عقوبة الإعدام في الجزائر: الواقع وإستراتيجية الإلغاء "دراسة تحليلية للمنظومة التشريعية
المقدمة:
ما يزال المجتمع الجزائري يجهل الكثير عن عقوبة الإعدام التي يتم النطق بها في مئات المرات في السنة الواحدة، رغم أنه تم تجميد تنفيذها منذ سنة 1993. وتراجعت الجهات التي كانت في وقت سابق تطالب بإلغاء هذه العقوبة "الوحشية"، منذ أن أعلن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، بأن هناك مشروعاً قيد الإنجاز على مستوى وزارة العدل. فأصبح الجميع ينتظر الإفراج عن هذا القانون أو الأمر الرئاسي في أية لحظة.
وإذا كان المشرع الجزائري أراد أن يقلص من حجم المواد التي تنص على إدانة مرتكبي بعض الجرائم بعقوبة الإعدام، فإن النقاش الذي ما يزال يفتح نوافذ عديدة هو ما الهدف من إدانة أي متهم بهذه العقوبة ما دامت لا تطبق؟
لقد أدى صدور وتنفيذ حكم الإعدام على الرئيس العراقي السابق صدام حسين، إلى عودة النقاش السياسي حول اتجاه الجزائر نحو إلغاء عقوبة الإعدام، ولم تتردد وسائل الإعلام ولا الناشطين في المجتمع المدني إلى المطالبة بالإسراع بإصدار قانون يلغي هذه العقوبة. وأن تكون الجزائر أول دولة عربية تقدم على مثل هذه الخطوة الشجاعة، منتهجة بذلك مسار الدول المتقدمة التي قررت إلغاء عقوبة الإعدام، وقالت نصف بلدان العالم لا لقوانين تنص على هذه العقوبة ولا لتنفيذها أيضاً.
منذ سنوات طويلة وأحكام الإعدام تصدر في حق الكثير من الجزائريين، باعتبارها أقسى عقوبة يمكن أن تصدر ضد مرتكبي الجرائم "الخطيرة". إذ إنها تعني سلب هذا الإنسان الحق في الحياة. وكانت هذه العقوبة، وما تزال، تصدر أحياناً باسم الشعب والقانون. ولكنها كانت باستمرار تجسد مضامين القسوة القاهرة والمطلقة الكامنة فيها. وكانت هذه العقوبة، وما تزال، تمارس بحجة أنها تمثل ردعاً لآخرين من أجل تجنب ارتكاب جرائم مماثلة تقود إلى وقوع الفرد تحت طائلة حكم الإعدام.
ولكن تجربة الجزائر التي تضاف إلى تجارب الشعوب على امتداد التاريخ، تؤكد بما لا يقبل الشك بأن هذه العقوبة لم تمنع، بأي حال، وقوع جرائم بشعة ارتكبها أشخاص من المنطقة نفسها أو الولاية التي أدين فيها من قبل أشخاص بحكم الإعدام. وحسب ما يتجه إليه المختصون فإن الأساس المادي لمنع الجريمة يكمن في واقع ومستوى تطور المجتمع والظروف التي يعيش فيها الأفراد، وليس بمستوى العقوبة المطبقة و"صرامتها"، وإلا كيف تفسر السلطات الجزائرية، حالة الاكتظاظ التي تشهدها مختلف المؤسسات العقابية، السنة تلو الأخرى.
كما أن التجربة أثبتت بأن الدول التي ألغت عقوبة الإعدام منذ سنوات، وبسبب تغيرات إيجابية في حياة تلك المجتمعات، قد تقلصت نسبة الجرائم التي كانت تعرض مرتكبيها إلى عقوبة الإعدام. في حين ما تزال ترتكب في الجزائر وفي غيرها من الدول التي تنص قوانينها أو تمارس عقوبة الإعدام.
وتشير المعلومات المقدمة من طرف المؤسسات العلمية والبحث التطبيقي ومنظمة العفو الدولية إلى أن مرتكبي جرائم القتل أو السطو أو الاغتصاب مع القتل...الخ، غالباً ما كانوا يعانون من شتى الأمراض النفسية والعصبية والعقد الاجتماعية. ولهذا فإن الجرائم التي ارتكبوها وأدينوا بها قد ارتبطت مباشرة بتلك العلل والأوضاع الاجتماعية التي كانوا يعانون منها ويعيشون تحت وطأتها.
بالإضافة إلى هذا، فإن عدداً ليس بالهين ممن أصدر في حقهم حكم الإعدام لم يكونوا من مرتكبي تلك الجرائم، بل أبرياء مما نسب إليهم من تهم، وان أخطاء ارتكبت في التحقيق أو أن الشهود زوروا أقوالهم، مما أدى إلى صدور وتنفيذ أحكام إعدام لم يعد ممكناً تصحيحها.
لم تكن العقوبة أمراً شاذاً في حياة المجتمعات والشعوب، بل كانت موجودة على مر القرون، لكن النظرة الحديثة للعقاب أو الجزاء، لم تعد تأخذ بالاعتبار خطورة الوقائع التي يحاكم بها المتهم، بل بالأثر الذي ستحدثه هذه العقوبة على المجتمع بصفة عامة والمتهم بصفة خاصة، مع التفكير المتأني فيما إذا كان الحكم الصادر قانونياً أم لا؟ خصوصاً وأن هذا الأخير؛ أي الحكم، سيصدر باسم الشعب، وأنه سيحدث شعوراً بالعدالة.
ومن خلال الدراسة التحليلية للتشريعات والمواد القانونية الخاصة بالجزائر، سنقوم في هذا البحث بتسليط الضوء على عدة مسائل جوهرية تبين مدى إمكانية اتجاه المشرع الجزائري إلى إلغاء عقوبة الإعدام نهائياً. كما سنتحرى عن نية السلطات الجزائرية ومدى إيمان المجتمع المدني في الإقدام على مثل هذه الخطوة، من دون تجاهل المعوقات والآراء المناهضة لفكرة إلغاء هذه العقوبة.
وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر، والجدال المحتدم بين المؤيدين والمعارضين يبقى التساؤل الذي يطرح نفسه: هل ستكون الجزائر من بين أولى الدول العربية التي تقدم على إلغاء عقوبة الإعدام؟، وما هي الاستراتيجية التي يجب أن تنتهج من طرف السلطات والمجتمع المدني لخلق فضاءات للنقاش الموضوعي الهادف من أجل رسم ملامح الاقتناع بالإلغاء، بعد أن تم إقرار تجميد التنفيذ سنوات الإرهاب؟
مفهوم العقوبة:
تتعإلى الأصوات في الآونة الأخيرة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام من القوانين والدساتير العربية، تبعاً لما هو معمول به في الدول الغربية المتقدمة احتراماً لقوانين وحقوق الإنسان.
لكن قبل الحديث عن المواقف المتباينة من هذه العقوبة التي أصبحت توصف بأنها "همجية"، لا بد أن نشير إلى أنه لا يمكن تحديد مفهوم أو مضمون عقوبة الإعدام، من دون الحديث عن خصائص العقوبة بصفة عامة. ما دام الإعدام في الجزائر، ما يزال عقوبة يتم النطق بها في مختلف المحاكم الجنائية.
فما هو مضمون عقوبة الإعدام؟ وما هي خصائص وعيوب عقوبة تنطق باعتبارها حكماً قضائياً في المحاكم الجنائية؟
أ. مضمون عقوبة الإعدام:
تبقى عقوبة الإعدام أقصى الأحكام الصادرة في تاريخ الإنسانية، والتي تقابل كل فعل شنيع يرتكب في حق شخص أو عدة أشخاص. ولهذا فقد حددت العقوبة بالمفهوم التقليدي بأنها إجراء يستهدف إنزال آلام بالفرد من قبل السلطة بمناسبة ارتكابه جريمة، أو هي ردة فعل اجتماعية على عمل مخالف للقانون( ).
والإعدام هو "إزهاق روح المحكوم عليه، ويتميز "بأنه مقصور على الجرائم الخطيرة التي تمس بأمن وسلامة الدولة، كجرائم الخيانة والتجسس والاعتداء ضد سلطة الدولة وسلامة أرض الوطن وغيرها من الجرائم الأخرى كجريمة نشر التقتيل والتخريب"( ).
ويعترف الحقوقيون والمتخصصون في تحديدهم لطبيعة هذه العقوبة بأنها "من أعلى درجات العقاب قسوة وشدة". ولهذا تتجه معظم التشريعات الوطنية نحو تضييق مجال تقرير مثل هذا النوع من العقاب وتطبيقه على بعض الجرائم دون غيرها تبعاً للسياسة الجنائية العالمية.
ومن عيوب عقوبة الإعدام أنها عقوبة وحشية مهما كانت الوسيلة المستعملة، وأنها لا تجدي نفعاً، إذ لم تشهد البلدان التي ألغت عقوبة الإعدام أي ارتفاع في الإجرام( ). كما يؤكد المتخصصون بأن أشد عيوب هذه العقوبة أنها غير قابلة للمراجعة وعليه، فإن الشخص الذي تصدر في حقه العقوبة لا يمكنه أن يقدم الوسائل الكافية لتبرئته من الجريمة التي ارتكبها. وفيما يتعلق بالجزائر، فإن عدم تطبيق العقوبة يجعل من إمكانية مراجعة الحكم الصادر ممكنة في حدود قانونية.
أما في الجزائر، فإن المشرع قلص من عقوبة الإعدام وألغاها في بعض الجرائم مثل جرائم المال المرتكبة من الموظف العمومي أو من في حكمه، حسب ما ينص عليه القانون رقم 09/01 المؤرخ في 26/6/2001 المعدل والمتمم لقانون العقوبات.
ب. خصائص العقوبة:
تتميز العقوبة بعدة خصائص منها أنها قانونية وعادلة، وشخصية، لكن الحديث عن خصائص عقوبة الإعدام يبقي التأكيد على ما إذا كانت بالفعل حكماً قانونياً أو عادلاً، ومن هذا المنطلق يتساءل المتخصصون حول ما الجدوى من تطبيق هذه العقوبة.
لكن ما هي العقوبة التي توافق كل مخالفة؟ هل القتل هو فعلاً عقوبة ضرورية وفعالة من أجل الأمن، ومن أجل تعميم النظام في المجتمع؟( )، يتساءل الباحث ولتير لاكير. وهي أسئلة طالما طرحتها الدول المتقدمة، التي وصلت، فيما بعد، إلى قناعة تامة بضرورة إلغاء عقوبة الإعدام من تشريعاتها القانونية.
والواقع أن عقوبة الإعدام قديمة في التاريخ الإنساني، لكن ما من أحد يستطيع أن يحدد بثقة مطلقة متى طبقت هذه العقوبة لأول مرة. لكنها، قطعاً تزامنت مع نشأة التنظيم في المجتمعات الإنسانية؛ أي بعد أن أصبح البشر يعيشون في تجمعات بشرية كبيرة. ذلك أن هذه التجمعات احتاجت إلى وجود قوانين لمعاقبة الأشخاص الذين يقومون بأعمال تخالف الأعراف والتقاليد السائدة فيها( ).
ومن عيوب عقوبة الإعدام أيضاً أنها غير قابلة للمراجعة، وهو ما يجعل النطق بالحكم ضد الأشخاص المتهمين، كإعدام مسبق حتى ولو لم ينفذ في الجزائر، ولطالما أغمي على أهالي المتهمين في قاعات الجلسات بعد النطق بالحكم. ولهذا فإن إعدام المتهم بجريمة القتل، يعيد مشاهد المأساة ليس بالنسبة لأهل الضحية فحسب بل لأهل المتهم أو المتهمين أيضاً.
"إن عقوبة الإعدام هي من العقوبات التي تتعارض مع فلسفة العقوبة التي غايتها الإصلاح والردع، وهي تفرض حين لا يكون بالإمكان إصلاح وتأهيل المجرم للعودة إلى الحياة الطبيعية بسبب بشاعة ما اقترفه من عمل إجرامي".( )
عقوبة الإعدام: النصوص التشريعية والقوانين
تنطق المحاكم الجنائية بعقوبة الإعدام منذ عشرات السنين، وهذا بموجب المواد القانونية التي يتضمنها قانون العقوبات الجزائري، الذي استمد في بداية الستينات؛ أي بعد الاستقلال مباشرة، معظم مواده من قانون العقوبات الفرنسي.
وفي قراءة أولية لنص العديد من هذه المواد، يشير المشرع الجزائري بعبارات محددة لتسليط هذه العقوبة على المتهمين، وبشكل مباشر، ومن هذه الصياغات القانونية: "يعاقب بالإعدام كل من..." أو "كما يعاقب على...بالإعدام إذا...".
وكانت أولى عملية تنفيذ لعقوبة الإعدام في الجزائر، تلك التي جرت عام 1963 التي أعدم بموجبها العقيد شعباني، وقد صنفت على أنها أشهر عملية إعدام في تاريخ الجزائر المستقلة، وتكمن شهرتها في كون تنفيذها تم بسرعة البرق.
أما الثانية، وهي الأخيرة، فكانت في شهر تشرين الأول من عام 1993 التي صدرت بحق متهمين في تفجير مطار هواري بومدين بالعاصمة، ومنذ هذا التاريخ؛ أي عام 1993، لم ينفذ أي حكم بالإعدام.
أ. مضمون قانون العقوبات
يضم قانون العقوبات الجزائري مجموعة من الجرائم التي تحدد عقوبتها بالإعدام، ففيما يخص الجنايات والجنح ضد أمن الدولة وفي القسم الخاص بجرائم الخيانة والتجسس، تنص المادة 61 من القانون رقم 23-06 المؤرخ في 20 ديسمبر 2006 على أن من يرتكب جريمة الخيانة، ويعاقب بالإعدام كل جزائري وكل عسكري أو بحار في خدمة الجزائر يقوم بـ:
• حمل السلاح ضد الجزائر.
• القيام بالتخابر مع دولة أجنبية بقصد حملها على القيام بأعمال عدوانية ضد الجزائر.
• تسليم قوات جزائرية أو أراض أو مدن أو...إلى دولة أجنبية أو إلى عملائها.
• إتلاف أو إفساد سفينة أو سفن أو مركبات للملاحة الجوية أو... وذلك بقصد الإضرار بالدفاع الوطني أو إدخال عيوب عليها.
كما أن المادة 62 من القانون نفسه تتحدث عن عقوبة الإعدام المتعلقة بجريمة الخيانة في وقت الحرب في أربع حالات. أما المادة 63 (الأمر رقم 47-75 المؤرخ في 17 يونيو 1975) فتنص أيضاً على أن من يرتكب جريمة الخيانة فإنه يعاقب بالإعدام، وقد حدد القانون مجموعة مكونة من ثماني حالات تقدر فيها العقوبة بالإعدام( ).
أما فيما يتعلق بجرائم القتل العمدي والقتل مع سبق الإصرار والترصد وقتل الأصول والأطفال والتسميم والتعذيب، فإن العقوبة المحددة هي الإعدام أيضاً. حيث يعاقب كل من ارتكب جريمة القتل أو قتل الأصول أو التسميم بالإعدام حسب نص المادة 261 من قانون العقوبات( ).
ولا تتوقف المواد القانونية التي تنص على إدانة المتهمين بهذه العقوبة الوحشية، بل تمتد إلى الأعمال الإرهابية، وقد بلغ عدد الأحكام الصادرة في حق المتورطين في أعمال تهريب وتقتيل للأبرياء في الجزائر، أغلبية النسبة الخاصة بأحكام الإعدام الصادرة سنوياً في كل المجالس القضائية. إذ يعاقب القانون كل من يقوم بعمل إرهابي أو تخريبي، باستهداف أمن الدولة والوحدة الوطنية والسلامة الترابية؛ بهدف بث الرعب والاعتداء وعرقلة سير مؤسسات الدولة، وتكون العقوبة التي يت