اخي ممكن ايساعدك شوية
الوقائع الاقتصادية في العصور القديمة الإثنين ديسمبر 06, 2010 8:59 pm
دراسات في تاريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي
للاستاد ابراهيم كبة *
عباس الفياض * *
يأتي كتاب الاستاذ ابراهيم كبة هذا، والذي ساعدت جامعة بغداد على طبعه، بمثابة جهد وعمل كبير لما قام به المفكرون الاقتصاديون عبر عصور عديدة، في سبيل ايجاد مفاهيم وأفكار للظواهر الاقتصادية بغية معرفتها والتكيف او التكلم بها، وجعلها أكثر ملائمة للاستيعاب عند الضرورة. وأن دراسة الاقتصاد وفهمه يرتهنان ايضاً بالمنهج الذي يستخدمه هذا الكاتب او ذاك، هذا الباحث او ذاك، هذا الفيلسوف او ذاك، لغرض فهمه وادراك أبعاده.
الفكرة العامة للكتاب
يحتوي العمل على 560 صفحة من الحجم المتوسط، متضمناً مقدمة حول مواد الكتاب، والقسم الاول ظهر تحت عنوان: تاريخ الاقتصاد. وهو مقسم الى اربعة فصول، اما القسم الثاني فيحمل عنوان: في تاريخ الفكر الاقتصادي، وقد ضم ستة فصول. هذا مع العلم ان الاستاذ كبة وضع لكل قسم او فصل من فصول كتابه هذا فهرساً تفصيلياً خاصاً مع هوامش وحواشٍ لمزيد من التفصيلات، وبعض المفردات المعرفية الخاصة بآراء المفكرين وتواريخ تناولهم للمادة المطروحة. فلم يكتف المؤلف بمراجعة المصادر الثانوية، بل بذل مجهوداً كبيراً في الرجوع الى المؤلفات الاصلية لاصحاب المذاهب والآراء، وبلغاتهم الاصلية، موفراً مادة مليئة بالمعطيات التاريخية والفكرية، وبالوقائع والنظريات وملاحظاته النقدية بشأنها، التي تشكل مادة غنية بين أيدي الدارسين والباحثين والقراء، للاستفادة منها، وأن تكون حافزاً للتعمق اكثر وللتحليل ولمراجعة الاصول التي اعتمدها المؤلف.
المنهج العام للكتاب
تناول الاستاذ كبة في القسم الاول التاريخ الاقتصادي، مقدماً مادة منهجية منذ البدايات، تناول أسسه المنهجية، حيث وضع عناوين كمقدمة عامة في مادة التاريخ الاقتصادي، تشمل:
أ. موضوع التاريخ الاقتصادي الذي يعني، حسب المؤلف، بدراسة النشاطات الاقتصادية Activities، كما في الواقع، او حسب تعبير اندريه بيتر Andre Pietter يعني بتاريخ الحياة الاقتصادية Vie او بتاريخ الوقائع الاقتصادية Faits، حسب تعبير مؤرخي الاقتصاد الفرنسيين او بتاريخ الخبرات والتجارب الاقتصادية Experiences حسب تعبير شمبيتر Schumpeter او بتاريخ تطور العمليات الاقتصادية، متجسدة عبر الزمن Process حسب تعبير اوسكار لانجه.
ب – كما يتناول المؤلف أساليب عرض المادة في المؤلفات الاكاديمية، أي دراسة التاريخ الاقتصادي حسب التقسيم الاكاديمي التقليدي للتاريخ العام الى عصور قديمة ووسطى وحديثة، منتقداً عيوب هذه الطريقة، فضلاً عن الغموض والشكوك الحديثة حول هذا التقسيم. كما يشير الاستاذ كبة الى اقتصارها على الزوايا والأطر التاريخية فقط من دون التعمق، او في دراسة التاريخ الاقتصادي من زاوية القطاعات الاقتصادية (زراعية، صناعية، تجارة... الخ). ويفند د. كبة هذه الطريقة بأنها تكمن في تجزئة العملية الاقتصادية بصورة مصطنعة، او في استعراض تاريخ أجزاء من العمليات الاقتصادية تعود لأنظمة اقتصادية مختلفة من دون ملاحظة وظائفها المتبانية، او الدراسة الاقليمية للتاريخ الاقتصادي، اي استعراض التاريخ من زاوية التوزيع الجغرافي للعملية الاقتصادية.
كما ان المؤلف يشير الى الدراسة المقارنة للتاريخ الاقتصادي، كما يفعل ولتر بكنكهام
W.Buckingham في مؤلفه "النظم الاقتصادية النظرية – دراسة مقارنة"، وهو يقارب بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي. وهناك خلط، كما يقول الاستاذ كبة، بين التاريخ الاقتصادي والنظرية الاقتصادية، او كما يفعل رالف بلوجت R. Blodgette في مؤلفه "النظم الاقتصادية المقارنة". وعيوب هذه الافكار والنظريات تكمن في أن الاسلوب قد يكون مفيداً من الناحية العملية، ولكنه مضر من ناحية اهماله للطابع العضوي للنظام الاقتصادي، او كما تجري الدراسة المؤسسية Institutional للتاريخ الاقتصادي، أي التركيز على تاريخ المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية. وعيوب هذه الدراسة، بحسب الاستاذ كبة، انها تهمل في الحقيقة المفهوم العلمي للنظام الاقتصادي، فضلاً عن مفهومها الخاطئ للراسمالية والخلط بين الدراسة النظرية والواقع الاقتصادي. ويستعرض المؤلف ايضاً دراسة النماذج النظرية Economic Models في التاريخ الاقتصادي، أي دراسة الخصائص الجوهرية للنظم الاقتصادية – التاريخية (اقطاع، رأسمالية، اشتراكية... الخ) بعد تجريدها من التفاصيل غير المهمة. وهنا يقف الاستاذ كبة الى جانب هذا الاسلوب من الدراسة للتاريخ الاقتصادي، معتبراً اياه خطوة لا غنى عنها لفهم جوهر الانظمة الاقتصادية التي تعاقبت. ولكن المنهجية العلمية تفترض ان يعقب التجريد عملية اخرى هي عملية التقريب او التمديد المتعاقب Successive Approximation. وبعكس ذلك ستكون الدراسة مشوبة بعيب التجريد والبعد عن التاريخ الحقيقي.
وينتهي الاستاذ كبة ملاحظة بالاشارة الى ان الطريقة الصحيحة، في رأيه، في عرض التاريخ الاقتصادي هي طريقة دراسة تطور وتعاقب النظم الاقتصادية (نظم الانتاج والتوزيع) بسائر مقوماتها العلمية، وفي اطرها الاجتماعية والتاريخية (أنظر ص 60). وفي الصفحات التي تليها يضع المؤلف قائمة بأسماء المؤلفات التي تساعد في دراسة المادة في الجامعات.
أهم الاشكاليات التي تناولها المؤلف
يرى د. كبة ان من المناسب الاشارة الى بعض النظريات حول مراحل التاريخ الاقتصادي، ويختار منها بعض نظريات التفسير الاقتصادي، تاركاً النظريات الاجتماعية الأخرى... الخ
أ . نظرية فون لست F. List حول مراحل التاريخ الاقتصادي القومي، وهو من رواد المدرسة التاريخية الالمانية والمدرسة الرومانتيكية الالمانية ومؤسس المدرسة الوطنية فيها. ويقوم نظامه الفكري على ثلاث أركان: (نظري، عملي، تاريخي). وتستند نظريته الى اعتبار تقسيم العمل هو العامل الحاسم في التطور الاقتصادي، ولهذا العامل ايضاً يكتسب أهمية من قبل آدم سمث، وقبله افلاطون وارسطو، إلا ان هذا العامل، حسب رأي د. كبة، لا يمكن ان يكتسب دلالته إلا ضمن نمط العلاقات الانتاجية بمجموعها.
ب. نظرية برونو هلدبراند (1812 – 1878) حول مراحل التطور الاقتصادي للامم. ويعد هلدبراند أحد مؤسسي المدرسة التاريخية الالمانية، والذي هاجم المدرسة الكلاسيكية البريطانية في مؤلفه "الاقتصاد السياسي للحاضر والمستقبل"، وهو يرى ان مهمة علم الاقتصاد يجب ان تقتصر على دراسة التاريخ الاقتصادي الحقيقي للامم.
ج. نظرية هنري مورغان لمراحل التطور الاقتصادي بفعل تطور أدوات الانتاج. يعد الانثروبولوجي الامريكي مورغان من الاوائل الذين ركزوا على أهمية العامل التكنولوجي (تطور أدوات الانتاج)، وممن اكدوا على نشوء وتطور وانحلال النظم الاقتصادية. وتعد نظريته، كما يشير الاستاذ كبة، احد المصادر الاساسية للنظرية الاشتراكية، وذلك بتأكيدها على عامل قوى الانتاج، واعتباره الحافز الاول للتطور الاقتصادي والاجتماعي. ويلاحظ على هذه النظرية من انها احادية الجانب one side لاعتبار ان التقدم التكنولوجي نفسه مشروط دائماً بالمحيط الاجتماعي.
د. نظرية بوخر في تطور الوحدات الاقتصادية. كان بوخر (1847 – 1930) احد أقطاب المدرسة التاريخية الالمانية الجديدة بجانب شمولر وماكس فيبر وسومبارت، وهو يشير في كتابه "نشوء الاقتصاد" (1893) الى ان الاقتصاد مر بثلاث مراحل تاريخية هي "المرحلة المنزلية، مرحلة اقتصاد المدن، مرحلة الاقتصاد الوطني". ونظريته لها تأثير في صياغة المدرسة الاقتصادية الامريكية – المؤسسية Institutional (كوفنر، ميتشل... الخ)، كما اشار لها بوضوح افلاطون وارسطو، كما اشار لها آدم سميث لتقسيم العمل.. الخ، وبسبب طابعها الميكانيكي هاجمها سومبارت، فضلاً عن الاقتصاديين المعاصرين.
هـ - نظرية روستو في مراحل النمو الاقتصادي. يرى روستو بأن جميع الاقطار تمر في تطورها الاقتصادي بخمس مراحل من المرحلة الدنيا الى الأعلى، وهي:
1 – مرحلة المجتمع التقليدي Traditional
2 – مرحلة الشروط المسبقة الانطلاق Preconditions of take off
3 – مرحلة الانطلاق Take off
4 – مرحلة السير نحو النضوج Drive toward maturity
5 – مرحلة الاستهلاك الجماهيري المرتفع High mass consumption
وبعد ان يشير كبة لكل مرحلة وما يليها من المراحل الاخرى، يقدم ملاحظاته النقدية، في كونها تشكل مجموعة من أفكار البرجوازية، ولا تحتوي على عنصر جديد، لا في فكرها الاجتماعي او الاقتصادي، وهي خليط متنافر من آراء مجموعة الاشتراكيين التصحيحيين Revisionists والتكنولوجيين المعاصرين، وبعض الآراء الكنزية، الى جانب العديد من الاراء المغرقة في الفاشية والنازية وموجهة لتحقيق أهداف محددة، وهي معارضة للاشتراكية ولحركة التحرر الوطني.
و. نظرية اندريه بيتر في ربط مراحل التطور الاقتصادي بمراحل حضارات البحر المتوسط. وبحسب بيتر فان الحضارات اليونانية والرومانية والغربية الحديثة مرت بثلاث مراحل. المرحلة الاولى تميزت بخضوع الاقتصاد Subordonnee للتقاليد الدينية والاخلاقية، حتى القرن الثامن عشر. اما االمرحلة الثانية، فانها تتميز بتحرر المجتمع من هذه التقاليد وينزع الاقتصاد نحو التحرّر ويتحول من خاضع الى اقتصاد مستقل Independent، وقد دخلت اوربا في هذه المرحلة ابتدءاً من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والمرحلة الثالثة تتميز بانحلال عناصر الفردية وتحول الحرية الى فوضى والسلطة الى استبداد، بسبب الطابع اللاأخلاقي لتراكم الثروة، وتضطر الدولة للتدخل في الحياة الاقتصادية، ويتحول الاقتصاد الى الاقتصاد الموجه Dirigee، مرحلة تدخل الدولة Estatisme.
يوجه الاستاذ كبة سهام نقده الى هذه النظرية ويصفها بالمثالية والسطحية في عرضها لعلاقة الاقتصاد بالدولة، بقوله ان جوهر المراحل يتحدّد بطبيعة قوى الانتاج بعلاقات الانتاج والتفاعل بينهما، ونتيجة لهذه الرؤيا لا يفرق بيتر بين المراحل التي مرت بها البشرية (العبودي – الاقطاعي – العصور الحديثة... الخ) (ص 79).
وبالاضافة لذلك يوضح الاستاذ ابراهيم كبة العلاقة بين التاريخ الاقتصادي وتاريخ الفكر الاقتصادي، والخلط الذي تذهب اليه بعض المؤلفات الاكاديمية بين هذين العلمين. ويشير هنا الى ان التاريخ الاقتصادي هو علم وصفي، يتناول الواقع التاريخي للعملية الاقتصادية، علم وقائع Factual، انه الوجه الواقعي (وجود – واقع) وجزء من القاعدة الاقتصادية Economic base، جزء من علاقات الانتاج، في حين ان تاريخ الفكر الاقتصادي، هو تاريخ الصياغات النظرية للقوانين الاقتصادية، والوجه النظري للعملية الاقتصادية (فكر – نظرية)، وجزء من مفهوم الايديولوجية او مفهوم البناء الفوقي – العلوي Super structure. وعليه فان التاريخ الاقتصادي، بحسب كبة، هو الاساس المادي لتاريخ الفكر الاقتصادي (ص 82).
كيف يرى الاستاذ ابراهيم كبة بعض الاشكالات من منظوره؟
يتناول الاستاذ كبة الاسس المنهجية في دراسة نظرية انماط الانتاج في الفصل الثاني (ص 85)، واضعاً الاطار المنهجي لمجموع الدراسات الخاصة بهذا القسم. وفي دراسة مكثفة يأخذ في الاعتبار مجموع العوامل المادية والفكرية، التي توجه النظام الاقتصادي، مشيراً الى بعض المفاهيم الاقتصادية الاولية، معرفاً الاقتصاد السياسي بأنه العلم الذي يعنى بدراسة القوانين الاجتماعية التي تحكم انتاج وتوزيع البضائع لاشباع الحاجات الانسانية، سواء كانت هذه الحاجات حيوية (بايولوجية) او اجتماعية، والتي يقرّرها مستوى الثقافة العام في المجتمع، وقد تكون الحاجات فردية او جماعية... وغيرها من التعريفات التي ترتبط بعملية الانتاج والتوزيع والعمل، وكل ما يرتبط بالاقتصاد السياسي من قوانين.
وفي الفصل الثالث تناول نظام الاقتصاد البدائي او "المشاعي"، مؤكداً على طابعه التاريخي الشمولي، رابطاً اياه بالاصول البايولوجية والانتروبولوجية للتاريخ الانساني، الذي يوفر بدوره شروط نشوء النشاط الاقتصادي، وأن الملكية المشتركة لوسائل الانتاج اساس العلاقات الانتاجية، وتطابق تعاونية العمل، وهذا التطابق بين الملكية وقوى الانتاج جاء نتيجة لضعف الفرد المنعزل وليس نتيجة جعل وسائل الانتاج اجتماعية... والقانون الاقتصادي الاساسي لنظام انتاج المشاعية هو ضمان وسائل المعيشة الضرورية للانسان بالاعتماد على أدوات انتاج بدائية، وعلى اساس مشاعية تملك وسائل الانتاج، والعمل الجماعي، وطريقة التوزيع المتساوي للمنتجات. وكان التقسيم الوحيد للعمل هو التقسيم الطبيعي "رجال ونساء" (ص 118).
وفي الفصل الرابع (ص 139 – 261) يتناول المؤلف الاقتصاد العبودي معالجاً فيه مسائل نظرية حول نمط الانتاج العبودي والازمة العامة للنظام العبودي، ملقياً اضواء ساطعة على أهم معالم نشوء المؤسسات الحضارية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويمكن القانون الاقتصادي الاساسي للنظام العبودي في انتاج مقدرا من فائض المنتوج Surproduit لاشباع حاجات مالكي العبيد، وذلك عن طريق الاستثمار (الاستغلال) الوحشي للعبيد على اساس التملك الكامل لوسائل الانتاج والعبيد من قبل مالكيهم، وعن طريق استرقاق asservissement والحاق الخراب بالفلاحين والحرفيين وتحويلهم الى عبيد مرحلة الانتقال الى العبودية – وكذلك عن طريق قهر واسترقاق شعوب البلدان الاخرى.
والنظام العبودي هو الذي كان قد مكن على نطاق واسع نسبياً من تقسيم العمل بين الصناعة والزراعة، وبالتالي من بلوغ العالم القديم الذروة في الحضارة الهيلينية Hellenisme. وبدون وجود العبودية لم يكن من الممكن وجود الدولة اليونانية او الفن والعلم الاغريقيان. الحال بدون قاعدة الحضارة الهيلينية والامبراطورية الرومانية، ما كان بالامكان ظهور اوربا الحديثة، (مقتبسة من انغلز "الرد على دوهرنغ" Engels (Anti-Duhring) ص 199.
اما القسم الثاني من مؤلف ابراهيم كبة فمخصص للحديث عن "تاريخ الفكر الاقتصادي" (ص 263 – 556)، الذي تناول فيه بعض التيارات الفعالة في تاريخ الفكر الاقتصادي، بدءاً بالفكر اليوناني والروماني، وصولاً عبر السكولائية والماركنتيلية الى النظرية الكنيزية في الثلث الثاني من القرن العشرين.
حاول المؤلف ان يكرس جهداً كبيراً في دراسة الجوانب المنهجية والمبدئية والنظرية العامة، مستعرضاً الجوانب النقدية للمؤلفات الاكاديمية الحديثه، من وجهة نظره، مقدماً منهجاً علمياً شاملاً للافكار والمفاهيم والأسس المنهجية التي يمكن الاطمئنان لها، في دراسة تفاصيل التاريخ والأزمنة والوقائع والافكار الاقتصادية وفي تحديد المفاهيم الاساسية للعلوم الاقتصادية مثل المذهب، النظرية، النظام، المنهج، السياسة، المؤسسة، الفكرة، الفكر... الخ). بالاضافة الى تناول المناهج الاكاديمية (المنهج الكلاسيكي، التاريخي الأقطاعي، الاقليمي، المقارن... الخ، مركزا على العيوب البارزة التي تصاحب التجزئة، التجريد، الشكلية.. الخ، ومن منهجية اعتمدها المؤلف. حيث يتناول الموضوع خلال دراسته لنظرية انماط الانتاج باعتبارها إطاراً لمجموعة الدراسات المنهجية الخاصة في هذا القسم من الكتاب، مشيراً الى حداثة المادة المطروحة، كما يذهب الى ذلك اريك رول Eric Roll في مؤلفه "تاريخ الفكر الاقتصادي" A History of Economic.
وفي القرن الثامن عشر ظهرت بعض المؤلفات في هذا الموضوع، يأتي في المقدمة منها من حيث الاهمية مؤلف آدم سمث Adem Smith "ثورة الامم" الذي يستعرض فيه الماركنتيلية، وما كتبه المؤرخون الاشتراكيون من الالمان في القرن التاسع عشر لتثبيت المنهج التاريخي مثل شمولر والناقدين للنظام الرأسمالي وفكره الاقتصادي من امثال كارل ماركس ونظريته في فائض القيمة ودوهرنغ في التاريخ النقدي للاقتصاد الوطني والاشتراكية، حتى اواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حيث اصبح تاريخ الفكر الاقتصادي مادة مستقلة وأكثر مرغوبيةً Popular.
ويحدد الاستاذ كبة الاهمية لدراسة المادة، في انها:
- اولا، انها تؤكد الطابع العلمي لعلم الاقتصاد وتجنب المرء خطر "التجريد" الشائع في علم الاقتصاد الاكاديمي.
- وثانياً، في كونها تشكل مدخلاً لدراسة النظرية الاقتصادية المعاصرة واستيعاب الجدل القائم فيها بين الاقتصاديين، حول نظرية ارسطو في الطبقات الاجتماعية، او نظرية ريكاردو في الريع التفاضلي او آراء توماس الاكويني حول الربا او النظريات الفيزيوقراطية حول الزراعية، وكذلك كينز الذي احيى نظريات مالتس وبرودون وسيسموندي في أهمية الطلب الفعال ودوره في التحليل الاقتصادي. وهنا يؤكد د. كبة على أهمية الجدل للنظريات الاقتصادية المعاصرة من جهة، والمفكرين الذين يمثلون هذه الاتجاهات.
- وثالثاً، اهمية دراسة المادة لتجنب تكرار الاخطاء في السياسة الاقتصادية ولضمان التقدم في هذا الميدان، والبناء على أسس الفكر السابق، وتجنب ما يسميه كونار الزيزفية الفكرية Sisiphisme Intellectuelle في اشارة الى اسطورة زيزيف اليونانية المعروفة.
- ورابعاً لاثبات استمرارية ووحدة الفكر الاقتصادي منذ العصور القديمة حتى الآن.
- وخامساً، هو التأكيد على الطبيعة الاجتماعية للاقتصاد وارتباطه بجميع العلوم الاجتماعية الاخرى كالسياسة، الاخلاق، الفقه، والجماليات وعلم الاجتماع... الخ).
- وسادساً هو ادراك نسبية Relativity الافكار الاقتصادية، وعدم تمتعها بقيم مطلقة وتوقفها على الظروف الزمانية والمكانية، مما يوحي بأهمية التطور من دون الثورة في زعم هاني Haney في مؤلفه "التاريخ الفكري للاقتصاد " History of Economic، كما يشير الى ذلك الاستاذ كبة.
- وسابعاً، لأهمية التمييز بين "علم الاقتصاد" كمجموعة قوانين موضوعية، وبين الاقتصاديين الذين يختلفون في تفسيراتهم لهذه القوانين، تبعاً لاختلاف فلسفة الحياة واختلاف المنهج Method.
كما ويشير د. كبة الى ان وراء كل فكر اقتصادي "قديم وحديث" فلسفة اجتماعية. ويميل الاستاذ كبة الى الربط بين الصلة الأكيدة بين التحليل الاقتصادي والفلسفة الاجتماعية، ومن الصعوبة فهم الاول من دون الثاني، وأن للفكر الاقتصادي جذرين، الاول الجذر الفلسفي، او ما يدعونه "الصورة العالمية للحياة الاجتماعية، والثاني الجذر العملي، اي الآراء والحلول لمشاكل الحياة الاقتصادية العملية، التي تصدر عن الساسة ورجال الادارة ورجال الا عمال... الخ.
نقاط الاختلاف ونقاط اللقاء
يخالف الاستاذ كبة آراء تيلر Taylor بقوله: "يبالغ تيلر في التأكيد على اندماج الفكر الاقتصادي بالفلسفة الاجتماعية، متجاوزاً الارتباط بين المادتين الى الرغبة في ادماج في مادة واحدة. ويرى ان الفرق بين المادتين ليس فرقاً في الطبيعة او في الدرجة، بل هو فرق في الموضوع، حيث ان الفلسفة السياسية، الاخلاقية، الاجتماع، الاقتصاد، مواد ولكل من هذه المواد موضوع محدد مختلف عن الموضوعات الاخرى, هذا المبرر لدراسة كل موضوع على حدة، لا يعني نسيان الترابط فيما بينهما.
كما يلاحظ كبة بعض التناقضات في استعراض هاني للخطوط العامة بين الفكر المادي والفكر المثالي، ويبرز عيوله في الخلط بين الانواع المختلفة للمادية والمثالية في الحقول المتعددة للمعرفة (الحقل الوجودي – انتولوجيا، والحقل المعرفي – استمولوجيا، والحقل الاجتماعي – سوسيولوجيا). ويتوقف عند المنهج لهاني في الفكر الاقتصادي والمنهج الاقتصادي وأثره في تحديد الفكر الاقتصادي واختلاف المنهجية سبباً للخلاف في الفكر الاقتصادي بعد ان يضع "المنهج الاستنتاجي" Deductive (من العام الى الخاص)، والمنهج الاستقرائي Inductive (من الخاص الى العام) والمنهج الاحصائي يعتقدها بأنه الجمع بين المنهجين.
وبعد ان يحاجج كبة طروحات هاني ومنهجيته وبعض التطرف في تفسيره وتطبيقه بعض أقطاب المدرسة التاريخية الالمانية ونفي الطابع الشمولي لمسلمات المدرسة الكلاسيكية الانكليزية "الانسان الاقتصادي انسجام المصالح" ورفض تقسيم العمل الدولي، حرية التجارة الدولية... الخ، وصولاً الى انكار وجود علم للاقتصاد... يشير كبة الى ان تصنيف المنهجية في الاقتصاد لدى هاني الى استقرائية واستنتاجية احصائية، تؤكد ان هاني لا يستوعب كامل العملية المنهجية ولا حتى جوهر هذه العملية. غير ان كبة يتفق مع هاني في ربطه الفكر الاقتصادي بالفلسفة.
ولعل من المفيد الاشارة الى تفرد شوميتر Schumpetere في مؤلفه تاريخ التحليل الاقتصادي History of Economic Analysis من بين المؤرخين وانكاره اثر الفلسفة في تطور الفكر التحليلي في الاقتصاد، وحسب آراءه لا أثر للفلسفة الاغريقية القديمة أي مجموعة المعارف العلمية (العلم الكلي Universal Science مجموعة العلوم الطبيعية والاجتماعية والميتافيزقية، التي بقيت سائدة حتى منتصف القرن الثامن عشر، والتي تمثل افكار كبار الموسوعيين من امثال ارسطو وتوماس الالكيني ولاينتبز وفيكو، اصحاب النظم الفكرية الشاملة، فان العلاقة معدومة في رأي شومبيتز بين فلسفة هؤلاء وبين آرائهم في الحقول المختلفة، لا اثر لفلسفة ارسطو في نظرياته الفيزيائية والاقتصادية ولا أثر لفلسفة لايبتيز (مونادولوجيا Monadology) في آرائه في التجارة الحرة.
تدفع هذه القضايا الاستاذ كبة الى تفنيد افكار شومبيتر باشارته الى ان السلوك الاقتصادي يتاثر حتماً بالمعتقدات الفلسفية (دينية ام غيرها) ولهذا فان اثر الفلسفة اكيد في "السياسات" الاقتصادية التي يدعو اليها الاقتصادي، اي بالنسبة لفروض ونظريات وأدوات المحلل الاقتصادي. ومن المؤسف، يقول كبة، ان شمبتر لا يقدم أية حجج لاثبات رأيه هذا، بل يحيل القارئ الى تفاصيل في كتابه الضخم: " تاريخ التحليل الاقتصادي". كما ويخالف كبة شوميتر في الفكر الاقتصادي والتحيز الايديولوجي Ideological bias من ان التحيز الايديولوجي من اكتشاف ماركس وزميله انغلز موجهاً انتقادات للمفهوم الماركسي للايديولوجيا.. الخ. ويشير كبة الى ان شومبيتر وحداني Monist التفسير للايديولوجيا، لا صلة له في الواقع، وعلى خلاف ما يضمن شومبيتر وأغلب المفسرين الاكاديميين المعاصرين، من ان المحلل الاقتصادي نفسه هو نتاج محيط اجتماعي محدد، وموقع معين في المحيط المذكور.
وبالمقابل تناول الاستاذ كبة للفكر الاقتصادي في العهد الاقطاعي، وفي تحديد العصر الوسيط والجدل الحاصل بين المؤرخين الاكاديميين، حيث يشير احد المؤرخين الهولنديين الى ان تحدي الفترة الاقطاعية من 337 ميلادية التي انتهى حكم قسطنين الكبير، وعصر وسيط ينتهي بسقوط القسطنطينية 1453 ميلادية، وهي الفترة التي ساد فيها الحكم الاقطاعي في اوربا، والجدل الواسع بين الباحثين،.
وللأستاذ ابراهيم كبة رأي في هذا الجدل، يشير فيه الى أنه من العبث محاولة وضع نظرية عن الفترة الزمنية، ومن المهم تتبع تفاصيل عملية التحول الاجتماعية من النظام القديم (الرق) الى النظام الاقطاعي الجديد، وأن كل نزاع ينشأ في احضان النظام الذي سبقه، ويبدأ التصادم فيما بينهما. ويسجل واقع نشوء النظام الرأسمالي اثر انفجار الثورات السياسية البرجوازية في القرن السابع عشر والثامن عشر، مشيراً الى انه يمكن اعتبار النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، باعتباره نقطة التحول من نظام الرق الى النظام الاقطاعي، كما يمكن اعتبار القرن الخامس عشر الميلادي الفترة الحاسمة للانتقال من الاقطاع الى الرأسمالية (ص 387 – 388).
لكن مصادر الفكر الاقتصادي الاقطاعي، كمال يقول الاستاذ كبة، بل ان الحياة الفكرية بمجموعها في العهدالاقطاعي، كانت تحت اشراف الكنيسة، فلا غرابة، اذن، ان ترتدي شكلاً دينياً سكولائياً، ولا غرابة اذا كانت الآراء الاقتصادية تشكل على الدوام فصولاً من كتب الفقه واللاهوت. ولكن الفكر السكولائي استمد عناصره الفكرية من ثلاث مصادر، هي الفكر اليوناني، وتحديداً ارسطو، والفكر المسيحي القديم، وثالثا دور الكنيسة ومذهب توما الاكويني، الذي يقوم على التوفيق بين الافكار المسيحية الاولى وبين شروط النظام الاقطاعي. وهنالك آراء شومبيتر لدراسة الفكر السكولائي، رغم ان كبة يختلف اختلافاً جذرياً عن خطه العام، ولكنه يضع حيزاً كبيراً لافكار شومبيتر امانة للفكر في الصفحات 421 – 459.
غير ان الاستاذ كبة ينتقد رأي شومبيتر في تقييم نظرية الفائدة عن السكولائيين المتأخرين واعجابه بها، ويعتبر اي تفسير نقدي للفائدة مجرد مس سطحي للظاهرة الاقتصادية لا ينفذ الى جذورها في العملية الاقتصادية نفسها، وفي النظام الاقتصادي (النمط الانتاجي) الذي يفرزها او ان ربط الفائدة بالربح خطوة صحيحة ولكنها خطوة قاصرة. ان الحل يكمن في دراسة قوانين النمط الراسمالي وخاصة قوانين انتاج وتوزيع فائض القيمة، وهذا ما فعله مؤسسو الاقتصاد العلمي من وليم بني حتى كارل ماركس (ص 459).
في الفصل الخامس: "الفكر الاقتصادي لعهد الرأسمالية التجارية، وضع الاستاذ كبة بعض العناوين التي تساعد على تناول الموضوع بسلاسة، بدأ من الاساس المادي (التراكم البدائي لرأس المال) وشروط نشوء الرأسمالية التجارية وشروط الانتاج وعملية التراكم، والفكر الماركينتيلي باعتباره جزء من الايديولوجية الرأسمالية. مشيراً الى أن آدم سمث، في كتابه "ثروة الامم"، هو اول من أطلق اسم "الماركينتيلية" والتي كانت تعكس ايديولوجيا نشوء وتطور الرأسمالية التجارية Commercial Capitalism. ويخلص الى القول ان المدرسة الماركينتيلية خدمت مصالح فئات الرأسمالية التجارية الى جانب الملوك وحاشيتهم البيروقراطية والفئات العليا الاحتكارية من الراسمالية التجارية. ويعزي الاستاذ كبة تخلفها، الى تغير الوقائع الاقتصادية وظهور خبرات جديدة نحو المؤسسات المصرفية وتوسع الاقتصاد السوقي + الثورة الصناعية، التي احلت "المنظم الصناعي" Entrepreneur محل التاجر باعتباره الشخصية الاساسية في النظام الاقتصادي (ص 526).
اما الرأسمال الصناعي، فقد بدأ ينشأ ويتطور قبيل الثورة الصناعية (أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر). والمؤسسون الحقيقيون لعلم الاقتصاد يأتي على رأسهم وليم بتي و يرى ولادة الافكار للنظام الرأسمالي ولدت في احشاء المجتمع الاقطاعي في الفترة المذكورة نفسها.
والفصل السادس الذي ظهر تحت عنوان: "الكامراليون الالمان الاوائل" (الصفحات 534 – 556)، فيشير الى تطور العلم الكامرائي في المانيا والنمسا، وهو الاسم الذي أطلق على الماركينتيلية طيلة ثلاثة قرون في هذه البلدان، إذ ترجع افكارها الى بداية القرن السادس عشر، وبذورها لدى لوثرو اوسا Ossa ((1506 – 1556 وبصورة اوضح لدى الحقوقيين جورج اوبرخت Obrecht وبزولد Besold في أواخر القرن المذكور. كما برز بورنتز Bornitz وكلوك Klock. ومجمل الافكار المشتركة لهؤلاء تتحدد من قبيل: أهمية النقود، زيادة السكان، ضرورة التدخل الحكومي، ولكنهما اختلفا حول نقاط أخرى من قبيل: اعتماد نفقات الدولة على موارد الدومية الملكي او تحديد معدل الفائدة تحديداً قانونياً، او مدة وطبيعة الحقوق والامتيازات المالية للملوك Regalien تجاه رعاياهم. كما ان الموضوعات التكنيكية (كالزراعة وصيد الاسماك وصناعة الحرير) كانت تحتل اهمية خاصة في كتاباتهم.
والملاحظ في الفكر الكامرالي والماركينتيلي في الفكر الاقتصادي المعاصر، كما يشير د. كبة، من ان هناك جملة اتجاهات متباينة لتصور العلاقة بين الفكر الكامرالي الجرماني والفكر الماركينتيلي بصوة عامة، وبخاصة نماذجه الانكليزية. ولا شك ان الاختلاف في هذا التصور يعود اساساً الى الاختلاف في النظرة الاصلية لطابع ومحتوى ودلالة الفكر الماركينتيلي نفسه. وهنالك من يعالج الفكرين في اطار واحد وضمن عنوان واحد، هو الفكر الماركينيتلي، وخير مثال على ذلك الاقتصادي السويدي هكشر في مؤلفه المعروف الماركينتيلية، بينما يرى شومبيتر لا كتيار من تيارات الفكر الماركينيتنلي، بل كتيار من التيارات التي اطلق عليها اسم "أدب المستشارين الادارين"، وركز على فكرة "دولة الرفاه"، أي دولة التدخل الاقتصادي (ص 552).
ويتفق د. كبة مع الرأي الذي يفرد موضوعاً خاصاً للكامرالية الالمانية، لا باعتباره أدباً منفصلاً او متميز بسماته النوعية الخاصة، وأن خير من يمثل هذا الراي هو الاقتصادي الاميركي هاني (ص 554)، وقد اثرت الكامرالية تأثيرأ مباشراً في الفكر الاقتصادي الالماني الحديث وحددت مساره التاريخي وطبعته بسماتها الخاصة.
ملاحظات على الكتاب: أسلوب العرض، والمنهجية المعتمدة
يقوم مؤلف الاستاذ ابراهيم كبة بالتعبير على نحو علمي، عن مهمة الاقتصاد وعلى دراسة صادقة للافكار وللحياة الاقتصادية. وتكمن قيمة الكتاب العلمية في انها تكشف عن القوانين والمفاهيم التي تتحكم بولادة متخصص وعالم اقتصادي، كيف يبني أفكاره ومفاهيمه وكيف يعالج أفكار المفكرين الآخرين بدرجة عالية من الوضوح، وهذه بحد ذاتها، على ما اعتقد قيمة المؤلف. فثمة نقاط كثيرة اشار لها الاستاذ كبة وعمد الى شرحها بتوسع وبعضها اكتفى باشارات عابرة اليها. ولكنه، بالمقابل، دعم أفكاره بحواش ومصادر عديدة، فقد قسم الكتاب الى قسمين. القسم الاول يتضمن الجوانب التاريخية لعلم الاقتصاد مع تحليل لكي يكون العرض واضحاً قدر المستطاع ويسهل بلوغه للدارسين وللقراء، باستثناء بعض الجوانب الفكرية التي يحاجج فيها بعض آراء المفكرين وهو يوجه مؤلفه للدارسين والباحثين، الذين يريدون ان يعلموا جدياً ويريدون بالالي ان يأخذوا طريقهم بأنفسهم. انه يطلع القارئ على العشرات من آراء المفكرين ويعرض أفكارهم بشكل سليم، ويعطي وجهات نظره حولهم، ناقداً او مؤيداً، مخالفاً او متفقاً، ويجري حواراته في شروط تؤمن انتظام سيرها ما أمكن.
وعلى حد فهمي، فان الامر لا يتعلق بطريقة عرض المؤلف لكتاب ما، بل ما يتعلق بفهم القوانين والأفكار والمفاهيم التي طرحها المؤلف، لكي يتمكن الدارس من رسم طريقه الخاص، لمتابعة تطور هذا العلم. فهو تناول عرض الكتاب بمنهجية علمية وبروحية متخصص، ترك حيزاً كبيراً لتحليل الجوانب التاريخية للمدارس او المذاهب الفكرية (القديمة والحديثة)، التي تمكن الباحث من الاسترشاد منها.
وهدف المؤلف، على ما اعتقد، هو الكشف عن الطروحات غير العلمية التي تتناول موضوع الاقتصاد السياسي، وحركة المجتمع والمراحل التاريخية للتطور البشري، بعيداً عن الاسلوب الاكاديمي الانتقائي،الذي يكتفي بمجرد استعراض المدارس المختلفة على علاتها والوقوف متفرجاً منها، وانما يخضع جميع هذه الأفكار والنظريات لدراسة منهجية، قائمة على نظرة متكاملة موحدة للنشاط الاقتصادي وللعملية الاقتصادية، مما يضفي على المؤلف الترابط العضوي للملامح البارزة فيه، موضحاً بعض المقولات الاقتصادية وتعريفه لها. وعندما يريد ان يشير الى شاهدة معينة في التاريخ الاقتصادي فانه يشير الى اين؟ ومتى؟ ومن الذي عبر عنها بوضوح؟.
وفي القسم الثاني يعرض الجوانب النظرية، فقد اعتمد طريقة في البحث في منتهى الدقة، بحيث تناول الافكار من مصادرها الحقيقية، وبلغة أصحاب هذه الافكار والنظريات، وطبقها على الواقع بطريقة منهجية ماركسية. وهو بذلك يكون قد امتلك المادة بكل تفاصيلها، وحلّل اشكال نموها، وكشف عن الارتباطات لبعض المذاهب الفكرية المطروحة في الكتاب، وتمكن من عرضها بمجموعها وببناء هيكلي للمبادئ والافكار التي يتبناها المؤلف.
الخلاصات
تناول مؤلف الاستاذ ابراهيم كبة القيّم: "دراسات في تأريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي" جملة من الافكار والمفاهيم والنظريات الخاصة بمدارس فكرية متنوعة ومختلفة. فقد تناول الفكر الاقتصادي والتاريخ الاقتصادي في العصور القديمة (العصر اليوناني والعصر الروماني) مروراً بالعصر الوسيط.
تناول الكتاب المسائل التي بحثها كلاً من افلاطون وأرسطو، والتي تتعلق بالقيمة والنقود من جوانب فلسفية وأخلاقية وسياسية، لأن الفكر الاقتصادي لم يعد علماً مستقلاً حتى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وفي العصر الوسيط، او كما يسمى عصر سيطرة الفكر اللاهوتي وتوما الاكويني أبرز الممثلين له، وتطرقه الى المسائل الاقتصادية ومعالجتها اخلاقياً تبعاً للتعاليم المسيحية. وواصل كبة بحثه من ان الانسان وحياته الاجتماعية منذ بداية التاريخ البشري اتسمت بضرورة توفير الحاجات المتعددة لأستمرار الحياة، وتوفير الموارد القادرة لتلبية هذه المطالب. ونتيجة لذلك تطورت معارفه الاقتصادية والاجتماعية. ومن هنا برزت الحاجة لامتلاك معرفة دقيقة لمختلف الظواهر والوقائع الاقتصادية، وبذلك محاولات جدية عديدة لمفكرين اقتصاديين، وفلاسفة كبار. وفي مرحلة لاحقة ظهرت "المدرسة الماركينتيلية" والمدرسة الطبيعية ومفكريها، كما ظهرت المدرسة الكلاسيكية الاقتصادية. وسارت دراسته على نهج كبار أصحاب المذاهب الاقتصادية الكبرى من امثال ارسطو وتوماس الاكويني وآدم سمث وماركس وفيلن وكينز.
لقد اتسمت أفكار الاستاذ ابراهيم كبة، في مؤلفه المذكور، بالصرامة والدقة، وبالتبويب الذي يميز شخصية المؤلف ونظرته العميقة.
ويعتبر الاستاذ كبة رائدا من رواد الفكر الاقتصادي، حيث انبرى لمناقشة أفكار كبار أصحاب المذاهب الاقتصادية. وأبدى آراءه الخاصة حول القضايا المطروحة، متفقاً او مفنداً. ومناقشته وطروحاته وطريقته الايجابية وتلخيصاته لآراء المفكرين حول المسائل النظرية المبحوثة، تشكل مدرسة فكرية نستخلص منها الدروس لغرض تعميق بحوثنا النظرية في الميدان الاقتصادي.
إن العمل الكبير الذي بذله الاستاذ كبة، يساعد على استيعاب المعلومات المعرفية، لعمل جيل الرواد الاوائل من الاقتصاديين على اختلاف مشاربهم الفكرية والايديولوجية والسياسية. وأرى في مؤلفه "دراسات في تاريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي"، الذي نشر عام 1970 لا زال يحظى بالاهمية النادرة، وفي مقدمة الوثائق العلمية المتخصصة في عراقنا اليوم. وأن مؤهلاته العلمية وسعة معرفته سمحت له بمعالجة عدد من المسائل الفكرية الاقتصادية بقدر من العمق والدقة في التحليل. وستحتفظ ذاكرة الاجيال من طلبته وزملائه من الاساتذة بذكرى طيبة لاستاذ اقتصادي كبير ومفكر مرموق، نظراً لاسهامته الغنية في تاريخ الاقتصاد والفكر الاقتصادي.