الحمد لله الذي خصّ بالفضل والتشريف بعض مخلوقاته . وأودع فيها من عجائب حِكمِه وبديع إتقانه ما شهدت العقول السليمة بأنها من أكبر آياته . خلق فقدّر ، ودبّر فيسّر . وربك أعلم حيث يجعل رسالاته . ويختص من شاء بفضله وكراماته ، أحمده حمد عبد يعلم أنه هو المحمود على جميع أقضيته وأحكامه وتدبيراته . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما يستحقه على العبد من طاعاته وعباداته . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أظهر الله به الإسلام بعد اندراس قواعده وأفول شموخه ونسيان آياته . اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين له على دينه ومحبته وموالاته ، وسلم تسليما كثيراً . أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق تُقاته . وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته . قبل انصرام العمر وفوات أوقاته وساعاته . واعلموا أنه قد نزل بساحتكم شهر كريم ، وموسم عظيم ، خصّه الله على سائر الشهور بالتشريف والتكريم ، أنزل فيه القرآن العظيم . وفرض صيامه وجعله أحد أركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه على غيرها ولا يستقيم . وسنّ قيامه نبيكم الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، ففي الحديث ' من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ' وفيه أيضاً ' من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ' . ' أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( يا أيُّها الذين آمنوا كتِبَ عليكُم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين من قبلكم لعلّكمْ تتّقون ، أيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمنْ كان منكم مريضاً أو عَلَى سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أيام أُخَر)
عباد الله إنكم في شهر كريم ، وموسم عظيم ، متجر أولياء الله الصالحين . ومطلب الراغبين إلى الله في العتق من عذاب الجحيم . شهر تفتح فيه أبواب الجنات . وتجاب فيه الدعوات . وينشر الفضل العميم . شهر تكفر فيه السيئات . وتضاعف فيه الحسنات . وتقال فيه العثرات . ويكتب فيه منشور السعادة والتكريم . فعظموه رحمكم الله بالقراءة والتكبير والركوع والسجود , والتهليل والتسبيح والتحميد لله المعبود، وأكثروا في أيامه من الصدقة والإحسان إلى الفقير والمسكين واليتيم . واحذروا ما يبطل العمل من الفعل السيء والقول الذميم . ففي الحديث ( عنه صلى الله عليه وسلم قال ) : (من لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه)
وسنّ النبي صلى الله عليه وسلم قيام ليالي شهر رمضان ، لأن فيها ليلة عظيمة خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة وثلاثة أشهر تقريباً .
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله فرض عليكم صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ، من صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " [ رواه النسائي وصححه الألباني ] .
وفي الحديث( ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) ".
أدِم الصيام مع القيام تعبدا ***فكلاهما عملان مقبولان
قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم *** إلا كنومة حائر ولهان
فلربما تأتي المنية بغتة *** فتساق من فرش إلى أكفان
يا حبذا عينان في غسق الدجى ***من خشية الرحمن باكيتان
فينبغي على المسلم أن يستقبل هذا الشهر العظيم بالفرح والسرور ، والغبطة وشكر الرب الغفور ، الذي وفقه لبلوغ شهر رمضان وجعله من الأحياء الصائمين القائمين الذين يتنافسون فيه بصالح الأعمال ، وينئون بأنفسهم عما يغض ذي العزة والجلال , ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان فيقول : " جاءكم شهر رمضان شهر بركة ، يغشاكم الله فيه ، فينزل الرحمة ، ويحط الخطايا ، ويستجيب الدعاء ، ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله " [ رواه الطبراني في الكبير ] .
إنه شهر عظيم الخيرات ، كثير البركات ، هو حقاً شهر القربات , ، ينبغي للمسلم أن يغتنمها ويقتنصها ، قال صلى الله عليه وسلم : " إذا كانت أول ليلة من رمضان فُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب ، وغُلقت أبواب جهنم فلم يُفتح منها باب ، وصُفدت الشياطين ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة " [ رواه البخاري ومسلم ] .
وقال صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى : " كل عمل ابن آدم له ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي ، للصائم فرحتان ، فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " [ متفق عليه ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة باباً يُقال له الريّان يدعى يوم القيامة يقال : أين الصائمون ؟ ، فمن كان من الصائمين دخله ، ومن دخله لم يظمأ أبداً " [ رواه البخاري ومسلم ] .
اللهُ يَجزي الصائـميـنَ لأنـهم *** مِنْ أَجلِـهِ سَخِـروا بكلِّ صعابِ
لا يَدخـلُ الـريَّـانَ إلا صائـمٌ *** أَكْرِمْ بـبابِ الصْـومِ في الأبوابِ
وَوَقـاهـم المَولى بحرِّ نَهـارِهم ***ريـحَ السَّمـومِ وشرَّ كلِّ عـذابِ
وسُقوا رحيـقَ السَّلْسبيـلِ مزاجُهُ *** مِنْ زنجبـيـلٍ فاقَ كلَّ شَـرابِ
هـذا جـزاءُ الصائـمينَ لربِّهم *** سـَعِدوا بخيـرِ كرامةٍ وجَـنابِ
وليس المقصود عباد الله من الصيام , مجرد ترك الشراب أوالطعام, بل المقصود هو البعد عن الآثام, قال صلى الله عليه وسلم : " الصيام جنّة فإذا كان يوم صوم أحدكم ، فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنيّ صائم " [ رواه البخاري ] .
وينبغي على المسلم أن يحذر ممّا حرمه الله عليه كي لا ينقص أجر صومه أو يذهبه بالكلية ، وعلى المسلم أن يحرص في هذا الشهر أن يبرّ والديه وأن يصل أرحامه ، وأن يتعاهد إخوانه , من الفقراء والمحتاجين , والمنكسرين والمعوزين ،شهر الإقبال على الحسنات والطاعات, والبعد عن السيئات والمعصيات .
( بعوارفٍ ومعارفٍ ولطائفٍ ** تُجلى القلوب بها من الأدران )
( مولاي أنتَ وأنتَ غايةُ مطلبي ** وإليك منتَجعي وعنك بياني ) ( قد حُزْتَ من شهر الصيام ثوابَه ** وغنمت فيه الأجر من رمضان )
جاء شهر رمضان بالبركات فأكرم به من زائرآت السلف رضوان الله عليهم 'كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم'
قال يحي بن أبى كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه منى متقبلاً'.
شهر رمضان شهر العتق من النيران , وتلاوة القرآن
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ((كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه و سلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة))
( وكلام ربي لا يجيء بمثله ** أحد ولو جمعت له الثقلان )
( وهو المصون من الأباطل كلها ** ومن الزيادة فيه والنقصان )
( لا ريب فيه بأنه تنزيله ** وبداية التنزيل في رمضان )
( الله فصّله وأحكم آيه ** وتلاه تنزيلا بلا ألحان )
( هو قوله وكلامه وخطابه ** بفصاحة وبلاغة وبيان )
لاإله إلا الله عدد قطرات المطر
لاإله إلا الله عدد أوراق الشجر
لاإله إلا الله عدد مافي الكون من بشر
لاإله إلا الله ما أسرع الأيام تمر كلمح البصر
يجب على كل مسلم أن يأخذ العبرة من سرعة تصرم الليالي والأيام و, فيقف مع نفسه محاسباً ما جرى منه من ذنوب وآثام, قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل":
نسير إلى الآجال في كل لحظة*** وأعمارنا تطوى وهـن مراحـل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى*** فعـمـرك أيـــام وهـــن قـلائــل
ومــا هــذه الأيــام إلا مـراحـل*** يحث بها حاد إلى الموت قاصد
وأعجب شيء لـو تأملـت أنهـا ***منازل تطـوى والمسافـر قاعـد
فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد))
ويا خسارة من خرج رمضان ولم يستزد فيه من الصالحات ، ويا ندامة من خرج رمضان ولم يتمسك فيه من الدين بالعروة الوثقى ، ويا لهفاً على من خرج رمضان وحاله كما هي قبل رمضان ، من ذنوب وعصيان .
شهر رمضان شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع العبادات والكرامات ، ويُجزل الله سبحانه فيه لأوليائه العطايا ، ويعفو فيه عن الرزايا .
فينبغي على المسلمين تعظيمه بالنية الصالحة والاجتهاد في حفظ الصيام والقيام والمسابقة إلى الخيرات ، والمسارعة إلى الطاعات ، ليفوز المسلم بالكرامة والأجر العظيم من رب الأرض والسموات .
وممّا يجب على المؤمن في شهر رمضان وغيره وفي رمضان آكد ، أن يحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والوقيعة في أعراض المسلمين قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه : " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار وليكن عليك وقار وسكينة ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء "
عندما اختلت موازين فهم الصيام ، تدفق الناس جماعات وفرادى إلى الأسواق ، وغصت المحلات التجارية بالمسلمين ، وكأنهم في شهر الأكل والشرب ، بل وكأنهم قادمون على شهر مجاعة ، وكثر الخصام ، وزاد الجدال ، وانعدم الوئام ، كل ذلك بسبب الفهم الخاطئ لما شرع له شهر رمضان ، فلا بد من فهم صائب ، وتصحيح للمفاهيم ،
فليس شهر رمضان شهر أكل وشرب وسهر ونوم ولهو ، ومشاهدة للفضائيات ، وإكثار من شرب الدخان ، بل هو أعظم من ذلك بكثير ، فهو شهر صبر وترويض للنفس البشرية وكبح لجماحها ، وكسر لشهواتها ، وكبت لملذاتها
قال عليّ- رضي اللّه عنه- قال:«ليس الصّيام من الطّعام والشّراب، ولكن من الكذب والباطل واللّغو»)
قال جابر بن عبد اللّه- رضي اللّه عنهما-: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، والماثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم صيامك وفطرك سواء»
عن أبي ذرّ- رضي اللّه عنه- قال:«إذا صمت فتحفّظ ما استطعت))
الصومُ لله العظيمِ بشرعه***وإذا أضيفَ إليَّ كانَ محالا
الصومُ لله الكريمِ وليس لي***لكنْ إذا ما صمتهُ وتعالى
عن صومنا فيكون ذاك الصوم لي***نقصاً وفي حقِّ الإلهِ كمالا
إنّ الصيامَ لهُ العلوُّ جلالة ٌ***صامَ النهارُ إذا النهارُ تعالى
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي وفّق عبادَه المؤمنين لتلاوة كتابه الكريم ، وفتح عليهم من حقائق المعارف ولطائف العلوم ما عداهم به إلى صراطه المستقيم . وخصهم من مواهب برِّه وإحسانه بأسنى فضله العميم ، ومن على من شاء بالصدق في معاملته ، والله ذو الفضل العظيم أحمده سبحانه على ما أولاه من التعليم . واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحكيم . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله النبي الكريم . اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على الدين القويم وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد فيا أيها الناس ، اتقوا الله تعالى فإن بتقواه تحصل السعادة والنجاة ، واجتهدوا في طاعته فقد أفلح من اجتهد في الطاعات ، وعليكم بالصدق في معاملته فقد خاب من كذب الله في المعاملات ، وأخلصوا له القصد والنية فإنما الأعمال بالنيات ، وخصوا هذا الشهر العظيم بمزيد الطاعات والإكثار من الحسنات ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، وتعرضوا لنفحات بره فإن لله في أيام دهركم نفحات ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال ' آمين آمين آمين ' فقيل له : يا رسول الله ، إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين . فقال ' أتاني جبرائيل عليه السلام فقال : يا محمد رغم أنف امريء دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل آمين ، فقلت آمين ، ثم قال : رغم أنف امريء أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قل : آمين ، فقلت : آمين . ثم قال : رغم أنف امريء ذُكرتَ عنده فلم يصل عليك ، قل : آمين ، فقلت : آمين '
عباد الله: الصوم يثمر محبّة اللّه وطاعته , وهو دليل صلاح العبد واستقامته.
الصوم صمام أمن من الوقوع في المحرّمات , وينزّه الإنسان عن مشابهة بقيّة المخلوقات.
الصوم صحة فالمعدة بيت الدّاء , والحمية رأس الدّواء.
الصوم فيه حرب على الشّيطان , وقربة للرحمن.
الصوم وقاية للبدن وطهرة للنّفس , يهذّب الطّباع ويكبح جماح النّفس.
الصوم يورث الخشية من اللّه , ويثمر المراقبة للّه.
الصوم فيه إحساس بألم الفقير والمريض الممنوع من الطّعام , واغتنام لليالي والأيام.
الصوم فيه الفوز بالجنّان , والنجاة من النيران.