قراءة بلاغية لآيات قرآنية
من سورة "إبراهيم" الآيات (24 – 41)
من قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ * قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 24-41].
التحليل:
سميت السورة "سورة إبراهيم"؛ تخليدًا لمآثر أب الأنبياء، وإمام الحنفاء إبراهيم - عليه السلام - الذي حطَّم الأصنامَ، ورفع رايةَ التوحيد، وجاء بالحنيفية السَّمحاء ودين الإسلام الذي بعث به خاتم المرسلين، وقد قصَّ علينا القرآنُ دعواتِه المُباركات بعد انتهائه من بناء البيت العتيق، وكُلُّها دعوات إلى الإيمان والتوحيد.
اللغة:
اجتثت: اقتعلت من أصلها، البوار: الهلاك.
خِلاَل: جمع خُلَّة، وهي الصُّحبة والصَّداقة النَّافعة.
دائبين: الدُّؤوب: مرور الشَّيء في العمل على عادةٍ مُطردة، يقال: دَأَبَ دُؤُوبًا.
اجْنُبْنِي: أَبْعِدْني ونَحِّني.
التفسير:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾: الخطاب للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد علّق بما بعده من قوله - تعالى -: ﴿ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ﴾ أن كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللاَّئق به، ﴿ كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾: هي كلمة التوحيد؛ قال ابن عباس: "الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله".
ومن أمثلتها كلُّ كلمة حسنة؛ كالتَّسبيحة، والتحميدة، والاستغفار، والتَّوبة، والدعوة إلى الله، وكل كلمة حقَّقت نفعًا للمسلمين أو سرَّتْهم، ونصبت ﴿ كَلِمَةً ﴾ على أنَّها بدل من ﴿ مَثَلاً ﴾، ﴿ كَشَجَرَةٍ ﴾: "نعت شبه جملة لـ كلمة، أو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي كشجرة أَصْلها ثابت؛ أي: ضارب بعُرُوقه في الأرض، ﴿ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾؛ أي: أغصانها مُمتدة نحو السماء؛ قال أبو السعود: ويجوز أنْ يرادَ: وفروعها، على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع.
﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾: تُعطي ثَمَرها كلَّ وقت وقَّته الله - تعالى - لإثمارها بإرادة خالقها وتيسيره، كذلك كلمة الإيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعمله يصعد إلى السماء، وينال بركته وثوابه في كل وقت، والْجُمَلُ: ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا ﴾ كُلٌّ منها في محل جر نعت.
﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾؛ أي: يبين لهم الأمثال؛ لعلهم يتعطفون، فيؤمنون؛ لأنَّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير، فإنه تصدير للمعاني بصور المحسوسات.
﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾: والكلمة الخبيثة مثل كلمة الكفر والدعاء إليه، أو تكذيب الحق أو ما يعمُّ الكلَّ، أو كل كلمة قبيحة، والكلمة الخبيثة كالشَّجرة الخبيثة في أَثَرِها السيئ، وما تسبب من كراهية بين الناس وإضرار بهم، وقيل: الشجرة الخبيثة هي شجرة الحنظل.
﴿ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ﴾: استُؤصلت، وأخذت جُثتها بالكُليَّة؛ لكون عروقها قريبة من قِشْرة الأرض، ﴿ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾: استقرار عليها، كذلك كلمة الكفر، لا ثباتَ لها ولا بَرَكة ولا نفع يُرجى، ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: يثبتهم على كلمة التوحيد، وعلى الإيمان في هذه الحياة، فلا يزيغون ولا يفتنون، ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ ﴾؛ أي: عند سؤال الملكين في القَبْر؛ كما في الحديث الشريف: ((المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، فذلك قوله - تعالى -: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾)).
﴿ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: لا يهديهم في الحياة الدُّنيا، ولا عند السؤال في القبر، ووصفهم بالظُّلم، إمَّا باعتبار وضعهم الشيء في غير موضعه، وإمَّا باعتبار ظُلمهم لأنفسهم؛ حيثُ بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلم يهتدوا إلى القول الثابت، أو كل من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد، والإعراض عن البينات الواضحة، فلا يتثبت في موقف الفتن، ولا يهتدي إلى الحق.
﴿ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾: من هداية المؤمنين وتثبيتهم، وإضلال الكافرين، فهو - سبحانه - لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون، وفي إطارِ الاسم الجليل في الموضعين، ﴿ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾، من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى على ذي عقل.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾: تعجيب لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أي: ألم تنظر إلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفرًا؛ أي: غيَّروا نعمةَ الله بالكُفر والتَّكذيب وعدم الشكر عليها؛ قال المفسرون: هم كُفَّار مكة، فقد أسكنهم الله حَرَمَه الآمن، وجعل عيشهم في السَّعَة، وبَعَثَ فيهم محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلم يعرفوا قَدْرَ هذه النعمة، وكفروا به وكذَّبوه، فابتلاهم الله بالقحط والجدب.
﴿ وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾؛ أي: أنزلوا قومَهم دارَ الهلاك بكفرهم وطغيانهم، ثم فسرها بقوله:
﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾؛ أي: يكتوون بنارها، ويقاسون آلامها، ويَحترقون بلظاها، جزاءً وفاقًا، {جَهَنَّمَ}: بدل أو عطف بيان من دار البوار، وفي البيان بعد الإبهام ما لا يَخفى من التهويل: ﴿ يَصْلَوْنَهَا ﴾ هذه الجملة (فعل + فاعل + مفعول) حال منها أو من قومهم؛ أي: داخلين فيها مُقاسين لِحَرِّها.
﴿ وَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾: على حذف المخصوص بالذَّمِّ، والتقدير: "بئس القرار قرارهم"، أو "بئس القرار جهنم"، دار البوار: مفعول به ثانٍ لأحلوا، جهنم: بدل من دار البوار.
وكلمة ﴿ الْقَرَارُ ﴾ تُوحي بالدَّوام والاستمرار؛ أي: استمرارهم في مقاساة النَّار في هذا المستقر.
﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ﴾: ﴿ وَجَعَلُوا ﴾: معطوف على ﴿ وَأَحَلُّوا ﴾، وما عطف عليه داخل معها في حَيِّز الصلة، وحكم التعجيب؛ أي: جعلوا في اعتقادهم وحُكمهم "الله" الفرد الصمد، الذي ليس كمثله شيء، ﴿ أَنْدَادًا ﴾ أشباهًا في التَّسمية أو في العبادة، ﴿ لِيُضِلُّوا ﴾ قومهم الذين يُشايعونهم حسبما ضَلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ القويم، الذي هو التوحيد، ويُوقعوهم في ورطة الكُفْرِ والضلال.
﴿ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾: قل: الأمر لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أي: قل تهديدًا ووعيدًا لأولئك الضَّالين المضلين: ﴿ تَمَتَّعُوا ﴾ بما أنتم بنعيم الدُّنيا وشهواتها ومَتاعها الزَّائل، وما أنتم عليه من كُفْران النِّعم، واستتباع النَّاس في عبادة الأصنام، ﴿ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾؛ أي: مَرَدكم ومرجعكم إلى عذاب النَّار، وفي ذلك من التهديد الشديد والوعيد الأكيد ما لا يوصف.
﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾: قل: الأمر أيضًا لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعبادي: خصَّهم بالإضافة إليه تشريفًا وتنبيهًا على أنَّهم المقيمون لوظائف العُبُودية الموفون بحقِّها، وترك العاطف بين الأمرين - قل تمتَّعوا، قل لعبادي - للإيذان بتبايُن حالِهما باعتبار المقول تهديدًا وتشريفًا، والمقول هنا مَحذوف دَلَّ عليه الجواب؛ أي: قل لهم أقيموا وأنفقوا.
﴿ يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾: جواب الأمر مَجزوم بحذف النون، وفيه إيذان بكَمَالِ طاعتهم الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومسارعتهم إلى الامتثال بأوامره ﴿ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ﴾؛ أي: لينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرِّزق خفيةً وجهرًا، والأحبُّ في الإنفاقِ إخفاءُ المتطوَّع به، وإعلان الواجب، والمُرادُ حَثُّ المؤمنين على الشكر لنعم الله - تعالى - بالعبادة البدنية والمالية، وترك التمتُّع بمتاع الدُّنيا والرُّكون إليها، كما هو صنيع الكافرين.
﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾؛ أي: من قبل أن يأتِيَ يومُ القيامة الذي لا انتفاعَ فيه بمُبايعة ولا صَدَاقَة، ولا فِداء ولا شَفَاعة، ففي التعبير شبه تحذير مِمَّا يَحدث في يوم القيامة من انتفاءِ المعاوضة بالمرة، وتخصيص البيع بالذِّكر؛ للإيجاز مع المبالغة في نَفْيِ المعاوضة؛ إذ انتفاءُ البيع يستلزم نَفْيَ الشراء على أبلغ وجه، ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾: لفظ الجلالة مبتدأ، وخبره ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، وفي جعل المبتدأ الاسم الجليل والخبر الاسم الموصول بتلك الأفاعيل العظيمة، من خَلْقِ السَّمَوات وما فيها من الأجرام، والأرض وما فيها من أنواع المخلوقات، وإنزال الأمطار، وإخراج الثمار، وما يتلوها من الآثار العجيبة - ما لا يَخفى من تربية المهابة والدَّلالة على قوة السلطان.
ولَعَلَّ من المفيد ذكر المناسبة بين هذه الآية وما قبلها، فإنَّه لما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله - تعالى - وأمر المؤمنين بإقامة مَراسم الطاعة؛ شكرًا لنعمه، شَرَعَ في تفصيل ما يستوجب على كافَّة الأنام المُثابرة على الشُّكر، والطاعة من النِّعم العظام؛ حثًّا للمؤمنين عليها، وتقريعًا للكافرين المخلِّين بها، وقيل: إنَّه لما أطال الكلام في وصف أحوال السُّعداء والأشقياء، خَتَمَ ذلك بذكر الدلائل الدَّالة على وجود الخالق الحكيم، فقال: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾؛ أي: أنزل من السَّحاب المطر، وفي تقدم الجار والمجرور على المنصوب، إمَّا باعتبار كونه مبدأً لنزوله، أو لتشريفه، أو تشويقًا إلى المؤخر.
﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾الذي أخرج بالمطر من أنواع الزروع والثمار؛ رزقًا للعباد، "من" هنا للتبيين، والثمرات: جمع للدلالة على كثرتها، وتعدُّد أنواعِهَا وأشكالِهَا وطعمها وألوانها ومذاقاتها[1]، و﴿ رِزْقًا ﴾: بمعنى "المرزوق" من المأكول والمشروب والملبوس، فسَبِّحِ الذي أودع في الماء قُوَّةً فاعلة، وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواعُ الثمار، وهو قادر على إيجاد الأشياء بلا أسباب، فهو - سبحانه - مُبْدِع الأسباب.
قال الشيخ سيد قطب: "وهنا يفتح كتاب الكون على مصراعيه، فتنطق سطوره الهائلة بنِعَم الله التي لا تحصى: السموات والأرض، الشمس والقمر، الليل والنهار، الأنهار والأمطار، هذه الصَّفحات الكونيَّة المعروضة على الأنظار، ولكنَّ البشر لا ينظرون ولا يقرؤون، ولا يتأملون ولا يشكرون، إنَّ الإنسان لظلوم كَفَّار، يجعل لله أندادًا وهو الخالق الرازق المسخِّر لهذا الإنسان، والمشهد الهائل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه تسير فيه خُطُوط الرب المبدعة: أفكُلُّ هذا الكون الهائل مسخَّر لذلك المخلوق الصغير؟! السموات ينزل منها والأرض تتلقاه، ثُمَّ تخرج به الثمار، والبحر تجري فيه الفلك بأمر الله مُسخرة، والأنهار تَجري بالحياة والأرزاق في مَصلحة الإنسان، والشَّمس والقمر دائبان لا يفتران، والليل والنهار يتعاقبان، أفكل ذلك للإنسان، ثُم لا يشكر ولا يذكر؟!".
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾: بأنْ أقدرَكم على صنعها واستعمالها، وجعلها في مَنفعتكم تَجري في البحر جريًا تابعًا لإرادتكم بأمره، ومشيئته التي يُناط بها كل شيء.
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ﴾: بأنْ جَعَلَها مُعدَّة لانتفاعكم؛ حيثُ تتَّخذون منها جداولَ تسقون بها زروعكم، وكذلك يَسَّرَها لكم، ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ﴾، يدأبان في سيرها وإنارتِها أصالةً وخلافةً، وإصلاحها لما يناط بها صلاحه من المكونات، فنحنُ نُلاحظ ونُشاهد بأعيننا الشمس والقمر يَجريان بانتظام لا يفتران، وفيها صلاح أنفسنا ومَعاشنا وصلاح زروعنا.
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾؛ لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار[2]، فهما يتعاقبان خلفةً لمنامكم ومعاشكم، ولعقد الثمار وإنضاجها.
وفي التعبير بالتسخير في شأن الفلك والأنهار والشمس والقمر، مع ما فيها من صُعُوبة المأخذ وعِزَّة المنال، ما يدُلُّ على عظم السلطان وشِدَّة المحال.
وإبراز كل نعمة في جُملة مُستقلة تنويهًا بشأنها، وتنبيهًا على رفعة مكانتها، وتنصيصًا على أنَّ كلَّ نعمة منها مُستوجبة للشكر.
﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾؛ أي: أعطاكم من كل ما تحتاجون إليه من النِّعم، وما يُصلح أحوالَكم ومَعَاشكم مِمَّا سألتموه بلسان الحال أو المقال.
قال أبو السعود: "أعطاكم بعض جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة، أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ويناط به انتظام أحوالكم على الوجه المقدر".
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾: "إن" للشك؛ أي: لا تطيقون حصرها، ولو إجمالاً، وعَبَّر بالمفرد "نعمة"؛ لأنَّ النعمة الواحدة فيها نعم غير متناهية، فهي أكبر من أن يحصيها عددًا،﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾: الإنسان اسم جنس، "ظَلُومٌ": يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو بوصفه إيَّاها في غير موضعها، أو يظلم نفسه بتعرُّضها للحرمان، أو بتعديه حدود الله، "كَفَّارٌ": شديد الكفران، وقيل: ظلوم في الشِّدَّة يشكو ويجزع، كفار في النِّعْمَة يجمع ويمنع، وكلا الوصفين - "ظَلُوم، وكَفََّار" - من صيغ المُبالغة التي تدل على المبالغة في الفعل، فهو - أي: الإنسان - شديد الظلم لنفسه كثير الكفر بنعمة ربه؛ لأنَّه ينصرف عن شكرها.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾: ما علاقة هذه الآية بما قبلها؟
لما كان الحديث في الآيات السَّابقة عن النعم وشكرها أو كفرها، أتى إبراهيم - عليه السلام - كنموذج كامل للإنسان الشاكر العابد، وأشار إلى نعمة أخرى هي من أَجَلِّ النعم، وهي نعمة "الأمن" في دعوة إبراهيم: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾، فالبلد مقصود به مكة، ﴿ آمِنًا ﴾؛ أي: يأمن أهله وساكنوه المعيشة فيه، ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾؛ أي: احمني يا رب وجَنِّبْنِي وأولادي عبادة الأصنام، والغرض تثبيته على ملة التوحيد والإسلام.
﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ﴾؛ أي: الأصنام أضلَّت كثيرًا من الناس، أو كانت سببًا في ضلالهم، وهو تعليل لدعائه، وإنَّما صدَّره بالنداء؛ إظهارًا لاعتنائه به، ورغبة في استجابته.
﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي ﴾: منهم فيما أدعو إليه من التوحيد ومِلَّة الإسلام، ﴿ فَمَنْ تَبِعَنِي ﴾، قال ذلك - عليه السلام - مُبالغة في بيان اختصاصه به؛ أي: متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين.
﴿ وَمَنْ عَصَانِي ﴾: التعبير بالعصيان يُؤذِن بأن إبراهيم - عليه السلام - مستمر على الدعوة، فعصيان مَن عصى لا ذنبَ لإبراهيم فيه.
﴿ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾: قادر على أنْ تغفرَ له ابتداءً أو بعد توبته[3].
.
﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾: آثر - عليه السلام - ضمير الجماعة؛ لأنَّ الدُّعاء المصدَّر به وما أورده بصدد تمهيد مبادئ إجابته من قوله: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ ﴾ الآية - متعلق بذرِّيته، فالتعرض لوصف ربوبيته - تعالى - لهم أدخل في القبول وإجابة المسؤول.
﴿ مِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾؛ أي: من أهلي - ولدي إسماعيل وزوجي هاجر[4] - ﴿ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾، وهو وادي مكة - شرفها الله -﴿ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾: عند ظرف لـ"أسكنت"؛ إذ المقصود إظهار كون الإسكان مع فُقدان أسباب المعيشة لمحصن التقرُّب إلى الله - تعالى - والالتجاء إلى جواره الكريم،﴿ الْمُحَرَّمِ ﴾: وصف للبيت؛ حيث حرَّم التعرض له والتهاون به، وهذا يدل على عزة المُلْتَجِئ وعصمته من المكاره.
﴿ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾، وهو متعلق بـ"أسكنت"، وتخصيص الصلاة بالذكر لفضلها وعلو مكانتها، فهي عماد الدين، وتكرير النِّداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة؛ أي: إنَّ الغرض من إسكانهم بذلك الوادي البلقع هو المقصد الأسمى، والمطلب الأسنى، وكل ذلك لتمهيد مَبادِئ إجابة دعائه وإعطاء مسؤوله.
﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾؛ أي: فاجعل قلوبَ النَّاس تسرع إليهم شوقًا، "من" هنا للتبعيض؛ قال ابن عباس: "لو قال: أفئدة الناس، لازدحمت عليهم فارس والرُّوم والناس كلهم، ولكن قال: ﴿ مِنَ النَّاسِ ﴾، فهم المسلمون"، والمسؤول أو المرجُوُّ هنا توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم، لا لتوجيهها إلى البيت للحج، وإلا لَقيل: تهوي إليه، وتهوي من باب عَلِمَ؛ أي: يُحبُّ، وتعديته بإلى؛ لتضمنه معنى الشوق والنزوع[5].
﴿ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾؛ أي: ارزق ذريتي في ذلك الوادي القفر من أنواع الثمار من فضلك، ومَنْ ينحاز إليهم من الناس، ولم يخص الدعاء بالمؤمنين منهم؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 126]؛ اكتفاءً بذكر إقامة الصلاة، ﴿ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾: من أنواعها، وقد استجاب الله دعاءَ إبراهيم - عليه السلام - فجعل مكة حرمًا آمنًا يُجبى إليها ثمراتُ كل شيء، حتى إنَّه ليجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾: تلك النعم بأداء مراسم العبودية.
﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾؛ أي: تعلم ما نظهره وما لا نظهره، فإنَّ علمه - تعالى - مُتعلق بما لا يخطر بباله، مما فيه من الأحوال الخفية، فضلاً عن إخفائه، وتقديم ما نخفي على ما نُعلن؛ لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجه، وتكرير النِّداء للمبالغة في الضَّراعة والابتهال، وضمير الجماعة؛ لأن المراد ليس مُجرد علمه - تعالى - بسرِّه وعلنه، بل بجميع خفايا الملك والملكوت، وقد حققه بقول الاعتراض: ﴿ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ لما أنه العالم بالذَّات، فما من أمر يدخل تحت الوجود، كائنًا ما كان في الأزمان إلاَّ ووجوده في ذاته علم بالنسبة إليه - سبحانه - ولفظةُ "في" مُتعلقة بمحذوف ومعه صفة لشيء؛ أي: من شيء كائن فيهما، وتقديم الأرض على السَّماء باعتبار القرب والبعد منَّا، المستدعيَيْن للتفاوت بالنسبة إلى علومنا، والالتفات من الخطاب إلى اسم الذات المستجمعة للصفات الجليلة، والنعوت الكاملة لتربية المهابة والإشعار بعلَّة الحكم على نهج قوله - تعالى -: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، و"من" للاستغراق، يعني أنَّ علمَه مُحيط بجميع خفايا الملك والملكوت.
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾[6]؛ أي: مع كبري ويأسي عن الولد، قيَّد الهبة به؛ استعظامًا للنعمة، وإظهارًا لشكرها.
﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾؛ أي: مُجيب لدعاء من دعاه، "سميع" من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، أضيف إلى مفعوله، وهو مع كونه من تتمة الحمد والشكر؛ إذ هو وصف له - تعالى - بأن ذلك الجميل سنته المُستمرة، فهو تعليلٌ على طريقة التذييل للهبة المذكورة، وفيه إيذان بتضاعف النِّعمة فيها؛ حيث وقعت بعد الدعاء بقوله: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]، فاقترنت الهبة بقبول الدعوة.
﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾: هذه هي الدعوة السادسة من دعوات إبراهيم - عليه السلام - أي: يا رب، اجعلني ممن يحافظ على الصلاة، واجعل من ذريتي من يُقيمها ويُحافظ عليها أيضًا، وهذه خير دعوة يدعوها المؤمن لأولاده، فلا أحبَّ له من أن يكونَ مُقيمًا للصلاة هو وذريته؛ لأنها عماد الدين، وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته لذريته أيضًا؛ حيث قال: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾؛ للإشعار بأنَّه المُقْتَدَى في ذلك، وذريته أتباع له.
﴿ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾؛ أي: دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل ذُرِّيتي مُقيمي الصَّلاة، ثابتين على ذلك، مُجتنبين عبادة الأصنام، ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾: هذه هي الدعوة السابعة، وبها ختم إبراهيم دعاءه الضَّارع الخاشع بالاستغفار له ولوالديه ولجميع المؤمنين، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
البلاغة:
1- ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ [إبراهيم: 24]، ﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾[إبراهيم: 26] تشبيه مرسل مجمل.
2- الطباق في "طيبة وخبيثة"، "يذهب ويأتي"، "سرًّا وعلانية"، "تبعني وعصاني"، "نخفي ونعلن".
3- ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 37]، قال الشريف الرضي: وهذه من مَحاسن الاستعادة، وحقيقة الهُوِيِّ: النُّزول من عُلوٍّ إلى انخفاض كالهبوط، والمُراد: تسرع إليهم شوقًا، وتطير عليهم حبًّا، ولو قال: "تحنُّ إليهم"، م يكن فيه من الفائدة ما في التعبير بـ "تهوي إليهم"؛ لأن الحنين قد يكون من المقيم بالمكان.
4- حكمة تعريف البلد هنا: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ﴾ [إبراهيم: 35]، وتنكيره في البقرة: ﴿ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ [البقرة: 126] أنَّه تكرر الدعاء من الخليل، ففي البقرة كان قبل بنائها، فطلب من الله أن تُجعلَ بلدًا وأن تكون آمنًا، وهنا كان بعد بنائها، فطلب من الله أن تكونَ آمنًا؛ أي: بلدُ أَمْن واستقرار، وهذا هو السِّرُّ في التفريق بين الآيتين.
اللهم ارزقنا فهم أسرار كتابك.
[1] قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 99]، وقال تعالى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4]، وقال تعالى: {﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 27 - 28].
[2] ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 10 - 11].
[3] تعبير ينشر ظلال المغفرة والرحمة، وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية.
[4] روي أن "هاجر" لما ولدت إسماعيل، غارت منها "سارة" زوجة إبراهيم، فأمره الله - تعالى - أن يَحْمِلَ ولده إسماعيل مع أُمِّه من الشام إلى مكة، فوضعها عند دوحة مكان زمزم، فأظهر الله - تعالى - عين زمزم.
[5] قيل: إنَّ أولَ آثار هذه الدعوة ما رُوي: أنَّه مرَّت رفقة من جرهم تريد الشام، فرأوا الطير تحوم على الجبل، فقالوا: إنَّ هذا الطائر لعائق على الماء، فأشرفوا فإذا هم بهاجر، فقالوا لها: إن شِئْتِ كُنَّا معكِ وآنسناكِ والماء ماؤكِ، فأذنت لهم، وكانوا معها إلى أن شبَّ إسماعيل - عليه السلام - وماتت هاجر، فتزوج إسماعيل منهم كما هو المشهور.
[6] روي أنه وُلِد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.