بســـم الله الرحمـــن الرحيـــم
تبلبالة قريةٌ وادعةٌ ، ثاويةٌ بمنعزلٍ ناءٍ ، تَركنُ إلى أصلِ جبلٍ صخريٍ شاهقٍ ، شديدِ السّوادِ من فرْطِ القيظ و الوهج ،قد أسندت ظهرها إليه لثباته و استقراره ، ملقيةً رجليها في أصل عرقٍ ذهبي الرّمال ، ذي كثبانَ مترامية الأطراف ، لا يحدها البصر ، و لا يُطيقها البشر . و بينهما قزعات من طلحٍ حديدِ الكوسجِ شديدِ القتادِ ، و قطائعُ متتابعاتٌ من النّخيل ، كأنما كراديسُ من خميسٍ عرمرمٍ ، تتخلّلها رُقعٌ من قصيبات الإيراعِ الملبّدِ ،و بين المُسنَد إليه و المُلقَى فيه حَرّةٌ مزروعة صخرا أدهم كأنما أخرج من تنّور قديم . من ورائها فدافدٌ و سماليق ، و قيعان و أباطيح ، و أجارع و جِزاعٌ ، و صرائم و أبارقُ ، يحار في تكوينها المتفكّر في الملكوت . و كما تدرّع الجبل بالطلح و السّدر و نبات الحنظل ، فقد فرش العِرق رماله بألغام السّعدان و نبات الدّانون ، و أثبت في العسّة شجيرات الرّتَم ، التي تدور مع الرّمل في الوجود و العدم ، لكنهما تواثبا مستوفزين في يوم من أيام الدّهر ، و أمسك الجبل بيدي العِرق يتصارعان ، فلوى الأول أنامل الثاني حتى جثى على ركبتيه ، لكنّه أبى الاستسلام ... قد التحمت يمين هذا بشمال ذاك ، و يمين ذاك بشمال هذا . لكنّ مددًا من الكثبان أغاثت بني عمومتها ، بجموع زاحفة باغتت تلك الشواهق السّود من خلفها ، و أحكمت عليها الخناق إلا من منفذ ضيّق ضاربٍ جهة الشرق ، كمثلِ الخلخال ، كأنما قد تركت لها طريقًا للانسحاب و الانسلال . ... لكنّ المشهد تجمّد منذ ذلك الحين ، كأنما نزلت عليهما لعنة فَشَلّت منهما الأوصال و الأركان ، فأنت تراهما اليوم كما كان يراهما الأجداد و الأولون . و في غيابات تلك الفدافد و السّماليق ، عند قدم جبل (سيدي عبّاد)* (انظر الهامش) دُقّت أوتاد بُليدتنا الهادئة السّاذجة ،تلك التي لا تزال تبدو عليها علائم الأصالة و العراقة ، برغم التبرّج الذي بدأت تطلّ طلائع جيشه قبل المشرق و المغرب ، اقتداء بأخواتها اللواتي أمطن عن أوجههن براقع الأصيل و رمين جلابيب التّليد ، لكنّ تبلبالة كذاتِ خدرٍ نُشِّأت في ديار الكرام ، مصونة بتربية الحرائر بعيدا عن لوثات اللئام و دَخَنِ الطّغام . فهي تُقَدّم رجلا و تؤخر أخرى ، يمنعها المنشأ و تُثبّطها الطبّاع ، عن إماطة البرقع و رمي الجلباب ، كمن يُحاذر عقوبة الدّهر ، إن اقتحم المستقبل و ركب نجائبه و مطاياه ...
و على كلّ فأنصار الأصالة يرون أنّ هذا النّحو قد شان وجه القرية و جلّله بسخام أسود فاحم ، و أرباب الحضارة يرون أن القرية تنزع باليا خليقا و تلبس جديدا مُوَشّى بالسندس و الإستبرق . مربعات طوبية متفاوتة الكبر ، من طين أحمر ترابي ، قد عجن بتبن ليشد من أسره و يقويه . تتخلّلها مربعات رمادية شهباء ، من الإسمنت و الخرسانة ، تجوس خلال جموع المنازل الترابية التي تهالك بعضها ، و عاندَ بعضها الآخر ، رافضا رفضا قاطعا ترك المكان لقطعٍ مخدّجةٍ رمت بها رحم الحضارة . و كثير منها أحواش استوطنتها أدغال من النّخيل عششت في جنباتها ، باد أهلها الأوئل الذين شادوا بنيانها و أحكموا أركانها ، و خلفوا خلفهم ورثةً بادوا هم أيضا ، و خلفهم ورثة آخرون ، يقصر عن حصرهم العدّ ، منهم من استكنّ و منهم من ندّ ، و خاف الفقهاء من فرض فرائضهم ، و قسم أنصبتهم ، و بيان أسهمهم ، لاشتباه السّابق باللاحق ، و الآبق بالنّافق ، و الموجود بالمفقود . فبقيت قضاياها معلقة بلا بتّ ، حتى في عصر الذرة و النّتّ ، و ربّما ينظر فيها ، بعد الفصل في قضية فلسطين و بيت المقدس . و لا في المحِلّة من ينبس ببنت شفةٍ أو يهمس . تمتدّ بين ذلك المزيج الطيني الإسمنتي شوارع و أزقة متصالبة متعامدة ، تطول في مواضع و تقصر في أخرى ، تتّسع في جهات و تضيق في غيرها ، كأنها أخاديد خُدّت في بستان ، أو تقاطيع قُدّت في فستان ، و ليس فيها بنيانٌ قد جاوز الطابق الثاني أبدا ، بل إن أهل الطوابق الثانية لا يُجاوزُ بهم العادُّ أصابع يُمناه ، و ما الطابق الثاني إلا غرفة يتيمة توسطتْ فناء فسيحا مستطيلا أو مربعا ، إليه الملجأ و المفر من حرّ ليالي الصّمايم الخانق القاتل . و ليست البلدة كتلة عمرانية واحدة ، بل هي خمس عمائر متباينة الكثافة و السّعة ، فأشدّ الخمسة عمرانا و سَعَة هو حي الوسط و الذي يصطلح عليه النّاس هنا (الفيلاج) . لفظة من بقايا ثقافة المستخرب الفرنسي و لغته ، الفيلاج الذي كان في سبات دهري ضارب في القدم ، حيث أنه لم يعرف نموا يلفِت النظر منذ العهد الفرنسي إلى أواخر القرن المنصرم ، حيث دبّت الحياة في أوصال هذا المخلوق الأشلّ المقعد ، و بدأت تطول أطرافه و تتضخّم مناكبه ، و تضاعفت مساحة الفيلاج إلى أربعة أضعاف أو خمسة ، مع بزوف فجر هذه الألفية ، هذا النتاج الجديد النّامي ، أمدّته جيوش الحضارة بالعدة و العتاد ، ليُحكم الحصار على دعاة الأصالة ، فتحصن الآخِرون في الحي العتيق ، و انتهت بنود الصلح إلى أن لا يُجاوز أهل الأصالة حدود سنة ثمانين ، و أن يوقف الحضاريون مشروعهم الإستيطاني ، لكنّهم لم يتقيدون من جانبهم ، بل راحوا يمسحون الأراضي و يذرعونها ، و يقسمونها على من يريد أن يشيد فيها بناء من بني الحضارة ، فتحلّقت المكعبات الإسمنتية بالحي القديم (الفيلاج) من كل جانب ، تحلّق السوار بالمعصم . . يشرف على كل هذا المشهد قلعة شامخة من الطوب الطيني،كان لها خمسة أبراج رهيبة ، أربعة منها مربّعة ، و واحد مستدير الشكل ، ثلاث منها في الواجهة التي تطل على البلدة ، و اثنان في الضلع المقابل في الظهر ، شُيّدت فوق ربوة في أصل الجبل من جهة الغرب ، لها باب شاهق الارتفاع ، عال عن الأرض ، يوصلك إلى مستواه درج طويل يمتد من نصف التلّ إلى الباب ، و من نصفه إلى الأرض ، طريق حجري مرصوف ، فإذا رقيت الدّرج بقيت بينك و بين الباب هوّة ، لا يسدُّها إلا الباب ، ينزلونه فيصبح جسرا ، و يرفعونه فيعود بابا كما كان ، كقلاع القرون الوسطى في غابات اسكتلندا و جبال إيطاليا . كانت هذه القلعة في الأصل مكتبا للكولونيل الفرنسي ، الذي يحكم المنطقة ، و نحن إلى اليوم نسميها بالبيرو bureau ، و كانت بعد رحيل الفرنسيين ملاذا لكثير من العوائل إلى عهد غير بعيد ، الأمر الذي حافظ على تلك القلعة من الضّياع عقودا من الزمن ، لكنها انهارت جزءا فجزءا ، شيئا فشيئا ، حتى لم يبق منها اليوم الهيكل الخارجي المتداعي . و يقولون أنه كان فيها ممر تحت الأرض مبدؤه منها و منتهاه في قرينتها القلعة التي كان فيها السجن و الثكنة ، و هي تحت الرّبوة شرقا ، متقابلتان تقريبا ، هذه القلعة ذات القباب الطينية البيضاء و الأسوار العالية ، المدعّمة بالأبراج المربعة ، ذات الفتحات الضيقة ، التي لا تسمح إلا بخروج ماسورة البندقية أو الرّشاش . بقيت على شكلها و بنيانها كما تركها المستعمر ، لأن فيها ثكنة للعسكر الجزائري اليوم . و هذا كله يمثل في عرفنا حي الوسط ، ثم يليه كثافة و عمرانا حي الشّرايع ، و هو الطّرف الغربي للقرية ، حيّ هادئ يقع على يسار الدّاخل إلى تبلبالة من جهة (مَقْسَمْْْْْ دْرَا) و هو فجّ بين جبلين ، الجنوبي منهما هو منتهى سلسلة جبال عنّاب و التي تقع خلفها جنوبا كثبان عرق العطشان و بين الجبل و العرق فدافد و سماليق تسمّى (قديح الرّتَم) . و الشّمالي الغربي منهما هو منتهى سلسلة جبلية تمتد من مقسم دْرَا إلى مقسم تافيلالت و قد ينعتها البعض بجبال ديغرو (لكنّها في الوثائق تسمى بجبل بَيْن اثْنَايَا) نسبة إلى بئر عند ذاك الجبل تسمى حاسي ديغرو ، يقال أن الآمر بحفره نقيب في الجيش الفرنسي يقال له ديغرو ، ثم انسحبت التسمية على المنطقة برمتّها بحرّتها ما دون الجبلين و سَمْلَقها و جَرعائها مما دون سقطِ اللّوى من كثبان القراصين ( نسبة إلى بير هناك بهذا الاسم ) ، و تمتد الجبال ضاربة في الإيغال إلى الشّمال من مقسم تافيلالت إلى حمادة حاسي لفقيقيرة ( نسبة إلى بير هناك بهذا الاسم ) . مشكلة سلسلة جبال الوتد و جبل النسا و يشتهر عندنا بجبل النسور ثم جبل بن السّنِّينْ في هذا المكان حيث اجتمع الجبل بالعرق و أخذه بالأحضان ، و زمّله بدثار رملي ناعم فاقع الصُّفرة المحمرّة خجلا ، بفعل الماء الفرات الرّقراق ، الذي استودعته هذه الكثبان أحشاءها ، و يستنبطه الناس من القديم من بين رمالها ، بأيسر كلفة و أضعف جهد ، فينبجس الماء انبجاسا ، فكان موجبا لأن يكون أجدادنا لهذه المحِلّة أحلاسا . و عليه سُمِّي هذا العرق بالرّاوي (أي المُشبَع ماء)،و هو العِرق المعترض فوق القرية شمالا من الشرق إلى الغرب ، كالحاجب الأزجّ السابغ . في مقابل عرق العطشان الذي تدل تسميته على نبإه و خبره ، في مقابل الرّاوي ، في الجهة و الخبر . و بما أن الجبل يفصل بينهما ، حيث أن الرّواي شماله و العطشان جنوبه ، كأن الجبل شكلّ سدّا يمنع وصول الماء إلى تلك الجموع الزاحفة التي جاءت مددا لغوث بنات عمها ، إلجاء لها إلى الاستسلام و التولي عن الزحف ، و النكوص على العقبين إلى تلك الفيافي المقفرة ، و المجاهل التي تتوه فيها أسراب القطا و البيزان .
كان هذا استطراد زلت قدمنا فوقعنا في وهدته ، بعد ذكرنا موقع الشرايع بالنسبة للدّاخل إليها من مقسم دْرَا ...
أعود فأقول : : هذا الحيّ الوادع حضريُّ البنيان في عمومه ، و منشأ ذلك أن أهله تحوّلوا إليه حديثا في هجرة عامة ، من قصر الشرايع القديم موطنهم الأول ، و فيه مساقط رؤوسهم و هم قوم لهم لهجة محلية تسمى الكورنجي (لغة القرية) أو البلبالية إحدى لغات السونغاي و هي بدورها من عائلة اللغات النيلية الصحراوية، و ليس لها نظير في الجزائر ، و يقال أنه يتكلم بها أيضا سكان قصر الخملية جنوب منطقة تافيلالت (سجلماسة) المغربية ، و بعض المناطق في السنغال ، و بعض سكان واحات سيوة من صعيد مصر ، لكنها تأثرت باللغة العربية و البربرية . و نسميها نحن الشّلحة و ننسب أهلها إليها فنقول : الشّلوح (أي الشّلحيون) . في حين أن مُهاجَرهم الجديد كان يسكنه قوم من قبيلة البرابر ، و لهم لهجة يقال البربرية . و أهل هذا الحي أصحاب أراض وضياع و بساتين و نخيل ، شأنهم شأن سكان قصر الزّاوية (زاوية سيدي زكري) و هو الحيّ الواقع قِبلة القرية و أهلها يتكلمون الشّلحة و ينتسبون إليها ، و إن كان فيهم من يتكلم بها و لا ينتسب إلى معاشر الشّلوح ، و هم عروش و أفخاذمتوافرة من الشلوح و من غيرهم . و يقال أن أهل الشرايع قديما كانوا جميعا في الزّاوية ثم انتقلوا منها إلى الشرايع و إلى الجنوب من الزّاوية يوجد قصر قديم يسمى مخلوف و هو أصغر عامرة من عمائر القرية ، و قد غار الحيّان ـ الزّاوية و مخلوف ـ في أمواج من الكثبيبات الصغيرة ، ندعوها السّيوف ، و غرقت في لجج من أسراب النخيل العتيق الذي شكل شبه هلال في القرية .أما حي البناء الذاتي هو شظية تشظّت من هجرة الشرائعيين من قصرهم التّليد ، فاختار بنو عمومتهم الانحياز شرقا جهة الفيلاج و نزلوا على يسار الطريق الداخل إلى تبلبالة من جهة مقسم دْرَا أيضا . فأسّسوا عامرة تكبر قصرَ مخلوف و تصغر عن قصر الزاوية . و في كل عامرة منها مسجد جامع إلا مخلوف فإن فيها مصلى يؤمه نفر لا يزيدون عن الخمسة ، و ثلاثة مساجد قديمة معطّلة المنافع و المصالح ، لحلول الحديث محل القديم ، اللهم إلا مسجد الزّاوية العتيق ، حيث لا يزال يدرس فيه القرآن و يلقن للصّبيان و الفتيان .
و أما أهلها فهم قوم أهل كرم و جود ، لا يمنعون الموجود ، و لا يتكلّفون المفقود ، خيرهم ممدود ، و بأسهم محدود ، يؤثرون الغريب على القريب ، و يواسون المُصاب و الكئيب ، معاشر كرام يطلبون العافية و السّلامة ، و يجتنبون سَنَنَ ذوي العجلة و النّدامة ، و هم قبل قبائل كثيرة متوافرة ، و عروش عديدة متكاثرة ،فمنهم المخاليف و هم سكان قصرمخلوف ـ و يقال أنهم أقدم القبائل التي استوطنت تبلبالة من بين البلباليين اليوم ، ومنهم الشّلوح و هم أهل الشّلحة (اللهجة البلبالية الكورنجي) ، و الحراطين (من النّاطقين بالشلحة غير ِالشّلوح) ، و البرابر و قبائل من العرب من الشعانبة السُّلميين و الغنانمة و العطاونة الهلاليين ( و الهلاليون و السّلميون من العرب العدنانية طبعا ) و قوم من قبيلة اعريب العربية القحطانية ، و قوم من الرقيبات و هم من العرب العدنانية و منهم من يقول أنهم من حمير ، و أسر من التوارق و هم من لمتونة الأمازيغ ، جاؤوها من حواضر البرج و أدرار ، و أسر من الزّوا و هم من ذريةّ أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ، و أسر من الأدارسة الأشراف من أولا الحسن بن علي رضي الله عنهما ـ و الله أعلم ـ و أقوام غيرهم . ثم توارد إليها حديثا أناس من عرب ذوي منيع الهلالية جاءوا من العبادلة و بشار و القنادسة ، و أسر قليلة و أفراد من الشمال نزلوا تبلبالة بداعي العمل أو التجارة أو السكنى
و بهذا تعلم أن تبلبالة تتشكل من خمس عمائر متباينة متمايزة ، كأنها جزر متقاربة ، ضمّها خليج صغير ، تربط بينها طرق حديثة معبّدة ، ذلّلت السير في أنحاء تلك البليدة الصغيرة ، التي لا يربو سُكّانها عن السبعة آلاف نفس ، تربطنا بالعالم من حولنا طريق إسفلتية معبّدة إلى جهة الغرب، كحبلٍ سُرّي ، متصلٍ بمشيمةِ الطريقِ الوطني رقم 50 الرابط بين ولايتي بشار و تندوف . و كان هذا إلى عهد قريب جداّ (سنة و نصف) قصب النَّفَس الوحيد ، الذي يُمدُّ ـ بعد فضل الله تعالى ـ القرية بحاجاتها و ضروراتها ، فلا يدخل الدّاخل إلا منه و لا يخرج إلا عبره ،كمثل غار الضّبِّ ليس له سوى منفذ واحد . لكنّهم تفضّلوا علينا بترقية أخيرا ، من صيغة غار الضّبّ إلى صيغة نافقاء اليُربوع . فقد أمدُّونا بأنبوب ثان من جهة الشرق ، يوصلنا إلى الطريق الوطني رقم 06 الرابط بين أدرار و بشار ، و قد يقول بعض الأذكياء أنه لإمداد تندوف بمسرب ثان ، يربط بينها و بين أدرار ، و استفدنا نحن تبعا لذلك ، و لكن على كل حال ، فما فُكَّ عن تندوف قد فُكّ عنا نحن معهم ، إذ أن تندوف لا يزال لديها إلا قصب نفس وحيد ، و الحبل السُّري المارُّ بتبلبالة يبعد عنها بخمسمائة كليو متر . فلنحن أحسن حالا ـ في هذه على الأقل ـ من تندوف .
هذا نبأ شرايين الحياة التي تضخ الدّم حارّا ـ أو باردا أحيانا ـ في قريتنا الهادئة السّاذجة ...
أما عن مقاسمها السّتة ، فهاك خبرهم غير سائل عنه و لا ملتجئ للبحث و التفتيش ، أما مقسم دْرَا و هو الفجّ الذي يدخل منه الطريق الإسفلتي اليوم ، و كان كمثل الباب في الحصن ، ذلك أن تبلبالة تحيط بها الجبال من الجنوب و تحيط بها لجج من كثبان الرّمال من الجهات الباقية ، إلا فجاج ضيقة بين الجبال مثل الأبواب نسميها المقاسم ، ما شكّل حصنا طبيعيا و قلعة متترسة جدّا ، و لعل ذلك ما جعل الفرنسيين يختارونها كثكنة لجيوشهم و سجن لعتاة خصومهم و أعدائهم من الوطنيين ، و يقال ـ و العلم عند الله ـ أن فرحات عباس و لحبيب بورقيبة ، كانا من نزلاء سجن قلعة تبلبالة .مقسم دْرَا يخرج منه من يقصد موريتان و جهاتها من القوافل و السّفْرَ ، و إلى يساره مقسم مغمور غير معروف و هو في الحقيقة شبه مقسم يسمى مقسم لَبْيَض ، و بعده إلى جهة الشرق مقسم يعرفه البعض و يجهله الكثير (خاصة جيل النت و النقال) يقال له مقسم السَّلُّوم ، و هما معطّلان إلا من حركة البدو و الرّعاة و أصحاب التّجوال و الرّحلات ، و أما مقسم تافيلات فيخرج منه مريد سجلماسة و واحاتها و خزائنها ، و منها كانت ميرة أهل تبلبالة و تجارتهم لقرب الدار ، و هو كسابقيه من ناحية التعطُّل ، و أما مقسم السّودان ، فيخرج منه مبتغي بلاد توات و القورارة و ما وراءها من بلاد السّودان (أهل البشرة السوداء ، لا دولة السودان) و هو غير معطّل لمرور الطريق الموصل إلى تسابيت (أدرار) بجانبه ، و لا يزال يستعمله الناس حتى قبل فتح هذا الطريق ، ، بجانبه قريبا مقسم معطّل آخر يسمى مقسم اعريب نسبة إلى قبيلة اعريب القحطانية ، و ما أدري ما سبب هذه التسمية .
... يُتبع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
* - و هو أعلى قمة في جبال تادموست بارتفاع قدره (733م) عن سطح البحر ، و ليس هناك جبل أعلى منه إلا قمة تامجبارت (779 م س ب) من جبال سْماين ، المحادية لقرارة زكري من جهة الشمال (من خريطة فرنسية قديمة لتبلبالة 1939 / 1940)
أبو عاصم مصطفى بن محمد
السُّـــلمي
تبلـــبـالة