الفلسفة الحديثة سؤال المعرفة أهم من سؤال الوجود
افترقت الفلسفة الحديثة عن الفلسفة القديمة في أنها ركزت على نظرية المعرفة أكثر من تركيزها على نظرية الوجود بالرغم من وجود جوانب كثيرة بين الفلسفتين تحمل شكلا واحدا قد توهم البعض بان لا فروق كبيرة بين الفلسفتين وفي الواقع فان هذه الفروق كانت من الاتساع بحيث رأينا تحول الفلسفة إلى تناول مفهوم المعرفة وتقديمه على مفهوم الوجود مدركة بان فهم المعرفة هو الذي يحدد إن كنا قادرين على اعتماد هذه المعرفة في فهم العالم المحيط بنا أم لا
ولعل (ديكارت) أول من ركز على هذا الأمر الذي غدا بعد ذلك لب الفلسفة الحديثة بالرغم من أن منهجه لم يكن مرنا كفاية ولعل ابرز ما يحسب عليه هو ثقته العالية بمنهجه الشكي الذي اعتقد انه الباب الموصل إلى الحقيقة مؤكدا إيمانه بمنهج الشك النظامي وبقدرة التفكير على بلوغ الحقائق أو التأكيد بوجود العالم الموضوعي مسلما بان الله لا يؤتي خداعا جاعلا التفكير مضاهيا للوجود بل هو المبدأ الذي تنطلق منه جميع معارفنا لأنني عندما أفكر فأنني أمارس وجودي وابني عليه ليكون التفكير قاعدتي لفهم ما حولي وانطلاقا من ذلك تولدت مدرستين أحداهما أشادت بالعقل وعولت عليه وهي مدرسة العقليين أو الميتافيزيقيين وأخرى وجدت أن الأساس في التجربة التي تضع العقل دائما أمام مواقف جديدة لم يشهدها من قبل ولو عاينا المشهد الفلسفي الأوربي لوجدنا أن نطاق العقليين قد تمثل في قلب القارة الأوربية حيث تأثير الكاثوليكية والاستبداد السياسي وحيث غلبة الطابع الزراعي على مجتمعات القارة عكس المدرسة الأخرى التجريبية التي تبلورت في فضاء ديمقراطي بعد تبلور الملكية الدستورية في انكلترا وغلبة العقل التجاري والقيم البروتستانتية
ف (سبينوزا) الذي هو احد أقطاب المدرسة الأولى اتجه نحو جعل المعرفة سبيلا لرؤية العالم جسدا واحدا معيدا إلى الأذهان فكرة وحدة الوجود القديمة التي ربما كان لانتمائه اليهودي دور في تبلورها بالرغم من وجود اختلافات عميقة بين النظرتين ف سبينوزا عكس القدماء يميل إلى اعتماد المعارف المعقولة لأدراك الوحدة الكونية معتبرا أن كل ما يفكر به المرء يقود إلى شيء أخر ذو صلة وان نزوع شيء ما إلى الحفاظ إلى استمرار وجوده ما هو إلا جوهر الشيء ذاته فبنظر سبينوزا لا يوجد شيء فوق الطبيعة إنما كل شيء ذا أساس منطقي متتابع معتبرا أن هذا التتابع ماهو إلى تصاعد الأشياء إلى الله وان السعادة الأسمى في بلوغ الوعي الكوني والشعور بالامتلاء أو الطفح بالبهجة الرفيعة إزاء المشهد السامي لوحدانية كل الحقيقة تعبيرا عن القانون الفطري الباطني
أما معاصره ( ليبنتس )فقد تناول المسالة من منظور مختلف مبرزا أهمية الفردانية في نشوء الكون معيدا إلى الأذهان المفاهيم الذرية للفلسفة القديمة وإذا كان سبينوزا قد أكد على الوحدة فان ليبنتس قد أشار إلى واقع الانفصال الذي عبر عنه من خلال مفهوم ( المونادة ) مشيرا إلى أن الكون هو حشد من عقول صغيرة مكتفية بذاتها لا يربطها مع بعضها البعض إلا رباط عرضي مصدره الله أو المونادة الأسمى مؤكدا على أن المكان وأيضا الزمان ما هما إلا شيء نسبي صرف
أما المدرسة الثانية فقد تزعمها البريطاني جون لوك والذي سار على خطاه العديد من الفلاسفة التجريبيين من أمثال بركلي وبيكون ولعل أهم إسهام قدمه هذا الفيلسوف هو تشكيكه بمنهج الفلسفة السائد وطعنه بنتاجات الفلاسفة عادا المشاكل الفلسفية مجرد أوهام زائفة وجدالات تعبيرية لا غير حيث أشار إلى أن الفلاسفة شيدوا عالما من العقل لا صلة له بعالم الخبرة التي عدها المصدر الأساس لفهم الحقيقة لان الأشياء بنظره ليست كينونة موجودة أمام العقل يقوم الأخير بإدراكها على ماهي عليه بل أنها نتاج العقل نفسه لأنه يراها مثلما يريد أن يراها وليس كما هي عليه ورغم هذا التحول الكبير الذي أحدثه لوك في جسد الفلسفة إلا انه لم يتطرف ابعد من ذلك لان التشكيك في موضوعية الأشياء قد بلغ مداه في عهد بركلي الذي قسم الوجود بين بناء تحتي تمثله المادة الخام أو الهيولي وأشياء تحددها المعرفة الحسية كما يحصل عندما نلمح الكرسي فيبدوا لنا شيئا ثابتا فيما هو في حقيقة الأمر نتاج الإدراك لأنه بدونه ( أي الإدراك ) لن يكون إلا مادة وحسب لكن هذه الأفكار الجريئة لم يشأ لها الرواج دون عوائق إذ سرعان ما برز فيلسوف جديد وقف من هذه المسالة موقفا متوازنا عماده التقليل من زخم التجريبية ومحاولة التوفيق بينها وبين العقلانية لأنه من العبث البحث عن عالم خارجي بدون حواس تمثل مجسات العقل لبلوغ الحقيقة وإذا كان انطباعنا مغلقا من العبث البحث عن صلاة ضرورية سببية ضاربا عرض الحائط مفهوم السببية التي عدها مفهوما لاحقا ومن نتاج التصور لا أكثر لان العقل حين يتأمل الموجودات موضوعيا لايدرك أبدا أي صلة بين هذه الموجودات وبدون هذه الصلة الضرورية (السببية) أي باعث يوجد حتى لمحاولة عد الموجودات ضرورية وإذا لم تكن هذه الموجودات ضرورية كيف يسعنا الأمل بإيجاد الأسباب طالما أنها ليست في البال ففي نظره العقل نوع من المسرح حيث تتعاقب على منصته الادراكات من حيث الظهور والاختفاء المرور والعودة لتمتزج مع بعضها في تنويعه مفتوحة من المواقف والأوضاع
والملاحظ أن هذا التنظير الفلسفي كان باهرا إلى درجة لم يصل إلى مثلها كثيرون من بعده بل عدت أفكاره متقدمة حتى على ( كانت ) الفيلسوف الكبير اللاحق له والذي يبدوا انه حاول أن يوجد تخريجات فلسفية تعيد الاعتبار للدين والأخلاق بعد أن داهمتها المتغيرات الاجتماعية والعلمية في عصر المخاض الأوربي بل هو اعترف بذلك حين قال (اضطررت لإتلاف المعرفة لأفسح المجال للإيمان) الأمر الذي جعل فلسفته أشبه بانطباع ثقافي لا غير رغم ما حملته من أفق فلسفي عميق وموسوعية كبيرة جعلتها مفترق الطرق إلى الفلسفة المعاصرة ولعل ابرز آراءه التي أثارت جدلا كبيرا تساؤله عن حدود المعرفة موضحا أن هذه المعرفة لا يمكن أن تبلغ الكمال أو تشارف نهايتها لسبب بسيط وهو أن العقل غير قادر على مسايرتها لان عدته ضعيفة وهو ينتج المعرفة نتيجة انسكاب الخبرة في أوعية العقل ومثلما يأخذ الماء شكل الوعاء تأخذ الخبرة شكل الأوعية التي يمتلكها العقل سلفا فتغدوا المعرفة جماع بين الخبرة و ما يمتلكه العقل من آلية تفرض نفسها على الواقع فيغدوا الواقع ليس مجرد صناعة عقلية كما طرح ذلك العقليون وليس نتاج الخبرة المجمعة وحسب بل مزيجا من هذا وذاك فإذا قلت أن الكرسي ابيض فهذا يعني أن هناك شيئا زمانيا ومكانيا موجود له خاصية تجريبية هي البياض ونتيجة لذلك رأى أن المعرفة هي مزيج من معلومات نابعة كليا من الخبرة ومعلومات تجمع بين الخبرة والية العقل والية العقل في فحص المعرفة تعتمد على أليه التمييز بين الأحكام المحتملة للصدق والأحكام المحتملة للكذب والأحكام التحليلية والتركيبية فهناك أحكام تحليلية سابقة على التجربة لا يزيد محمولها معرفة بموضوعها مثل عبارة ( الكل أعظم من الجزء ) فعندما نقول جزء نحن ندرك بديهيا انه اصغر من الكل دون الحاجة إلى الإشارة إلى فكرة الكل أما الأحكام التركيبية فهي خلاف ذلك تقوم على تأليف جديد بين المحمول والموضوع فيزيد محمولها معرفة بموضوعها مثل عبارة (كل الأجسام لها وزن )فالتأليف بين المحمول ( الوزن ) والموضوع ( الجسم )تم من خلال التجربة وليس في الذهن وحسب لكن موقفه المعرفي هذا وتفريقه التام بين الشيء والشيء في ذاته قد خلق وضعا مربكا لان هذا معناه إطلاق رصاصة الرحمة على الطموح البشري وعلى الرغبة في مواصلة المعرفة إلى النهاية ما دفع البعض إلى رفض هذه النتيجة الكانتية بل والكثير من رؤى الفلسفة العقلية
ولعل أهم ناقديه هو الفيلسوف هيغل الذي نقد فرضية الحدود المعرفية طارحا ( أن الدراية بحدود تقضي معرفة ما الذي يقع وراءها فان كان حقا يوجد حد مطلق للمعرفة فكيف سندرك تلك الحقيقة ؟ كيف نستطيع أن نعرف أننا وصلنا الجدار مالم يسعنا النظر إلى ما وراءه ) هذا الاعتراض الهيغلي قطع وبشكل شبه نهائي أي سبيل للتشكيك بمصداقية المعرفة وبالاعتقاد بعجز العقل عن مسايرة الخبرة فالعقل ينمو مع نمو المعرفة والحقيقة كامنة في الشيء الذي يمثل موضوعا كاملا للعقل ولابد أن نبحث في الشيء ما دمنا قادرين على البحث فيه فالعالم مشرع أمام عقلنا ولابد من التماس حقائقه وما نجهله اليوم سيكون معلوما في الغد وما نعجز عن تحصيله في الحاضر قد يكون متاحا في المستقبل فكل شيء يتغير حتى عقلنا . لكن هذه النتيجة التي طرحها هيغل لم تكن إلا البداية لجهد عقلي جديد حمل على كل رؤى الفلسفة السابقة بالرغم من وجود المشككين الذين رأوا في تفاؤل هيغل سذاجة فكرية ف شوبنهاور رأى الكون عمل شرير والحياة شيء اشر ولا سبيل لفهمهما أو النجاح معهما فيما ابرز نيتشه غموض المعرفة التي عدها من نتاج الذات مبرزا دور الإيجاب في مسار الفكر معارضا طرح هيغل الذي وضع السلب كمحور أساس للحركة وأساس للمعرفة لان الإيجاب يشجع على إيجاب أعلى وهكذا إلى نهاية المسيرة الايجابية فالسيد ليس عبدا متحررا كم تعرض فلسفة هيغل إنما علينا أن نراه سيدا وحسب وان العبد هو سيد فقد حريته أي أن الأولوية لابد أن تكون للإيجاب الذي يشرع الفرصة وهكذا تضخمت الفلسفة الهيغلية لتلف بعباءتها كل الأسئلة الأخرى فالحداثويون ركزوا على مبدأ التقدم في حيازة المعرفة وبلوغ نتائج أفضل والوجوديون على الحرية التي عدوها مبدأ الوجود الأخلاقي والماديون على الديالكتيك لبلوغ المجتمع الناجح أو الفاضل وصولا إلى مابعد الحداثة أو الردة إلى الكانتية حيث التشكيك من جديد بالمعرفة فهل ينجح الكانتيون الجدد في زعزعة الثقة بنجاح الإنسان أم نستمر في سعينا لاستحصال المعرفة حتى بدون وجود أفق نهائي ؟ لعل هذا هو سؤال الفلسفة الآن .