تفضلي حكم ثمن الحجامة بين النهي و الكراهة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالحجامة معناها: الشق، أو جرح عضوٍ من الجسد كالظهر، ومص الدم منه بالفم أو بآلة كالكأس على سبيل التداوي.
والتداوي بالحجامة مستحب، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي". متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: " خير ما تداويتم به الحجامة" رواه أحمد والبخاري،
وقد اختلف أهل العلم في كسب الحجام، فذهب جماعة منهم إلى إباحته وعدم كراهته، ونسب هذا القول إلى أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال الليث بن سعد ومالك.
قال مالك رحمه الله: ( ليس العمل على كراهية أجر الحجام، ولا أرى به بأساً) نقله الباجي في شرح الموطأ وقال: ( واحتج على ذلك بأن ما يحل للعبد أكله فإنه يحل للأحرار كأجرة سائر الأعمال).
ونقل عنه قوله ( لا بأس بمشاطرة الحجام على الحجامة) انتهى من المنتقى شرح الموطأ وذهب الحنابلة والشافعية إلى كراهة كسب الحجام للحر دون العبد.
والسبب في اختلافهم هو تعارض الآثار الواردة في ذلك، فمما جاء في كراهية كسب الحجام:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: " شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام"رواه مسلم.
2- قوله صلى الله عليه وسلم: " ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث" رواه مسلم
3- وعن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام وكسب البغي وثمن الكلب وعسب الفحل" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
4- وما رواه أحمد والترمذي وأبو داود أن محيصة استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه عنها فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال: اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك".
ومما جاء في الرخصة في ذلك:
1- ما رواه البخاري ومسلم عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: حجم أبو طيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا من خراجه".
2- ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه. ولو كان حراماً لم يعطه" هذا لفظ البخاري، وله أيضاً:" ولو علم كراهية لم يعطه". وعند مسلم: " ولو كان سحتاً لم يعطه". فذهب بعض أهل العلم إلى أن أحاديث النهي منسوخة، لكن النسخ لا يصار إليه إلا عند معرفة التاريخ وتعذر الجمع.
وذهب الجمهور إلى الجمع بين الأحاديث وحمل النهي على الكراهة.
قال ابن قدامة في المغني: ( ولأنها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار عليها كالبناء والخياطة، ولأن بالناس حاجة إليها ولا نجد كل أحد متبرعاً بها، فجاز الاستئجار عليها كالرضاع. وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وأطعمه رقيقك" دليل على إباحة كسبه، إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله، وتخصيص ذلك بما أعطيه من غير استئجار تحكم لا دليل عليه، وتسميته كسباً خبيثاً لا يلزم منه التحريم، فقد سمي النبي صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما، وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للحر تنزيهاً له، لدناءة هذه الصناعة. وليس عن أحمد نص في تحريم كسب الحجام ولا الاستئجار عليها وإنما قال: نحن نعطيه كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ونقول له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكله نهاه وقال اعلفه الناضح والرقيق"….وأن إعطاءه للحجام دليل على إباحته، إذ لا يعطيه ما يحرم عليه، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم الناس وينهاهم عن المحرمات فكيف يعطيهم إياها، ويمكنهم منها، وأمره بإطعام الرقيق منها دليل على الإباحة، فتعين حمل نهيه عن أكلها على الكراهة دون التحريم….وكذلك سائر من كرهه من الأئمة بتعين حمل كلامهم على هذا، ولا يكون في المسألة قائل بالتحريم. وإذا ثبت هذا فإنه يكره للحر أكل كسب الحجام، ويكره تعلم صناعة الحجامة، وإجارة نفسه لها، لما فيها من الأخبار، ولأن فيها دناءة فكره الدخول فيها….) انتهى كلام ابن قدامة.
وعلل الشافعية الكراهة بما في الججامة من مباشرة النجاسة على الأصح عندهم لا لدناءة الحرفة.
وبناء على ذلك نقول: من احتاج إلى هذا العمل فلا حرج عليه في أخذ الأجرة والمشارطة عليها، ومن لم يحتج له وفعل ذلك إعانة للمسلمين كان مثاباً مأجوراً فقد عد بعض أهل العلم من الشافعية عمل الحجامة من فروض الكفايات، فإن أعطي شيئاً فله أخذه . والله أعلم