وقول الله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، وقوله: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270].
وفي الصحيح عن عائشةَ رضي الله عنها: أن رسول الله ﷺ قال: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه.
بابٌ من الشرك: الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: مَن نزل مَنْزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق، لم يضرّه شيء حتى يرحل من مَنْزله ذلك رواه مسلم.
الشيخ: الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد بيَّن المؤلفُ رحمه الله في هذين البابين حكم النذر لغير الله، وحكم الاستعاذة بغير الله، والمؤلف رحمه الله قصد بهذا الكتاب إيضاح مسائل التوحيد وما يُنافيه من الشرك الأكبر، وهكذا ذكر أشياء تُنافي كماله الواجب من الشرك الأصغر وبعض المعاصي كما يأتي في الأبواب الآتية، وهو كتاب جليل اشتمل على مهمات عظيمة فيما يتعلق بإخلاص العبادة لله وحده، والحذر من الشرك كله، ويتعلق أيضًا بأشياء من البدع والمعاصي.
والمؤلف هو أبو عبدالله محمد بن عبدالوهاب رحمه الله المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في هذه الجزيرة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية، وكانت وفاته رحمه الله سنة 1206 من الهجرة.
يقول رحمه الله: "بابٌ من الشرك النذر لغير الله" يعني: الشرك الأكبر، كالذي ينذر للأموات والجن والأصنام أن يفعل كذا، أن يُصلي له كذا، أو يتصدق بكذا لهم، أو يذبح كذا، أو ما أشبه ذلك، هذه من النذور الشركية التي يفعلها المشركون؛ ينذرون لأصنامهم وآلهتهم ذبائح أو أموالًا أخرى يتقرَّبون بها إليهم، فهكذا مَن نذر اليوم لأصحاب القبور أو للجنِّ أو للملائكة أو لغيرهم ذبائح أو دراهم أو أموالًا أخرى أو صلاةً أو سجودًا أو غير ذلك، كله من الشرك الأكبر، قال الله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، دلَّ على أن النذر الوفاء به محبوب لله، مَن نذر طاعةً وجب عليه الوفاء بها؛ ولهذا أثنى الله عليهم فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ يعني: نذر الطاعات التي نذروها، أثنى الله عليهم بالوفاء بها، وقال تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة:270] يعني: فيُجازيكم عليه، فدلَّ على أن النفقة والنذر عبادة، فإن كانت لله فله أجرها، وإن كانت لغير الله فعليه إثمها.
وكثير من الناس اليوم ينذرون للطواغيت، لأصحاب القبور، للجن، لغير ذلك، نذورا ذبائح وأموالًا أخرى، كل ذلك يتقربون به إليهم، كما يتقرب المسلمون لله بالعبادات.
والنذر أصله منهي عنه؛ النبي ﷺ قال: لا تنذروا؛ فإنَّ النذر لا يرد من قدر الله شيئًا، وإنما يُستخرج به من البخيل، لكن نذر الطاعة يجب الوفاء به: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه، فإذا قال: لله عليه أن يتصدق بكذا، أو يذبح كذا، أو يحج، أو يعتمر، وجب عليه الوفاء؛ لقوله ﷺ: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه.
أما نذر المعصية: نذر أنه يعق والديه، نذر أنه يزني، يشرب الخمر، هذا نذر معصية لا يجوز له الوفاء به، وعليه كفَّارة يمين.
أما نذر المباحات مثل: ينذر أن يأكل من أرز، يأكل من لحم كذا، يأكل خبزًا، هذا نذر مباح، هذا إن شاء أكل، وإن شاء كفَّر عن يمينه، نذر مباح.
وهكذا نذر مكروه: كأن ينذر أنه ما يُصلي صلاة الضُّحى أو الراتبة، نذر مكروه، إن صلَّى وكفَّر عن يمينه حسن، وإن ترك فلا حرج عليه؛ لأنه ليس بواجبٍ.
فهكذا النذر أن يفعل محرَّمًا مثلما تقدم، لا يجوز الوفاء به؛ نذر المعصية، لكن عليه كفَّارة يمين، أو نذر مكروهًا يُستحب له ألا يُوفي به، وأن يُكفر كفَّارة يمين.
أما إذا نذر الطاعة فعليه الوفاء بها، سواء كانت واجبةً أو مُستحبةً عليه الوفاء بها لله؛ نذر أن يُصلي الصلوات الخمس في الجماعة، عليه الوفاء؛ لأنَّ هذا واجب لله بأصل الشرع، ويُؤكده النذر أيضًا، نذر أن يذبح لله شاةً أو بعيرًا أو كذا وجب عليه الوفاء بذلك، سواء كان مطلقًا أو مُعلَّقًا إذا وُجد شرطه ولو مُستحبًّا؛ كأن ينذر أن يُصلي صلاة الضُّحى، يجب الوفاء؛ لأنها طاعة: مَن نذر أن يُطيع الله فليُطعه، نذر أن يوتر الليلة وجب عليه الوفاء؛ لأنه سنة وطاعة وقُربة.
أما إذا نذر الشُّموع والسُّرج وأشباهها للأموات، أو نذر الذبح بهم، أو التقرب إليهم بصلاةٍ إليهم، أو بالسجود لهم؛ صار هذا شركًا أكبر، أو نذر للأصنام، أو نذر للجنِّ، فهذا من الشرك الأكبر.
وهكذا الاستعاذة: إذا استعاذ بالجنِّ كما كانت الجاهليةُ تفعل؛ كانوا إذا نزلوا واديًا قالوا: نعوذ بعزيز هذا الوادي من سُفهاء قومه. فأنزل الله في ذلك: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، أو استعاذ بالأصنام أو بالأموات أو بالغائبين، فهذا من الشرك الأكبر؛ لأن الاستعاذة عبادة لله، فإذا قال: أعوذ بأبيك، أو: أعوذ بجنِّ الظهيرة، أو بجنِّ الجبل الفلاني، أو: أعوذ بالنبي، أو: أعوذ بالملك الفلاني، فهذا من الشرك الأكبر، قال الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، وقال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]، فالاستعاذة بالله عبادة، وصرفها لغير الله شرك بالله .
قال ﷺ: مَن نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق، لم يضرّه شيءٌ حتى يرتحل من منزله ذلك، هذا فيه فضل هذا التَّعوذ، وأنه تعوذ عظيم، وأن مَن قال ذلك إذا دخل المنزل كفاه الله شرَّه حتى يرتحل، حتى يخرج من المنزل: مَن نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التامَّات من شرِّ ما خلق، لم يضرّه شيءٌ حتى يرتحل من منزله.
وفي حديثٍ آخر رواه مسلم: أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما لقيتُ الليلة من عقربٍ لدغتني، قال: أما إنَّك لو قلتَ: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق، لم تضرّك، وفي لفظٍ آخر: مَن قال: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق في ليلةٍ ثلاث مراتٍ لم يضرّه حمة والحمة .....
وحديث خولة أعم: مَن نزل منزلًا فقال: أعوذ بكلمات الله التَّامات من شرِّ ما خلق يعم كل شيءٍ: يعم العقربَ والحيةَ، ويعم كل شيءٍ، وهذا تعوذ عظيم، وفيه فضل عظيم، ينبغي للمؤمن لزومه عند دخول المنازل، وعند مجيء الليل، وعند مجيء النهار.
وهكذا مَن قال: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات صباحًا أو مساءً لم يضرّه شيء، كما صحَّ من حديث عثمان، عن النبي ﷺ أنه قال: من قال ثلاث مرات: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات صباحًا لم يضرّه شيء حتى يُمسي، وإن قالها مساءً لم يضرّه شيء حتى يُصبح، وهذا فضل عظيم مع سهولة هذا الأمر، دواء عظيم وتعوذ عظيم مختصر فيه فضل عظيم.
فينبغي لأهل الإسلام التَّعوذ بهذه التَّعوذات، والأخذ بما أرشد إليه النبيُّ ﷺ في هذا وغيره؛ لما فيه من المصالح العاجلة والآجلة، والفوائد الجمة.
وفَّق الله الجميع.