السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
علم الكلام والفلسفة الدخيلان .والقوم أتخذوهما بدل الكتاب والسنة ..هما المنهج في الاسلام.
فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قالالبشر المرسي العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم ، وإذا صار الرجل رأسا في الكلام قيل : زنديق ، أو رمي بالزندقة . أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته ، فإن ذلك علم نافع ، أو أراد به الإعراض عنه أو ترك الالتفات إلى اعتباره . فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله ، فيكون علما بهذا الاعتبار . والله أعلم . [ ص: 17 ]
وعنه أيضا أنه قال : من طلب العلم بالكلام تزندق ، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن طلب غريب الحديث كذب .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : [ ص: 18 ] هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام .
وقال أيضا رحمه الله تعالى ( شعرا ) :
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا
وما سوى ذاك وسواس الشياطين
وذكر الأصحاب في الفتاوى : أنه لو أوصى لعلماء بلده : لا يدخل المتكلمون ، ولو أوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم ، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام . ذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية .
فكيف يرام الوصول إلى علم الأصول ، بغير اتباع ما جاء به الرسول ؟ ! ولقد أحسن القائل :
أيها المغتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلا كيف أغفلت علم أصل الأصول
[ ص: 19 ] ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم الوجوه ، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها ، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيرا ، قليل البركة ، بخلاف كلام المتقدمين ، فإنه قليل ، كثير البركة ، لا كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم : إن طريقة القوم أسلم ، وإن طريقتنا أحكم وأعلم ، وكما يقوله من لم يقدرهم قدرهم من المنتسبين إلى الفقه : إنهم لم يتفرغوا لاستنباطه ، وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره ! والمتأخرون تفرغوا لذلك ، فهم أفقه ! ! فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف ، وعمق علومهم ، وقلة تكلفهم ، وكمال بصائرهم . وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها ، [ ص: 20 ] وضبط قواعدها ، وشد معاقدها ، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء . فالمتأخرون في شأن ، والقوم في شأن آخر ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا .
وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء ، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى إلى أهل الكلام المذموم ، واستمد منهم ، وتكلم بعباراتهم .
سُئل فضيلة الشيخ- رحمه الله-: هل توجد فلسفة في الشريعة الإسلامية؟ وما الرد على من يدعي بذلك؟ وهل يجوز أن يدرس الطالب الفلسفة ويتعمق فيها؟
فأجاب بقوله:
الفلسفة بحث يوناني مستقل يتعمق فيه أصحابه حتى يؤول بهم إلى تحكيم العقل، ورد ما جاء في الكتاب والسنة، والفلسفة على هذا الوجه منكرة لا يجوز الخوض فيها ولا الدخول
فيها، وأما الفلسفة بمعنى الحكمة فهذه موجودة في الشريعة الإسلامية والشريعة الإسلامية كلها مبنية على الحكمة قال الله تبارك وتعالى: (أفَحُكمَ اَلجَاهلِيهِ يبغُون وَمَنْ أحسَنُ مِنَ اَلله حُكمَا لَقَوم
يوقِنُونَ) (آل عمران: 50).
لكنه لا ينبغي أن نقول عن الحكمة الشرعية أنها فلسفة؛ لأن هذه الكلمة يونانية، بل نقول عن الحكمة الشرعية: إنها حكمة وما من شيء في الشرع إلامعلل، لكن من الحكمة مانعلمه، ومنها ما لا نعلمه؛ لأن عقولنا قاصرة، وأعظم حكمة في الأحكام أن الحكم ثابت في كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأننا نؤمن بأن كل حكم ثبت في الكتاب والسنة فإنه حكمة وامتثاله حكمة؛ لأن في امتثاله طاعة الله، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وحصول الثواب والأجر.
وعلى هذا فلو سألنا سائل: عن حكمة شيء من الشرائع فإنه يكفيه إذا كان مؤمناً أن يقال: هكذا قال الله ورسوله؟ لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (1) وقد كان هذا هو المنهج الذي يسير عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ فقد سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فلماذا مع أن الصوم فرض والصلاة فرض، والصلاة أوكد من الصوم ومع ذلك لا تقضى، والصوم يقضى؛ فأجابت عائشة رضي الله عنها بأن ذلك كان يصيبهم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيؤمرون بقضاء الصوم، ولا يؤمرون بقضاء الصلاة (2) وهذا يعني أن الحكمة هي حكم الله ورسوله.
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى.
1-سورة الأحزاب، الآية: 36. 2-رواه البخاري/ كتاب الصلاة/ باب الحائض تترك الصلاة برقم (1850) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى.