لام عيكم
الى كل المسلمين في انحاء العالم
وقت الغسل :
اختلف العلماء في وقت الغسل للجمعة و تعلقه بالذهاب إليها علي ثلاثة أقوال :
الأول : اشتراط الاتصال بين الغسل و الرواح . و إليه ذهب مالك و وافقه الأوزاعي و الليث .
لحديث : " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " و في لفظ مسلم : " إذا أراد أحدكم أن يأتي
الجمعة فليغتسل " .
الثاني : عدم اشتراط ذلك ، و يجزئ من بعد الفجر لكن لا يجزئ فعله بعد صلاة الجمعة ، و
يستحب تأخيره إلي الذهاب و إلي هذا ذهب الجمهور .
الثالث : أنه لا يشترط تقدم الغسل على صلاة الجمعة ، فلو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه ، و إليه
ذهب داود و نصره ابن حزم ، و حجتها تعلق الغسل باليوم في الأحاديث لا بالصلاة .
و قد أنكر هذا القول ابن دقيق العيد و قال : يكاد يجزم ببطلانه ، و حكى ابن عبد البر الإجماع
علي أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة (3).
فائدة :
قال النووي : " قال أصحابنا : و وقت جواز غسل الجمعة من طلوع الفجر إلي أن يدخل
في الصلاة … قالوا : و لا يجوز قبل الفجر . و انفرد إمام الحرمين بحكاية وجه أنه يجوز قبل
طلوع الفجر ، كغسل العيد علي اصح القولين . و الصواب المشهور أنه لا يجزئ قبل الفجر ،
و يخالف العيد ، فإنه يُصلى في أول النهار ، فيبقى أثر الغسل ، لأن الحاجة تدعو إلى تقديم غسل العيد ، لكون صلاته أول النهار ، فلو لم يجز قبل الفجر ضاق الوقت و تأخر التبكير إلى الصلاة " (1).
قال الشوكاني : و الظاهر ما ذهب إليه مالك . لأن مجمل الأحاديث التي أطلق فيها : اليوم علي حديث الباب(1) المقيد بساعة من ساعاته واجب ، و المراد بالجمعة اسم سبب الاجتماع و هو الصلاة لا اسم اليوم(2) .
قال الحافظ : و مقتضى النظر أن يقال : إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة و التنظف رعاية الحاضرين من التأذى بالرائحة الكريهة ، فمن خشي أن يصيبن في أثناء النهار ما يزيل تنظفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه ، و لعل هذا هو الذي لحظه مالك فشرط اتصال الذهاب بالغسل ليحصل الأمن مما يغاير التنظف و الله أعلم (3).
مسألة هل يشرع الغسل لمن لم يحضر الجمعة :
قال الحافظ : و استدل من مفهوم الحديث (4)على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة ، و قد تقدم التصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع . و هذا هو الأصح عند الشافعية ، و به قال الجمهور خلافاً لأكثر الحنفية (5).
و يدل لقول الجمهور ما أخرجه البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً : " من أتى الجمعة من الرجال و النساء فليغتسل ، و من لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال و النساء " قال النووي : رواه البيهقي بهذا اللفظ بإسناد صحيح(*) .
مسألة : هل يجزئ غسل الجنابة لمن حصلت له عن غسل الجمعة ؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأول : أن غسل الجنابة يجزئ عن غسل الجمعة و إن لم ينوه ، و أن الغسل حيث وقع في الجمعة قبل الصلاة كفى، أياً كان سببه . و هذا قول جمهور العلماء . قال ابن المنذر : حفظنا الإجزاء عن أكثر أهل العلم من الصحابة و التابعين (6).
قال الحافظ في شرح قوله صلى الله عليه و سلم : " اغتسلوا يوم الجمعة و إن لم تكونوا جنباً "
قال : " معناه : اغتسلوا يوم الجمعة إن كنتم جنباً للجنابة ، و إن لم تكونوا جنباً للجمعة " و أخذ منه أن الاغتسال يوم الجمعة للجنابة يجزئ عن الجمعة سواء نواه للجمعة أم لا ، و في الاستدلال به علي ذلك بعد (1).
الثاني : أنه لا يجزئ و لابد ليوم الجمعة من غسل مخصوص ، و هذا قول ابن حزم و جماعة .
قال ابن حزم : " برهان ذلك قول الله تعالى ( و ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) . و قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إنما الأعمال بالنيات ، و لكل امرئ ما نوى " .
فيصح يقيناً أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال ، فإذا قد صح ذلك ، فمن الباطل أن يجزئ عمل عن عملين أو أكثر … " (2).
و حكى ابن حزم هذا القول عن جماعة من السلف منهم جابر بن زيد و الحسن و قتادة و إبراهيم النخعي و الحكم و طاءوس و عطاء و عمرو بن شعيب و الزهري و ميمون بن مهران .
و قد نقل الحافظ عن أبي قتادة أنه قال لابنه و قد رآه يغتسل يوم الجمعة : " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة " . أخرجه الطحاوي و ابن المنذر و غيرهما (3).
القول الثالث : أنه لا يجزئ عنه إلا بالنية ، أي إذا نوى الكل . قال النووي : " و أما إذا وجب عليه يوم الجمعة غسل جنابة فنوى الغسل عن الجنابة و الجمعة معاً فالمذهب صحة غسله لهما جميعاً و به قطع المصنف و الجمهور …. " (**).
و احتج أصحاب هذا القول بقوله صلى الله عليه و سلم : " إنما الأعمال بالنيات ، و إنما لكل امرئ ما نوى ".
قال النووي في شرح المهذب : " .. و لو نوى الغسل للجنابة حصل بلا خلاف ، و في حصول غسل الجمعة قولان : أصحهما عند المصنف في التنبيه و الأكثر ين : لا يحصل ، لأن الأعمال بالنيات ، و لم ينوه . و أصحهما عند البغوي حصوله ، و المختار أنه لا يحصل " (***).
و حمل الحافظ كلام أبي قتادة لابنه علي ذلك ، حيث قال في شرح قوله صلى الله عليه و سلم : " غسل يوم الجمعة " ، قال : " … و استنبط منه أيضاً أن ليوم الجمعة غسلاً مخصصاً حتى لو وجدت صورة الغسل فيه لم يجز عن غسل الجمعة إلا بالنية ، و قد أخذ بذلك أبو قتادة فقال لابنه و قد رآه يغتسل يوم الجمعة : " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلاً آخر للجمعة " (4).
قال المنبر: لكن هناك وجه آخر يمكن أن يحمل عليه كلام أبي قتادة غير الإجزاء و عدمه ، ألا و هو تحصيل فضيلة مخصوصة لمن يقصد إلى غسل الجمعة و ينويه كما جاء عند ابن خزيمة و ابن حبان و الحاكم و غيرهم عن عبد الله بن أبي قتادة قال : دخل علي أبي و أنا أغتسل يوم الجمعة ، فقال : غسلك هذا من جنابة أو للجمعة ؟ قلت : من جنابة . قال : أعد غسلاً آخر ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلي الجمعة الأخرى " (1).
فائدة :
قال الحافظ في الفتح : " حكى ابن العربي و غيره أن بعض أصحابهم قالوا : يجزئ عن الاغتسال للجمعة التطيب ، لأن المقصود النظافة .
و قال بعضهم : لا يشترط له الماء المطلق بل يجزئ بماء الورد و نحوه .
و قد عاب ابن العربي ذلك و قال : هؤلاء وقفوا مع المعنى ، و أغفلوا المحافظة على التعبد بالمعين ، و الجمع بين التعبد و المعنى أولى . انتهى .
و عكس ذلك قول بعض الشافعية بالتيمم (*)، فإنه تعبد دون نظر المعنى .
أما الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود ، لأنها عبادة لثبوت الترغيب فيها فيحتاج إلى النية ، و لو كان لمحض النظافة لم تكن كذلك ، و الله أعلم " . أ ﻫ (2).
و نقل ابن عثيمين عن شيخ الإسلام قوله : " جميع الأغسال المستحبة إذا لم يستطع أن يقوم بها ، فإنه لا يتيمم عنها ، لأن التيمم إنما شرع للحدث . و معلوم أن الأغسال المستحبة ليست للتطهير ، لأنه ليس هناك حدث حتى يتطهر منه (****).
3-التنظيف :
و التنظيف أمر زائد على الاغتسال ، جاءت به السنة كما في حديث سلمان مرفوعاً عند البخاري : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة و يتطهر ما استطاع من طهر ، و يدهن من دهنه ، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى " (*)
و التنظف أمر زائد عن الاغتسال ، و يكون بقطع الرائحة الكريهة و أسبابها من الشعور التي أمر الشارع بإزالتها فيسن حلق العانة و نتف الإبط و حف الشارب و تقليم الأظافر ، و هذا لا يكون كل جمعة . و لكن يتأكد إذا فحشت، و قد وقت النبي صلى الله عليه و سلم لها ألا تزيد عن أربعين يوما .
4-استعمال الطيب و الدُّهن :
فيسن استعمال الطيب إن وجد ، لحديث أبي سعيد قال : أشهد على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " الغسل واجب علي كل محتلم ، و أن يستن و أن يمس طيباً إن وجد " .
قال عمرو بن سليم راوي الخبر : أما الغسل فأشهد أنه واجب ، و أما الاستنان و الطيب ، فالله أعلم أ واجب هو أم لا ؟ و لكن هكذا في الحديث (1).
و بوب البخاري في صحيحه للحديث بقوله : باب الطيب للجمعة .
قال الحافظ : لم يذكر حكمه أيضاً لوقوع الاحتمال فيه كما سبق (2).
و قوله ( إن وجد ) و في رواية مسلم : " و يمس من الطيب ما يقدر عليه " فهذا يدل علي تأكده كما قال النووي ، و يؤخذ من اقتصاره علي لمس الأخذ بالتخفيف في ذلك . و جاء في رواية لمسلم ( و لو من طيب المرأة ) . قال الحافظ : و هو ما ظهر لونه و خف ريحه (3). قال النووي : فإباحة الطيب للرجل هنا للضرورة لعدم غيره ، و هذا يدل على تأكيده و الله أعلم (4).
و اختلف العلماء في حكم الطيب ، و الجمهور أنه سنة و ليس بواجب ، و حكى القرطبي الإجماع علي ذلك حيث قال في تعليق علي الحديث : ظاهره وجوب الاستنان و الطيب لذكرهما بالعطف ، فالتقدير : الغسل واجب ، و الاستنان و الطيب كذلك . قال : و ليسا بواجبين اتفاقاً ، فدل على أن الغسل ليس بواجب (5).
و قد اعترض على دعوى الإجماع ، حيث نقل الحافظ عن ابن المنير قوله : … و على أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة ، فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة و إسناده صحيح . و كذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر (1).
و أما استحباب الدُّهن (2)فلحديث سلمان الفارسي عند البخاري مرفوعاً : " لا يغتسل رجل يوم الجمعة و يتطهر ما استطاع من طُهر و يدَّهن من دُهنه ، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ، ثم يصلي ما كتب له ، ثم ينصت إذا تكلم الإمام ، إلا غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى " (3).
و قد بوب البخاري للحديث بقوله : باب الدُّهن للجمعة .
قال الحافظ :
قوله ( و يدَّهن ) المراد به إزالة شعث الشعر به ، و فيه إشارة إلي التزين يوم الجمعة (4).
5-استعمال السواك :
و قد دلت السنة على استحباب السواك للجمعة ،لحديث أبي سعيد قال : أشهد على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " الغسل واجب على كل محتلم ، و أن يستن و أن يمس طيباً إن وجد " و لعموم الأحاديث في استحباب السواك لكل صلاة . و قد بوب البخاري في صحيحه بقوله : باب السواك يوم الجمعة …
قال الزين بن المنير : لما خصت الجمعة بطلب تحسين الظاهر من الغسل و التنظيف و التطيب ناسب ذلك تطيب الفم الذي هو محل الذكر و المناجاة ، و إزالة ما يضر الملائكة و بني آدم (1).
و قال الحافظ في تعليق علي حديث حذيفة : " كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا قام الليل يشوص فاه "، و وجه مناسبته لعنوان الترجمة قال : و وجه مناسبته أنه شرع في الليل لتجمل الباطن فيكون في الجمعة أحرى ، لأنه شرع لها التجمل في الباطن و الظاهر(2) .
6-تخصيص لباس حسن للجمعة :
لحديث عبد الله بن سلام عن أبي داود و غيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ما على أحدكم إن وجد ، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته " (3).
قال في عون المعبود : و الحديث يدل على استحباب لُبس الثياب الحسنة يوم الجمعة ، و تخصيصه بملبوس غير ملبوس سائر الأيام(4) .
و قد بوب البخاري في صحيحه باب يَلبس أحسن ما يجد ، و أورد فيه حديث ابن عمر " أن عمر رأى حلة سِيراء ( 5 )عند باب المسجد ، فقال : يا رسول الله ، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة " (6)، و وجه الاستدلال من جهة تقريره صلى الله عليه و سلم لعمر على التجمل يوم الجمعة ، و قصر الإنكار على لبس تلك الحلة لكونها كانت حريراً .
7-التبكير إلي الجمعة :
فيستحب التبكير إلى الجمعة لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، و من راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، و من راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، و من راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، و من راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " (1).
قال ابن القيم في توجيه اختصاص الجمعة بذلك : أنه لما كان في الأسبوع كالعيد في العام ، و كان العيد مشتملاً علي صلاة و قربان ، و كان يوم الجمعة يومَ صلاة ، فجعل الله سبحانه التعجيل فيه إلي المسجد بدلاً من القربان و قائماً مقامه ، فيجتمع للرائح فيه إلي المسجد الصلاة و القربان .
و قد دل الحديث علي استحباب التبكير إلي الجمعة في الساعة الأولى ، و قد اختلف الفقهاء في هذه الساعة علي ثلاثة أقوال ، ذكرها النووي في شرح المهذب، قال :
الأول : الصحيح عند المصنف و الأكثرين : من طلوع الفجر .
و الثاني : من طلوع الشمس . و به قطع المصنف في التنبيه ، و ينكر عليه الجزم به .
و الثالث : أن الساعات هنا لحظات لطيفة بعد الزوال ، و اختاره القاضي حسين و إمام الحرمين و غيرهما من الخراسانيين و هو مذهب مالك …. " (2).
و احتج أصحاب هذا القول عليه بحجتين :
إحداهما : أن الروح لا يكون إلا بعد الزوال .
الثانية : أن السلف كانوا أحرص شيء على الخير ، و لم يكونوا يغدون إلى الجمعة من وقت طلوع الشمس ، و أنكر مالك التبكير إليها في أول النهار ، و قال : لم ندرك عليه أهل المدينة .
و قال : أما الذي يقع بقلبي ، فإنه إنما أراد ساعة واحدة تكون فيها هذه الساعات …
قال أبو عمر ابن عبد البر : و الذي قاله مالك تشهد له الآثار الصحاح من رواية الأئمة و يشهد له أيضاً العمل بالمدينة عنده ، و هذا مما يصح فيه الاحتجاج بالعمل ، لأنه أمر يتردد كل جمعة لا يخفى على عامة العلماء .
قال فمن الآثار التي يحتج بها مالك ، ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إذا كان يوم الجمعة ، قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة ، يكتبون الناس ، الأول فالأول ، فالمهَجَّر إلي الجمعة كالمُهدي بدنة ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة (1)… " الحديث … فجعل الأول مُهَجَّراً ، و هذه اللفظة إنما هي مأخوذة من الهاجرة و التهجير و ذلك وقت النهوض إلى الجمعة ، و ليس ذلك وقت طلوع الشمس …
و قال النووي في الرد علي قول مالك و من وافقه : " … و معلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخرج إلى الجمعة متصلاً بالزوال ، و كذلك جميع الأئمة في جميع الأمصار ، و ذلك بعد انقضاء الساعة السادسة فدل عليى أنه لا شيء من الهدى و الفضيلة لمن جاء بعد الزوال و لا يكتب له شيء أصلاً ، لأنه جاء بعد طي الصحف ، و لأن ذكر الساعات إنما كان للحث علي التبكير إليها و الترغيب في فضيلة السبق و تحصيل فضيلة الصف الأول و انتظارها و الاشتغال بالتنفل و الذكر و نحوه ، و هذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال شيء منه و لا فضيلة للمجيء بعد الزوال ، لأن النداء يكون حينئذ و يحرم التأخير عنه … " (2).
و قال ابن قدامة في الرد علي قول مالك أيضاً : " … و أما قول مالك فمخالف للآثار ، لأن الجمعة يُستحب فعلها عند الزوال ، و كان النبي صلى الله عليه و سلم يبكر بها ، و متى خرج الإمام طويت الصحف ، فلم يُكتب من أتى الجمعة بعد ذلك ، فأي فضيلة لهذا ؟ ! …. (3)
و قال ابن القيم في الرد علي أدلة مالك و من وافقه :
" قلت : و مدار إنكار التبكير أول النهار على ثلاثة أمور (4):
إحداها : على لفظة الرواح ، و أنها لا تكون إلا بعد الزوال .
و الثاني : لفظة التهجير ، و هي إنما تكون بالهاجرة وقت شدة الحر .
و الثالث : عمل أهل المدينة ، فإنهم لم يكونوا يأتون من أول النهار .
فأما لفظة الرواح ، فلا ريب أنها تطلق على المضي بعد الزوال ، و هذا إنما يكون في الأكثر إذا قُرنت بالغدو ، كقوله تعالى : ( غدوها شهر و رواحها شهر ) ، و قوله صلى الله عليه و سلم : " من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح " … (1)
و قد يطلق الرواح بمعنى الذهاب و المضي ، و هذا إنما يجيء إذا كانت مجردة عن الاقتران بالغدو .
و قال الأزهري في التهذيب : سمعت بعض العرب يستعمل الرواح في السير في كل وقت ، يقال : راح القوم : إذا ساروا ، و غدوا كذلك … و من ذلك ما جاء في الأخبار الصحيحة الثابتة ، و هو بمعنى المضي إلي الجمعة و الخفة إليها ، لا بمعنى الرواح بالعشي .
و أما لفظ التهجير و المهجَّر ، فمن الهجير و الهاجرة ، قال الجوهري : هي نصف النهار عند اشتداد الحر ، تقول منه : هجَّر النهار … و يقال أتينا أهلنا مهجَّرين ، أي في وقت الهاجرة و التهجير ، و التهجُّر : السير في الهاجرة ، فهذا ما يقرر به قول أهل المدينة .
قال آخرون : الكلام في لفظ التهجير كالكلام في لفظ الرواح ، فإنه يطلق و يراد به التبكير .
قال الأزهري في التهذيب : روى مالك عن سُمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه " (2).
و في حديث آخر مرفوع : " المهجَّر إلى الجمعة كالمهدي بدنة " .
قال و يذهب كثير من الناس إلى أن التهجير في هذه الأحاديث تفعيل من الهاجرة وقت الزوال ، و هو غلط ، و الصواب فيه ما روى أبو داود المصاحفي عن النضر بن شُميل أنه قال : التهجير إلي الجمعة و غيرها : التبكير و المبادرة إلى كل شيء ، قال : سمعت الخليل يقول ذلك . قاله في تفسير هذا الحديث .
قال الأزهري : و هذا صحيح ، و هي لغة أهل الحجاز و من جاورهم من قيس …
قال الأزهري : و سائر العرب يقولون : هجَّر الرجل : إذا خرج وقت الهاجرة …
قال ابن القيم : و أما كون أهل المدينة لم يكونوا يروحون إلى الجمعة أوَّل النهار ، فهذا غاية عملهم في زمان مالك رحمه الله ، و هذا ليس بحجة ، و لا عند من يقول : إجماع أهل المدينة حجة ، فإن هذا ليس فيه إلا تركُ الرواح إلى الجمعة من أول النهار ، و هذا جائز للضرورة ، و قد يكون اشتغال الرجل بمصالحه و مصالح أهله و معاشه و غير ذلك من أمور دينه و دنياه أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار .
و لا ريب أن انتظار الصلاة بعد الصلاة و جلوس الرجل في مصلاه حتى يصلي الصلاة الأخرى ، أفضل من ذهابه و عوده في وقت آخر للثانية ، كما قال صلى الله عليه و سلم : " و الذي ينتظر الصلاة ثم يُصليها مع الإمام أفضل من الذي يصلي ثم يروح إلى أهله "(1) ، و أخبر أن الملائكة لم تزل تصلي عليه مادام في مصلاه "(2) و أخبر " أن انتظار الصلاة بعد الصلاة مما يمحو الله به الخطايا و يرفع به الدرجات ، و أنه الرَّباط "(3) و أخبر " أن الله يُباهي ملائكته بمن قضى فريضة و جلس ينتظر أخرى " (4).
و هذا يدل على أن من صلَّى الصبح ، ثم جلس ينتظر الجمعة ، فهو أفضل ممن يذهب ثم يجيء في وقتها ، و كون أهل المدينة و غيرهم لا يفعلون ذلك ، لا يدل على أنه مكروه ، فهكذا المجيء إليها و التبكير في أول النهار "(5) .
و قال الخطابي في شرح هذا الحديث : " معنى راح قصد الجمعة و توجه إليها مبكراً قبل الزوال .
قال : و إنما تأولناه هكذا لأنه لا يتصور أن يبقى بعد الزوال خمس ساعات في وقت الجمعة .
قال : و هذا شائع الكلام ، تقول : راح فلان بمعنى قصد ، و إن كان حقيقة الرواح بعد الزوال و الله أعلم (6).
و اختلف في المراد بالساعات ، أهو المتبادر إلي الذهن من العرف فيها ، قال الحافظ : " و فيه نظر : إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي و الصائف ، لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات ، و في الطول إلى أربع عشرة . و هذا الإشكال للقفَّال ، و أجاب عنه القاضي حسين بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول و القصر ، فالنهار اثنتا عشرة ساعة ، لكن يزيد كل منها و ينقص ، و الليل كذلك ، و هذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات و تلك التعديلية ، و قد روى أبو داود و النسائي و صححه الحاكم من حديث جابر مرفوعاً : " يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة " و هذا و إن لم يرد في حديث التبكير ، فيستأنس به في المراد بالساعات .
و قيل : المراد بالساعات بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلي الزوال ، و أنها تنقسم إلى خمس . و تجاسر الغزالي فقسمها برأيه ، فقال : الأولى من طلوع الفجر إلي طلوع الشمس ، و الثانية إلي ارتفاعها ، و الثالثة إلي انبساطها ، و الرابعة إلى أن ترمص الأقدام ، و الخامسة إلى الزوال .
و اعترضه ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى ، و إلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى ، لأن المراتب متفاوتة جداً … " (1).
فائدة :
قال النووي : " من جاء في أول ساعة من هذه الساعات و من جاء في آخرها مشتركان في تحصيل أصل البدنة أو البقرة أو غيرهما ، و لكن بدنة الأول أكمل من بدنة من جاء في آخر الساعة ، و بدنة المتوسط متوسطة … " (2).
8-استحباب المشي إليها و عدم الركوب من غير عذر :
قال ابن قدامة : " و المستحب أن يمشي و لا يركب ، لقوله : ( و مشي و لم يركب ) (1). و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه لم يركب في عيد و لا في جنازة (2). و الجمعة في معناهما ، و إنما لم يذكرها ، لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان باب حجرته شارعاً في المسجد يخرج منه إليه ، فلا يحتمل الركوب . و لأن الثواب علي الخطوات …. " (3).
قال النووي : " … قوله صلى الله عليه و سلم : ( و مشى و لم يركب ) فقد قدمنا عن حكاية الخطابي عن الأثرم أنه للتأكيد ، و أنهما بمعنى . و المختار أنه احتراز من شيئين : أحدهما : نفي توهم حمل المشي علي المضي و الذهاب و إن كان راكباً . و الثاني : نفي الركوب بالكلية ، لأنه لو اقتصر علي المشي لاحتمل أن المراد وجود شيء من المشي و لو في بعض الطريق ، فنفى ذلك الاحتمال و بين أن المراد مشي جميع الطريق و لم يركب في شيء منها … " (4).
قال ابن قدامة في المغني : " و يستحب أن يكون عليه السكينة و الوقار في حال مشيه ، لقول النبي صلى الله عليه و سلم : " إذا سمعتم الإقامة فامشوا و عليكم السكينة و الوقار ، و لا تُسرعوا "(5) و لأن الماشي إلي الصلاة في صلاة ، و لا يشبك بين أصابعه ، و يقارب بين خطاه ، لتكون أكثر لحسناته ، و قد روينا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه خرج مع زيد بن ثابت إلي الصلاة ، فقارب بين خطاه ، ثم قال : " إنما فعلتُ لتكثر خطانا في طلب الصلاة " (6)" (7).
قال النووي في شرح المهذب : " … و اتفقت نصوص الشافعي و الأصحاب علي أن السنة أن يمشي إلي الجمعة بسكينة و وقار ، و به قال جمهور العلماء من الصحابة و التابعين و من بعدهم … و أما قول الله تعالى : ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله ) فمعناه : اذهبوا و امضوا لأن السعي يطلق علي الذهاب و علي العدو ،فبينت السنة المراد به " (1).
و قد بوب البخاري في صحيحه باب المشي إلي الجمعة و قول الله جل ذكره ( فاسعوا إلي ذكر الله ) … و أورد حديث " لا تأتوها و أنتم تسعون "(2) . قال الحافظ : " إِشارة منه إلى أن السعي المأمور به في الآية غير السعي المنهي عنه في الحديث ، و الحجة فيه أن السعي في الآية فسر بالمضي ، و السعي في الحديث فسر بالعَدو لمقابلته بالمشي حيث قال : " لا تأتوها تسعون و ائتوها تمشون " "(3)
قال ابن قدامة في المغني : " و روينا عن بعض الصحابة أنه مشى إلي الجمعة حافياً فقيل له في ذلك ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " من اغبرت قدماه في سبيل الله ، حرمها الله علي النار " " (4)(5).
فائدة :
قال علماء التفسير : في التعبير بقوله : ( فاسعوا إلي ذكر الله … ) لطيفة، و هي أنه ينبغي للمؤمن أن يقوم إلي صلاة الجمعة بجد و نشاط و عزيمة و همة …
قال الحسن : " و الله ما هو سعي الأقدام ، و لقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا و عليهم السكينة و الوقار ، و لكن بالقلوب و النية و الخشوع . و قال قتادة : السعي أن تسعى بقلبك و عملك (6).
عدم تخطي الرقاب :
و ذلك لقوله صلى الله عليه و سلم للذي جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة : " اجلس فقد آذيت و آنيت "(1) .
و اختلف العلماء في حكم التخطي على أقوال :
الأول : الكراهة إلا أن يكون قدامهم فرجة لا يصلها إلا بالتخطي ، فلا يكره حينئذ .
و هو مذهب الشافعية (2)و رواية عن أحمد(3) ، و به قال الأوزاعي و آخرون .
قال أحمد : يدخل الرجل ما استطاع ، و لا يدع بين يديه موضعاً فارغاً ، فإن جهل فترك بين يديه خالياً فليتخطَّ الذي يأتي بعده ، و يتجاوز إلى الموضع الخالي ، فإنه لا حرمة لمن ترك بين يديه خالياً ، و قعد في غيره .
و قال الأوزاعي : يتخطاهم إلى السعة ، و قال قتادة : يتخطاهم إلى مصلاه .
و قال الحسن : تخطوا رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد ، فإنه لا حرمة لهم(4) .
الثاني : الكراهة مطلقاً .
حكاه ابن المنذر عن سلمان الفارسي و أبي هريرة و سعيد بن المسيب و عطاء .
و روي عن أحمد : إن كان يتخطى الواحد و الاثنين فلا بأس لأنه يسير فعفي عنه ، و إن كثر كرهناه (5) . و حمل ابن قدامة هذه الرواية في حق من لم يفرطوا ، و إنما جلسوا في أماكنهم لامتلاء ما بين أيديهم ، لكن فيه سعة يمكن الجلوس فيه لازدحامهم (*).
قال ابن عثيمين : و لكن الذي أرى أنه لا يتخطى حتى و لو إلى فرجة ، لأن العلة و هي الأذية موجودة ، و كونهم لا يتقدمون إليها قد يكون هناك سبب من الأسباب ، مثل أن تكون الفرجة في أول الأمر ليست واسعة ثم مع التزحزح اتسعت فحينئذ لا يكون منهم تفريط ، فالأولى الأخذ بالعموم و هو ألا يتخطى إلى فرجة(6).
الثالث : الكراهة إذا جلس الإمام على المنبر ، و لا بأس قبله، و هو قول مالك .
الرابع : التحريم ،و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه(1) . و اختاره ابن المنذر و قال : لأن الأذى يحرم قليله ، يحرم كثيره ، و هذا أذى كما جاء في الحديث الصحيح …(2).
و قال ابن عثيمين : و الصحيح أن تخطي الرقاب حرام في الخطبة و غيرها ، لقول النبي صلى الله عليه و سلم لرجل رآه يتخطى رقاب الناس : " اجلس فقد آذيت " (3)
و أما الإمام فلا يكره له التخطي إذا لم يجد طريقاً ، لأنه موضع حاجة (4).فإن كان يمكن الوصول إلى مكانه بلا تخط فإنه كغيره في التخطي ، لأن العلة واحدة(5) .
و يلحق بالإمام في انتفاء الكراهة في التخطي من عرضت له حاجة فخرج لها ثم رجع، لأنه قاصد للوصول لحقه ، و إنما الحرج على من تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى (6).
و كذا إذا لم يمكن الصلاة إلا بالدخول و تخطيهم جاز ، لأنه موضع حاجة (7).
اخير ما نقول اتمني ان تنال اعجاب الجميع