وقال رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة مرفوعاً : ( انظروا إلى من هو أسفل منكم , ولا تنظروا إلى من هو فوقكم , فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ) متفق عليه :
(وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر ،وقد أرشد إلى هذا الدواء العجيب , والسبب القوي لشكر نعم الله :
وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم ،فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه , فإنه لا يزال يرى خلقا كثيرا دونه بدرجات في هذه الأوصاف , ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق , وخلق وخلق , فيحمد الله على ذلك حمدا كثيراً ...
ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم , فيحمد ربه على كمال العقل .
ويشاهد عالما كثيرا ليس لهم قوت مدخر , ولا مساكن يأوون إليها , وهو مطمئن في مسكنه , موسع عليه رزقه.
ويرى خلقا كثيرا قد ابتلوا بأنواع الأمراض , وأصناف الأسقام وهو معافى من ذلك , مسربل بالعافية .
ويشاهد خلقا كثيرا قد ابتلوا ببلاء أفظع من ذلك , بانحراف الدين , والوقوع في قاذورات المعاصي , والله قد حفظه منها أو من كثير منها .
ويتأمل أناسا كثيرين قد استولى عليهم الهم , وملكهم الحزن والوساوس , وضيق الصدر , ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء , ومنة الله عليه براحة القلب , حتى ربما كان فقيرا يفوق بهذه النعمة - نعمة القناعة وراحة القلب - كثيرا من الأغنياء.
ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور يجد عالما كثيرا أعظم منه وأشد مصيبة , فيحمد الله على وجود العافية وعلى تخفيف البلاء , فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظم منه .
فمن وُفّق للاهتداء بهذا الهدى الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل شكره في قوة ونمو , ولم تزل نعم الله عليه تترى وتتوالى ،ومن عكس القضية فارتفع نظره وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك , فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله , ويفقد شكره ،ومتى فقد الشكر ترحلت عنه النعم , وتسابقت إليه النقم , وامتحن بالغم الملازم , والحزن الدائم , والتسخط لما هو فيه من الخير , وعدم الرضى بالله ربا ومدبرا ...
ولما كان على الشكر مدار الخير وعنوانه قال عنه لمعاذ بن جبل : ( إني أحبك , فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة مكتوبة : ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) ...
وقد اعترف أعظم الشاكرين بالعجز عن شكر نعم الله , فقال : ( لا أحصي ثناء عليك , أنت كما أثنيت على نفسك ) انتهى باختصار.