ما هو الكافيار؟ من المؤكد أن معظم الناس قد سمعوا بالكافيار غير أن أغلبهم ربما لم يسبق أن تذوقه أبداً. الكافيار هو من أطايب الطعام ويتكون من بيض السمك أو ما يسمى البطارخ، ومن سمك الحفش تحديداً الذي يعيش بشكل أساسي في المياه الباردة في بحري قزوين والأسود اللذين يفصلا بين روسيا والشرق الأوسط. يأتي 90 بالمئة من الكافيار الأصلي المنتج في العالم من بحر قزوين الذي توفر بيئته المكان الأمثل لإنتاج أفضل أنواع سمك الحفش في العالم. ويتنوع لون الكافيار الذي يأخذ شكل حبيبات دقيقة بين الأسود والرمادي والأصفر والبني. غير أن بعض أنواعه قد يصل حجمها إلى حجم حبات البازلاء.
ويعتقد البعض أن الإغريق كانوا يأكلون سمك الحفش قبل قرون من اكتشاف الفرس والترك له. كما تظهر صور الحفش في النقوش الفرعونية في معابد الأقصر وعلى عملات قديمة عثر عليها في تونس مما يشير إلى أن مواقع عيش الحفش قد امتدت حتى كامل سواحل شمال إفريقيا.
كما تحدث الرحالة الإغريق الأوائل عن نوعين من سمك الحفش كانا يباعا في أسواق الإسكندرية. وفي الحقبة الرومانية كان لحم الحفش من أطايب الطعام النادرة والغالية ولا يقدم إلا في الولائم كطبق خاص. وقد ذكر أن الرومان احتفلوا بهزيمتهم لقرطاجة بتقديمهم لحم الحفش في وليمة صاخبة. كما كتب سيشرون في القرن الأول قبل الميلاد واصفاً الحفش بأنه “سمك لا يناسب إلا قلة مختارة من الأطباق”. أما غياب أي ذكر واضح للكافيار في المخطوطات القديمة فيشير إلى أن قليلين جداً قد عرفوه في السنوات الأولى لتسجيل التاريخ رغم أن الحفش كان معروفاً على نطاق واسع.
اسم الكافيار الذي أطلق على بيض الحفش مثلما أطلق على الطعام الذي يعد منه وصل أوروبا من إيران عبر تركيا كما دخل اللغة الإنكليزية من كلمة خافيار التركية أواخر القرن السادس عشر. غير أن كبار اللغويين في القرن العشرين يعتقدون أن أصل الكلمة إيراني وتحديداً من كلمة “تشاف-جار” الفارسية والتي تعني بالعربية كعك القوة. ويعتقد أن الأذربيجانيين والفرس الأوائل كانوا أول من تذوقوا البطارخ واعتبروه دواءً للعديد من العلل.
ويأتي أول ذكر صريح للكافيار في العصور الوسطى وتحديداً في القرن الثالث عشر في روسيا. وكان المغول بزعامة باتو خان- حفيد جنكيز خان قد استولوا على موسكو عام 1240. وبعدها ببضع شهور رحل باتو خان عن مقره بجانب نهر الفولغا مع زوجته يلدز لتفقد رعاياه الجدد في بلدة مجاورة. وكانت قبائل المغول بقيادة باتو خان قد سيطرت على معظم وسط روسيا ووصل خرابهم حتى كييف قبل أن يحرقوا موسكو ويسووها بالأرض. وحينها أراد هذا الزعيم المغولي أن يظهر للروس في الأراضي التي فتحها بأنه زعيم حضاري أيضاً.
أعد الروس لاستقبال حاكمهم الجديد وليمة عامرة، بين أطباقها سمكة حفش كاملة مشوية. وكان الطبق الختامي الذي قدمه الفلاحون الروس لإظهار احترامهم له مربى تفاح ساخن فوقه بطارخ حفش مملحة. ويقال أن يلدز شعرت بالقرف الشديد من زنخة الكافيار الساخن لدرجة أنها اضطرت إلى ترك الوليمة والذهاب إلى غرفتها دون أن تتذوق هذا الطبق. غير أن باتو خان، ذلك المخضرم الذي عجنته الحروب وشدت ساعده سنوات من وجبات العسكر أجبر نفسه على أكل ما قدم له. ولا بد أنه أعجب جداً بمذاقه لدرجة أنه احتفظ بوصفة تحضيره في مذكراته.
وفي تلك المرحلة أصبحت قبائل المغول بقيادة باتو خان تسيطر على المعابر المائية الرئيسة في منطقتي البحر الأسود وبحر قزوين وهو ما جعلهم مهيمنين على مصائد سمك الحفش وطرق تجارته. وحين بنى باتو خان عاصمته اختار لها موقعاً شمال أستراخان مباشرة عند تقاطع مهم على طريق الحرير. وهذا الموقع الاستراتيجي أعطى المغول فرصة الإفادة من طرق القوافل بين الصين وأوروبا والشرق الأوسط. واستطاع التجار المغول إقناع نظرائهم الأوروبيين بأن يحملوا معهم أحمالاً غير ذات شأن من الكافيار من مصائد الحفش في بحر آزوف. كما أن العرب نشروا الكافيار في بلاد أخرى حين دخلوا صقلية ومن هناك انتقل إلى منطقة بروفانس الفرنسية على المتوسط.
يحفظ معظم الكافيار اليوم في محاليل ملحية ويباع بأسعار تتراوح من 6 و16 دولار للأونصة. أما الكافيار الطازج المنتج من البطارخ عالية النوعية فهو أكثر ندرة وتصل أسعاره إلى 300 دولار للأونصة. فما هو مبرر هذه الأسعار الفاحشة؟ السبب هو أن هناك ثلاث دول في العالم فقط تنتجها وهي روسيا وإيران ورومانيا. وهناك كافيار مقلد تنتجه بضع دول أخرى من بطارخ سمك القد والسلمون وغيرها غير أن الذواقة يقولون أنه لا مجال للمقارنة أبداً مع الكافيار الأصلي.
السبب الآخر هو صعوبة استخلاص الكافيار، ذلك أن الحفش بطيء جداً في إنتاجه. فالحفش يستغرق من الزمن كالإنسان تماماً ليصل سن النضج الجنسي. ومع أن كل سمكة تحمل في بطنها ملايين من البيض غير أن المعدل المحتمل هو أن يبلغ فرخ واحد منها فقط سن البلوغ. وهذا الفرخ الوليد والوحيد الذي يقدر له أن يبلغ سن النضج عليه أن يجازف بحياته ليتكاثر وذلك بالهجرة إلى أعالي الأنهار وفق المسار نفسه الذي سبق أن هاجر فيه أبواه حيث يسبح عبر قنوات ضيقة ينتظره فيها صيادون قادرون على الإمساك به بسهولة فيها. وتوجد أكثر أعداد الحفش عالمياً في الأجزاء الشمالية من بحر قزوين عند مصب نهر الفولغا.
ويعتبر الحفش أغلى الأسماك في العالم. وتم حتى الآن تحديد 25 فصيلة منه ثلاثة منها فقط تنتج الكافيار وكلها تعيش في بحر قزوين. وهذه الفصائل الثلاثة هي التالية:
بيلوغا (هوسو هوسو)
يزن البيلوغا عادة بين 75 و100 كيلوغرام أما طوله فيصل إلى المترين. وتنتج السمكة حوالي 20 كيلوغراماً من الكافيار ويصل متوسط عمره إلى 100 عام تقريباً. لون كافيار البيلوغا يتراوح بين الرمادي الغامق والفاتح وهو كبير الحجم وله قشرة رقيقة.
آسيترا (أسيبينسر إس بي)
معدل وزن الآسيترا 20 كيلوغراماً وطوله 1.5 متر وينتج بين 4 و7 كيلوغرامات من الكافيار كما يعيش حتى 50 عاماً. ولون كافيار الآسيترا رمادي غامق إلى فاتح أو ذهبي وهو لذيذ الطعم جداً.
سيفروغا (أسيفينسر ستيلاتوس)
معدل وزن هذه السمكة 10 كيلوغرامات وطولها بين 1 و1.4 متر كما تنتج حوالي 3 كيلوغرامات من الكافيار وتعيش حتى 30 عاماً. كافيار سبيروغا رمادي غامق وحبيباته صغيرة كما أنه لذيذ الطعم.
شراهة الحفش تجعله سمكة ضخمة لا تتوقف عن النمو في الحجم. وتزن أكبر سمكة بيلوغا تم الإمساك بها حتى الآن والتي ربما تكون قد عاشت أكثر من 100 عام 4750 رطل وطولها 20قدماً. كما بلغ وزن أنثى بيلوغا أمسك بها عام 1966 في نهر الأورال 2520 رطل وأخرج منها 900 رطل من البطارخ مما يجعل من ثمنها بسعر اليوم نصف مليون دولار. وبلغ وزن سمكة حفش بيضاء من سمك المحيط الهادي أمسك بها في نهر فريزر قرب فانكوفر حوالي 1600 رطل وبلغ طولها 18 قدماً.
يتباين لون بطارخ الحفش وذلك يعود عادة لمأكله. ويعتبر اختيار التوقيت الدقيق أمراً أساسياً لصيد الحفش. يضع الحفش بيضه عادة على قيعان الأنهار العذبة. ويجب على الصيادين الإمساك بالسمكة قبل أن تصبح جاهزة لتبيض مباشرة ويعتقد أن أفضل الكافيار يأتي من الأسماك التي يمسك بها قبل 4 أيام من وضع البيض. وإذا ما أمسكوا بسمكة قبل وقت مبكر جداً في طريق هجرتها فإنهم يبقونها حية حتى ينضج بيضها لأن البيض يصبح أخف وأطيب مذاقاً كلما اقترب موعد وضع البيض. وفي هذه الحالة يضع الصيادون السمكة في قفص عائم في الماء بدون تمكينها من الحصول على أي غذاء وهكذا تضطر السمكة الجائعة لاستهلاك الغذاء المخزن في بطارخها. وحالما يستهلك هذا الغذاء تصبح البطارخ جاهزة للأكل.
يقوم الصيادون بقتل السمكة واستخلاص البطارخ منها. ثم يغسل البيض ويوضع في محلول مملح ويعبأ في علب معدنية أو زجاجية لشحنه إلى مختلف أنحاء العالم. ويجب أن تكون رائحة الكافيار جيد النوعية مثل رائحة الماء المالح كما يجب أن يكون له غشاء خارجي رقيق لماع وغير مكسور لكل بيضة. أما الزيت داخل البيضة فيجب أن تكون لزوجته شبيهة بلزوجة العسل كما في درجة الحرارة العادية. أما أغلى البيوض سعراً فهي ذات اللون الأصفر الذهبي.
ظهرت كلمة كافيار في اللغة الإنكليزية لأول مرة حين عرف هذا المنتج بين الواردات الأوروبية من الشرق الأوسط في السنوات الأولى من القرن الخامس عشر وربما تكون قد عرفت قبل ذلك. في أعمال شكسبير كان الكافيار رمزاً لذوق النخبة حيث يقول في مسرحية هاملت: “المسرحية، كما أتذكر، لم تعجب الملايين، كانت كالكافيار عند العامة.” بارتولوميو سكابي، الطاهي الشخصي للبابا بيوس الخامس يذكر الكافيار في أحد الذي نشر أول مرة في البندقية عام 1570. ويقول: “ينتج الكافيار من بطارخ الحفش ويأتي به من الإسكندرية ومن أماكن أخرى في البحر الأسود تجار يعبؤونه في علب. ويقدم على شرائح ساخنة من الخبز المحمص مع حساء البازنجان والفليفلة الحلوة.”
اختيار أفضل الطرق لتقديم الكافيار هي أمر يعود للذوق الشخصي عموماً غير أن فن الموائد يقضي بعدم تعريض الكافيار ذي النوعية العالية لأي معالجة نهائياً وأن يستمتع به لوحده من أجل طعمه هو حصراً. ويميل الذواقة لإبقاء أطباقه بسيطة من أجل الاستمتاع بمذاقه الطبيعي. وفكرة التمتع بالكافيار من أجل مذاقه الطبيعي الخاص حصراً أفرزت الطريقة التقليدية في تقديمه وهي أن يؤكل مع مواد ذات طعم محايد (أي بدون ملح) كأن يؤكل مع خبز أبيض أو محمص أو مع بيض مسلوق جداً أو مع كعك البطاطا أو مع الرز . أما الأطعمة التي تقدم إلى جانب الكافيار فهي أيضاً يجب ألا تؤثر على مذاقه الفريد مثل الأفوكادو والكريمة الحامضة والزبدة غير المملحة. ويحب البعض إضافة الكافيار إلى الوصفات الأخرى. لكن القاعدة العامة هي ضرورة عدم طهي الكافيار كثيراً لأن ذلك سيجعله قاسياً ويفقده نكهته الأصلية. ويأخذ الكافيار أفضل مذاق له حين يضاف إلى الوصفات في اللحظة الأخيرة من الطهي لأن ذلك يجعله يضفي مذاقه على أنواع الحساء والصلصات أو حتى بعد انتهاء الطهي.
يمكن تقديم الكافيار في أي مناسبة حين يرغب المضيف أن يجعلها خاصة أو مثيرة أو رومانسية يتذكرها طويلاً كما يقدم على وجبات العشاء حسب الرغبة. ويجدر الاستمتاع بالكافيار باعتباره أحد متع الحياة الرائعة والبسيطة شأن الفنون العظيمة أو الموسيقى الراقية كما يجدر الاحتفاء بأطباقه بقليل من الرسميات أوالانتباه للتفاصيل.
قصة الكافيار قديمة بدأت بالصراعات والأزمات. وعلى مر السنين اعتبرت العائلات المالكة في دول مثل روسيا والصين والمجر والدنمارك وفرنسا وإنجلترا الحفش “السمك الملكي” بحكم القانون وأن كل أسماك الحفش التي يمسك بها هي ملك للخزانة الملكية ويجب أن تعطى للعائلة المالكة أو علية القوم. ومنذ وقت طويل استغلت الأطماع التجارية أسماك الحفش في المياه الأمريكية بلا رقيب. كما أرست السلطات الشيوعية في روسيا تكتلاً احتكارياً معقداً لتسويق الكافيار في الأسواق الغربية الثرية. وحاولت المافيات الروسية السيطرة على تجارته ببيع كافيار مزيف في الأسواق الدولية بأسعار بخسة.
يستهلك الأمريكيون أكثر من 20 ألف رطل من الكافيار سنوياً غير أن الذي لم يسبق أن أكل الكافيار حين تأتيه فرصة تذوقه لأول مرة ربما يتساءل في نفسه ما كل هذه الهوس به، فالكافيار أولاً وأخيراً ليس أكثر من بيض سمك مملح.