في كل صباح باكر كنا نترقب قوامها الفارع يدلف فناء مدرستنا ، اناقتها وبياض ثوبها وابتسامتها ونبرات صوتها المبحوح وقبلاتها الحنونة على ورود الصغار ، صدى صوتها ما زال يجلل بين الافاق ويتمدد بين حنايانا عشقا وحبا ، عشقناها وادمنا التعلق بها
ما زالت وقفتها ماثلة امامنا وهي تتأبط دفاترنا ، وتحمل بيمناها علما تمازجت الوانه عزة وشموخا واباء ، وحين تطلق العنان الى حبال صوتها المموسق :
صباح الخير يا وطنا يسير بمجده العالي الى الاعلى
ويا ارضا عشقنا ترابها الغالي والشطآن والرملا
كنا نحس بسيل من الانتماءات المتدافعة حبا لها وللوطن
انها ابله ثريا ، ثلاثة عقود من الزمان ظلت حبيسة لمهنتها ، ثلاثة عقود لم تمل من ضجيج الصغار فقد وهبت ربيع عمرها قربانا لغرس القيم الفاضلة وهدم اسوار الجهل المتطاول .
كنا نلتف حولها في حلقات عفوية ، نشتم رائحة جسدها الممزوج بنقع الطبشور منا من يتعلق على كتفيها ومن يجلس على حجرها وهي تنظر الينا بعينيها العسليتين بفتور يجذبنا اليها اكثر .
في صباح ذلك اليوم دخلت علينا بخطى بطيئة لم تكن تحمل بين يديها السمراوتين دافترنا ولا محفظتها الجلدية المليئة بالوان شتى من الطبشور ، صوتها المبحوح كان مهزوما وجبينها القمري كان معصوبا تمسك بأناملها على رأسها ، اشارت ان نحضر اليها كرسي
صمت وخوف تمدد بين فراغ الحجرة ، وانكفأت وجوه الصغار على الادراج ، انهزمت الضوضاء وتسمرت السيقان وسرت بين الاوصال قيود اعاقة حركة الصغار العفوية نحوها
شئ ما الجم اصواتنا ولم يكن تواصلنا معها الا نظرات تكبلها المخاوف وتحد من جرأتها جلستها على ذلك الكرسي الخشبي
في محاولة منها لكسر هذا الجمود الذي استوطن دواخلنا / وقفت شيماء بنت التسع سنوات بصوت جميل تردد آخر انشودة تعلمتها من ابلتها :
امتي يا امة الامجاد والماضي العريق
يا نشيدا في دمي يسري ويجري في عروقي
كنا نردد وراءها بصوت مهزوم واعيننا ترنو بخوف اليها ، نترقب ثورة حنجرتها تشاركنا النشيد
حاولت ان تفك نفسها من قبضة ذلك الكرسي الخشبي ولكنها ارتمت في احضانه وامالت رأسها المتعب ومات صوتها المبحوح وبدأت شفتاها ترتجف وطمست معالم الالفاظ ولم نكن ندرك ما تقول
حملوها بعيدا عنا ووعدونا ان تعود الينا غدا ، ولكنها لم تعد
ذهبنا اليها وجدناها ممددة على سرير ابيض وتحت وسادتها بقايا من دفاتر وتمسك بيدها اليسرى محفظتها الجلدية فيمناها التي علمتنا اقتاتها فتور فصارت لا تقوى على حمل الاشياء اخبرونا انه ( الشلل النصفي ) قبلناها على جبينها الدافي وبكينا صمتا فمن وهبت عمرها لاحياء العقول ها هي تفقد نصف حياتها ، سقنا الخطى عنها وصرنا نصلي من اجلها واقسمنا ان لا نعود الى فناء المدرسة دونها