B10 جهود الأمير عبد القادر الجزائري في نشر علوم الحديث وبعثها مجددًا
أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقدّم لكم اليوم بحثًا رائقًا كتبه الأستاذ الكبير ـ مفخرة بلاد الشام وبلاد المغرب ـ
البروفسور محمّد مكّي الحسني الجزائري
حفيد الأمير عبد القادر الجزائري
وُلِد في دمشق عام 1351هـ =1932م ، ونال شهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية والرياضيات سنة 1965م (وهو أوّل جزائري ومغربي وأول دمشقي وشامي يحصل على هذا التخصص العالي)
وكان رئيسًا لقسم الفيزياء في جامعة دمشق. وفي سنة 1975م سافر إلى العاصمة الجزائر ليكون أستاذًا في الشعبة المعرَّبة من قسم الفيزياء في جامعة (باب الزُوَّار) [وتسمى اليوم جامعة هواري بو مدين] وبقي فيها حتى سنة 1978م.
وهو مؤسس هيئة الطاقة الذرية في سورية وممثل سورية في الوكالة العامة للطاقة الذرية (بفينا)
واليوم هو الأمين العام لمجمع اللغة العربية بدمشق (المسؤول عن المَجْمَع والمكتبة الظاهرية والمدرسة العادلية). وله عدّة مناصب ووظائف أخرى .
وقريبًا إن شاء الله سيصدر كتاب كامل يتناول سيرة حياة هذا العالم الكبير ، وفيه بيان نسبه وتراجم آبائه وأجداده (وهم من علماء الجزائر) ، وتفاصيل حياته العلمية ، وغير ذلك فلا أطيل عليكم في الحديث عنه الآن.
هذا البحث قدّمه الدكتور مكّي في إطار محاضرة ألقاها في أحد المعاهد الشرعية في سورية.
في بداية الصيف الفائت . وأدعكم الآن مع البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
جهود الأمير عبد القادر الجزائري في نشر علوم الحديث وبعثها مجدَّدًا
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا ، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ،كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وبعد:
فإنّ من فضل الله على أمّة الإسلام أنه يهيئ لها من يجدد لها أمر دينها كلما ابتعدت عن روحه ، واندرست معالمه الأصلية عندها. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها)) [رواه أبو داود]
والمراد من التجديد الوارد في الحديث : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة ، والأمرُ بمقتضاهما ، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات . وفي العصر الواحد يوجد أكثر من مجدد على ما ذكره العلماء.([1])
وحديثي إليكم اليوم إنما هو عن رجل كبير ومشهور، كان له دور كبير في إحياء وتجديد فريضة الجهاد ورفع رايتها ، إضافة إلى أعمال كثيرة قام بها فاشتُهر بها. ولكنْ هناك عمل هام جدًّا قام به هذا الرجل ضمن أعمال التجديد ، ألا وهو بعثُ علوم الحديث النبوي الشريف ونشرُها ، والحثُّ على العمل بها ، والسعيُ في القضاءِ على البدع ، ونبذِ التقليد الأعمى الممقوت! هذا الرجل هو الأمير عبد القادر الجزائري ابن محيي الدين الحسني الإدريسي.
وعندما نقول : إنّ الأمير عبد القادر سعى في القضاء على البدع ونبذ التقليد وبعث علوم الحديث ؛ يجب علينا أن نفهم مدلولات هذا الكلام في عصر الأمير ، لا أن نفسرها وفقًا لمفهومها واتساع مدلولاتها في عصرنا اليوم! ومع أنّ هناك تفاوتًا في اتساع المدلول فإنّ الغاية واحدة ، والأمير بدأ بالخطوة الأولى.
هاجر السيد إدريس بنُ عبد الله المحض بنِ الحسن المثنى ، ابنِ الحسن بنِ عليٍّ رضي الله عنهما، إلى المغرب الأقصى فرارًا من سيوف العباسيين ، الذين استَنفروا للقضاء على رجالات آل البيت النبوي من أبناء الحسن والحسين رضي الله عنهما.
فلما وصل المغربَ التفَّت حوله القبائل وبايعوه إمامًا عليهم ، وبعد مقتَلِه سنة (177هـ) بايعوا ولده إدريس الأصغر[الذي توفي سنة (213هـ)] ، ومن بعده أولاده ، وقامت للأدارسة دولة في المغرب ودولة في الأندلس دامت حتى سنة 459هـ. ومع أن دولتهم قد زالت فإن مقام الأسرة الإدريسية في المغرب بقي محفوظًا ، وذلك لشرف نسبهم وعلوه. ولمّا هاجمت الجيوش الفرنسية السواحل الجزائرية تمهيدًا لاحتلالها سنة (1245هـ =1830م)، التفّت القبائل حول أشهر شخصيّة إدريسية في ذلك الوقت ألا وهو السيد محيي الدين بن مصطفى الحسني ، الذي قاد المجاهدين لصد الغزاة مدة عامين ، ثم طلبوا منه أن يقبل بيعتهم ، فاعتذر ، فطلبوا منه أن يبايعوا ابنه عبد القادر فكان ذلك ، وبويع السيد عبد القادر أميرًا للبلاد ، وأسس دولة الجزائر وقاد الجهاد مدّة خمسة عشر عامًا في مواجهة أعتى دولة في ذلك الوقت ، أعني فرنسا.
ولِد الأمير عبد القادر في الجزائر (23 رجب 1222هـ = 26/9/ 1807م)، وتلقى العلوم الشرعية ، وحفظ القرآن واستظهره صغيرًا ، وتلقى علوم الحديث وأشهرَ كتبه بأسانيدها عن أبيه وأشياخه ، وفي سنة 1241هـ توجّه مع والده السيد محيي الدين لأداء فريضة الحج ، وله من العمر 19 عامًا ، وبعد أداء فريضة الحج توجها إلى دمشق وأقاما بها شهورا ، وسمِعَ فيها السيدُ محيي الدين وابنه عبد القادر على محدِّث الديار الشامية الشيخ عبد الرحمن الكزبري (1184- 1262 هـ= 1771- 1846م) بعضَ صحيح البخاري بمسجد بني أميّة ، وأجازهما بسنده في رواية صحيح البخاري ، ثمّ رجعا إلى الوطن.
إذن فالأمير درس الفقه والحديث : فدرس موطأ الإمام مالك وصحيح البخاري ومسلم ، كما تلقى ألفية ابن مالك بشرح المَكُّودي([2]) ، والسنوسية بشرح المصنف نفسه ، والعقائد النسفية في التوحيد ، وايساغوجي([3]) في المنطق للفناري ، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ، وقرأ أعمال أفلاطون ، وفيثاغورث ، وأرسطو ، ودرس كتابات مشاهير المؤلفين من عهود الخلافة العربية، في التاريخ القديم والحديث ، وفي الفلسفة ، واللغة، والفلك ، والجغرافية، بل حتى في الطب ، وقد تجمّعت لديه مكتبة ضخمة.
بعد ذلك قام بتدريس معظم هذه العلوم ، واستمر على ذلك إلى وفاته. فكان يدرّس كتاب الإتقان في علوم القرآن في المدرسة الجقمقية([4]) . وفي شهر رمضان من سنة 1275هـ اعتكف في الجامع الأموي ، وأقرأ كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض المالكي ، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي، ودرّس عدة مرات صحيح البخاري وصحيح مسلم في دار الحديث الأشرفية . هذا إضافةً إلى الدروس التي كان يعقدها في داره.
وكان يجتمع به كبار الشيوخ في دمشق ليحلّ لهم بعض ما أشكل عليهم من عبارات كبار فلاسفة التصوف ، وكان الأمير يحاول دائمًا أن يوجّهها بما يتفق مع الشريعة، ويزيل اللبس الواقع بسببها.
لقد نشأ الأمير نشأة علمية وأخذ العلم عن أهله ، واستكمل فنون العلوم ، واعتنى بالتحصيل عناية شديدة ؛ حتى تفوّق بالأدب والفقه والتوحيد والحكمة العقليّة ؛ وكان يحفظ أكثر صحيح البخاري عن ظهر قلب ، ويُقرئه لمريديه ، ويُجيزهم بقراءته حتى آخر أيام حياته . وكان مع ذلك لا يهمل المثاقفة بالسلاح وركوب الخيل بحيث نبغ عالماً فاضلاً من جهةٍ ، وفارساً ثَقِفًا من جهةٍ ثانية ، فجمع بين السيف والقلم .
وإننا نلمس سعة علم الأمير واهتمامه بالدليل والأثر في مؤلفاته ورسائله، فمن تلك المؤلفات:
1ـ كتابه (حسام الدين لقطع شبه المرتدين). وهو مطبوع ، حشد فيه الأدلة المانعة من موالاة الكفار أو الإدلاء إليهم بأي معونة ، واستند إلى فتاوى الفقهاء ، وبخاصة المالكية ، وذلك ليرد على بعض الشيوخ الذين استأجرتهم فرنسا ليروجوا بين الناس جواز النزول تحت حكم الفرنسيين، وعدم جواز الانضمام إلى دولة الأمير التي تجاهدهم.
2ـ وكتابه (المقراض الحاد لقطع لسان منتقص الإسلام بالباطل والإلحاد) .وهو مطبوع ، وقد ألّفه عندما كان محتجزًا في قلعة إمبواز بفرنسا حيث سجنته الحكومة الفرنسية الغادرة. وسبب التأليف أنّ بعض الحكّام الأوربيين أو بعض الضباط الأمراء، انتقص من دين الإسلام أمام الأمير. فأسرع الأمير ووضع ذلك الكتاب من حِفْظه يردُّ فيه على ذلك المتنقِّص، والكتاب فيه حشد كبير للأحاديث النبو