بالأمس القريب كانت هناك حملة شرسة هدفها تغيير النشيد الوطني الجزائري وحملة أخرى هدفها حذف مقطع يا فرنسا فلم تنجح بفضل رجال حفظوا الأمانة. وها نحن اليوم دخلنا في حملة تشكيك بتوظيف الدين الإسلامي لتحطيم آخر ما تبقى لنا من قواعد، فالنشيد الجزائري أجمل و أقوى نشيد في العالم كلمة ولحنا، ولن يرقى عليه أي نشيد. بمجرد سماعك إليه يقشعر البدن ويجعلك تعيش لحظات الاستعمار. فالجزائر أرض طيبة بشهدائها وبجمالها وبخيراتها وبشعبها ما شاء الله حفظها الله ورعاها من شر العرب واليهود والنصارى بإذن الواحد الأحد فحتى نشيدها مميز ونادر رحمة الله على من كتبه ولحنه وما يقال على القسم فهو مجرد نشيد وكناية على تقدير دم الشهداء الأبرار. تحيى الجزائر ويحيا علمها و نشيدها الذي يعلو ولن يعلا عليه.
القسم في اللغة العربية له لغتان، وهنا القسم بمعنى " العقد بالعزم "، و في نفس النشيد وبالضبط في " وعقدنا العزم أن تحيى الجزائر" جواب شاف، وهنا نجد أن الشاعر استعمل كلمة قسمًا لإعطاء نبرة حادة ووزن للنشيد مستغلاً معناه اللغوي " العقد بالعزم و النية " و تحاشى التكرار لكلمة " و عقدنا العزم "، و لو كتب " وعقدنا العزم بالنازلات الماحقات.." لفقد النشيد قوّته و نبرته.
فاللغة وبكل ما تحتويه. هي لعبادة الله عز وجل كما يشاء ويرضى، وإن كانت غير ذلك فلا حاجة لنا بها.
وإن كان مفدي قد قصد القسم الصريح فإنه قد حذف لفظة "رب" من أجل أن يستقيم الوزن الشعري، فالقصيدة من بحر الرمل ولا يستقيم الوزن إلا به. أي أن من يقرأ هذا البيت فمعناه أنه قد أقسم برب النازلات الماحقات، ولا يحاسب المرء إلا بما يعتقد به في قرارة نفسه وليس بما يفرضه عليه تفسير شخص آخر .
وأنا أقول لك بأن الله لن يحاسبني على ما لم أعتقد به. فإذا قلت قسما بالنازلات الماحقات وأنا أقصد رب النازلات الماحقات رغم أني حذفت اللفظ من أجل أن يستقيم المبنى، فلن يحاسبني الله على فعل كهذا.
وما علينا فعله أن لا ندعو إلى حذف النشيد، بل إلى إفهام الناس أن هذا القسم يجب أن لا يعتقد قائله القسم بغير الله، لأن القسم بغير الله شرك. وأيضا لأن مفدي قائله، لم يعتقد أبدا القسم بغير الله، وهو المسلم البارع بعلم العروض.
فإذا سمعنا قائلا يقول: أصبحت والله أكره الحق، وأحب الفتنة، وأشهد بما لم أره, وأصلي من غير وضوء, ولي في الأرض ما ليس لله في السماء. ..
فهل ستحكمون عليه بالكفر، أم أنكم ستحاولون فهم ما يوجد خلف الكلمات.
وأنتم تعلمون بأنه يجوز للشاعر لغة أن يقول ما لا يجوز قوله نثرا، لأن الشعر يستلزم جوازا لا يوجد في غيره، ويستنتج منه احتمالا وتأويلا وتفسيرا لا يوجد في غيره. وهذا كله يفرضه الوزن الشعري، الذي يستوجب الإيجاز والإيحاء.
وأقول لكل من يدعو إلى أسطورة إضافة كلمة "رب" أرجوكم فأنتم تعلمون ما سيحصل لوزن البيت العروضي. فلا تجعلونا جهالا لعلم اللسان، بعد أن استجهلتمونا في علم الأديان.
لأنكم وببساطة لا ترون المسألة إلا من وجهة نظر دينية عقائدية تكفيرية.
وكأن باعكم في العربية أفضل من صاحب الإلياذة، وأحكامكم الدينية أقوى من كل علماء الجزائر من الماضي والحاضر.
ولكم عذركم فأنتم لم تتذوقوا بعد حرارة وقوة النشيد الوطني الجزائري، وليس همكم إلا النبش ـ خاصة في هذا الوقت بالذات ـ في أصول وثوابت الأمة الجزائرية.
ولكن ألا يعد من يحاول المساس برمز من رموز الوطن تعديا على حد يجب ألا يقربه. أما أن تقوموا بتكفير كل الشعب الجزائري، فهذا مالا يتقبله عاقل.
أم أنكم لا تحسنون سوى الكلام على لوحة المفاتيح وبأسماء مستعارة.
نعم لأنكم بهذا تجرحون في عقيدة ثلاثين مليون جزائري مسلم، وتخونون ذاكرة مليون ونصف مليون شهيد خلال ثورتنا المجيدة.
على كل وإن لم تكونوا تتأثرون بكلمات مفدي، فإنه سيبقى شاعر الثورة الجزائرية وبلا منازع، وهو من الأوائل الذين طالبوا الحكومة المستقلة بعد مؤتمر طرابلس باحترام أوثق بنود أول نوفمبر وهو الإسلام دين الدولة الجزائرية وليس الإشتراكية السوفياتية. ولقد سببت قصيدته العتابية تلك إلى الرئيس الراحل هواري بومدين بطرده إلى تونس الخضراء التي مات فيها...
وأنا لا يسعني هنا إلا أن أنحني إجلالا وإكبارا لهذه الأبيات:
قـــسما بالنازلات الـماحقات والـدماء الـزاكيات الطـــاهرات
والبــنود اللامعات الـخافقات في الـجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثــرنـا فحــياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيى الجـزائر
فاشهدوا .. فاشهدوا .. فاشهدوا