هذا كلام قيم للأستاذ الدكتور خالد كبير علال في نقد تصحيح ابن خلدونلنسب العبيديين (الفاطميين)
ثامنا : دفاعه عن نسب العُبيديين الإسماعيليين:
دافع ابن خلدون عن العبيديين الإسماعيليين المعروفين بالفاطميين ، في ادعائهم للنسب العلوي ،و صحح انتسابهم إليه ، و خطّأ العلماء الذين أنكروا ذلك ، و قال إنهم غفلوا عن الشواهد و الأدلة التي تُثبت صحة دعوى العبيديين في انتسابهم لعلي بن أبي طالب . و ذكر خمسة أدلة لإثبات ما ذهب إليه ، نذكرها فيما يأتي تباعا .
أولها إنه قال إن العبيديين لو كانوا كاذبين مدعين للنسب العلوي لانكشف أمرهم سريعا ، ثم قارن حالهم بالقرامطة في ادعائهم للنسب العلوي ، كيف تلاشت دعوتهم ،و تفرق اتباعهم و ظهر خبثهم و مكرهم سريعا ، فساءت عاقبتهم و ذاقوا وبال أمرهم ، فلو كان حال العُبيديين كحال القرامطة لأنكشف أمرهم بسرعة .
و ردا عليه أقول : أولا لا يوجد دليل من النقل و لا من العقل يقول إن الكاذب لا بد أن ينكشف أمره بسرعة في هذه الدنيا و يعرفه الناس و يفشل في تحقيق مراده ، فكم من أكاذيب و أباطيل موجودة في الأديان و المذاهب و الدعوات و الأحزاب السياسية ، و لا يعرفها أكثر أتباعها , و لم ينكشف أمرها لديهم ، و هم يعتقدون أنها صحيحة و يموتون من أجلها ، و لهذا أخبرنا الله تعالى أنه هو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه بحق و بغير حق ، رغم أنه سبحانه أنزل كتابه المعجز المؤيد بالبراهين الدامغة ، لأن الكذابين نجحوا في نشر أكاذيبهم لحجب نور الإسلام عن أكثر شعوب العالم ، و هي شعوب مُغيبة و مُخدرة ، و مُغرر بها ، و لا تعلم حقيقة الإسلام ، و هي على ضلال بسبب أعمال هؤلاء الماكرين الأفاكين الذين نجحوا قرونا طويلة في ممارسة لعبتهم القذرة في صد شعوب العالم عن الإسلام ، باستخدام الكذب و الشبهات و المغالطات و غيرها من أساليب الصد عن سبيل الله تعالى .
و ثانيا إن ما قاله عن القرامطة من أنهم لما كانوا كاذبين في ادعائهم للنسب العلوي ، تلاشت دولتهم و ظهر خبثهم و مكرهم سريعا ، هو كلام غير صحيح ، و مغالطة مفضوحة ، لأن القرامطة أسسوا دولة كغيرهم من كثير من مؤسسي الدول ، فاستمرت دولتهم نحو قرن من الزمن ، بجنوب الجزيرة العربية ، و حققوا انتصارات كثيرة على العباسيين و شكّلوا عليهم خطرا داهما ، حتى إنهم دخلوا الحرم المكي سنة 317 ، و قتلوا بداخله الحجيج ، و أخذوا الحجر الأسود إلى عاصمتهم بالبحرين ،و بقي عندهم عدة سنوات ، و لم تقدر الدولة العباسية على استرجاعه ، و لا على القضاء عليهم ، و قد وصل نفوذ هؤلاء إلى بلاد الشام . فهؤلاء على كفرهم و زندقتهم دامت دولتهم نحو قرن من الزمن ، و هي فترة ليست بالقصيرة ، فدول أخرى غير مطعون في نسبها عاشت نفس الفترة ، فالدولة الأموية عاشت 91 سنة ، و الدولة المرابطية عاشت نحو 91 سنة ، ، و أكثر من ذلك ، فإننا نجد الدولة الراشدة المؤمنة لا يزيد عمرها عن 30 سنة ، و دولة الصحابي عبد الله بن الزبير استمرت نحو13 سنة .
و ثالثا إن قوله بأن العبيديين لو كانوا كاذبين لانكشف أمرهم سريعا كما انكشف حال القرامطة ، هو قول غير صحيح ، و من مغالطاته ، لأن العبيديين هم أيضا انكشف أمرهم و خبثهم و زندقتهم ضلالهم بسرعة ، فإنهم لما ظهرت دولتهم بالمغرب الإسلامي(سنة 296ه) و أظهروا ادعاءهم للنسب العلوي ، أنكر عليهم ذلك العارفون بالنسب العلوي بمكة و المدينة ، و قد كان هذا (( الإنكار لباطلهم شائعا في الحرمين ، و في أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع أن يُدلّس أمرهم على أحد ، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه )) . و قد ألف الزاهد الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن الحسن العلوي الدمشقي(ت ق: 4ه) كتابا عن العلويين ، نفى فيه زعم عبيد الله المعدي انتمائه للبيت العلوي ، و بالغ في نفيه ، و قال إنه دعي و نحلته خبيثة ، مدارها على المخرقة و الزندقة .
و ضلالاتهم و منكراتهم هي أيضا ظهرت مبكرا ، فما إن أسسوا دولتهم حتى أظهروا ذلك جهارا نهارا ، فسبوا الصحابة و اضطهدوا أهل السنة ، و قتلوا منهم الآلاف ، مما حدا بعلماء السنة بالقيروان إلى إصدار فتوى بارتداد و زندقة هؤلاء ،و الدعوة إلى حمل السلاح لمقاومتهم .
و رابعا إنه لا توجد علاقة حتمية بين الكذب و سرعة الانكشاف ، فقد ينكشف الكذب و قد لا ينكشف لمعظم الناس و يستمر قرونا عديدة ، فالأرض تموج بالعقائد و المذاهب الباطلة ، و لم ينكشف كذبها و زيفها لمعظم أتباعها ، كما هو حال اليهود و النصارى و الهنود و البوذيين ، و معظم الفرق الإسلامية على نفس ذلك الحال ، لأن القائمين عليها هم على قدم وساق لضمان استمرار أكاذيبهم و مفترياتهم .
و خامسا إنه لا توجد علاقة حتمية بين سرعة السقوط و الكذب ، و لا بين طول الأعمار و الصدق ، لكن مقتضى زعم ابن خلدون هو وجود هذه العلاقة ، و هي بلا شك علاقة باطلة بدليل الشواهد الآتية ، منها أن هناك رجالا صادقين مؤمنين أسسوا دولا فلم تُعمر طويلا ، كدولة الراشدين ،و دوله الصحابي عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- . و أن هناك رجالا كاذبين هم أيضا أسسوا دولا لم تعمر طويلا ، كدولة بابك الخرمي ،و دولة صاحب الزنج .
و منها أيضا دولة الحشاشين الإسماعيلية بقلعة ألموت ببلاد فارس، كانت دولة رافضية ضالة منحرفة مفترية على الله و رسوله و المؤمنين ، و مع ذلك عمرت أكثر من 170 سنة . و كذلك دولة برغواطة البربرية بجنوب المغرب الأقصى ، فقد كذب ملوكها على الله و رسوله الأكاذيب الكبار ، و فيهم من ادعى النبوة ، و أحلوا لرعيتهم المحرمات ،و شرعوا لهم صلوات من أهوائهم ، و مع هذا دامت دولتهم نحو 300 سنة ، على كفرها و زندقتها ، و قد عمرت أكثر من دولة العبيديين الإسماعيليين ، التي دامت 271سنة .
و يتبين مما ذكرناه أن التاريخ يُثبت عكس ما زعمه ابن خلدون ، و هو أن الكذابين هم الذين عمرت دولهم مدة طويلة ، و أن الصادقين المؤمنين لم تعمر دولهم –على قلتها-إلا قليلا ، حتى إن تاريخنا الإسلامي الطويل ، على كثرة دوله لم تتكرر فيه الدولة الراشدة إلى يومنا هذا .
و أما الدليل الثاني –الذي اعتمد عليه ابن خلدون – فمفاده أن مما يدل على صحة نسب العبيديين في ادعائهم للعلوية ، هو أن أتباعهم بعد سقوط دولهم ظلّوا يوالونهم ،و خرجوا مرارا للمطالبة بالخلافة ، و يقولون بالوصية لأئمتهم ، فلو ارتاب هؤلاء في (( نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم ، فصاحب البدعة لا يُلبس في أمره ، و لا يشبه في بدعته ،و لا يكذب نفسه فيما ينتحله )) .
و قوله هذا غير صحيح ،و فيه تمويه و مغالطة ، تُبطله المعطيات الآتية : أولها إن كل أصحاب الأديان و المذاهب ، ما صح منها و ما بطُل ، لا يرتابون-في غالبهم- في عقائدهم و يركبون الأهوال من أجلها ، لكن هذا لا يدل بالضرورة على أن أفكارهم صحيحة ، لأن الحق لا يُعرف –بالضرورة- بتلك التصرفات ، و إنما الحق يُعرف أساسا بذاته و بالدليل الذي يحمله ، لذا فإن ثورة هؤلاء العبيديين للمطالبة بعودة دولتهم ليست دليلا على صحة نسبهم ، و إنما قد يدل ذلك على صدق ولائهم للعبيديين ، و هذا ليس دليلا على صحة نسب هؤلاء ، لأن كل الأديان و المذاهب لها أتباع مخلصون لها ، لكن إخلاصهم هذا ليس دليلا على صحة تلك العقائد و صوابها ، فكم من طوائف و ملل ضالة متحمسة لباطلها و ضلالها ! ، كحال اليهود في فلسطين ، فهم يدافعون عن دولتهم و يموتون من أجلها ،و مع ذلك فهم مغتصبون لفلسطين ، و لا يدل تعصبهم و موتهم من أجلها ، أنهم أصحاب حق في فلسطين .
و ثانيها إن صاحب البدعة الضال المنحرف الكذاب قد يلتبس أمره على كثير من الناس ، فيصدقونه و يُؤمنون بفكره ، و يضع لهم عقائد و تشريعات و ينشئ لهم مذهبا جديدا مزيفا ، و مع ذلك لا ينكشف أمره عند معظم أتباعه ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا قديما و حديثا ، منها السبئية ، و الخرمية ، و الإسماعيلية ، و الإثنى عشرية ، و البهائية ، و القاديانية ، و غيرها كثير ، فثورة هؤلاء الأتباع انتصارا لمذاهبهم و تحمسهم لها ليس دليلا على صحتها ، فكذلك ثورة أتباع العبيديين بمصر لاسترجاع دولتهم ، فإنها لا تدل على صحة النسب العلوي ، على حد زعم ابن خلدون .
و الدليل الثالث مفاده أن عبيد الله المهدي الإسماعيلي لما دخل بلاد المغرب و استقر بسجلماسة عند المدراريين بجنوب المغرب الأقصى ، أرسل الخليفة العباسي إلى الأغالبة و المدراريين يُخبرهم بذلك و يحثهم على القبض على عبيد الله ، و هذا عند ابن خلدون دليل شاهد على صحة نسب العبيديين العلوي . فهل ما ذهب إليه صحيح ؟ ، كلا إنه ليس حجة مقنعة ، لأن الخليفة لما سمع بانتقال عبيد الله المهدي إلى المغرب سعى إلى القبض عليه ، لأنه يمثل خطرا عليه و على الأغالبة و المدراريين على حد سواء ، لذلك أغراهم به ،و حثهم على وضع حد له ، لأنه يهدد الجميع ، و تصرّفه هذا لا يدل على صحة نسب عبيد الله المزعوم ، و قوله –أي الخليفة- لهؤلاء بأن الذي دخل بلادهم هو المهدي ، يعني أنه عرّفهم بأنه هو الذي يدعي المهدوية و يرفع شعار العلويين ،و تصرّفه هذا طبيعي و ضروري ، كان يتصرّفه مع أي خطر يتهدده من أي جهة كانت .
و دليله الرابع هو أبيات شعرية للشاعر الشريف الراضي الشيعي العلوي ، يقول فيه :
أليس الذل في بلاد الأعادي + و بمصر الخليفة العلوي
مَن أبوه أبي و مولاه مولاي + إذا ضامني البعيد القصي
و هو –أي ابن خلدون- في اعتماده على هذا الشعر متناقض مع نفسه ، لأنه استدل هنا بشعر للراضي لإثبات صحة نسب العبيديين العلوي ، ثم هو في موضع آخر من مقدمته يُشير إلى المحضر الذي كتبه العباسيون للطعن في العبيديين المدعين للنسب العلوي ، و يذكر من بين الأعيان الذين وقّعوا على المحضر الأخوان الشيعيان الراضي و المرتضي . و قد أكدت ذلك مصادر تاريخية أخرى من أن الأخوين الراضي و المرتضي كانا من الموقعين على المحضر . مع العلم أنه لما انتشر ذلك الشعر بين الناس ،و تكلّموا في قائله أنكر الراضي ذلك و حلف أنه لم يقله .
و لا ندري هل تعمد ابن خلدون ذكر ذلك التناقض ، أم لم يتنبه له ؟ كما أن ذلك الشعر المنسوب للراضي ، إما أنه منحول عليه ، و إما أنه قاله نكاية في العباسيين قبل كتابة المحضر أو بعده ، بحكم العداء الموروث بين العباسيين و العلويين بسبب الحكم . مع أن موقفه الذي ذكره في المحضر هو الصحيح ، لأن أعيان بغداد من مختلف الطوائف وافقوا عليه ، و لأن الأدلة الكثيرة التي سبق ذكرها ، و التي سيأتي بعضها لاحقا ، كلها تؤيد ذلك ، و بذلك يتبين أن اعتماد ابن خلدون على ذلك الشعر في تصحيح نسب العبيديين ، هو اعتماد ضعيف جدا و لا يصح .
و دليله الأخير –أي الخامس- في تصحيحه لنسب العبيديين ، هو قوله بأن الانقياد للعبيديين و ظهور كلمتهم هو أدل شيء على صدق نسبهم . و دليله هذا هو أيضا غير صحيح ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الصدق و قيام الدول ،و بين الكذب و عدم نجاحها ، لأن قيامها يخضع لأسباب كثيرة جدا ، أهمها حسن التنظيم ،و توفر القوة المادية و المعنوية ، و حسن اختيار الظروف المناسبة داخليا و خارجيا . كما أنه لا يوجد دليل نقلي و لا عقلي و لا تاريخي يدل على أن ظهور الدول و انتصارها يدل بالضرورة على أنها و أصحابها على صدق و صواب ، فالله تعالى يعطي الدنيا لمن يُحب و لمن لا يُحب ، قال سبحانه (( كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك ،و ما كان عطاء ربك محظورا )) –سورة الإسراء /20- ،و (( تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/140- ، لكنه سبحانه لا يُدخل الجنة إلا من يُحب، و لا يُخلّد في النار إلا من لا يُحب ، و هذا معروف من دين الإسلام بالضرورة .
و الشواهد التاريخية على ذلك كثيرة جدا ، فمن الدول التي أسسها كذابون ضالون منحرفون : دولة القرامطة ، و دولة الحشاشين ، و دولة العبيديين ، و دولة البرغواطيين ، و دولة اليهود . و منهم أيضا كذابون فشلوا في تكوين دول لهم ، كزعيم الحركة الرواندية ، و صاحب الزنج ، و أستاذ سيس ،في ثوراتهم على العباسيين في القرنين الثاني و الثالث الهجريين .
و في مقابل هؤلاء هناك صادقون كثيرون أسسوا دولا ، كدولة الخلافة الراشدة ، و دولة عبد الله بن الزبير ، و دولة الزنكيين ، و دولة الأيوبيين ، و دولة المرابطين ، و منهم أيضا صادقون فشلوا في تكوين دول لهم ، كالحسين –رضي الله عنه- ،و العلويين السنيين الذين فشلوا في خروجهم على الأمويين و العباسيين .
و النصارى في زماننا هذا ظاهرون ،و يُهيمنون على العالم ، و يزعمون أنهم على دين المسيح-عليه السلام- ، فهل هذا الظهور دليل على صدق ديانتهم و صوابها ؟ ، طبعا لا ، لأنهم على دين محرف بشهادة القرآن الكريم ،و السنة النبوية ، و البراهين العقلية و العلمية الكثيرة ، فالظهور الدنيوي إذن ، ليس دليلا بالضرورة على الصدق و لا على الكذب ، و إنما صدق الدعوات و صحة أفكارها يقوم أساسا على الحق الذي تحمله المؤيد بالأدلة النقلية و العقلية و العلمية الصحيحة .
و بذلك يتبين أن أدلة ابن خلدون في إثبات صحة انتساب العبيديين للعلويين ، هي كلها لا تصح ، و فيها كثير من المغالطات و التمويهات و المخالفات لكثير من حقائق المنقول و المعقول و التاريخ . و في مقابل ذلك نجد أدلة إثبات كذب هؤلاء في انتسابهم للعلويين ، قوية و راجحة ، نذكر منها ما يأتي :
أولها إن كثيرا من البيوتات العلوية أنكرت ما زعمه العبيديون من انتسابهم للعلويين ، و قالت إنهم خوارج كذبة . و ثانيها هو إن هؤلاء العبيديين –لما أقاموا دولتهم- أظهروا كفرا بواحا ،و ادعى بعضهم الألوهية ، و سبوا الأنبياء و الصحابة ،و سفكوا الدماء ، و أحلوا الخمر و أباحوا الفروج . و من كان هذا حاله فهو كذاب في انتسابه للإسلام ، و كذاب أيضا في زعمه أنه على منهاج علي بن أبي طالب و بنيه- رضي الله عنهم- ، فما كان علي و أولاده على مذهب هؤلاء العبيديين الزنادقة ، و إنما كان هو و بنوه على مذهب أهل السنة و الجماعة . و إذا كان ذلك هو حال العبيديين فإنهم على الأرجح هم أيضا كذبة في انتسابهم للعلويين .
و الدليل الثالث هو أن العبيديين لما كوّنوا دولتهم ارتكبوا في حق أهل السنة بالمغرب الإسلامي جرائم نكراء ، و أقاموا لهم دار النحر ذبحوهم فيها كالكباش ظلما و عدوانا ، مما دفع علماء القيروان إلى إصدار فتوى بكفرهم و زندقتهم و الدعوة لحمل السيف لجهادهم . فهذه التصرفات التي قام بها هؤلاء العبيديون ، هي دليل قوي على أنهم ليسوا من العلويين ، لأن العلويين الذين انتسبوا إليهم و هم علي و أولاده ، كانوا من أهل السنة و لم يكونوا رافضة أصلا ، فهذه المخالفة دليل قوي علىكذبهم .
و الدليل الرابع هو أن هؤلاء العبيديين عندما ادعوا النسب العلوي كانوا في مرحلة التستر و الكتمان ، نظموا خلالها جماعتهم و ادعوا فيها ما شاءوا ، بعيدين عن أعين الناس ، و عليه فنحن من حقنا أن نشك في كل ما زعموه ،و ننكر الدعاوى التي لا دليل عليها و تردها الشواهد التاريخية ، خاصة و أنه قد ثبت أنهم بالفعل كانوا كذبة ضالين منحرفين .
و الدليل الخامس يتمثل في المحضر الذي كتبه كبار علماء بغداد و قضاتها و أعيانها ، في سنة 402 هجرية ، أنكروا فيه دعوى العبيديين انتسابهم للبيت العلوي ، و شهدوا عليهم بالكذب و الزندقة ، و الضلال و الانحراف ، و وقّعوا على ذلك بخطوطهم ، على اختلاف طوائفهم ، من شيعة وسنة ، و من علويين و عباسيين ،و غيرهم .
فهذا المحضر دليل قوي ،و شاهد تاريخي على إجماع كبار علماء بغداد و أعيانها على تكذيب دعوى العبيديين في انتسابهم للبيت العلوي ، فما موقف ابن خلدون منه ؟ أشار إليه في مقدمته و تاريخه ،و قال إن الذين كتبوه سايروا فيه الدولة العباسية ، و إن معظمهم كانوا شيعة لها .
و موقفه هذا خطير جدا ، مؤداه أن علماء بغداد و أعيانها كتبوا ذلك المحضر تزلفا للخليفة و مراعاة له ، فكتموا الحقيقة ،و شهدوا شهادة زور ، فهذا اتهام خطير لهؤلاء وقع فيه ابن خلدون ، فصدّق العبيديين الكذبة المنحرفين , و كذّب كثيرا من علماء بغداد و أعيانها الصادقين ، كل ذلك لكي يُثبت ما ذهب هو إليه من صحة نسب العبيديين . و نحن قد سبق أن أبطلنا أدلته ،و أثبتنا أنها لا تنهض دليلا لإثبات ما زعمه ، و هذا المحضر الذي ذكرناه تؤيده الأدلة التي أوردناها ،و هو يصب فيها ، لكن ابن خلدون قلل من أهميته و قزّمه ، تدعيما لما ذهب إليه .
و أشير في هذا المقام إلى أمر هام جدا ، مفاده أن ابن خلدون في موقفه من تصحيح نسب العبيديين ، ساير فيه المؤرخ ابن الأثير (ت630ه) في دفاعه عن نسب العبيديين و تصحيحه ، فتبنى موقفه ،و اعتمد على أدلته ،و لم يُشر إلى ذلك ، وكأن ما قاله عنهم هو كله من عنده ،ولم يأخذه من عند ابن الأثير .
و بذلك يتبين من تتبعنا لمواقف ابن خلدون من مسألة نسب العبيديين الإسماعيليين ، أنه كان مصرا على تصديقهم في انتسابهم للعلويين ، و دافع عنهم بقوة ، فلماذا كل هذا الإصرار لإثبات نسب هؤلاء ؟ ! .
و إجابة على ذلك يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: (( و ابن خلدون لانحرافه على آل علي ، يُثبت نسب الفاطميين إليهم ، لما اشتهروا من سوء معتقد الفاطميين ، و كون بعضهم نُسب للزندقة و ادعى الإلهية ، كالحاكم ،و بعضهم في الغاية من التعصب لمذهب الرفض ، حتى قُتل في زمانهم جمع من أهل السنة ، و كان يُصرح بسب الصحابة في جوامعهم و مجامعهم ، فإذا كانوا بهذه المثابة ، و صحّ أنهم من آل علي حقيقة، إلتصق بآل علي العيب )) .
و لانحرافه –أي ابن خلدون- على العلويين كان الحافظ أبو الحسن الهيثمي يُبالغ في الغض من ابن خلدون و يسبه و يلعنه ، عندما بلغه إنه قال عن الحُسين (( قُتل بسيف جده )) ، لكن ابن حجر-الذي روى الخبر- قال إن مقولة ابن خلدون هذه لا توجد في تاريخه العبر ،و ربما كان ذكرها في النسخة الأولى منه ، ثمر تراجع عنها و حذفها .و عنها قال الشوكاني إنه إذا صحّت تلك المقولة عنه ، فهو ممن أضله الله على علم .
لكنني عثرت في المقدمة على ما يخالف ذلك ، فالرجل –أي ابن خلدون- دافع عن الحسين ، في قوله : (( و غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا ، فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم و القواصم ، ما معناه ، إن الحسين قُتل بشرع جده ، و هو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ، و من أعدل من الحسين في زمانه في إمامته و عدالته في قتال أهل الآراء ؟)) . فمقولة (( قُتل بسيف جده )) المنسوبة لابن خلدون تُشبه-في المعنى- مقولة (( قُتل بشرع جده )) المنسوبة لابن العربي ، و قد انتقده فيها ابن خلدون ، و دافع عن الحسين-رضي الله عنه- مما يدل على ان ابن خلدون بريء من تلك المقولة المنسوبة إليه في الحسين ، اللهم إلا إذا كان قالها ثم حذفها من تاريخه ، و هذا أيضا مُستبعد لأن ابن خلدون لم يُوافق ابن العربي فيما قاله عن الحسين .
لكن مع ذلك تبقى تهمة انحراف ابن خلدون على العلويين عموما قائمة و تلاحقه ، لأنه تَرجّح لدي أن ما نقله السخاوي عن ابن حجر في تأكيده على انحراف ابن خلدون على العلويين ، فيه جانب كبير من الصحة ، بدليل الشواهد الآتية :
أولها إنه-أي ابن خلدون- قال بصحة نسب العبيديين في ادعائهم للنسب العلوي من جهة ، و وصفهم بأنهم كانوا على الكفر و الإلحاد في الدين ،و التعمق في الرافضية. ثم سماهم بأهل البيت ،و أنهم رافضة طبقوا بمصر فقه أهل البيت من جهة أخرى، و قال أيضا : (( و شذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها ،و فقه انفردوا به ، و بنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح ،و على قولهم بعصمة الأئمة ،و رفع الخلاف عن أقوالهم ،و هي كلها أصول واهية )) .
و كلامه هذا صريح لا لبس فيه ، بأن العبيديين من آل البيت كانوا على مذهبهم ،و عنهم أخذوه ،و هو الذي طبقوه بمصر ، و قد وصفهم بأنهم أهل كفر و إلحاد و ضلال ، و بما أنه زعم أنهم كانوا على مذهب آل البيت العلوي ، فهذا يستلزم أن آل البيت هم أيضا على ضلال و إلحاد و انحراف،و عنهم أخذ العبيديون ذلك الضلال ،و هذه نتيجة منطقية تستلزمها مقولة ابن خلدون ، مع العلم أن لازم المذهب ليس مذهبا بالضرورة .
و حاشا أهل البيت أن يكون ذلك حالهم ،و ما زعمه ابن خلدون كلام باطل من أساسه ، و لا توجد أية علاقة صحيحة بين آل البيت و هؤلاء الزنادقة الضالين ، فآل البيت العلوي و العباسي ، كانوا من أهل السنة ، و لم يقولوا بوجود الأئمة ،و لا بعصمتهم ،و لم يشذوا بأفكارهم عن مذهب أهل السنة ، كما زعم ابن خلدون ، و الأدلة على ذلك كثيرة جدا ، منها :
إنه صحّ الخبر أن عليا –رضي الله عنه- اعترف صراحة في خطبة له أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- لم يعهد إليه في الإمارة شيئا . و لم يخصهم و لم يعهد إليهم بشيء . و صحّ عنه إنه كان يقول أمام الناس: خير الناس بعد الرسول أبو بكر و عمر . و صحّ أيضا عن جعفر الصادق إنه قال : (( بَرِء الله ممن تبرأ من أبي بكر و عمر )) .
و الدليل الثاني هو أن روايات آل البيت الحديثية، موجودة في مصنفات أهل السنة ، و هم عندهم ثقات ، على رأسهم : علي بن ابي طالب ، و الحسن ، و الحسين ، و علي بن الحسين ،و زيد بن علي ، و جعفر الصادق، و غيرهم كثير .
و الدليل الثالث هو أن فقه أهل البيت العلوي لا يختلف عن فقه علماء أهل السنة و الجماعة ، و هو مدون في مصنفات السنيين مع فقههم دون تمييز ، كفقه علي بن أبي طالب ،و علي بن الحسين ،و جعفر الصادق –رضي الله عنهم- .
و بذلك يتبين أنه لو كان آل البيت على عقائد و فقه العبيديين الضالين ، ما جعل أهل السنة آل علي من جماعتهم و ما قبلوا رواياتهم الحديثية ،و لا فتاويهم الفقهية و ما جعلوها من فقههم ، الأمر الذي يُثبت قطعا أن ما زعمه ابن خلدون في أن مذهب العبيديين هو مذهب آل البيت ، هو زعم باطل ،و افتراء مُتعمد من ابن خلدون ، لأن زعمه ظاهر البطلان ، لا يغيب عن فقيه مثله .
و الشاهد الثاني -على إثبات ما قاله ابن حجر- هو أن ابن خلدون زعم أن مذهب العبيديين القائم على الكفر و الزندقة و الإلحاد ، هو مذهب آل البيت ، و هو الذي طبقوه بمصر ، و هذا يستلزم أن آل البيت كانوا مثلهم في ذلك الضلال كما سبق أن ذكرنا ذلك . و هذا أمر خطير جدا ، قرره ابن خلدون ، لكن الغريب أنه قرر ذلك و سكت عنه ،و لم يستخدم آية التطهير لينفي عنهم ذلك الضلال الكبير ، كما استخدمها في الدفاع عن إدريس بن عبد الله العلوي . و لا شك أن الدفاع عنهم لتنزيههم عن الكفر و الزندقة و الضلال و البدعة أولى من الدفاع عن أحدهم من بعض الفواحش ، لكنه سكت و لم يفعل ذلك ! ! فلم يُنزه العبيديين و لا آل علي ، رغم سهولة الدفاع عنهم ، لأن آية التطهير جاهزة حسب فهم ابن خلدون لها ، و مع ذلك لم ينزههم ، و يبدو و الله أعلم أنه فعل ذلك لكي يُسيء للعلويين بإلحاق العبيديين بهم .
و الشاهد الثالث –على إثبات ما قاله ابن حجر- هو أن ابن خلدون زعم أن بداية الدعوة العُبيدية بالمغرب الإسلامي تعود إلى أيام جعفر الصادق المتوفى سنة 148ه ، الذي أرسل بعض دعاته إلى المغرب لنشر دعوته قبل قيام الدولة العبيدية سنة 296ه ، و ابن خلدون في زعمه هذا يُساير الرواية العبيدية التي تقول ذلك ، و هو زعم باطل ، لأن جعفر الصادق كان سنيا و لم يكن عُبيديا رافضيا إسماعيليا ، مما قد يُشير إلى أن إثبات ابن خلدون لتلك العلاقة المزعومة الهدف منها الإساءة لآل علي.
و بذلك يتبين مما ذكرناه في مبحثنا هذا أن دفاع ابن خلدون عن العبيديين و تصحيحه لنسبهم العلوي ، لم يكن موفقا فيهما ، لأن أدلته كانت ضعيفة جدا ، لم تصمد أمام النقد العلمي المُدعم بالشواهد المتنوعة الصحيحة ، مما يُرجح مقولة ابن حجر العسقلاني ، من أنه –أي ابن خلدون- كان يرمي من وراء موقفه من نسب العبيديين الطعن في آل علي و الإساءة إليهم ، لأنه كان منحرفا عليهم ، و الله أعلم بالصواب .