا باستخدام ثلاثة أنواع هي :
النوع الأول : يعرف بالتقيد الادخاري للصادرات .
النوع الثاني : هو التنوع الاختياري في الواردات .
النوع الثالث : و هو يشمل ترتيبات التسويق المنظم .
و رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية و المجموعة الأوربية نجحت في احتواء المنافسة اليابانية و بلاد شرق آسيا عن طريق تلك الإجراءات ، إلا أنه بات واضحا أن مثل تلك السياسة لابد أن تفضي إلى حرب تجارية ، حيث تنتشر النزعة الحمائية في كل بلاد العالم و هذا وحده يكفي لتهديد النظام التجاري الدولي .
5 – عدم قدرة بعض الدول الغنية الاستمرار في دعم بعض الصناعات و الأنشطة الاقتصادية ، و خاصة الزراعية منها ذات القدرة التنافسية المنخفضة في السوق الدولية . الأمر الذي أدى إلى حدوث عجز في موازين المدفوعات لكثير من البلدان .
6 – تعاظم أهمية الخدمات في العلاقات الاقتصادية الدولية و في الهيكل الإنتاجي لعدد كبير من الدول الصناعية .
7 – سيادة نظام السوق الحر في الاقتصاد العالمي خاصة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية . فلم يعد هناك إلا سوق الدول الغنية التي تنتهج الرأسمالية و لا مناص للدول النامية إلا الاندماج .
لكل ما سبق أصبح من غير الممكن الاستمرار في معالم الاقتصاد العالمي القديم الذي بنيت معالمه غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية . و عليه بات من الضروري إعادة النظر في الأداء الاقتصادي عالميا على ضوء المعطيات الجديدة .
المنظمة العالمية للتجارة
لم تكن اتفاقية الجات في صورتها الأصلية منظمة دولية بالمعنى المتعارف عليه لهذا الاصطلاح ، حيث كانت الجات تفتقد للأجهزة الدائمة التي تتميز بها المنظمات الدولية . و كل ما هنالك هو وجود بعض اللجان الحكومية المؤقتة التي تقوم بأداء المهام المحددة و ينتهي وجودها بانتهاء مهمتها ، قد كان لدورة أورجواي أثر كبير في إنشاء منظمة التجارة العالمية تحت إشراف الجات بعد مدة زمنية معينة .
و تضم المنظمة الجديدة تلك الأجهزة التي كانت غائبة في تنظيم الجات ، و يعتبر المجلس الوزاري الذي يتكون من وزراء التجارة في الدول الأعضاء للمنظمة أعلى مجلس في هيكلها المؤسسي . و ينعقد هذا المجلس مدة كل سنتين في دورة للنظر في الأعمال التي يقوم بها المجلس العام الذي يلي المجلس الوزاري في الأهمية .
و يتفرع عن المجلس الوزاري ثلاث لجان هي :
- اللجنة الأولى : لجنة التجارة و التنمية .
- اللجنة الثانية : لجنة ميزان المدفوعات .
- اللجنة الثالثة : لجنة الميزانية و المالية و الإدارة .
في حين يتولى المجلس العام للمنظمة إدارة شؤون المنظمة خلال الفترة التي لا ينعقد فيها المؤتمر الوزاري ، و هو ذو حق اجتماع بصفة دورية للإشراف على تنفيذ الاتفاقيات و القرارات الإدارية و تتبعه عدة مجالس تختص بالمجالات الثلاثة الرئيسية لعمل المنظمة و هم :
1 – مجلس التجارة في السلع : حيث تذوب فيه اتفاقية الجات الحالية بالإضافة إلى ما تمّ التوصل إليه في هذا المجال ، خاصة في مجال الزراعة و المنتوجات بالإضافة إلى التعديلات في الموضوعات المؤسسية في اتفاقية الجات 1947 م ، و يهدف إلى تحسين و تنظيم التجارة في مجال السلع .
2 – مجلس التجارة في الخدمات : و يمثل الجهاز التنفيذي لإدارة الاتفاقية الجديدة المتعددة الأطراف للتجارة في الخدمات ( الإطار العام ) و تنفيذها من خلال الالتزامات الموحدة للدول الأعضاء في الاتفاقية الجديدة .
3 – مجلس تجارة الحقوق و الملكية الفكرية : و هو الإدارة التنفيذية لاتفاقات الملكية الفكرية التي تم التوصل إليها المفاوضات و مفاوضات جولة أورجواي في هذا المجال الجديد .
4 – يضاف إلى المجالس الثلاث السابقة أمانة المنظمة و النظام المتكامل لتسوية النزاعات التي تنشأ بين الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية عند تطبيق الالتزامات و ممارسات الحقوق الواردة بها .
و هكذا و بقيام الأركان المؤسسية للاتفاقية تصبح منظمة التجارة العالمية أحد المرتكزات الثلاثة التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي ، إلى جانب صندوق النقد الدولي و البنك الدولي للإنشاء و التعمير ، و بهذا تكتمل المؤسسات التي تشرف على الاقتصاد العالمي في المجالات النقدية و المصرفية و المجالات المالية و المجالات التجارية .
و ما يمكن قوله ، لقد جاءت دورة أورجواي مختلفة كل الاختلاف عن كل الدورات السابقة سواء من حيث اتساع الرقعة التي حاولت تغطيتها أو من حيث تصديها لقضايا جديدة ، لذلك لم يكن ثمة مفر من إنشاء منظمة جديدة يمكن أن تعالج موضوع الخدمات كما تعالج موضوعات السلع ، و يمكن أن تتعرض لتحرير القوانين و اللوائح الداخلية كما تتعرض للقيود التعريفية و غير التعريفية ، و من هنا كان العمل على تحويل الجات إلى منظمة التجارة العالمية .
الاتفاقية العامة حول تحرير و تجارة الخدمات " جاتز "
لقد تمت هذه الاتفاقية و تحققت تحت ضغط الولايات المتحدة الأمريكية و بصفة خاصة و الدلو الأوربية الصناعية بصفة عامة ، كتسوية بين اعتبارات تحرير التجارة العالمية في السلع مقابل تحرير التجارة العالمية في الخدمات و حماية حقوق الملكية الفكرية التي تسيطر عليها هذه الدول بصفة خاصة و لبناء هذه الاتفاقية تؤكد الدورة على ركيزتين كبيرتين ، كل ركيزة تتضمن مجموعة من الالتزامات أهمها :
* المبادئ العامة و القواعد التي ترتب عناصر الالتزام التي تلقي على عاتق الدولة التي تنضم للاتفاقية تخص تلك العوامل التي تؤثر في تجارة الخدمات .
* الالتزامات المحددة للتفاوض في مجال الخدمات و قطاعات إنتاج الخدمة فالاتفاقية تحتوي على بعض الملاحق و التي تراعي خصوصية بعض القطاعات و مذكرات التفاهم . و قد عرفت الخدمات في الاتفاقية بأنها تعني كافة الخدمات ذات الطابع التجاري التي تفقدها جميع القطاعات باستثناء الخدمات المتعلقة بوظائف الدولة الرئيسية بالمفهوم التقليدي1 .
و قد صنفت الخدمات التي تشملها الاتفاقية في أربعة أنواع رئيسية :
1 – الخدمات المتفعلة فيما بينها فيما بين الحدود و التي لا تتطلب الانتقال الطبيعي للمنتج ( العارض ) أو المستهلك .
2 – الخدمات التي تباع أو تقدم في إقليم أحد الأعضاء بواسطة وحدة شرعية تقيم و لها وجود في هذا الإقليم أو في إقليم عضو آخر ( الوجود التجاري – الاستثمار المباشر ) .
3 – الخدمات التي تحتاج إلى انتقال المستهلك إلى مكان المنتج .
4 – الخدمات التي تحتاج إلى انتقال مؤقت للأشخاص الطبيعية و الخدمات المقدمة أو الأشخاص المستخدمة لدى المنتج الذي هو من مواطني دولة عضو في الاتفاقية .
أما العوائق التي تعترض هذه الاتفاقية حيث تحول دون حركة الخدمات بالشكل المطلوب ، و التي تسعى الاتفاقية إلى إلغائها أو تقليل أثر عوامل الإعاقة .
و من العوائق الأكثر اتساعا تلك النصوص المتفق عليها في اتفاقية الجات بالنسبة للسلع ، فبالإضافة إلى التعريفات و الحصص تضاف أيضا السياسات المعقدة و المقيدة للاستثمار الأجنبي المباشر و النظم الرقابية المصححة ، و عموما فإن اتفاقية الجاتز تعتر الاتفاقية المتعددة الأطراف الأولى التي تعترف بعدم شرعية نظم الرقابة التجارية و إجراءات التمييز التي تؤثر على حرية التجارة أو دخول الخدمات فيما وراء الحدود الوطنية
و نخلص ف النهاية إلى أهم العوائق التي تعترض حرية التجارة في الخدمات على أساس تجميع هذه العوائق إلى عوائق طبيعية و عوائق صناعية أو إنسانية أو من وضع الحكومات و الدول :
* العوائق الطبيعية : هذه العوائق تعود إلى طبيعة الخدمات ، فأحيانا تكون بعض الخدمات غير قابلة للتخزين ، و تحتاج المواجهة المباشرة بين المنتج و المستهلك في نفس المكان لإتمام المعاملة ، و يكون صعبا على المستهلك التحقق من جودة الخدمة أو صلاحها ، و هذا ما يستدعي علاقة وثيقة بين المنتج و المستهلك ، و من أهم العوائق الطبيعية الفروق الثقافية و اللغوية مقارنة مع السلع . فالاستثمار الأجنبي المباشر غالبا ما يعاني من هذا العائق الطبيعي و مطلوب منه أن يتغلب عليه .
* العوائق الصناعية : فهي تنقسم إلى جانبين بحسب ما تثيره في تمييز تجاه الموردين الأجانب ، فالعوائق و القيود على التجارة في الخدمات قد تكون مماثلة للعوائق على التجارة في السلع من حيث فرض الضرائب و الحصص و التعريفات على المنتجات من السلع الأجنبية .
و هناك عوائق أخرى يصعب تطبيقها على السلع و يمكن تطبيقها على الخدمات مثل :
- العوائق المانعة أو المحرمة : فهي ببساطة منع الأجانب من ممارسة بعض الخدمات أو خضوعهم لقواعد خاصة : كالتأمين الذي يمارس فيه الممانعة ، و الإذاعات التي عادة تخضع لنظام الحصص ( أي البرامج المقيدة )
- العوائق المنظمة : فهي تخضع لمجموعة شروط كالاستثمار حيث يسبب التغيرات التكنولوجية يخضع لقيود هامة مثل التشدد الذي تضعه الحكومات أو فرض إجراءات تميزية لدخول بعض الخدمات و عليه فمن أهم أهداف جاتز هو وضع حدود لهذه القيود على الاستثمار المباشر و وضعت لذلك بعض القواعد نستعرض أهمها مقارنة باتفاقية الجات هذه القواعد هي :
أولا : مبدأ الدولة الأولى بالرعاية :
و يعني هذا المبدأ أن أية ميزة تتعلق بتجارة الخدمات التي يمنحها طرف لطرف آخر في الاتفاق أو لدولة خارج الاتفاق ، تطبق فورا و دون شروط على كافة الأطراف في الاتفاق مع عدم التمييز بين موردي الخدمات الأجانب من حيث الدخول إلى الأسواق و شروط التشغيل و هذا مطابق للشروط في الاتفاقية الخاصة بالجات و الفارق الوحيد أنه في ظل اتفاقية الجاتز يمكن منح إعفاء زمني محدد لبعض الصناعات من مبدأ الدولة الأولى بالرعاية عند توقيع الاتفاقية و هذا الاختبار غير وارد و غير مطبق في اتفاقية الجات ، و يطبق مبدأ الدولة الأولى بالرعاية بالنسبة للتجارة في كل من الخدمات كما تعرفها المادة ( 1 ) من الاتفاقية .
و نظرا لاختلاف الدول فيما يتعلق بدرجة انفتاح السوق أمام الخدمات بين مختلف الدول أعطيت استثناءات من تطبيق هذا المبدأ لمدة معينة لا تتجاوز عشرة سنوات تخضع لمراجعة دورية . ثمّ أضيف ملحق يتعلق بالخدمات المالية نص فيه على أن مفاوضات سوق تجري خلال ستة أشهر من توقيع الاتفاقية أو إنشاء منظمة التجارة لإنهاء الاتفاق حول هذا الموضوع ، كذلك اتخذ قرار بالنسبة لقطاعي الاتصالات و النقل البحري لكي تستثني من مبدأ الدولة الأولى بالرعاية ، على أن يعمل الأعضاء إلى الوصول إلى اتفاق حولها .
ثانيا : مبدأ المعاملة الوطنية :
هذا الشرط الذي يكمل شرط الدولة الأولى بالرعاية ، يقضي بأن تعامل الخدمات الأجنبية طالما دخلت حدود الدولة المعنية ، مهما كانت الإجراءات المتخذة معها ، و بعد تأدية الرسوم الجمركية أو الإعفاء منها ، معاملة السلع و الخدمات الوطنية من حيث الضرائب المفروضة و الإجراءات التي تخضع لا في تسويقها ( في اتفاقية الجاتز ) أن هذا الالتزام يطبق فقط على قطاع الخدمات ، و القطاعات التابعة لها و التي تقرر الدولة وضعها على قائمة التزاماتها بالرغم من أن هذا الشرط قد لا يحقق المنافسة الحقيقية بين الخدمات الوطنية و الأجنبية . و هذا الشرط يتسع أيضا ليشمل تعهد الدولة بعدم التوسع في السياسات التي تخالف مبدأ المعاملة بالمثل .
ثالثا : مبدأ حرية الدخول إلى الأسواق دون عوائق :
لم تحدد الاتفاقية ماذا يقصد بحرية الدخول للأسواق و مع ذلك اتفق على منع ستة إجراءات تجاه الخدمات الأجنبية الواردة في جدول التزامات كل دولة و المعلن عنها و تتمثل هذه القاعدة في منع وضع أي قيود أو حدود على :
- عدد الموردين الأجانب إلى الدولة المضيفة .
- قيمة المعاملات و الأصول المتعلقة بالخدمة .
- حجم الناتج من الخدمات .
- عدد الأشخاص الطبيعيين الأجانب القائمين بتقديم الخدمة .
- الشكل القانوني للوحدة التي تقدم من خلالها الخدمة ( فروع أو وكلاء ....الخ )
- قيمة مساهمة رؤوس الأموال سواء تعلق الأمر بالحد الأقصى للقيمة المطلقة للاستثمار أو من حيث القيمة النسبية للمشاركة .
و نلاحظ أن التعهدات الخاصة بهذه الاتفاقية تفترض أن الالتزامات السابقة تطبق فقط على القطاعات و القطاعات الفرعية من قطاع الخدمات التي ستقبل الدولة فتح أسواقها بالنسبة لها أو ما يعرف بالمنافسة الأجنبية و تضعها على جدول التزاماتها .
و هنا تختلف اتفاقية الجات مع اتفاقية الجاتز من حيث أنه في الأولى يجب على كل دولة أن تقدم قائمة بتعريفاتها الجمركية إليها و أن تلتزم بأن تمثل تلك التعريفات الحدود القصوى ، أي لا تستطيع أن تزيد حدود هذه التعريفات عما هو معلن و إلا تعرضت للعقوبات ، أما بالنسبة للجاتز فكل دولة أن تقدم قائمة بالقطاعات التي تنطبق بالنسبة لها حرية دخول الأسواق و المعاملة الوطنية أيا كانت هذه الإجراءات ، و سواء استهدفت المحافظة على هذا المبدأ أو مخالفته .
و هكذا فإن هيكل الاتفاقية الخاصة بالخدمات ( الجاتز ) يقوم على التدرج و المفاوضة على تحرير التجارة قطاعـيا أي قطاع بقطاع و دولة بدولة حيث أن مبدأ عدم التمييز في المعاملة الوطنية و حرية الدخول إلى الأسواق و إلغاء كافة أشكال التفرقة في المعاملة بين الخدمات الوطنية و الخدمات الأجنبية لا يجب أن يتم مرة واحدة ، و بالنسبة لكافة الخدمات بمعنى آخر فإن انضمام أية دولة للاتفاقية يعني الالتزام الفردي بتحرير التجارة في الخدمات في القطاعات الرئيسية و الفرعية التي تقبل فيها الدولة ذلك وفقا لحدود و الشروط التي تضعها في هذا الشأن و الموعد المحدد للجدول لقبول الالتزام و بالطبع فإن ذلك يكون وفقا لظروف كل دولة على حدة ، و في هذا تختلف الجاتز عن الجات ، و ربما يكون هذا ضروريا لأن الخدمات تخضع لنظم متعددة في الرقابة و التنظيم على مستوى كل دولة و ذلك بعكس السلع التي قد يكون فيها اتفاق عام بين الدول .
و إذا كانت الإجراءات في اتفاقية الجاتز قد حرّمت بعض الممارسات الرقابية إلا أن هناك كثير من النظم لازالت باقية على إقرار بعض التصرفات غير المرغوب فيها و التي يمكن أن تعوق التجارة في الخدمات و خاصة فيما يتعلق بالاستثمار المباشر و تنقصها الشفافية و الكثير من الإجراءات التي أقرتها الجاتز أو قد تستخدمها الحكومات تحقق أغراض داخلية أخرى على المستوى المحلي مثل عدم تحديد عدد المشروعات التي تستخدمها الدولة لمنع الاحتكار و على أي حال فإن المنازعات في هذا الاتجاه سوف تترتب على تطبيق هذه الاتفاقية و التي سوف تقوم بحلها منظمة التجارة العالمية في الآجال اللاحقة من خلال آليات و قواعدها .
إذ من الممكن مثلا أن يستخدم مشروع أجنبي المادة ( 16 ) من الاتفاقية ضد الدولة المعنية معارضا تنظيم السوق بطريقة تخفي معها تميزا أو قيودا على حرية الدخول ، و سوف يعتمد في نظام حل المنازعات على التحكيم ، و هنا تختلف الجاتز عن الاتفاقيات الإقليمية التكاملية حول حرية التجارة في الخدمات فالجاتز تسمح لأعضائها بمواصلة التحرير التفضيلي المتدرج الأمر الذي يقلل من تأثير إجراءات طرف ضد طرف آخر في حين أن الاتفاقات الإقليمية تسعى إلى إزالة كل أنواع التمييز الأساسية بين الأعضاء سواء من حيث إلغاء كل الإجراءات التمييزية أو منع إجراءات جديدة بين الأعضاء فقط . فالانضمام لمنطقة تجارة حرة قد يعني أن تزيد الدولة من العوائق ضد الدول غير الأعضاء في المنظمة حتى و لو لم تتبع الدول الأعضاء الأخرى نفس الإجراء .
و عموما فإن الحكم على كفاءة الاتفاقية ( الجاتز ) فيما يتعلق بصناعة الخدمات و تحرير الأسواق يتوقف على النتائج الآتية :
1 – من الملاحظ أن الانضمام على الاتفاقية المتعددة حول الخدمات يفترض اتباع نظام معين و الخضوع لقيود و مجبرات متعددة تؤثر في السياسة الوطنية لكل دولة و تساعد الدولة على إجراء التغييرات الداخلية و أن تقاوم تأثير جماعات الضغط التي تسعى لحماية مصالحها من خلال تقييد حركة التجارة في الخدمات ، و هذا يعود إلى أنها تمثل تكلفة يتحملها الاقتصاد ككل عندما يرغب الارتداد عن تعهداته .
2 – الجات يلتزم بالتحكيم إذا رغب عضو في الانسحاب بعد التعهد و هذا لا يتم إلا عن طريق التحكيم .
3 – من المحتمل الوصول إلى حلول توفيقية فيما يتعلق بالخدمات المالية و الاتصالات في القريب العاجل دون التحكيم ، حتى تكتمل الاتفاقية .
4 – بالنسبة للدول النامية فإن المشكلة تتمثل في أن الكثير من هذه الدول تحوز على مزايا نسبية في بعض قطاعات الخدمات و لكنها ترتبط غالبا بحركة العمالة و هذا هو الأسلوب الأخير لانسياب الخدمات الذي ترك جانبا و لم يحدث أي تحرك فيه من جانب الدول الصناعية لصالح الدول النامية و يبدو الأمر غامضا في هذه الاتفاقية و سوف يتوقف مستقبل المفاوضات على كفاءة الدول النامية و قدرتها على إدخال موضوع انتقال الأشخاص الذين يقدمون الخدمات في إطار هذه الاتفاقية باعتبارها تحوز على موارد هامة في هذا المجال .
و الدول النامية تحتاج إلى تحرير أسواقها و سهولة الدخول إليها بالنسبة للخدمات ، لأن هذا يعني رفع الكفاءة الاقتصادية سواء بالنسبة للمستهلك أو بالنسبة للمشروعات الوطنية المنافسة و ذلك للحصول على خدمة أفضل و بسعر أقل و في أسرع وقت و المشكلة هنا هل تستطيع الجاتز أن تحقق ذلك للدول النامية أمام نفوذ و قوى الضغط الداخلية لذوي المصالح ؟ .
و بصفة عامة فقد حددت الاتفاقية أسلوب زيادة مساهمة الدول النامية في هذا المجال و ذلك بتقديم بعض الالتزامات المحددة من أطراف الاتفاق في الاتجاهات التالية :
- تقوية إمكانيات قطاع الخدمات في الدول النامية عن طريق نقل التكنولوجيا على أسس تجارية .
- تحسين نفاذ خدمات الدول النامية عن طريق قنوات التوزيع و شبكات المعلومات للدول المتطورة .
- تحرير قطاعات الخدمات التي تهم الدول النامية في مجال التصدير مع تسهيل عملية النفاذ إلى الأسواق الدولية .
5 – من الملاحظ أخيرا أن الجاتز تفرض بعض القيود على السياسات المتبعة و السيادة الوطنية فهي تتطلب عدم التمييز بين مختلف المصادر التي تقدم الخدمات و هي تسمح للدول باتباع سياسات تحقق الكفاءة الاقتصادية و المنافسة و تعطي الكثير من المبررات لحماية الاقتصاد القومي ، مثال ذلك : الإجراءات الواجب اتباعها لاستخدام مبدأ ضمان السلامة في توازن ميزان المدفوعات و كذلك الجاتز لا تطلب مساهمة الدولة لتغيير نظام الرقابة على صناعة الخدمات و أن تتبع سياسة فعلية لمواجهة الاحتكار فإذا كانت الحرية تعادل ببساطة زيادة منافذ الدخول فإنه ببساطة أخرى لن يترتب عليها سوى إعادة توزيع العائد بين المشروعات المختلفة .
الاتفاقية الخاصة بحقوق الملكية الفكرية " تريبس "
تمثل هذه الاتفاقية 73 مادة وضعت بهدف تحرير التجارة العالمية مع أخذ الاعتبار في أمرين أساسيين هما :
1 – ضرورة تشجيع الحماية الفعلية و الملائمة لحماية حقوق الملكية الفكرية .
2 – ضمان الإجراءات المتخذة لإنفاذ حقوق الملكية الفكرية في التجارة المشروعة .
لم يكن الطريق معبدا أمام هذين الأمرين حيث كان واجبا الموازنة بينهما بعناية و وعي ، و بعد 7 سنوات من التفاوض تمّ التوصل إلى نص هذه الاتفاقية الذي يتميز بميزة مهمة هي أنها لا تتعامل إلا مع الجوانب المتصلة بالتجارة في مجال حقوق الملكية الفكرية لا غير مع الإبقاء على الاتفاقية الدولية القائمة دون منح أية دولة عضو الحق في أي فترات زمنية السماح بالانتقال في هذا النطاق مبدأ معاملة الدولة الوطنية و معاملة الدولة الأولى بالرعاية و قد استدعى تنظيم هذه العلاقة المتداخلة بين اتفاقية تريبس و سائر الاتفاقيات حتمية إيجاد نوع من التعاون بين المنظمة التي تسهر على تطبيق اتفاقية تريبس و هي منظمة التجارة العالمية و المنظمة العالمية للملكية الفكرية . فقد اتفقتا في 22 – ديسمبر – 1995 م على بدء العمل بـ : " اتفاقية تريبس " اعتبارا من 1 – يناير – 1996 م و بوسع كل منظمة وضع نهاية لذا الاتفاق بعد مرور سنة ميلادية كاملة على تسليمها إخطار إلى المنظمة الأخرى و مع ذلك لم يكن الأمر بهذه السهولة ليحسم بمجرد الاتفاق حيث تضمنت اتفاقية تريبس نصوصا موضوعية صيغت صياغة أكثر مرونة و أحيانا أكثر سعة مما ورد في عدد من الاتفاقيات الدولية القائمة و الحاكمة لحماية الملكية الفكرية و هي اتفاقية باريس لحماية الملكية الصناعية ( 1967 م ) و اتفاقية بيرن لحماية المصنفات الأدبية و الفنية ( 1971 م ) و اتفاقية روما لحماية فناني الأداء و منتجي التسجيلات الصوتية و هيئات الإذاعة ( 1961 م ) و اتفاقية واشنطن لحماية الملكية الفكرية للدوائر المتكاملة ( 1989 م ) و قد أثار هذا المسلك تساؤلات عن مدى جواز اعتبار النصوص الجديدة الواردة في الاتفاقية الأخيرة : تريبس معدلة لهذه الاتفاقيات ؟ .
و قد وردت الإجابة على هذه التساؤلات في معاهدة فيينا الصادرة سنة 1969 م بشأن المعاهدات حيث تنص صراحة في مادتها ( 30 ) على أن تكون نصوص الاتفاقية الأحدث وحدها واجبة التطبيق كلما كانت هناك وحدة للموضوع و وحدة للأطراف و هنا تبرز فرضيتان ،
الأولى : انطباق اتفاقية تريبس وحدها و يكون ذلك في حالتين هما :
أ – أن تكون الدولة المعنية عضو في اتفاقية تريبس وحدها .
ب – أن تكون الدولة المعنية بالفعل في اتفاقية أو أكثر من الاتفاقيات سالفة الذكر .
الثانية : عدم انطباق اتفاقية تريبس و يكون ذلك إذا أبدت الدولة رغبة في الانضمام إلى الاتفاقية سواء كانت عضو في اتفاقية دولية أو أكثر ، أو لم تكن منظمة على الإطلاق .
ففي جميع الحالات السابقة تبقى الاتفاقية حسب معاهدة فيينا أن اتفاقية تريبس هي واجبة التطبيق .
و جدير بالذكر أن هذه الاتفاقية قد قسمت دول العالم إلى طوائف ثلاثة ، و ترتب على ذلك وضعا قانونيا مختلفا لكل طائفة من الدول التي تدخل في عضوية اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية على النحو الآتي :
- الطائفة الأولى : دول العالم المتقدم ، و تلتزم بتطبيق اتفاقية " تريبس " منذ اليوم الأول من شهر يناير 1996 م .
- الطائفة الثانية : دول العالم النامية و تتمتع بحق فترة السماح لأحكام لاتفاقية تريبس فيما عدا النصوص الخاصة بالدولة الأولى بالرعاية و المعاملة الوطنية ، مدتها أربع سنوات تنتهي في بداية شهر يناير سنة 2000 م .
و يأخذ حكم هذه الدول كل من الدول السائرة في طريق التحول من الاقتصاد المركزي المخطط إلى نظام اقتصاد السوق الحر – أنظر المادة 65/35251 من الاتفاقية الخاصة بالملكية الفكرية حيث ألزمت هذه الاتفاقية مجموعة هذه الدول بأن التغيير في منظومة قوانينها و اللوائح التنظيمية و تطبيقاتها خلال فترة السماح يتوافق مع الاتجاه العام لأهداف الاتفاقية و أن لا تتعارض مع محتويات المادة ( 65 من الاتفاقية ) .
و يجوز الحصول على مدة سماح إضافية تنتهي في الأول من شهر يناير سنة 2005 م بالنسبة لبعض المنتجات المستفيدة من الحماية ببراءات الاختراع في حدود معينة من المادة ( 65 / 4 ) .
- الطائفة الثالثة :
دول العالم الأقل نموا ، و تتمتع بالحق في فترة سماح فيما عدا النصوص الخاصة بالمعاملة الوطنية و مبدأ الدول الأولى بالرعاية ، مدتها عشر سنوات تنتهي في الأول من يناير سنة 2006 م .
مع جواز تمديد هذه المدة بقرار من المجلس الخاص بالمعاملات التجارية في اتفاقية حقوق الملكية الفكرية التابع لمنظمة التجارة الدولية ، استجابة لطلب وجيه يقدم من هذه الدول مجتمعة أو منفردة حسب ما تتضمنه المادة ( 66 / 1 ) من الاتفاقية .
و يلتزم المجلس التجاري في اتفاقية حقوق الملكية الفكرية بمراجعة تنفيذ اتفاقية تريبس بعد مرور الفترة الانتقالية الممنوحة للدول النامية طبقا للمادة ( 65 / 2 ) ، أي أربع سنوات اعتبارا من الأول يناير سنة 1996 م ، و تتم هذه المراجعة في ضوء الخبرة العلمية و العملية المكتسبة في تنفيذه بعد مضي سنتين على انقضاء هذه الفترة الانتقالية و على فترات مماثلة بعد ذلك ، كما يجوز لهذا المجلس دراسة أي تطورات جديدة تستوجب تعديل هذا الاتفاق أو تنقيحه ( مادة 71 / 1 – تريبس ) .
الجزء الرابع :
فكرة السوق الأوربية المشتركة و الشراكة الأورومتوسطية
من الناحية التاريخية ، يعتبر ( الاتحاد النقدي اللاتيني ) من أولى المحاولات في مجال بناء تكتل اقتصادي في القارة الأوربية في مواجهة المنافسة الحادة للاقتصاديات الأخرى ، و الذي يعود أساسه إلى عام 1865 حيث حاول هذا الاتحاد إصلاح النظام النقدي الأوربي الذي كان ينبع نظام المعدنين .
أما التعاون الاقتصادي الأوربي بشكله الحديث فقد ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مع مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية ، كما ظهرت خلال الحربيين العالميتين محاولات جدية و هامة لدعم التعاون النقدي و الاقتصادي ، و كان الهدف من ذلك إعادة بناء ما خربته الحرب العالمية الثانية و الأولى ، خاصة بعد اجتماع جنوة 1922 م و لندن 1933 م ، لكن هذين الاجتماعين لم يكتب لهما النجاح مما أدى إلى عقد الاتفاق الثلاثي عام 1936 م بين الولايات المتحدة و بريطانيا و فرنسا و الذي امتد بعد ذلك إلى عددا آخر من الدول الأوربية ، و هذا بهدف تحقيق بعض التنسيق بين أهم الوفرات الاقتصادية ، لكن قيام الحرب العالمية الثانية وضع حدّا لهذه المحاولة .
و كما هو معلوم كانت الدول الأوربية التي تعاني من عجز في موازين مدفوعاتها ، الشي الذي أدى إلى تبني مشروع مارشال و قد شكلت لجنة الدول الأعضاء في المنظمة الأوربية للتعاون الاقتصادي من أجل تنظيم عملية إجراء المدفوعات و التسويات بين الدول الأوربية مع تحديد طريق تمويلها ، و هكذا ظهر الاتحاد الأوربي للمدفوعات ، لكن استمرار الاتفاقية الثنائية التي تخضع لها المبادلات التجارية و ما يترتب عليها من مدفوعات كانت تضع الكثير من الصعوبات و العراقيل أمام تطور سبل و مجالات التعاون الاقتصادي و النقدي الأوربي ، فالدولة الأوربية التي يتوافر لديها فائض في مبادلاتها مع دولة أوربية أخرى لم تكن تستطيع استعمال هذا الفائض في تسوية عجز ميزان مدفوعاتها مع دولة أخرى .
و في هذا نوع من التناقض في العلاقات الاقتصادية و النقدية لذلك تم الاتفاق بين عدد من الدول الأوربية الأعضاء في عام 1947 م على وضع خطة لتسوية المدفوعات بين الدول الأوربية الأعضاء في المنظمة الأوربية للتعاون الاقتصادي و إنشاء ما يسمى بـ " آلية التسوية " بهدف التخلص نهائيا من الاتفاقات الثنائية و تأثيرها السلبي على مسار التعاون الأوربي .
أما المؤسسات التي ألقي على عاتقها مهمة وضع الاتفاقيات بين الدول الأوربية موضع التنفيذ هو " بنك التسويات الدولية " و هكذا استدعت الضرورة إقامة ( الاتحاد الأوربي للمدفوعات ) في عام 1950 م الذي يعمل بالتنسيق مع بنك التسويات الدولية .
و يتألف هذا الاتحاد من الدول الأوربية الأعضاء في المنظمة الأوربية للتعاون الاقتصادي و الذي يتولى النشاطات التالية :
1 – يقوم بفتح حساب لكل بلد عضو من أجل تقديم القروض لهذا البلد ضمن سقف محدد يمكن تغييره عند الحاجة ، و يقرر لكل عضو على حدة .
2 – تحديد أسلوب تسوية ميزان المدفوعات ( العجز و الفائض ) بحيث توضع نسب معينة من العجوز و الفوائض ستوجب تسويتها بالذهب و العملات الأخرى .
3 – يعتبر هذا الاتحاد مركز استشاري دائم فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية و النقدية .
لقد تمكن الاتحاد الأوربي خلال السنوات الأولى من نشاطه أن يقوم بإنجازات هامة تمثلت في :
1 – تطبيق نظام التسويات متعددة الأطراف .
2 – القضاء تدريجيا على نظام تحديد حصص الاستيراد الذي كان يعرقل اتساع و تطور المبادلات بين الدول الأوربية .
3 – تحرير المبادلات و المدفوعات بين لدول الأوربية من القيود التي كانت مفروضة عليها .
إن مساهمة الاتحاد الأوربي للمدفوعات قد تجاوزت تقديم التسهيلات المالية لتسوية عجز ميزان المدفوعات للبلد العضو إلى مجال إجراءات الاتصالات اللازمة مع كافة الدول الأعضاء لمناقشة الأوضاع الاقتصادية لمثل ذلك البلد مع تقديم التوصيات حول الحلول المقترحة لمعالجة ذلك العجز ، لذلك كان دور هذا الاتحاد فعالا في معالجة عجز موازين مدفوعات ألمانيا و إنجلترا في بداية الخمسينيات و يمكن القول أن إنشاء هذا الاتحاد كان بديلا أو استمرارا لمشروع مارشال الأمريكي بعد انتهاء أجل هذا المشروع .
أما الموارد الأولى المالية للاتحاد الأوربي فقد تم اقتطاعها بالدولارات من أصل الموارد المالية الخاصة بمشروع مارشال .
إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن طبعا عضوا في هذا الاتحاد ، لكنها كانت على صلة وثيقة بنشاطه كمراقب في لجنة إدارته ، لكن بعد أن استطاعت الدول الأوربية إعادة بناء اقتصادها و تمكنت بنوكها المركزية من إعادة تشكيل الاحتياطات النقدية أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تعارض استيراد الدول الأوربية في تطبيق القيود التمييزية تجاه السلع الأمريكية و الدولار .
إذا كان قيام الاتحاد الأوربي للمدفوعات قد فرضته الظروف التي خلقتها الحرب العالمية الثانية و ساعد في قيامه لتسهيل مبادلات و مدفوعات الدول الأعضاء ، فقد أصبح من غير المعقول بالنسبة للإدارة الأمريكية الاستمرار في اعتبار المنظمة الأوربية للتعاون الاقتصادي خاصة عند استعماله القيود التمييزية حيال الدولار . و لكن إزالة القيود على المبادلات و المدفوعات بين الدول الأوربية أعضاء الاتحاد أخذت بالامتداد تدريجيا لتشمل علاقات الدول الأوربية مع منطقة الدولار ، و ابتداء من هذه المرحلة أصبح موضوع الاستمرار في هذا النشاط يثير التساؤل الذي مفاده أن هذا الاتحاد قد فقد مبررات وجوده بعد تحقيقه للأهداف التي أنيطت به و تحت تأثير الكثير من العوامل تم إيقاف نشاط الاتحاد الأوربي للمدفوعات .
و في عام 1964 م و مع بداية تطبيق السياسة الزراعية المشتركة للدول الأوربية ظهر نوع من التضامن بين الأعضاء حيث شرع في إنشاء وحدة زراعية حسابية محددة القيمة بالذهب و قد أضيف لذلك عام 1968 م بعض القواعد التي تنظم سعر تكافؤ العملة لكل بلد عضو في السوق الأوربية المشتركة مقابل هذه الوحدة الحسابية .
و في عام 1969 م خلال مؤتمر لاهاي اتخذت الدول الأوربية بعض التوصيات حول إقرار خطة تمت على عدة مراحل و تنص على إنشاء وحدة اقتصادية و نقدية بين الدول الأوربية .
و منذ بداية 1970 م اتفقت البنوك المركزية الأوربية على مساعدات نقدية قصيرة الأجل تستغل بين الدول الأعضاء بموجب مبلغ إجمالي قدره مليون واحد من حقوق السحب الخاصة ، و قد تمت زيادة هذا المبلغ عام 1973 م إلى عدة مليارات .
و قد تمّ بعد ذلك اتخاذ قرارات لضمان تطبيق قرارات لاهاي و من هذه القرارات ما يلي :
1 – إقرار آلية للدعم المتوسط الأجل بمبلغ 2 مليار وحدة من حقوق السحب الخاصة .
2 – تحسين التنسيق بين الدول الأوربية حول السياسات النقدية القصيرة و المتوسطة الأجل .
3 – إنشاء صندوق أوربي للتعاون النقدي .
4 – تحديد هوامش ضيقة للتقلبات في أسعار صرف العملات الأوربية تجاه بعضها و ذلك حتى منتصف عام 1971 م .
و قد أقر المجلس الأوربي تقرير " فيرنر " في بداية عام 1971 م و الذي كان يحتوي على خطة ترمي إلى إقامة اتحاد نقدي أوربي على 7 مراحل ، بحيث أنه مع حلول عام 1980 م تكون أسعار صرف العملات الأوربية قد أصبحت ثابتة كما نص هذا التقرير على إنشاء احتياطي نقدي أوربي .
إن اتفاق واشنطن عام 1971 م قد نص على أن أسعار صرف عملات مختلف الدول يمكن أن تتغير ضمن حدود ( 2.25 +- ) من حيث تكافؤها بالدولار ، أي بحد أقصى قدره 4.5 % أو 9 % من الناحية الفعلية .
و بهدف الحد من هذه المرونة الواسعة ( التي هي أقرب إلى التعويم منها إلى ثبات أسعار الصرف ) اتفقت الدول الأوربية الأعضاء في " المنظمة الأوربية للتعاون الاقتصادي " على أن يكون هامش التقلب بين عملاتها كحد أقصى ( 2.25 % ) عوضا عن ( 4.5 % ) ، و قد تم العمل بهذا النظام ابتداء من أبريل 1972 م . و بافتراض أن المارك يمثل العملة الأقوى في النظام و أن الفرنك هو العملة الأضعف فإن الفرق بين العملتين ( هامش التقلب ) سيكون 4.5 % بدلا من 9 % الناتجة عن اتفاقية واشنطن عام 1971 م .
و لقد اشتهر هذا النظام باسم ( الأفعى في النفق ) حيث أن هامش التقلب بين العملات يمثل سعة هذا النفق ، أما أسعار الصرف الفعلية فتمثل الأفعى .. و بذلك فإن سعة هذا النفق ستكون في أقصاها عندما تكون هناك عملة قوية جدا ( - 2.25 % ) عن سعر التعادل ، و عملة ضعيفة جدا ( + 2.25 % ) عن سعر التعادل ( إن هذا النظام ينص على إبقاء الأفعى في النفق باستمرار ) و سعة هذا النفق سوف تضيق بانخفاض الهامش الذي تتقلب حوله العملات و عندما تكون تقلبات أسعار الصرف بين العملات ضعيفة جدا فإن هذا النفق يتقلص حتى يتلاشى ، بعبارة أخرى – عندما تتصف أسعار الصرف بدرجة كبيرة من الثبات فإن هذا النفق يكون ضيقا للغاية ، و في حالة ثبات أسعار الصرف ثباتا مطلقا ( من الناحية النظرية ) فلن يكون هناك أي نفق و إنما نجد النفق على شكل خط مستقيم ليس له أي سعة أما قياس أو تحديد تقلبات العملات تجاه بعضها فقد كان ينطلق أساسا من سعر تكافئها بالنسبة للدولار الأمريكي .
إن المحافظة على تقلبات أسعار صرف العملات ضمن الحدود المتفق عليها ( إبقاء الأفعى داخل النفق ) كان يقتضي فرض التزامات على الدول الأعضاء كيفية التدخل و أساليبه للتأثير على أسعار الصرف ... و أيضا أشكال الدعم المالي و طرق استعمال الذهب و حقوق السحب الخاصة و العملات الوطنية في إجراء التسويات بين التزامات الدول الأعضاء المترتبة تجاه بعضها و الناتجة عن التدخلات المشتركة في أسواق العملات بهدف التأثير على أسعار صرف العملات و العمل باستمرار على إبقائها ضمن الحدود المنصوص عليها .
في بداية عام 1973 م ، و كنتيجة لتوقع قيام ألمانيا الغربية بإعادة تقويم المارك حصل انتقال لرؤوس أموال هامة باتجاه ألمانيا ( زيادة عرض الدولارات مقابل الماركات ) مما نتج عنه انخفاض محسوس في قيمة الدولار بشكل اضطر معه البنك المركزي الألماني للتدخل في أسواق صرف العملات بشراء عدة مليارات من الدولارات بهدف دعم العملة الأمريكية ، و ذلك حسب ما اتفق عليه في واشنطن عام 1971 م .
لكن الضغط على الدولار كان قويا لدرجة لم تنفع معها تدخلات البنك المركزي الألماني مما اضطر الدول الأوربية و الولايات المتحدة لعقد اجتماع في باريس لاختيار أحد الحلين التاليين :
1 – تعويم العملات الأوربية ...
2- تخفيض قيمة الدولار ..
و لقد تم اختيار الحل الثاني ، و كان من نتائج تخفيض قيمة الدولار بنسبة ( 10 % ) أن استمرت الاسترليني و الفرنك السويسري و اللير الإيطالي تعوم ، أما بقية العملات الأوربية فقد حافظت على أسعار تكافئها مقابل لدولار ، لكن هذه الدول كانت مضطرة للتدخل بكثافة في أسواق العملات لدعم السعر الجديد للدولار .
و لذلك فإن بعض الدول الأوربية خرجت من الاتفاق النقدي الأوربي عام 1972 م و البعض الآخر عام 1973 م حيث لجأت معظم الدول الأوربية إلى تعويم عملاتها بسبب عدم قدرتها على إبقاء تقلبات أسعار الصرف ضمن الحدود المنصوص عليها سابقا .
إن الاختلال الكبير في موازين المدفوعات و التقلبات الحادة في أسعار صرف العملات و أيضا الاختلافات الهامة في معدلات التضخم في الدول الأوربية .. قد أدت إلى استحالة الاستمرار في الاتجاه التكاملي في مجال العلاقات الاقتصادية الأوربية .
لقد تم تقديم عدد من الدراسات و اقتراح بعض الحلول للمشاكل النقدية الأوربية ، منها :
تقرير رئيس وزراء بلجيكا في عام 1975 م و خطة وزير مالية هولندا في عام 1976 م ، لكن تطبيقها كان غير ممكن .....
و خلال الفترة ( 1977 – 1978 ) اتفقت ألمانيا و فرنسا على تحقيق انطلاق عملية التكامل النقدي الأوربي .
و أكدت قرارات المجلس الأوربي في ( بريمن ) و ( بروكسل ) خلال عام 1978 م على ضرورة وضع مخطط لإقامة تعاون نقدي وثيق بين الدول الأوربية بما يحقق الاستقرار النقدي في المنطقة بشكل عام .
و اتخذت هذه القرارات ثلاثة اتجاهات :
1 – تحديد أسعار الصرف .
2 – التسهيلات الائتمانية المتبادلة .
3 – تقديم الدعم المالي للدول الأقل تطورا .
فيما يتعلق بأسعار صرف العملات تمت مناقشة اقتراحين يمثلان نموذجين مختلفين لآلية أسعار الصرف في النظام النقدي الأوربي ، أولهما نموذج سلة العملات المقدم من قبل فرنسا ، و نموذج الأفعى في النفق المقترح من قبل ألمانيا ( و الذي أشرنا إليه سابقا ) .
الخاتمة :
و هكذا فإن ظهور المؤسسات الدولية لا سيما منها المؤسسات المالية و النقدية له انعكاسات على اقتصاديات العالم الثالث لا تكمن في الهيمنة فقط بل تتعدى ذلك إلى تقلبات أسعار الصرف و مستويات التشغيل و الاستهلاك و الإنتاج ، حيث أصبح النظام الاقتصادي الدولي غير عادل ، هذا النظام الذي استطاعت الدول الصناعية تكييفه لصالحها بالشكل الذي يؤمن استمرار استنزاف ثروات البلدان النامية و إعادة توزيع دخولها لحساب تلك القلة من الدول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية .
إن هذا الواقع و ما نتج عنه من مؤشرات يفرض على البلدان تحديات صعبة تستلزم مواجهتها و انتهاج سياسة تكتل و توحيد الجهود في مجال التعاون في شكل مجموعات اقتصادية أو التعاون جنوب جنوب و دعم نشاط المؤسسات الإقليمية ، و تنسيق المرافق في الأسواق الدولية للدفاع عن مصالحها و الحد من الاحتكارات الدولية في أسعار صادراتها و الاستفادة من العوائد التحقيقية لهذه الصادرات .
و عليه فقد ظهرت التكتلات المختلفة ككتل لدول أوربا و تكتل جنوب دول آسيا و تكتل دول أمريكا الجنوبية و الشمالية و تكتل الدول العربية في المغرب العربي و دول الخليج ، و ذلك من أجل توسيع آفاق و مجالات نشاط مؤسساتها الاقتصادية الإقليمية بشكل خاص ، و توحيد مواقفها داخل المنظمات الاقتصادية و المالية و النقدية الدولية .
إن زيادة كفاءة و فعالية استخدام الموارد الذاتية بمختلف أشكالها يمكنها إلى حد بعيد أن تحد من التبعية الاقتصادية و بالتالي التخفيف من الآثار السلبية على اقتصاداتها ، فالأزمات التي فرضها النظام الاقتصادي الدولي غير العادل على الدول العربية كان له الأثر الواضح على ما تعانيه هذه الاقتصادات و للتخلص من هيمنة رأس المال الدولي يجب تركيز الجهود في المجالات التالية :
- التنسيق بين السياسات النقدية و المالية لهذه الدول و توحيدها مستقبلا .
- إقامة و إنشاء شركات مالية مشتركة .
- تطوير و توسيع الأسواق النقدية و المالية في العالم الثالث .
- إيجاد وسائل و أدوات الادخار و الاستثمار كفوءة من أجل تلبية حاجات التنمية .
- تسهيل انتقال رؤوس الأموال بين الأقطار التنافسية .
- إقامة المؤسسات المالية المشتركة كصندوق النقد العربي ، البنك الإفريقي و البنك الإسلامي للتنمية ...الخ
لا شك أن تحقيق كل ذلك يتطلب جهودا شاقة و طويلة الأمد ، و أمام تزايد التحديات الاقتصادية يجب تفعيل دور هذه التكتلات و استكمال المراحل التالية من ما تمّ إقراره من الخطط و الدراسات حول تدعيم التعاون الاقتصادي و تحقيق الوحدة على مستوى هذه التكتلات لمواجهة الهيمنة الدولية .