وبعد تخرُّجي وانقضاء تدريبي في المستشفيات (المشافي) سعدت بما فيه الكفاية لقبول بورنيت إياي، ولكنه كتب قائلا بأنه غدا أقل اهتماما بالڤيروسات منه في استكشاف الجهاز المناعي البشري، فجزعت لذلك جدا؛ إذ كنت أعتقد أن العمالقة الأوائل ـ< لويس پاستور> و <پول إرليش> و<إميل ڤون بيهرنگ> ـ قد سبق لهم أن اكتشفوا الحقائق الأساسية للمناعة، وأن مواضيع الصحة العامة التي هي التطبيق الرئيسي لبحوث علم المناعة، بدت مملة أكثر من غيرها بين مواضيع الدراسة الطبية.
وبعدئذ عرفتُ كم كنتُ على خطأ في ذلك. فما إن بدأتُ بحث التخرج حتى أخذتْ تظهر في الحال سلسلة من المكتشفات المتعلقة بالمناعة، وذلك في سياق فصل استثنائي في تاريخ الطب الحيوي history of biomedicine. فقد لاحظ الباحثون أن كريات الدم البيض التي تدعى اللِّمفاويات (البلغميات) lymphocytes، والتي تبيد الميكروبات المُمْرِضة الداخلة إلى الجسم، تستطيع مهاجمة الخلايا السرطانية وردعها ولو بشكل مؤقت على الأقل. كما أظهرت تجارب أخرى أن تلك اللمفاويات نفسها تستطيع كذلك أن تتصرف بأشكال غير مرغوب فيها. فعلى سبيل المثال، يمكن لها أن تعمل ضد الخلايا الغريبة التي تدخل الجسم عن طريق الأعضاء المُغْتَرَسة transplanted organs مسببة بذلك رفض الطُّعْم المغروس. وإذا انهار تنظيم الجهاز المناعي فإنه يمكن للمفاويات أن تهاجم خلايا تنتمي للجسم نفسه في حين أنه يتوجب عليها حمايتها، مما يؤدي إلى مرض مناعي ذاتي مميت.
لقد ركَّزت جميع هذه المكتشفات اهتمامها بواحد من أكثر الأسرار المركزية والمحيرة في الجهاز المناعي، ألا وهو: الطريقة التي يمكن بها لهذا الجهاز أن يتعرف ذلك العدد اللامتناهي فيما يبدو من الڤيروسات والبكتيريا (الجراثيم) والعناصر الغريبة التي تهدد صحة الكائن الحي. ففي معظم التفاعلات الكيميائية الحيوية (البيوكيميائية)، مثل ارتباط أحد الهرمونات بأحد المستقبلات أو التصاق أحد الڤيروسات بعائله (ثويِّه) host، أدت مسيرة التطور
الطويلة إلى تنقيح الكيمياء المعنية بحيث يتحقق لكل جزىء أن يتحد بشريكه على نحو مضبوط ومسبق التحديد. أما الجهاز المناعي فإنه على النقيض من ذلك لا يستطيع توقع نوع الجزىء الغريب الذي سيصادفه لاحقا.
يعد الضد (الجسم المضاد) antibody واحدا من العناصر الحاسمة التي تساعد الجهاز المناعي على مواجهة ذلك التحدي. والضد هو جزىء بروتيني كبير اكتشفه ڤون بيهرنگ و <Sh.كيتاساتو> في عام 1890. وتتثبت الأضداد على الغزاة الدخلاء مثل البكتيريا والڤيروسات فتحيّدها neutralize، كما أنها تطوق الميكروبات بأسلوب يجعلها سائغة للخلايا القمَّامة (الكانسة) scavenger cells مثل البلعميات (البلاعم) macrophages. ولا يفعل كل نمط من الأضداد فعله إلا في جزىء مستهدَف بالغ النوعية يعرف باسم المستضد antigen. وهكذا، فإن الأضداد التي تهاجم عصيات مرض الجمرة anthrax ليس لها تأثير ضد التيفوئيد (الحمّى التيفية). وعلى مدى عشرات من السنين تصور البيولوجيون المستضد كنوع من المِرْصاف template يقولب جزىء الضد نفسه حوله متخذا شكلا متمما له. وهذه النظرية التي كان <F.هاوروڤيتس>أول من أوضحها بجلاء في الثلاثينات ومن ثم ناصرها<L.پاولنگ>، بقيت مسيطرة حتى نحو عام 1960.
وفي نحو منتصف الستينات من القرن الحالي وقع نموذج المرصاف هذا في مأزق؛ إذ بينتُ مع <L.G.آدا> (من معهد هول) أن الخلايا الصانعة للضد لا تحوي أي مستضد يصلح لأن يتشكل حوله ضد. وقد أظهرت دراسة الإنزيمات أن بنية البروتين تعتمد فقط على التتالي sequence الخاص لوحداته الفرعية (الجزئية) من الحموض الأمينية. وعلاوة على ذلك، استنتج <F. كريك> أنه في المنظومات البيولوجية تتدفق المعلومات من الدنا DNA إلى الرنا RNA ثم إلى بروتين. ولهذا السبب لا تستطيع بروتينات المستضد أن تحدد البروتينات الضدية antibody proteins الجديدة: فالمعلومات اللازمة للبنى الضدية يجب أن تتكود (تترمز) encoded في الجينات. وقد أثارت تلك المكتشفات السؤال المحير التالي: إذا كانت الجينات تملي صناعة الأضداد، فكيف يمكن أن يكون هناك جينات نوعية specific لكل واحد من ملايين الأضداد المختلفة التي يستطيع الجسم أن يصنعها؟