سبيل النصر والتمكين
للشيخ أبي العباس أحمد عماني
إمام وخطيب مسجد القدس
برج الكيفان
قال تميم الداري رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليبلغنّ هذا الأمر، [أي هذا الدّين] ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بِعِزﱢ عزيز أو بِذُلِّ ذليل، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام و ذُلاّ يُذِلّ به الكفر"، و كان تميم الداري يقول: "قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف و العز، و لقد أصاب من كان منهم كافرا الذُّلَّ و الصَّغَار والجزية". رواه أحمد بن حنبل في مسنده.
إن الناظر في أحوال المسلمين وخاصة بعد سقوط الخلافة الإسلامية لَيَرْثِي لِحَالِهِم، لكثرة المحن والمصائب التي حَلَّت بهم، حتى صار كثير من المسلمين كالأيتام في مأدبة اللئام، وصارت أوطانهم وأرواحهم وأعراضهم فضلا عن أموالهم مستباحة لكل مجرم أثيم، حتى ظنَّ كثير من المنتسبين إلى الإسلام مِن بني جلدتنا، ومِمَّن يتكلمون بألسنتنا أن النَّصر والعزة والتمكين لهذه الأمة لا يكون إلا بتقليد الغرب شبرا بشبر وذراعا بذراع، وهؤلاء القوم لم ينظروا إلا إلى الأسباب المادية البحتة وَنَسُوا أو تَنَاسَوْا السبب الرئيس في عزة المسلمين الأوائل وانتصاراتهم المذهلة، ألا وهو الإيمان العميق والعمل الصالح، فقد كان القوم يُحِبُّون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه أكثر مما يحبون أنفسهم وأبناءهم وأزواجهم وآباءهم وأمهاتهم، ويُحِبّون الموت في سبيل الله كما تحبّ فارس الخمر، وكانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا، ويعملون الأعمال الصالحة الموافقة لسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلذلك استحَقُّوا العِزّ والتمكين، وأن يكونوا أعظم جيل، فإذا اقتدينا بهم في اعتقادهم وأقوالهم وأفعالهم أَعاد الله إلينا عِزَّنا ومجدنا، وقد بَيَّنَ الله هذه الحقيقة الغائبة عن أذهان كثير من الناس بيانا جَليًّا فقال الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون}[النور:55]
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، و بهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وَلَيُبَدِّلَنَّهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحُكْما فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك وله الحمد والمنّة،، فإنّه صلّى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها... وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملّك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه، ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصّديق، فَلَمَّ شعث ما وَهىَ عند موته صلى الله عليه وسلم، وأخذ جزيرة العرب ومهَّدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس...ففتحوا طرفا منها... وجيشا آخر... إلى أرض الشام، و ثالثا إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه الله عز وجل...فقام بالأمر بعده [عمر بن الخطاب] قياما تاما لم يَدُرْ الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله، وَتَمَّ في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس و كسر كسرى... وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام...ثم لما كانت الدولة العثمانية [أي خلافة عثمان بن عفان] امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، فَفُتِحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وَبَادَ ملكه بالكلِّية، و فُتِحت مدائن العراق وخراسان و الأهواز....إلى أن قال: فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل، وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، و أيدهم الله تأييدا عظيما، و تحكموا في سائر العباد والبلاد، ولما قَصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم" اهـ.
وقال العلامة السعدي -رحمه الله تعالى- في تفسيره: "ولا يزال الأمر (أي النصر والتمكين) إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم الله، وإنما يُسَلِّط الله عليهم الكفار والمنافقين، وَيُدِيلهم في بعض الأحيان، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح"اهـ.
قلت: ولما أعرض المسلمون عن الدين القويم، وتنكَّبوا الصراط المستقيم، ولم ينصروا دين الله، خذلهم ولم ينصرهم على عدوهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم}[محمد:7]، وقال الله تعالى: {..وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور}[الحج:40-41].
فإذا علم الله منَّا أنّنا ننصر دينه ،ونبذل أرواحنا وأموالنا وأوقاتنا في سبيل ذلك، وأنّنا نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر إذا مَكَّن لنا دينَناَ الذي ارتضاه لنا، فحينئذ يأتي النصر من الله العزيز الحكيم، قال الله تعالى: {... وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين}[الروم:47].
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- عند قوله تعالى: {... وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}[النساء:141]. "فالآيةُ على عمومها و ظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تُضادُّ الإيمان، ما يَصِيرُ به للكافرين عليهم سبيل، بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تَسَبَّبُوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفته"اهـ.
ورحم الله الإمام الذهبي إذ قال مُبَيِّنا سبب انتكاسات المسلمين في زمانه، فَكيف لو أدرك زماننا "فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ نطق بالحق وأمر بالمعروف، فيسلِّطُ الله عليه من يؤذيه لسوء قصده وَحُبّه للرئاسة الدينية، فهذا داءٌ خفيٌّ سارٍ في نفوس الفقهاء، كما أنه داءٌ سَارٍ في نفوس المنفقين من الأغنياء وأرباب الوقوف والتُرَب المزخرفة، وهو داءٌ خَفِيٌّ يَسْرِي في نفوس الجند والأمراء والمجاهدين، فتراهم يلتقون العدوّ ويصطدم الجمعان، وفي نفوس المجاهدين مخبآت وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة لِيُقَال، والعُجب ولُبس القراقل المذهبة و الخوذ المزخرفة و العدد المحلاّة، على نفوس متكبّرة وفرسان متجبّرة، وينضاف إلى ذلك إخلال بالصلاة وظلم للرّعية وشرب للمسكر، فأنّى يُنصرون وكيف لا يخذلون..."اهـ [السير 18/192].
قلت: فكيف إذا انضاف إلى ذلك الصد عن سبيل الله، وتعطيل شرع الله، ودعاء غير الله، والنذر لغير الله، والذبح لغير الله، وتقبيل القباب والقبور، ودعاء الأموات، والطواف بالقبور، والزنا والربا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإن المتأمل والدارس لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وَحَالِ العرب قبل الإسلام وبعده، ليعلم علم اليقين أن سبب عزّهم وسؤددهم إنما هو إيمانهم العميق واعتصامهم بالله وبحبله المتين، وقد أخبر بهذه الحقيقة الغائبة عن أذهان كثير من المسلمين، الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لمّا قال: "إنا قوم أعزّنا الله بالإسلام فلن نلتمس العزّ في غيره"، بل إنّ أعداء الإسلام الذين عاصروا الصحابة ورأوا حال العرب قبل الإسلام وبعده، أدركوا هذه الحقيقة واعترفوا بها، وهي أنّ قوّة المسلمين لا تكمن في عُدّتهم ولا في عددهم، وإنّما في تمسّكهم واعتصامهم بكتاب ربهم وسنة نبيّهم، فَهَذا الهُرْمُزَان رجل مجوسيّ من عظماء فارس، يرى دولة الفرس تتهاوى وتتلاشى، أمام جيوش المسلمين، وهو في غاية الحيرة من هذا التغيّر المفاجئ للعرب، [إذْ جُلُّ الجيوش حينها كانوا من العرب] فهو قد رأى العرب وضعفهم قبل الإسلام، فإذا بهم يَتَّحِدُون تحت راية واحدة، ولا يثبت أمامهم الفرس و الروم، فيقول كلمة ينبغي أن يحفظها كل مسلم و مسلمة، وأن تُكْتَب بماء الذهب "إنا وإيّاكم معاشر العرب ما خلى الله بيننا وبينكم، كنَّا نَتَعَبَّدُكُم ونقتلكم ونُقْصِيكم و نَغْصِبُكم ،فلمَّا كان الله معكم، لم يكن لنا بكم يَدَان (أي قدرة و طاقة)" [رواه ابن أبي شيبة وغيره]. أي لم يعد لنا طاقة و لا قدرة على قتالكم، لأنّ الله معكم، وذلك لأنكم مؤمنون معتصمون بالله و بحبله المتين، و ذلك لأنّكم نصرتم الله فنصركم. وهذا رجل من زعماء النصارى، يعترف بهاته الحقيقة، و هي أنّ النصر الذي كان المسلمون يحرزونه، ليس سببه كثرة عدد و لا كثرة عُدّة و لا اتحاد كلمة العرب و شجاعتهم، و إنما سبب النصر الأساس هو أنهم أطاعوا الله و انقادوا لأمره ونصروا دينه، فاستحقوا النصر تلو النصر، فقال كلمة عظيمة حفظتها لنا كتب السنة فروى ابن حبان في صحيحه [ 14 / 522،52 ]عن شيخه أبي يعلى وهذا في مسنده [ 13/ 337 ـ 338 ].
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "خرج جيش من المسلمين أنا أميرهم، حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم من عظمائهم : أخرجوا إليّ رجلا يكلمني و أكلمه، فقلت لا يخرج إليه غيري، فخرجت و معي ترجماني و معه ترجمانه، حتى وضع لنا منبران، فقال : ما أنتم، فقلت : إنا نحن العرب، ونحن أهل الشوك و القرظ، و نحن أهل بيت الله، كنا أضيق الناس أرضا، و أشدهم عيشا، نأكل الميتة و الدم و يُغِير بعضنا على بعض، كُنَّا بِشَرِّ عَيْشٍ عاش به الناس، حتى خرج فينا رجل، ليس بأعظمنا يومئذ شرفا و لا بأكثرنا مالا، قال: أنا رسول الله إليكم، يأمرنا بما لا نعرف وينهانا عما كنا عليه و كانت عليه آباؤنا، فشنفنا له و كذبناه و رددنا عليه مقالته، حتى خرج إليه قوم من غيرنا [يقصد الأنصار من الأوس و الخزرج] فقالوا نحن نصدقك ونؤمن بك و نتبعك ونقاتل من قاتلك، فخرج إليهم و خرجنا إليه، فقاتلناه فَقَتَلَنَا و ظهر علينا، و تناول مَنْ يليه من العرب، فقاتلهم حتى ظهر عليهم، ...فقال أحد عظماء الإسكندرية : إن رسولكم قد صدق، قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاء به رسولكم، فكنا عليه، حتى ظهرت فينا ملوك، فجعلوا يعملون بأهوائهم، و يتركون أمر الأنبياء، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم، لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه و لم يشارركم [أي يريد بكم شرا] أحد إلا ظهرتم عليه، فإذا فعلتم مثل الذي فعلنا، و تركتم أمر نبيكم، و عملتم مثل الذي عملوا بأهوائهم، فخلى بيننا وبينكم، لم تكونوا أكثر عددا منا ولا أشد منا قوة" اهـ.
فتبين من خلال ما أوردناه من آيات و أحاديث وآثار وأخبار، عن هؤلاء الذين قاتلوا المسلمين الأوائل، أن النصر و العزة و التمكين، إنما تكون بنصر دين الله نصرا مؤزرا مبينا، أي بالإيمان و العمل الصالح، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة، و لا يعني هذا أن نغفل عن العُدَّة المادية فلا نعبأ بها، بل لا بد منها فإن الله يقول {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُون}[الأنفال:60]، فلابد من الإعداد الكامل ماديا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، بعد الإعداد الروحي، المتمثل في نصر دين الله، عقيدة وشريعة و سلوكا و منهاجا، متبعين لكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم و سنة الخلفاء الراشدين، مع التضرع إلى الله و الالتجاء إليه وحده لا شريك له، و التوكل عليه وحده قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم}[الأنفال:10].
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد في هدي خير العباد [3 / 181 ] : "و لما رأى المنافقون و مَنْ في قلبه مرض قِلَّة حزب الله و كثرة أعدائه [أي في غزوة بدر]، ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة، وقالوا {...غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ ...}[الأنفال:49]، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه، لا بالكثرة، و لا بالعدد، و الله عزيز لا يغالب، حكيم ينصر من يستحق النصر، و إن كان ضعيفا، فعزته و حكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه )ا.ه.
وقد ينصر الله عباده أحيانا، إذا كانوا مؤمنين حقا، نصرا مؤزرا مبينا، من حيث لم يكونوا يحتسبون، كما نصر موسى عليه السلام و قومه على فرعون و ملإه، و نصر نوحا فأغرق قومه الكافرين، و نصر محمدا صلى الله عليه و سلم يوم الخندق، فأرسل ريحا و جنودا لم يروها، و ليس هذا خاصا بمن كانوا مع الأنبياء، بل هو كائن لمن بعدهم، فروى مسلم في صحيحه ( كتاب الفتن و أشراط الساعة ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر قالوا نعم يا رسول الله، قال : لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من بني إسحاق، فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح و لم يرموا بسهم، قالوا لا إله إلا الله و الله أكبر، فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولوا الثانية لا إله إلا الله و الله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا الثالثة لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلوها". وقال تعالى {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون}[المنافقون:8]، و يقول الله تعالى: { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } [ فاطر 10 ].
قال ابن القيم-رحمه الله تعالى- : "المعصية تورث الذل و لا بد، فإن العز كل العز في طاعة لله تعالى، قال الله تعالى {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا}] أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله، و كان من دعاء بعض السلف [اللهم أعزني بطاعتك و لا تذلني بمعصيتك]
ونختم هذه المقالة بهذا الأثر العظيم عن حكيم هذه الأمة أبي الدرداء رضي الله عنه، ففي كتاب الزهد للإمام أحمد بن حنبل عن جبير بن نفير قال : "لما فتحت قبرس، فرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، رأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي"، فقلت : يا أبا الدرداء ! ما يبكيك في يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، و أذلّ فيه الكفر وأهله، قال أبو الدّرداء: ثكلتك أمك يا جبير بن نفير، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة على الناس، لهم الملك تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى ". قلت: و نحن معاشر المسلمين كنا أمة ظاهرة قاهرة عزيزة فصرنا إلى ما ترون بسبب البعد عن الدين، فعودة صادقة معاشر المسلمين و المسلمات إلى كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم و سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فلن تَضِلُّوا أبدا، و لن تَذِلُّوا أبدا، {...إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين}[الأعراف:128]، اللهم انصر دينك، ومكّن لعبادك في المشارق والمغارب.
والحمد لله رب العالمين.